لا تصلح أحوال المجتمعات والأمم إلا بالبعد عن السلبية ورسوخ الشعور بالمسؤولية الجماعية وشيوعه بين أفرادها، حتى يدفعهم هذا السلوك إلى الدفاع عن الصالح العام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا غاب هذا الشعور أو ضعُف، وانتشر داء السلبية، كثر فيهم الظلم والفساد وكان مؤذناً بدمارهم وزوالهم، يستوي في ذلك الصالح والطالح، ولهذا كانت المسؤولية الجماعية قيمة أساسية كبرى في التصور الإسلامي، بل إن الله لم يهلك الكفار – مع بشاعة كفرهم – حتى تواطؤوا على الظلم والفساد ورضوا به.
(1)
أوقف رجلٌ سيارتَه بجانب إحدى الحدائق العامة وجلس فيها مسترخياً يشرب العصير المعبّأ في علبة كرتونية صغيرة، وعندما أنهى شربه قذف العلبة الفارغة من نافذة السيارة، فاقتربت عجوز والتقطتها عن الأرض وسألته: «ألا تريد هذه العلبة؟»، فردّ الرجل قائلاً: «نعم، لا أريدها». عندئذ قالت السيدة: «ونحن لا نريدها أيضاً»، وألقتها داخل السيارة.
هذه قصة حقيقية، لكنها لم تقع في دمشق أو القاهرة أو جاكرتا أو إسلام أباد، وإنما وقعت في إحدى المدن الأمريكية. وربما ظن بعض الناس أن وقوعها هناك كان اتفاقاً ومصادَفةً لا غير وأنها يمكن أن تقع في أي مكان كان، ولكن هذا الظن -للأسف- غير صحيح. فسلوك الإنسان ينبع من أفكاره، وعالَم الأفعال ليس سوى امتدادٍ لعالَم الأفكار، فإذا كان من شأن التصورات والأفكار الجَمعية (التي يتبناها المجموع) أن تكرّس الإيجابية والمسؤولية الجماعية فسوف ينشأ سلوك جماعي يترجم هذا التصور في الواقع، أما إذا كانت تلك التصورات والأفكار مكرِّسةً للسلبية والفردية فمن أين يأتي واقعٌ مغاير؟ وفي مثل هذه الحالة لا عبرة بالأفكار والتصورات الفردية لأنها عرضةٌ للضياع والذوبان في بحر الأفكار والتصورات الهائل للمجموع، بل بالسلوك العام والقيم السائدة والمتبنَّاة على المستوى الجماعي الذي يحرك عموم الناس.
لو تأملنا بإنصاف منظومة القيم والأفكار والتصورات التي تهيمن على العالَم الغربي (بمجموع أممه ومجتمعاته) لوجدناها مسؤولة -إلى حدٍّ بعيد- عن صياغة ذلك العالم وإخراجه بشكل أتاح له التفوق والسيطرة على العالم المتخلّف (بمجموع أممه، ومنها الأمة المسلمة التي تشكل وحدَها ربع أهل الأرض) ولوجدنا أن واحدًا من أهم مكونات ومفردات هذه المنظومة ما نسمّيه «الإيجابية» و«المسؤولية الجماعية». ولنا أن ندرك الآن أن تلك العجوز لم تلتقط العلبة الفارغة عن الأرض وتَرمِها في السيارة مصادفةً أو بدافع فردي، وإنما هي تحركت بدافع من «العقل العام» متأثرةً «بالقيمة العامة» ومنسجمةً مع «السلوك العام» لمجتمعها الذي تعيش فيه والأمة التي تنتمي إليها، ولو لم تكن هي مَن صنع ذلك لتوقعنا أن يصنعه أي واحد من المئات من زائري الحديقة ومرتاديها ممن يمكن أن يكونوا قد شهدوا الحادثة أو شاهدوها.
فأيُّ قيم عامة وأي سلوك عام كان سيحرك فردًا ما ليقوم بعملٍ مشابه في بلدٍ من بلادنا؟ المشكلة ليست في أننا نحب القذارة، فنحن -المسلمين- أمة النظافة، ولا في أننا نرضى عن تلويث بيئتنا وتشويه جمال الطبيعة من حولنا، فذلك أمرٌ يأباه كل عاقل، وما هذه القصة -على أي حال- سوى مثل يصلح أن نقيس عليه ردود أفعالنا تجاه أي عمل سلبي أو فعل مخرِّب.
المشكلة الحقيقية تكمن في اختلال منظومة القيم والتصورات والأفكار التي تحرك الأفراد وتوجههم للقيام بالعمل، والتي غابت منها -في مجتمعاتنا- بعضٌ من أهمها وعلى رأسها قيمة «الإيجابية» وقيمة «المسؤولية الجماعية» التي تحرك مجموع أفراد المجتمع وتدفعهم باتجاه الدفاع عن الصالح العام، والتي تنمّي حاسّة رفضِ الخطأ وقَبول الصواب، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر. والمعروفُ كلُّ حسن والمنكرُ كلُّ قبيح، تستوي في ذلك أمور الدنيا والدين، ومصالح الحياة مع أوامر الشريعة ونواهيها.
التخلي عن الدفاع عن الصالح العام يدفع كلفته كل أفراد الأمة
(2)
إنه لثمن عظيم يدفعه أفراد الأمة جميعاً عندما يزهدون في التحرك للدفاع عن الصالح العام ولإيقاف الخطأ ومحاصرة المخطئين، وهو ثمن يمكن أن يصل إلى دمار الجماعة كلها وزوالها من الوجود.
تأملوا العبرة في قصة أصحاب السبت التي يرويها القرآن (والقرآن لا يسوق قصة إلا لعبرة): أولئك قوم احتالوا على ربهم واستحلّوا الحرام غيرَ مُبالين بأمر ولا بنهي، وقد بلغ من إصرارهم على المنكر واحتيالهم فيه أنْ غلبَ ظنُّ عامة أهل البلد أن أولئك المعتدين المجرمين لن يتراجعوا عن عدوانهم ولن يتوبوا من جريمتهم أيًا كان النصح أو التذكير، فزهدوا في أي نصح وزهدوا في أي تذكير، وانصرفوا إلى السلوك السلبي المتقوقع، ولعلهم ظنوا أنهم سينجون من العقوبة إذ لم يشاركوا بأنفسهم في الجريمة.
وحتى عندما تحرك نفرٌ قليل من الذين أحسّوا بالمسؤولية وأرادوا أن يكون لهم موقف إيجابي كان الردّ من الجمهور السلبي: لماذا ترهقون أنفسكم في النصح لجماعة من المعتدين المخطئين الذين لا تُظَنّ لهم توبة ولا يُشَكّ أن عذاب الله واقع بهم جزاء جريمتهم؟ دعوهم فلا شأن لنا بهم ولا أمل في صلاحهم: {وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡيَةِ ٱلَّتِي كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ١٦٣ وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗا} الأعراف [163 – 164]، فماذا كان ردّ الفئة القليلة من الذين غلب عليهم الحسّ الإيجابي وسيطر عليهم الشعور بالمسؤولية الجماعية؟ {قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ١٦٤} [الأعراف 164]. فكأنهم قالوا: سكوتنا خطأ، والواجب علينا أن نبين الحق وأن ندافع عنه وندفع إليه، وبذلك فقط نُعذَر عند الله. وما يدريكم لعلّ في نصحنا نفعاً أو في تذكيرنا فائدة؟
المهم هو نهاية القصة: لم يكن العذاب مصير الذين مارسوا الخطأ وحدَهم، بل أيضًا الذين مارسوا السكوت عن الخطأ كما ذهب إليه بعض المفسرين، ولم يَنجُ غيرُ أصحاب السلوك الإيجابي الذين تحركوا في محاولة لإصلاح الخطأ وتقويم السلوك السيّئ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف 165]. وقد علق سيد قطب في «ظلاله» على الآيات بقوله: «انقسم سكان القرية الواحدة إلى ثلاث أمم؛ أمة عاصية محتالة، وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة، وأمة تدع المنكر وأهله وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي»[1]. ونقل القرطبي في التفسير: «قال جمهور المفسرين إنهم افترقوا ثلاث فرق: فرقة عصت وصادت (أي يوم السبت) وفرقة نَهَت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تنهَ ولم تَعصِ. قال قتادة: «فما نجا إلا الذين نهَوا وهلك سائرُهم». وقال ابن عباس والحسن: «إن الطائفة التي لم تَنهَ ولم تعصِ هلكت مع العاصية عقوبةً على ترك النهي»[2].
وانظروا إلى هذا المعنى كذلك في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال 25]. روى القرطبي عن ابن عباس: «أمر الله المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب». وقال: “قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير. قال: فإن قيل: فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} [فاطر 18]، وقال: {كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨} [فاطر 38]، وهذا يوجب ألا يؤخَذ أحد بذنب أحد وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب، فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سُكت عليه فكلُّهم عاص، هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظما في العقوبة. قاله ابن العربي»[3].
(3)
إن الإيجابية والمسؤولية الجماعية من القيم الأساسية الكبرى في التصور الإسلامي. انظروا إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام وهو يشبّه أفراد المجتمع براكبي السفينة، فذلك واحدٌ منهم ذهب يتمتع بما رآه «حقه الشخصي» في خرق الجزء الخاص به من أرضها. أفرضي النبي صلى الله عليه وسلم لسائر ركابها السكوت أم اعتبر السلبية والانصراف عن التدخل جريمة جماعية؟
السلبية في مواجهة الظلم موجبة للدخول في العقاب الجماعي الذي يحل بالظلمة
أخرج البخاري عن النعمان بن بشير أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (مَثَلُ القائم على حدود الله والواقعِ فيها، كمَثل قوم استَهموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفَلها، فكان الذين في أسفلها إذا استَقوا من الماء مرُّوا على مَن فوقَهم، فقالوا: لو أنَّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤذ مَن فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجوا، ونَجوا جميعًا)[4]. وفي رواية له: (فإن أخذُوا على يديهِ أَنجَوهُ ونَجّوا أنفسَهم، وإن تركُوهُ أهلكُوهُ وأهلكُوا أنفُسهم)[5]. وفي رواية الترمذي وأحمد: (فإن أخَذوا على أيديهم، فمَنَعوهم؛ نَجَوا جميعًا، وإن تركوهم؛ غرِقوا جميعًا)[6].
تأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِم): ألا ترون أنه تحدث عن المجموع بقوله: (أخَذُوا) ولم يتحدث عن فردٍ منهم؟ فليس المطلوب أن يأخذ على يد المعتدين واحدٌ من القوم بتحرك فردي، بل المطلوب أن يتحركوا جميعًا في موقف إيجابي جماعي يصنعه الإحساس بالمسؤولية الجماعية عن أمن وسلامة مجتمعهم. عندئذ ينجون جميعًا، وإلا فما نتيجة السلبية والسكوت إلا العقاب الجماعي: (وإن تركُوهُ أهلكُوهُ وأهلكُوا أنفُسهم)، (وإن تركوهم؛ غرِقوا جميعًا).
وهذا العقاب الجماعي لا يفرّق بين صالح وطالح أو عابد وجاحد، فالذين سكتوا عن الخطأ وساروا في ركاب المخطئين استحقوا أن ينزل بهم ما ينزل بالمخطئين من عقاب. ذلك في الدنيا، أما في الآخرة فكلٌّ يُجزَى بنيّته وعمله. أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغزو جيشٌ الكعبة، فإذا كانوا بِبَيدَاءَ مِن الأرض، يُخسَفُ بأوّلِهم وآخِرهم قالت: قُلتُ: يا رسول الله، كيف يُخسَف بأوّلِهم وآخِرهم، وفيهم أسواقُهم، ومن ليس منهم؟ قال: بأوّلِهم وآخِرهم، ثم يُبعثون على نيّاتهم)[7]. وفي لفظ مسلم: (يَهلِكُون مَهلَكًا واحدًا، ويَصدُرونَ مَصادِرَ شَتَى، يبعثُهُمُ اللَّه على نيّاتِهم)[8].
إنّ السلبية في عدم الإنكار على الجيش الظالم أو مسايرته أو الانتفاع منه وإن كانت لا تعني مشاركتهم في الظلم إلا أنّ هذه السلبية موجبة للدخول في العقاب الجماعي الذي يحلّ بالظلمة، والحرمان من ميزة استحقاق النجاة بكرامة ربانية. قال القسطلاني في شرحه للحديث: «التقدير: أهل أسواقهم الذين يبيعون ويشترون، وفي رواية مسلم: (فقلنا: إن الطريق تجمع الناس. قال: نعم، فيهم المستبصر (أي المستبين لذلك القاصد للمقاتلة) والمجبور (أي المكرَه) وابن السبيل (أي سالك الطريق معهم وليس منهم). والغرض أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة فأجابها النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الجواب». ثم قال: «وفيه التحذير من مصاحبة أهل الظلم»[9].
لا يعم الله قوماً بالعذاب إذا وقع الظلم من بعضهم، حتى يرضوا به أو يسكتوا عنه
(4)
رأينا فيما مضى كيف تعمل الآيات والأحاديث في بناء قيمة الإحساس بالمسؤولية الجماعية وتكريس الإيجابية على مستوى الفرد والمجموع، وكيف يؤدي السلوك السلبي إلى هلاك الجماعة بكل أفرادها: الذين مارسوا الخطأ والذين سكتوا عنه ورضوا به ولم يتحركوا لمحاصرته ووَقْفه. فلننظر الآن إلى عقاب الله الصارم المتمثل في الهلاك الجماعي للأمة، أيُّ شيء دعا له وأي سلوك قاد إليه؟
الذي يتبادر إلى الذهن ابتداء أن الكفر (الذي هو أسوأ ما يمكن لمخلوق أن يصنعه) هو السبب الذي من أجله أهلك الله الأقوام، ولكن الغريب أن الكفر وحده لا يصنع ذلك، ولا يكاد الله يَعمُّ قوماً بالعذاب إلا بعد أن يتواطأ أكثرُهم على الظلم والفساد ويرضوا به ويسكتوا عنه.
انظروا إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ١١٧} [هود 117]. قال القرطبي في التفسير: «قوله تعالى: {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى} أي: أهلَ القرى. {بِظُلْمٍ} أي: بِشركٍ وكفر. {وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} أي: فيما بينَهم في تعاطي الحقوق»[10].
هذه هي الخلاصة في هذا الأمر الخطير: حين تبدأ بالممارسات الشاذة الخاطئة فئةٌ من الجماعة فتقابلها باقي الفئات بالسكوت والتسليم ويتعطل الفعل الإيجابي ويتوقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويغيب أي حس بالمسؤولية الجماعية، حين يقع هذا كله تكون الجماعة كلها في طريقها إلى الهلاك، لأن سنة الله التي لا تحابي أحدًا ولا تتعطل في أي حال ستعمل عملها في هذا المقام وستفعل فعلها في هذا الحال.
وبهذا المعنى الجليل تواترت الأحاديث. روى الإمام أحمد عن عدي بن عميرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الله لا يُعذب العامَّة بعملِ الخاصة، حتى يرَوا المنكر بين ظَهرانَيهم، وهم قادرون على أن يُنكروه، فلا يُنكروه، فإذا فعلوا ذلكَ عذَّب الله الخاصة والعامة)[11]. ومثله ما رواه أبو داود عن عمرو بن هُشَيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما مِن قومٍ يُعمل فيهم بالمعاصي، ثم يَقدرون على أن يٌغيروا، ثم لا يغيروا إلا يوشِك أن يَعمُهم الله منه بعقاب)[12]. وعن أبي بكر الصديق أنه قال: «أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يديه أوْشكَ أن يعمهم الله بِعِقابٍ منه)[13].
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ بني إسرائيل لمَّا وقعَ فيهم النَّقص، كان الرّجل فيهم يرى أخاه يقعُ على الذّنب فينهاهُ عنه، فإذا كان الغدُ لم يَمنعهُ ما رأى منهُ أن يكون أَكيلَهُ وشريبَهُ وخليطَهُ، فضربَ اللَّه قلوب بعضهم ببعض، ونزل فيهمُ القرآن فقال: {لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ٧٨ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ٧٩…}، قال: وكان نبيُّ اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متَّكئًا فجلس، فقال: لا، حتَّى تأخُذوا على يد الظَّالم فتأطُروه [أي: تلزموه] على الحقّ أطرًا)[14]، وفي رواية لأبي داود: ثم قال: (كلا والله، لتأمُرُنّ بالمعروف ولتنهَوُنّ عن المنكر ولتأخُذنّ على يدي الظالم ولتأطُرُنّه على الحق أطرًا ولتقصُرُنّه على الحق قصرًا)[15]. وعن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتم أمتي تَهابُ الظَّالم أن تقولَ له: أنت ظالم، وفي رواية: إنَّك أنت ظالم، فقد تُوُدِّع منهم)[16].
يجب أن تكون غيرتنا على الصالح العام كغيرتنا على مصالحنا الشخصية
(5)
وليس يقتصر وصف «الظالم» -في الأحاديث السابقة- على من يتولى أمر المسلمين ثم يظلمهم فلا يُقيم الحق ولا يطبق الشرع فيهم كما يظن كثيرون. نعم، الواحد من هؤلاء يُسمّى ظالماً، ولكنّ في قصر الأحاديث والآيات على هذا المعنى انتقاصًا منها وصرفًا لها عمّا أُنزلت له وقيلت فيه. فالأب قد يظلم أولاده، والزوج قد يظلم زوجته، وصاحب العمل قد يظلم أجيره، والمرأة قد تظلم خادمتها، والمدرّس قد يظلم تلاميذه… بل إن أمثال هذه الحالات التي يظلم فيها عامةُ الناس بعضُهم بعضاً لتستعصي على الحصر وإنها لهي الداء العضال. وما أكثرَ ما يشهد بعضنا ظلماً كهذا ثم يُلجمه الحياء أو تمنعه الرهبة أن يقول للظالم «أنت ظالم»، فنحن هنا -كما في حديث عبد الله بن عمرو السابق- قد تُوُدِّع منا!
فإذا وقع الظلم فلم يُنكره من يملك القدرة على إنكاره، وأظهرت المعصيةَ فئةٌ من الأمة فلم يتحرك لمحاصرتها أيٌّ من بقية الفئات، فإن العذاب يقع بالجميع ولو كان غيرُ العصاة من أصلح الصالحين وأعبد العابدين. عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزِعًا يقول: (لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب؛ فُتح اليوم من رَدمِ يأجوجَ ومَأجوجَ مثل هذه، وحلَّقَ بإصبَعيهِ الإبهام والتي تليها). قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول اللَّه، أَنَهلكُ وفينا الصالِحون؟ قال: (نعم إذا كَثرَ الخَبَث)[17]، وفي رواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من النوم محمرٌّ وجهُه[18]، وذكر الحديث.
إذا وقع الظلم وأعلنت المعصية فلم يتحرك أي من بقية الفئات، فإن العذاب يقع بالجميع ولو كان فيهم أصلح الصالحين
ومثل هذا المعنى جليٌّ ظاهر في حديث الخسف الذي مرّ معنا آنفاً: ألم يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم أن رفيق الظالمين يُخسَف به مع الظالمين (ولو لم يكن منهم) ثم يُبعث يوم القيامة على نيته؟ وقد رأينا أن العذاب يقع بالقوم إذا عم الظلم وفشت الذنوب ولو كان فيهم الصالحون والعابدون، فماذا كان سبيل الوقاية من هذا العذاب وأين هو مفتاح الأمان؟ ليس ثمّةَ غير سبيل واحد: أن تطور الجماعة حسًا إيجابيًا وسلوكًا عامًا يرفض الخطأ ويقبل الصواب، ويسعى إلى إصلاح الخطَّائين ومحاصرة المعتدين.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ليعلّمنا أن نذهب أبعد من ذلك في حساسيتنا تجاه الخطأ والمخطئين، فلا يكفي أن ننكر الخطأ عليهم وهم بين أظهرنا، ولا يكفي أن نفارقهم ونأبى مساكَنَتهم ما داموا على ظلمهم وعدوانهم، بل نَحذر أن ننزل منازلهم التي عُذِّبوا فيها إلا أن نكون معتبرين. وفي نهي النبي أصحابَه عن أن ينزلوا منازل الظالمين الذين نزل بهم عذاب الله -خوفَ أن يصيبهم ما أصابهم- أعظمُ الدلالة على عموم العذاب بمن ظلم ومن عاش مع الظالمين بإرادته، مكتفيًا بعدم مشاركتهم في الظلم أو بإنكار ظلمهم بقلبه. عن عبد الله بن عمر قال: (لما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحِجر قال: لا تدخُلوا مساكنَ الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكِين، ثم قنَّع رأسه وأسرع السير حتى أَجَازَ الوادي)[19]، وفي رواية لمسلم: (لا تَدخلوا على هؤلاءِ القومِ المُعذَّبين). وفي رواية للبخاري ومسلم عنه قال: (أنَّ الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجر، أرضِ ثمود، فاستَقوا من آبارها، وعجنوا به العَجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُهريقوا ما استقوا، ويَعلِفوا الإبلَ العجينَ، وأمرهم أن يَستَقوا من البئرِ التي كانت تَرِدها الناقة)[20]. وفي رواية للبخاري أنَّه: (أمرهم ألا يشربوا من أبيارِها ولا يَستقوا منها، فقالوا: قد عَجنّا منها واستَقينا، فأمرهم أن يَطرحوا ذلك العجين ويُهريقوا ذلكَ الماء)[21].
(6)
فلو شئنا أن ننجو من عذاب الله في الدنيا ومن عقابه في الآخرة لوجب علينا أن نقوم بواجبنا في إحقاق الحق وإنكار المنكر، ولكان علينا أن ننمي حاسة قبول الصواب ورفض الخطأ، وأن يكون السلوك الإيجابي طبعاً فينا لا تطبّعاً، وأن تكون غَيرتنا على الصالح العام كغَيرتنا على مصالحنا الشخصية، وأن يكون اهتمامنا بسلامة المجموع وأمنه كاهتمامنا بخاصة شأننا… ولو قادنا ذلك إلى المصاعب وسبب لنا المتاعب.
الخلل أعظم من أن ينهض لمعالجته أفراد معدودون، وهو من العموم والانتشار بحيث يدخل في كل بيت، ولا يكاد يسلم منه إنسان
ولكل واحد منا دور جليل في هذه «الحملة» الإصلاحية، فالخلل أعظم من أن ينهض لمعالجته أفراد معدودون، وهو من العموم والانتشار بحيث يدخل كل بيت ولا يكاد يَسْلم منه إنسان. فلا يَحقرنّ أحدٌ جهده في الإصلاح ولو بكلمة يريد بها الخير، ولا يهابَنّ أحدٌ ظالماً أو معتدياً أن يرده عن ظلمه أو ينهاه عن عدوانه. وإن المواقف والحالات التي تستدعي مثلَ هذا الأمر لتستعصي على الحصر: إذا لمس موظفٌ في شركةٍ في زميله سلوكاً يؤذي موظفاً آخر أو يضر الشركة وسكت عنه فهو شريك في العدوان، وإذا رأت المرأة صاحبتها تظلم خادمتها وتحمّلها ما لا تطيق فلم تنصحها أو تنصر الخادمة المستضعَفة فهي شريكة في العدوان، وإذا رأى الطالب في المدرسة زملاءه يسخرون من زميل لهم ضعيف أو يعتدون عليه فلم يسعَ إلى وقفهم ولم يدفع الظلم عنه -إن استطاع- فهو شريك في العدوان… وإذا رأيتَ رجلاً يرمي في الطريق قاذورات فلم تنهَه فأنت شريك في العدوان، وإذا كنتَ موظفًا والمراجعون يَصطفّون أمامك فأراد أحدهم أن يأخذ دور غيره فسمحت له فأنت شريك في العدوان… وإذا فرّق زوجكِ بين أبنائكما في المعاملة ففضّل واحدًا على إخوته بعطاء أو عاطفة (بغير سبب شرعي) فقبلتِ ذلك منه فأنت شريكة في العدوان، وإذا ربط ولدك الصغير القطة من ذيلها بحبل وجرّها ليلعب بها فآذاها وأنت تبصرين فلم تمنعيه عن الأذى فأنت شريكة في العدوان…
الصور والأمثلة أكثر من أن تحصى وفوق أن تُعَدّ، لكن ينتظمها جميعًا شأن واحد: خير الجماعة وصالح مجموعها، ولو كان هذا الخير نبتة تُحمى أن يُداس عليها أو علبة عصير فارغة يُحال بينها وبين أن ترمى على الأرض.
فإذا كانت الآيات والأحاديث تعمل في بناء قيمة الإحساس بالمسؤولية الجماعية وتكريس الإيجابية على مستوى الفرد والمجموع فما بالُنا فقدنا ذلك كله على مستوى الفرد والمجموع؟ لماذا تَخلّقَ بهذا الخُلق غيرُنا فتفوق علينا، ونزعنا نحن إلى السلبية والسكوت عن الحق والرضا بعدوان بعضنا على بعض وظلم بعضنا لبعض؟ لماذا صار شعار العصر: «عليك بخاصة نفسك» وهتاف كل واحد:
ما لي وللناس إن مالوا وإن عدلوا .. ديني لنفسي ودين الناس للناس؟
أيها الناس: لا تعدلوا عن كلمة الحق، ولا ترضوا بالباطل أو تسكتوا عن الخطأ، لا مجاملةً لأحد ولا خجلاً من أحد ولا خوفًا من أحد. انهوا عن السوء؛ إلاّ تفعلوا يأخذْكم العذاب البئيس في الدنيا وعقاب الله في الآخرة.
[1] في ظلال القرآن، عند تفسير الآية 164 من سورة الأعراف (3/1385).
[2] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، عند تفسير الآية 164 من سورة الأعراف (7/306).
[3] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، عند تفسير الآية 25 من سورة الأنفال (7/392).
[4] صحيح البخاري (2493).
[5] صحيح البخاري (2686).
[6] صحيح الترمذي (2173)، مسند أحمد (18361).
[7] صحيح البخاري (2118).
[8] صحيح مسلم (2884).
[9] إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني (4/49).
[10] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، عند تفسير الآية 117-118 من سورة هود (9/114).
[11] مسند أحمد (17720).
[12] صحيح أبي داود (4338).
[13] أخرجه الترمذي (2168)، وقال: وفي الباب عن عائشة وأم سلمة والنعمان بن بشير وعبد الله بن عمر وحذيفة، ورواه بألفاظ مقاربة أحمد وأبو داود.
[14] أخرجه الترمذي (3048)، وابن ماجه (799).
[15] أخرجه أبو داود (4336). والحديث مرسل، وروي مسندًا كما عند الطبراني في الأوسط عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود. لكن أبا عبيدة لم يسمع من والده على الصحيح. ينظر مرشد ذوي الحجا والحاجة للبويطي (24/140)، وقد ذكر الدارقطني أسانيد الحديث وبيّن ما فيها من اضطراب. ينظر: العلل للدارقطني (5/288) رقم (888). وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105). وقد جاء في معنى العبارة الأخيرة أحاديث صحيحة
[16] مسند أحمد (6521).
[17] أخرجه البخاري (3346)، ومسلم (2880).
[18] أخرجه البخاري (7059).
[19] أخرجه البخاري (4419)، ومسلم (2980).
[20] أخرجه البخاري (3379)، ومسلم (2981) واللفظ له.
[21] أخرجه البخاري (3378).