قضايا معاصرة

الشباب المسلم بين الأصالة والتغريب: تحديات وآفاق

يعيش الشباب المسلم بين سعي دؤوب للحفاظ على ثوابت وقيم دِينه ومجتمعه، ومواكبة التطور المتسارع في كافة مناحي الحياة، ومن هنا نشأت الفجوة بين الأصالة والمعاصرة؛ وكان لزامًا أن نرفع لافتات التحذير لتنبيه الأسرة للقيام بدورها التربوي، وليستعيد المعلّمون والدعاة دورهم التوجيهي، مع ضرورة تكاتف كل فئات المجتمع لحماية الشباب من الانحلال والضياع.

يُعدُّ الشباب الركيزة الأهم لأيِّ مجتمع؛ لأنهم يمثِّلون قوة العمل والابتكار، وهم الذين يَحملون عبءَ بناءِ المستقبل والارتقاءِ بالمجتمع، كما أنهم محور التغيير والتحوُّل في المجتمعات المختلفة.

ولقد اهتم الدين الإسلامي بالشباب وحرص على توفير البيئة المناسبة لتربيتهم تربيةً حسنةً وتطويرِ مهاراتهم وتنميةِ قدراتهم، وذلك لضمان سلامة المجتمع وانضباطه وفق أطر وثوابت الإسلام وهذا من منطلق استيعابه وشموليته.

شمولية الإسلام وديمومته:

الإسلامُ ليس قاصرًا على الشعائر والعبادات، بل يشمل جميع جوانب الحياة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، وهو صالح لكلِّ العصور والأمكنة، ولكلّ البشر بجميع بلدانهم وأعراقهم وألوانهم.

إن شمولية الإسلام تعني شمولية الزمان؛ لأن الإسلام جاء صالحًا لاستقامة حياة البشر على مر الزمان حتى قيام الساعة، وكذا شمولية المكان حيث إنَّه لم يأتِ ليحكم شبه الجزيرة العربية وحدَها، بل جاء ليضبط حياة البشر في كلِّ بُقعةٍ على وجه الأرض.

وفوق ذلك تكمن شمولية المنهج الذي جاء ليحكم الحياة بما يحقِّق عمارة الأرض التي لا تستقيم حياةُ البشر دونها، في جوانب العقيدة والشريعة، والمعاملات والأخلاق، بما يُصلح الفرد والجماعة، وذلك من منطلق أن الإنسان خليفة في الأرض، وهو المكلف بإعمارها وفق ما فرضه الله على البشر.

لذا فالادعاء بأنّ الإسلام جاء لعصر أو قوم بعينهم هو ادعاءٌ بعيدٌ عن الحقيقة تمامًا، فهو المنهج الخاتم لجميع الأديان والرسالات.

وهذا الكمال هو ما جذب كثيرًا من غير المسلمين وقادهم للدخول في الإسلام، قال القس -الذي أعلن إسلامه- “إيفور إليويس”: “ولعل ما لفت نظري وجذبني لهذا الدين أنه دين شامل وكامل يعالج جوانب كثيرة من حياة الفرد والمجتمع، ويوازن بين الدنيا والآخرة، ويقدم للبشرية مشاريع إصلاح اقتصادية واجتماعية ونفسية”([1]).

رياح التغريب تجتاح المجتمعات الإسلامية:

تعاني الشعوب الإسلامية من موجاتِ تغريبٍ كاسحةٍ اجتاحت الثوابت والقيم المتجذِّرة في تلك المجتمعات.

والتغريب نوعٌ من الاستعمار الحديث الذي يجتاح الفكر لا الأرض، وهو أشد خطرًا وشراسةً على المجتمعات؛ لأنه يضمن التبعية المطلقة للمُستعمر، ويمهِّد لانسلاخ المسلمين من ثوابتهم ومعتقداتهم وانصهارهم في الحضارة الغربية بسلاسة ودون إراقة دماء، ولقد بدأ مخطط التغريب عقب انتهاء الحروب الصليبية، وبعد يقين الغرب أنه لن يستطيع السيطرة على الدول الإسلامية بالحروب والدماء، ولكن بالاستعمار الفكري والثقافي.

وكان الشباب المسلم هم المستهدف الأول من ذلك التغريب؛ لأنهم القلب النابض لأي أمة، وهم الباحثون دائمًا عن التقدم والتطوير لذا كانت الهجمة تستهدفهم بشكل خاص حتى أصابتهم رياح التغريب فتركت كثيرًا منهم حيارى متشككين.

وساعد على انتشار التغريب بين الشباب عدة عوامل اجتماعية وثقافية واقتصادية وكذلك سياسية.

التغريب نوعٌ من الاستعمار الحديث الذي يجتاح الفكر لا الأرض، وهو أشدُّ خطرًا وشراسةً على المجتمعات؛ لأنه يضمن التَبَعية المطلقة للمُستعمر، ويمهِّد لانسلاخ المسلمين من ثوابتهم ومعتقداتهم وانصهارهم في الحضارة الغربية بسلاسة ودون إراقة دماء

الشباب ورياح التغريب: 

إن موجات التغريب التي استهدفت الشباب بشكل خاص لم تكن لتؤتي ثمارها لولا عوامل عدة ساعدت على ذلك، ومنها:

  • غياب الدور التربوي للأسرة:

إن غياب دور الأسرة في تربية النشء وغرس قيم الدين الإسلامي بداخلهم ساعد على وجود تربة خصبة لتنامي موجات التغريب بين الشباب.

فـما يجري في البيوت للأبناء من ضياع وتشتت إنما المتهم فيه بالتخلي عن المسؤولية هم الآباء والأمهات أولاً، ومن أولى ما يُساءلون عنه قيامهم بالتربية الواجبة عليهم، وتحملهم للأمانة في صيانة الأبناء وحمايتهم دون تفريطٍ أو تقصير.

لا شك أن دور الأسرة هو الأهم في غرس القيم الدينية والأخلاقية لدى الشباب، ولعل تفريط الوالدين في ذلك الجانب، وإعطاء الأولوية لمواكبة الأبناء للتطور التكنولوجي الحادث على حساب القيم والثوابت جعل الأولويات تضطرب لدى الشباب، فلم تعد قيم الدين والأخلاق هي الأولوية، بل تسبقها مواكبة التطور الحادث والتكيف معه، حتى ولو على حساب الثوابت والمعتقدات، ومن هنا حدثت الازدواجية التي يعاني منها الشباب بين قيمهم ومعتقداتهم وبين مواكبة التطور المتسارع في العالم بأسره.

  • الضغوط الاقتصادية والثقافية:

إنَّ الضغوطَ الاقتصاديةَ والثقافيةَ الكبيرةَ التي يُعاني منها الشبابُ المسلم، وما يتعرَّضون له من تأثير الثقافة الغربية المعاصرة عليهم عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي الرهيب، وكذا ما يرونه في مجتمعاتهم العربية والإسلامية من تراجع حضاري وفقر اقتصادي وتهميش لدورهم القيادي وكذا انتشار البطالة وتدني مستويات المعيشة أوجد تلك الازدواجية بين ما هو متوقع منهم دينيًا وثقافيًا وما يتطلَّعون إليه لمواكبة العصر وتحقيق مستوى اقتصادي مرتفع.

  • مناهج التعليم والتنشئة الاجتماعية:

“لقد بدأت الهجمة التغريبية الشرسة على نظام التعليم في العالم العربي الإسلامي في بداية القرن التاسع عشر، منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي، والتي بدأها بسياسة الابتعاث التي اتَّبعها؛ بإرسال الطلاب الشبّان غير المحصَّنين للتعلم في أوروبا التي كانت موطنًا للفتن والشهوات، وكان هذا أخطرَ ما فعله في الحقيقة؛ لأنَّه من هناك بدأ الخط العلماني يدخل ساحة التعليم، ومن ورائه ساحة الحياة في مصر الإسلامية ومن ورائها إلى بقية أركان الوطن العربي”([2]).

كما أن تهميش دور الأزهر كأكبر جامعة إسلامية كان متعمَّدًا لصالح توسيع التعليم المدني.

أضف إلى ذلك تركيز المناهج التعليمية والأساليب التربوية في المجتمعات العربية والإسلامية على الجوانب التقليدية الأصيلة وعدم مواكبة التطوير والتقدم، بينما يحرص الشباب على تلقي المعلومات والمكتشفات الحديثة من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والتعلم عن بعد، وهنا يحدث التناقض الذي يخلق إرباكًا لدى الشباب في الدمج بين الهوية والتقدم؛ حيث إنهم لا يزالون يتلقَّون تعليمهم عبر وسائل بدائية ومناهج لم تعُد تواكب تطور العصر، بينما يشهد العالَم موجاتٍ من التقدم العلمي والتقني تمضي بهم خطواتٍ بعيدةً للأمام.

  • التطورات التكنولوجية والاقتصادية السريعة:

لا شك أن العالم يشهد تطورات تكنولوجية واقتصادية متسارعة، وهذا يفرض على الشباب العمل بجدية للتكيف مع هذه المستجدات ومواكبتها، كما يُبقي بداخلهم شعورًا بالحاجة إلى الحفاظ على القيم والأعراف الأصيلة التي نشؤوا عليها، ومع الأفكار الدخيلة التي تصلنا مع المخترعات والمكتشفات الحديثة، وبُعد كثير من المحاضن والمجامع التربوية عن مواكبة التغيرات المجتمعية الكبيرة وبقاء خطابهم في الأطر التقليدية: تتولد لدى الشباب الكثير من المشكلات النفسية التي تتمثل في الاضطراب الناتج عن السعي الدائم لمواكبة التطور والتقدم، وكذا الشخصية الجمعية التي تميل للتقليد والتبعية وتفتقد الإبداع والابتكار، والمشكلة التي يعاني منها الشباب المسلم على وجه الخصوص تتمثل في الهوة السحيقة التي يسقطون فيها عند ركضهم المتسارع للحاق بركب التقدم، والذي يفقدون خلاله الكثير من قيمهم وثوابتهم ما سبب شعورهم بالضياع وفقدان الهوية.

  • التأثر بالثقافات الأخرى:

في ظل العولمة وسهولة التواصل بين الثقافات، يتأثر الشباب بالقيم والممارسات الثقافية الأخرى، حيث أصبح يتبنى كثيرٌ منهم أنماطًا غربيةً في حياتهم، كما أصبحوا أكثر تقبُّلاً للعادات والسلوكيات الغربية رغم تعارض الكثير منها مع قيمنا العربية والإسلامية، وهذا أوجد صراعًا بين ما هو أصيل وما هو معاصر في حياة الشباب اليومية.

“والمؤكد أنَّ وقوع ثقافة مجتمع ما تحت تأثير ثقافة غريبة أقوى منها عن طريق الاحتكاك غير المتوازن؛ بهدف إبعاد هذه الثقافة عن جذورها، وتغيير أهم معالمها لتصبح غريبة عن أصولها الاجتماعية التي نشأت وتكونت فيها وميزت مجتمعها عن المجتمعات الأخرى”([3]).

وهذا هو الواقع الذي يعيشه شبابنا اليوم والذي فرض عليهم غربة الفكر حتى وهُم في أوطانهم وبين ذويهم.

لا شك أن دور الأسرة هو الأهم في غرس القيم الدينية والأخلاقية، ولعل تفريط الوالدين في ذلك، وإعطاء الأولوية لمواكبة الأبناء للتطور التكنولوجي على حساب القيم والثوابت جعل الأولويات تضطرب لدى الشباب، فلم تعد قيم الدين والأخلاق هي الأولوية، بل تسبقها مواكبة التطور الحادث والتكيف معه، حتى ولو على حساب الثوابت والمعتقدات

صراع الهوية والتقدُّم:

في حال النظر للشباب المسلم لدراسة تأثير ذلك الانفتاح اللامحدود عليه، من حيث الهوية والدين، وكذا الغربة النفسية التي يعيشها نتيجة الفجوة الحادثة بين هويته الإسلامية والتقدم التي هي من مستلزمات العصر، ندرك حالة التغريب التي يعيشها الشباب برغبته أو مرغمًا.

إن الشباب المسلم يريد أن يعيش محافظًا على الأصالة، منتميًا لدينه وثقافته، لكنه في ذات الوقت يبدو منبهرًا بحضارة الغرب التي تحوطه من جميع الاتجاهات، فيعيش التناقض بين الاحتفاظ بالتقاليد والقيم الإسلامية والعربية، وبين الاستجابة لمتطلبات العصر الحديث والتحديات الناجمة عنه.

معادلةٌ صعبةٌ تخلُق حالةً من الصراع الداخلي الذي يشكل تحدياتٍ وصعوباتٍ للشباب المسلم، ويعقِّد تجربتهم المعاصرة.

فـ: “التغرّب هو عبارة عن فعلين: فعل إرادي، حيث إنّ الإنسان في هذه الحالة لا يثق بنفسه ولا يثق بهويّته ولا يثق بثقافته، وبالتالي يكون لديه القابلية للاستعمار، وفعل ثانٍ لا إرادي يقوم الغرب بالعمل علينا فيه حتى يضعّف لدينا الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة، ولديه برامج وتقنيات وينفق الكثير من الأموال في هذا الخصوص”([4]).

ومن هنا نرى أن علينا أن نسعى جاهدين لإصلاح الفعل الإرادي لدينا، وكذا مواجهة ما هو غير إرادي والذي يعد مؤامرة مكتملة على هويتنا الإسلامية.

ونظرًا لأننا أصبحنا نعيش في عالمٍ منفتحٍ لا تحدُّه حدودٌ ولا قيود، فهذا بالقطع يؤثر على عقول الشباب، أخلاقهم، ثقافتهم، مظهرهم، وحتى هويتهم الدينية والاجتماعية.

“إنَّ الهوية العالمية التي طُرحت بديلاً للهوية الوطنية على مستوى العالم، لا سيما في الدول التي اجتاحتها موجة الثورات المعاصرة، أدت إلى نقيض ذلك تمامًا، فتحت شعار التغيير الفكري والثقافي، جرت في هذه الدول قبل الثورات عملية نسفٍ منظَّمٍ وممنهجٍ للهوية الوطنية من طريق نشر الأفكار الليبرالية الجديدة، التي روَّجت لها الإمبراطوريات الإعلامية، وَفَكْفَكَتْ وَنَسَفَتْ القيم الدِّينية والرُّوحية والأخلاقية من جذورها لدى الكثير من أبناء المجتمع، وَنَبَشَتْ من عمق التاريخ السَّحيق أحقاد الصِّراعات الطائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة، وزرعتها في عقول الناس، وجعلتها جزءًا من وعيهم وثقافتهم الجديدة”([5]).

ويبقى أهم التحديات الرئيسية التي يواجهها الشباب المسلم هو تحقيق التوازن بين الأصالة والتقدم أو المعاصرة، حيث إنَّ الشباب لديهم الرغبة في الاحتفاظ بهويتهم الإسلامية وقيمهم الدينية، مع الحاجة الملحة إلى مواكبة التقدم التكنولوجي والتغيرات الاجتماعية والثقافية، لذا يسعون جاهدين لإيجاد وسيلة تمكنهم من الجمع بين الأمرين، حتى يستطيعوا مواكبة تقدم العصر دون فقدان هويتهم الإسلامية، وعدم تحقيقهم لتلك الحالة من التوازن يسبب خللاً لديهم من الفجوة السحيقة بين تعاليم دينهم وضوابطه وبين التحلل منه لمواكبة العصر.

ولكن السؤال الملح في ذلك هو: هل يستطيع الشباب المسلم في ظل تلك المؤامرات العالمية أن يحقق التوازن المأمول بين الأصالة والتغريب؟ وأن يحتفظ بقيمه وثوابته رغم مواكبته لروح العصر وتطوراته وأحداثه؟

التغرّب هو عبارة عن فعلين: فعل إرادي، حيث إنّ الإنسان في هذه الحالة لا يثق بنفسه ولا يثق بهويّته ولا يثق بثقافته، وبالتالي يكون لديه القابلية للاستعمار، وفعل ثانٍ لا إرادي يقوم الغرب بالعمل علينا فيه حتى يضعّف لدينا الثقة بالنفس والقدرة على المواجهة، ولديه برامج وتقنيات وينفق الكثير من الأموال في هذا الخصوص

سبل تحقيق التوازن المنشود بين الأصالة والتغريب:

إن حضارة الغرب ليست شرًّا مطلقًا، فهي تحمل في طيّاتها الكثير من الخير للمجتمعات المسلمة، حيث تتمتَّع الحضارة الغربية بتقدُّم تكنولوجي كبير من واجب الشباب أن يسعوا جاهدين لمواكبته وتطويعه وفق ثقافتنا الإسلامية، وحقق خطوات واسعة في البحث العلمي والابتكار وقدم للشباب فرصًا كبيرة للعلم والبحث والتطوير، كما وفر لهم الفرص الأكبر في تولي المناصب القيادية.

ومن هنا فإن الحضارة الغربية فيها الكثير من الإيجابيات رغم ما يعتريها من عيوب لا يمكن تغافلها، وواجبنا الأكبر هو تحقيق التوازن المأمول بين الأصالة والمعاصرة، وهذا يستلزم جهدًا موصولاً بين الأسر والمؤسسات التعليمية والثقافية وكذا الدعاة والمعلمين، بل وكل فئات المجتمع، وذلك من خلال غرس القيم وترسيخ الهوية والاهتمام بزيادة الوعي لدى الشباب حتى يمتلكوا القدرة على مواكبة العصر دون الإخلال بالثوابت وذلك وفق عدة أمور، منها:

  • تطابق المظهر والهوية:

إن أول شيء تراه في أي شخص هو مظهره الخارجي، والذي يُعدُّ بشكل كبير مرآةً لما بداخله، فتطابُق المظهر مع الهوية هو أول ما يجب أن يحرص عليه الشبابُ المسلم، فنحن نرى التغريب واقعًا بين شبابنا عندما نرى مسلمين بمظهر الغرب ولباس الغرب، وتعكس أفعالهم وسلوكياتهم الهوية الغربية، ومن هنا تنشأ الفجوة بين المظهر والجوهر.

“يوم أن ضيَّع أفراد الأمة هويتهم، وذهبوا يتخبطون في دياجير ظلمة الحضارة المعاصرة بحثًا عن هوية، ظهرت نسخة مشوهة من الحضارة الغربية بين شباب بلاد الإسلام، حيث ظهر من يُقلِّدهم في لباسهم وأكلهم وشربهم وقصات شعورهم، بل وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتهم”([6]).

لذا فإن أولى خطوات تحقيق التوازن المنشود أن يتطابق المظهر والجوهر، ليبدو مظهر الشباب المسلم مستوحى من هويتهم الإسلامية ومن تعاليم وقيم دينهم.

إن التحلل من ثوابت الإسلام وقيمه يتبعه تحلل تدريجي من المظهر الإسلامي، وبالتالي فإن المظهر هو انعكاس للجوهر وبجدارة.

  • التحدث باللغة العربية والابتعاد عن فرنجة اللغة:

إن اللغة هي أهم ما يميز الأمم ويعكس ثقافتها وتاريخها، لذا فإن الحفاظ على اللغة العربية هو أساس الحفاظ على الهوية الإسلامية؛ لأن العربية هي لغة القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿‌إِنَّا ‌أَنْزَلْنَاهُ ‌قُرْآنًا ‌عَرَبِيًّا ‌لَعَلَّكُمْ ‌تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2].

ومن المؤسف أننا أصبحنا نرى شبابًا مسلمًا يتحدث بلغة تمزج بين العربية والإنجليزية، حيث يغلب على حديثهم المصطلحات والتعبيرات الإنجليزية أو الفرنسية -دون سببٍ واضح- ويُعَدُّ هذا مثار فخر لكثير منهم، بل إن بعضهم يخجل من التحدث بالعربية، وهذا للأسف دليل على فقدان الهوية والانتماء، فلو عدنا عقودًا إلى الوراء إلى عصور الاستعمار سنرى حرص الدول الاستعمارية على إضعاف اللغة الأم للشعوب المستعمَرة، وإحلال لغة المستعمِر محلها، وهذا ما فعلته فرنسا عندما احتلت دول المغرب العربي ومصر وغيرها.

ومن هنا وجب على الشباب المسلم أن يحرص على التحدث باللغة العربية السليمة وتعلُّمها، والافتخار بهذه اللغة التي تُعدُّ من أعظم لغات العالم، ويكفيها تشريفًا أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، ومن يتعلمها يسهل عليه فهم النصوص الدينية، والتواصل مع المسلمين في جميع أنحاء العالم، وكذا نشر تعاليم الإسلام السمحة لكل العالم والرد على الشبهات التي تثار حوله.

“اللغة العربية سارت مع المدِّ الإسلامي الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، ابتلعت لغاتِ كثيرٍ من الشعوب التي اختارت الإسلام لها دينًا، واللغة العربية لها لسانًا، فتكلمتها بطلاقة غريبة، واستطاعت أن تسهم في إثراء التراث العربي في مجالات الحياة المختلفة، في الطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك، ولم تكتف بكل هذا فأسهمت أيضًا في الأدب واللغة والنحو”([7]).

وهذا لا يمنع الشباب المسلم من تعلم اللغات الأخرى باعتبارها فرض كفاية كما أشار إلى ذلك الدكتور يوسف القرضاوي: “من فروض الكفاية الواجبة على مجموع الأمة تعلُّم لغات الآخرين عند الحاجة إليها، وخصوصًا إذا كان عندهم ما ليس عند المسلمين، من علم يؤخذ أو حكمة تُقتبس، فلا سبيل إلى الانتفاع بما عند غيرك إذا جهلت لغته، ولم يمنع الإسلام من تعلُّم لغات الآخرين، بل دعا إليها باعتبارها وسيلة للتفاهم بين البشر، كما أنها وسيلة لنشر دعوته في العالم، فهي هنا فرض كفاية”([8]).

إن اللغة هي أهم ما يميز الأمم ويعكس ثقافتها وتاريخها، لذا فإن الحفاظ على اللغة العربية هو أساس الحفاظ على الهوية الإسلامية؛ لأن العربية هي لغة القرآن الكريم

  • مواكبة التقدم وتحقيق التميز مع الحفاظ على الهوية:

الإسلام هو دين العلم والحضارة والتقدم، ويكفي أن أول آية نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت ﴿‌اقْرَأْ ‌بِاسْمِ ‌رَبِّكَ ‌الَّذِي ‌خَلَقَ﴾ [العلق: 1].

فكان الأمر الرباني الأول لنبي الأمة يحثه على القراءة والتعلم، حيث إن الإسلام جاء ليربي المسلم المعتدل الذي يحقق التوازن بين الدنيا والآخرة، فهو يجتهد ليملك الدنيا في رحلة سعيه للآخرة وهذه هي عظمة الإسلام. فقد جعل طلب العلم فريضة على المسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)([9]).

وكذا فقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن يسعى في طلب العلم بالجنة في قوله: (مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة)([10]).

فليس هناك تعارض بين التزام المسلم بتعاليم دينه الحنيف وسعيه الحثيث لنيل أرقى العلوم، فلقد خلق الله الإنسان ليعمر الأرض قال تعالى: ﴿‌هُوَ ‌أَنْشَأَكُمْ ‌مِنَ ‌الْأَرْضِ ‌وَاسْتَعْمَرَكُمْ ‌فِيهَا﴾ [هود: 61].

لذا من واجبات المسلم أن يتعلم أحدث العلوم وينال أعلى الدرجات وأن يواكب العصر، كذا من المهم أن يتمكن الشباب المسلم من فهم القيم الإسلامية الأساسية وأصولها العميقة فلا تعارض بين العلم المدني والديني، بل هو التكامل والتوازن.

  • الفهم الجيد لقضايا العالم المعاصر في ضوء ثوابت الدين:

إن الشباب المسلم في رحلته الدؤوب لتحقيق التوازن بين قيمه ومعتقداته وكذا مستحدثات العصر يحتاج لفهم عميق للعالم المعاصر وأهم قضاياه، ليكون عنصرًا فاعلاً له رأي يُعتد به، وكلمة مسموعة، ويترأس تلك القضايا: القضية الفلسطينية، وقضية السودان، وكذا كراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا) ودعاوى التطرف والإرهاب، وغيرها من القضايا المهمة التي تمسُّ صلب عقيدتنا.

ولن يأتي ذلك إلا في حال الإلمام التام بقضايا الأمة، وكذا تعلم التكنولوجيا الحديثة ودراسة التطورات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، والمشاركة في النقاشات والحوارات التي تدور على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا على المنصَّات الإعلامية لإيصال وجهة نظرهم للغير ودعم قضايا الأمة الإسلامية، وبذلك يمكن للشباب المسلم أن تكون أصواتهم فاعلة ومؤثرة في المجتمعات التي يعيشون فيها، بل وفي المجتمعات الغربية كذلك، من خلال التعبير عن وجهات نظرهم والمساهمة في حل المشكلات الكبرى وتحقيق التغيير الإيجابي نحو الأهداف المأمولة لأمتنا.

وكذا يستطيعون من خلال الفهم الصحيح للإسلام تحقيقَ التوازن بين الأصالة والمدنية، لمواجهة التحديات الحديثة بطرق مبتكرة ومبدعة.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن يستفيد الشباب المسلم من التواصل والتفاعل مع غيرهم من الشباب في جميع أنحاء العالم، وبذلك يكون لهم صوت مسموع ومؤثر في الرأي العام العالمي، ويمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تكون وسيلة فعالة لتوسيع آفاقهم ومشاركة أفكارهم وتجاربهم، كذا يمكنهم التعلم من بعضهم البعض ومشاركة المعرفة والتفاهم المتبادل، وهذا ما يمكن أن توفره لهم المنصات الاجتماعية والتطبيقات الحديثة.

إن الشباب المسلم في رحلته الدؤوب لتحقيق التوازن بين قيمه ومعتقداته وكذا مستحدثات العصر يحتاج لفهم عميق للعالم المعاصر وأهم قضاياه، ليكون عنصرًا فاعلاً له رأي يُعتد به، وكلمة مسموعة

 مواجهة الغزو الفكري دور لا يغيب عن الأسرة والمجتمع:

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا ‌الَّذِينَ ‌آمَنُوا ‌قُوا ‌أَنْفُسَكُمْ ‌وَأَهْلِيكُمْ ‌نَارًا ‌وَقُودُهَا ‌النَّاسُ ‌وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].

إنّ واجب الأسرة المسلمة هو الحفاظ على ذلك النشء القادم من تحدّيات العصر ومن محاولات التغريب عن مجتمعاتهم وأمّتهم الإسلامية، وذلك بغرس قيم الإسلام في نفوس الأبناء وتربيتهم على احترام معتقدات دينهم والحفاظ على الهويّة الإسلامية، بداية من مظهرهم، مرورًا بحثّهم على التحدّث بلغتهم العربية العظيمة والتفاعل مع قضايا أمتهم، وانتهاءً بجعل سلوكهم وأخلاقهم مرآة لكلّ ما دعانا إليه الإسلام، مع مواكبة روح العصر من تطوّر ومدنيّة ترقى بالأمم ولا تتدنّى بالأخلاق.

“إن إعداد الأجيال في سياق الحفاظ على الهوية القومية غالبًا ما يكون حاسمًا في توجيه الأبناء لاقتفاء أثر الآباء والأجداد عن طريق التنشئة الأسرية، بحيث يكون في الغالب الأعم أبناء اليهود يهودًا وأبناء النصارى نصارى وأبناء المسلمين مسلمين..”([11]).

إن الشباب المسلم يشكل نسبة كبيرة من الشباب في العالم، وهذا ما يلقي بالمسؤولية الكبيرة على الأسرة والمجتمع للحفاظ على تلك الثروة البشرية والتأثير عليهم، وحمايتهم من الانزلاق في بئر التغريب وفقدان الهوية.

قال موسى كولاكلي كايا، مدير عام مركز الأبحاث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب للدول الإسلامية “سيسرك”، التابع لمنظمة التعاون الإسلامي: “إن الشباب المسلم يشكل نحو 29% من إجمالي الشباب حول العالم، وأن 98% منهم يعتبرون العائلة أهم مؤسسة في حياتهم”([12]).

لذا لا يمكن الاستهانة بدور الأسرة المربي والداعم للشباب، كما لا يمكن بحال من الأحوال فصل الأسرة عن المجتمع؛ حيث إن دور المجتمع هو الداعم لدور الأسرة، فهوية المجتمع نابعة من هوية أفراده، ولو انحرف مسار الفرد يتبعه انحراف مسار الغالبية، لذا فحرص المجتمع ككل على هويته يساعد على اقتداء الشباب بهم خاصة في حال مواكبة المجتمع لتقدم العصر مع الحفاظ على أصالة الدين وأعراف المجتمع.

وختامًا..

نؤكّد أنّ الشباب المسلم يعيش صراعًا متواصلاً بين الأصالة والتغريب في ظلّ حرب ضروس للنيل من قيمه وثوابته، والنجاح يتحقّق بتحقيق التوازن بين الاحتفاظ بالهويّة الإسلامية والتكيّف مع التحوّلات المدنية الحديثة ومواكبة التطوّر، حيث يمكن لهم أن يلعبوا دورًا فعّالاً في المجتمعات التي يعيشون فيها، من خلال تقديم نموذج واقعي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويسعى لتعزيز الفهم المتبادل والتعاون فيما بينهم لبناء جسور ممتدّة تجمع بين عمق الأصالة وحداثة التغريب، وبالقطع سيعود ذلك بالنفع على الشباب أولاً والمجتمع بأكمله ثانيًا، بل وسينعم العالم بشباب متفتح يجمع بين عظمة الإسلام بقيمه وأخلاقه وحضارته وبين الحداثة والتطوّر وهذا هو أشد ما تحتاجه الأمة الإسلامية في العصر الحديث ولعل بداية الإصلاح تكون من الشباب الذي يحتاج لتربية سليمة ورعاية أسرية ومجتمعية بناءة، ودعم وتوجيه يجمع بين ترسيخ العقيدة ومواكبة الحداثة، ثم تمكين وقيادة، ليتحولوا لسواعد بناء في المجتمع لا معاول للهدم.

من واجبات المسلم أن يتعلم أحدث العلوم وينال أعلى الدرجات وأن يواكب العصر، كذا من المهم أن يتمكَّن الشباب المسلم من فهم القيم الإسلامية الأساسية وأصولها العميقة، فلا تعارض بين العلم المدني والديني، بل هو التكامل والتوازن


هند معوض
كاتبة وأديبة مهتمة بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية – مصر.


([1]) موسوعة الحضارة الإسلامية بين أصالة الماضي وآمال المستقبل، (5/53).

([2]) تغريب التعليم.. خط الهجوم الأول ضد الإسلام، محمد الغباشي، موقع صيد الفوائد.

([3]) كتاب مفهوم الثقافة الإسلامية، د. عبد الحكيم السروري ود. علي مقبول، ص (110).

([4]) الشباب والهويّة بين الأصالة والتغرّب، د.طلال عتريسي، في الملتقى التربوي رقم 4، من تنظيم مركز الأبحاث والدراسات التربوية الملتقى التربوي، عام 2023م.

([5]) الهوية والانتماء بين الأصالة والحداثة (صراع الإرادات)، د. محمد حبيب صالح، مجلة إشراقة، الصادرة عن جامعة نزوى اليمنية، العدد (157).

([6]) الشباب والهوية الإسلامية، محمد سعيد اخريف، مدونات الجزيرة.

([7]) اللغة العربية.. هوية ومواطنة، علي بن نيمان القرنـي، موقع المعهد العلمي في الملز.

([8]) تعلم اللغات من فروض الكفايات، موقع الشيخ يوسف القرضاوي.

([9]) أخرجه ابن ماجه (224).

([10]) أخرجه أبو داود (3641) والترمذي (2624) واللفظ له.

([11]) مسؤولية التربية الأسرية في الحفاظ على الهوية الاستخلافية الإسلامية، د. عبد السلام محمد الأحمر، مركز الأمانة للأبحاث والدراسات.

([12]) التعاون الإسلامي: العائلة هي أهم مؤسسة في حياة الشباب المسلم، مقابلة مع موقع الأناضول بتاريخ 1-5-2018م.

X