التصور الغربي المادي أحادي النظرة يختزل الإنسان في بُعدٍ ماديٍ بحتٍ أو روحيٍّ منعزلٍ، فشل في تحقيق المعنى والغاية، وحوَّل الإنسان إلى كائن استهلاكي خاضع للرغبات أو صراعات الغرائز، أما الإسلام، فقدم تصورًا شاملاً يرتبط فيه الإنسان بخالقه، يجمع بين متطلبات الروح والجسد بانسجام، مؤكدًا على إنسانية متكاملة تعيد المعنى والقيمة لحياته.
مقدمة:
لم يكن الحديث عن خلق الإنسان في القرآن الكريم وبيان أصوله وتفاصيل تكوينه من الكماليات الفكرية، أو قُل من التحسينيات على نهج أهل الأصول، بل مدخلاً ضروريًا وبابًا من أبواب الوصول إلى طبيعة هذا الإنسان، وأصلاً تبنى عليه القضايا الإنسانية الأخرى، فإذا اعترى فهم فلسفة الخلق نقص، فإن هذا النقص سيطال لا محالة الثلاثية الوجودية (المبدأ، الحال، المصير)، ولم تضل بعض الفلسفات والمذاهب الفكرية المعاصرة إلا بسبب ضلالها في جوابها عن سؤال البدايات، لذلك يؤكد المؤرخ الأمريكي كافين رايلي أن أفكار الناس عن قصة الخلق أمر مهم للغاية بالنسبة لهم وفي ذلك يقول: “إن أفكار الناس عن الخلق أمر مهم للغاية بالنسبة لهم، فهم يرجعون إليها المرة تلو الأخرى كي يفهموا طبيعة الأشياء وكيف كانت وكيف ينبغي أن تكون”[1].
ولعل قضية خلق الإنسان في الرؤية التوحيدية امتد أثرها في بناء تصور الإنسان عن أبعاده الوجودية في الكون، فخلق الإنسان هو أساس نظرتنا وفهمنا لقضية القيمة والمعنى والغاية والهدف، وهذه القضايا كلها متأصلة ومتجذرة في كل نفس، حيث لا يمكن إلغاؤها أو حتى طمسها، كما هو الشأن في الرؤية المادية الطينية[2].
وفي هذا المقال سنحاول أن نقف على أبعاد الإنسان في التصور الإسلامي، لكن قبل الوقوف على كمال الرؤية التوحيدية في نظرها لطبيعة الإنسان سيكون ديدننا في البدء النظر فيما شابَ هذه التصور المادي من خلل حاد بالإنسان عن فطرته، وأتى على إنسانيته.
أحادية البعد الإنساني وقصور الرؤية الغربية:
نزوع الإنسان الغربي إلى العدمية أو قل “التدميرية” أو “السلبية” بتعبير الكاتبة الكندية نانسي هيوستن[3]، لم يكن سوى احتجاج على غياب الإلهي[4]، وإلغاء ثنائية الطبيعة الإنسانية، بطمس الجانب الروحي في الإنسان والإبقاء على الإنسان الطيني الترابي ذي البعد الواحد الذي يحيا حياة أفقية سطحية لا معنى فيها، ولا مكان فيها لسؤال لماذا؟
ولعل النظر فيما ذهبت إليه الرؤية الغربية في رؤيتها لأبعاد الإنسان الوجودية في الكون يجعلنا نضع موازنة ومقارنة بين التصور القرآني والنظرة المادية للإنسان، فالقرآن الكريم ببياناته القوية النافذة، يمزق غطاء الإلفة وستار العادة الملقى على الإنسان، فيكشف بتمزيقه ذلك حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيه من دروس بليغة، فاتحًا كنزًا لا يَفنى للعلوم أمام العقول[5]، للنظر في هذا التركيب الفريد.
أما التصور المادي، فهو يخفي القدرة الإلهية في تصوير هذا الإنسان، وبتجاوزه لثنائية الخالق / المخلوق، يشوه الطبيعة الإنسانية ويأتي على تركيبته المجبول عليها كما سنرى بين ثنايا هذا المقال.
ولعل تقلب الإنسان الغربي بين المادية والروحانية هو ترجمة للعبارة التي جاءت على لسان عيسى عليه السلام في إنجيل مرقس: “أَعْطُوا ما لِقَيْصَر لِقَيْصَرَ وما لِلّه لِلّه”[6]، حيث لا اجتماع فيها للمادي والروحي؛ فإما حياة مادية محضة وإما انقطاع لحياة روحية خالصة.
فالحضارة الغربية حضارة أحادية البعد؛ إما نزوع للمادية أو هروب للرهبانية، فلا وجود فيها للمركب والثنائي، وعبارة “الإنسان ذو البعد الواحد” هي من كتابات هربرت ماركوز (Herbert Marcuse)[7] أحد مفكري مدرسة فرانكفورت[8]، وهي تعني “الإنسان البسيط غير المركب”، والإنسان ذو البعد الواحد بمفهومه المعاصر هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد تسيطر عليه العقلانية التكنولوجية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي[9] والمادي المستمر والمتزايد واللانهائي، وتعظيم الإنتاجية المادية[10] وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك، وتهيمن على المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وهكذا تنجح في خلق طبيعة ثانية مشوهة لدى الإنسان، فيغدو سقف تطلعاته محدودًا بعالم المادة[11].
الحضارة الغربية حضارة أحادية البعد؛ إما نزوع للمادية أو هروب للرهبانية، فلا وجود فيها للمركب والثنائي
فلو ذهبنا مثلاً إلى الاتجاه النفسي، لوجدناه يعرف الإنسان لا بوعيه وعقله وإنما بذاته اللاواعية، ودوافعه الغريزية، ويمكن أن نمثل لهذا الاتجاه بعالم النفس النمساوي سيجموند فرويد الذي قدس اللاشعور فصار هو المتحكم في تصرفات الإنسان الواعية، حيث استطاع بطرحه هذا تقويض المشروع التنويري الذي كان يقدس العقل والعقلانية، فأظهر أن خلف هذا العقل خزانًا هائلاً بقوى غير عقلانية، وما الإنسان الواعي إلا ظاهرة ثانوية هزيلة[12]،حيث اكتسب الصراع الدارويني مع الطبيعة أبعادًا جديدة، إذ بات الإنسان محكومًا بأن يعيش في صراع أبدي مع طبيعته الخاصة، فهو مسير بغرائز دنيئة، والمنبع الحقيقي لجملة الدوافع البشرية ما هو إلا مرجل يغلي بالغرائز الحيوانية[13]، فالغرائز الداخلية هي العالم الحقيقي للإنسان وهو عالم غابوي حيواني لا سيادة فيه للعقل.
ومن الإنسان الفرويدي ذي البعد الغرائزي، إلى الإنسان ذي البعد الواحد المتمركز حول ذاته (الإنسان النيتشوي) صاحب الإرادة المطلقة الذي يغزو العالم ويدمره ويحوسله[14] لصالح ذاته المطلقة. ويظهر الإنسان الاقتصادي ذو البعد الواحد الذي يراكم الثروة بلا نهاية ويهتم بالحقائق المادية التجريبية المتناثرة وحسب، إنه إنسان ضيق الأفق، حدود خياله هي حدود عالم الأشياء.
وهو إنسان يذعن للأهداف المجردة اللاإنسانية ويُرشِّد حياته في ضوئها، هذا الإنسان هو الإنسان الذي يجسد مبدأ المنفعة والذي يمتثل لآليات السوق، وهو الإنسان العادي الذي يعمل لصالح الدولة ويُرشِّد حياته في ضوء ما يأتيه من أوامر ويتبع آخر الموضات والصيحات[15]، وهو الإنسان الجسماني الذي يجسد مبدأ اللذة ويكرس حياته لملذاته وحسب ويذعن لما يصدر له من أوامر من قطاع اللذة[16].
هذه النماذج تلخص لنا الرؤية الغربية الحديثة لأبعاد الإنسان، وهي رؤية كما أسلفنا مادية، والإنسان في إطارها طبيعي مادي، فهو جزء لا يتجزأ من الطبيعة / المادة، يرد إليها ويخضع لقوانينها وحتمياتها ولا يمكنه تجاوزها[17]، ومن ثم لا تطلعات لهذا الإنسان لما وراء الحياة المادية، فهو “إنسان أفقي” يحيا لهذه الدنيا وفيها، إنه –إن صح التعبير- “إنسان نازل” لطينة الأرض ولأصله الترابي، غير باحث عن “الإنسان الصاعد” المتدرج في مقامات أهل النور، الباحث عن إنسانيته الضائعة وسط دوامة التصورات والفلسفات.
لكن منذ متى على وجه الدقة ظهر هذا الشعور بالقطيعة بين الذات والعالم، هذا الإدراك لحضور الإنسان في العالم باعتباره عبثًا؟ يطرح الروائي الفرنسي يوجين ايزونسكو هذا السؤال في كتاب مذكراته: حاضر ماض، ماض حاضر: “بدءًا من أية لحظة بدأت الآلهة تنسحب من العالم؟ منذ أية لحظة فقدت الصور ألوانها؟ منذ أية لحظة أُفرغ العالم من جوهره، منذ أي لحظة لم تعد العلامات علامات، منذ أي لحظة وقعت القطيعة التراجيدية، منذ أية لحظة تُركنا لمصيرنا، أي منذ أي لحظة لم تعد الآلهة تريدنا كمتفرجين ومشاركين؟ لقد تُركنا لأنفسنا، لعزلتنا، لخوفنا فولدت المشكلة: ما العالم؟ ومن نحن”[18]؟
فسؤال من نحن؟ لا يمكن أن نجد جوابه في تصور ألغى الثنائية الإنسانية، ولم ينظر بتبصر وبصيرة في تركيبة هذا الكائن الفريد، الذي جبل على أن يحيا حياتين، فإن أتت إحداهما على الأخرى لن نكون أمام الإنسان الرباني أو بالأحرى الإنسان الإنسان، وإنما سنكون أمام صور مشوهة له، وإذا كانت المادية تؤكد دائمًا ما هو المشترك بين الحيوان والإنسان، فالدين يؤكد على ما يفرق بينهما[19]، ولعل الإسلام في نظرته المُتَّزنة للإنسان استطاع أن يبقي على هذه الثنائية، دون أن يغلب طرفًا على طرف، ولعل الفقرة التالية فيها مزيد بيان وتفصيل لهذه الرؤية.
تكامل البعد الإنساني في الإسلام:
لا يمكن أن نمضي في بيان خلل التصور المادي الأحادي عن الإنسان دون أن نجعل من كلام الله تعالى وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرضية الصلبة التي نبني عليها فهمنا لتركيبة الإنسان في التصور الإسلامي، يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 28 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29]، فهذه النفخة هي التي تصله بالملأ الأعلى، وتجعله أهلاً للاتصال بالله تعالى، وللتلقي عنه، ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول، والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان[20]، وهي النفخة التي تسمو به من دركات البهيمية إلى مدارج الحياة الإنسانية، ليشق الطريق في سبيل الوصول إلى معرفة الحق الأعلى، والغاية التي لأجلها خلق.
وفي حديث الرهط الثلاثة من جماع القول ومن الفهم النبوي المعجز ما يغنينا عن تحبير الصفحات بأقوال المفكرين والفلاسفة، التي ما نسوقها ها هنا إلا تدليلاً وتفسيرًا للتصور الإسلامي المؤسس على القرآن والسنة.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تَقَالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؛ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)[21].
فالحديث فيه إشارة بديعة للموازنة بين حياة الجسد وحياة الروح، ورفض للرهبنة التي ابتدعتها المسيحية، والتي لا يستطيع الإنسان فيها أن يخدم سيدين، فهو إما أن يكره أحدهما ويحب الآخر، أو يتمسك بأحدهما ويستخف بالآخر. إنك لا تستطيع أن تخدم الله وتخدم مامون[22]، فوفق هذا التصور لا يستطيع إنسان أن يُعنى بروحه وبمتاع الدنيا في الوقت نفسه، فإذا كان الإنسان يطمح إلى المتاع فعليه أن يتنازل عن روحه، وإذا كان يطمح إلى خلاص روحه فعليه أن يتخلى عن متاع الدنيا، وإلا فإنه يتمزق بينهما، فلا يصل إلى هذه أو تلك[23].
فالإسلام في تصوره المتكامل عن تركيبة الإنسان، يظهر لنا أننا نستطيع أن نحيا الحياتين معًا، وهذا هو الأصل والطبيعي الذي يتماشى مع تكوين هذا الإنسان الثنائي البعد، “فالإنسان بمقدوره أن يحيا كلا الحياتين في ذات الوقت، أي أن يكون مُنوجدًا في العالم المرئي، ومتواجدًا في العالم غير المرئي، إذ إنه يقيم في الأول بجسمه مزدوجًا بروحه، في حين أنه يعرج إلى الثاني بروحه وحدها، وعليه: فإن الإقامة في العالم المرئي لا تمنع من العروج إلى العالم غير المرئي، بل إن العروج غير المرئي يجدد الإقامة المرئية تجديدًا، ويزيدها أمانًا وكمالاً”[24].
ففلسفة الإنسان في الإسلام قائمة على الثنائيات، عالم الشهادة/عالم الغيب، الخالق/المخلوق، الجسد/الروح، وهي –إن صح التعبير- “ثنائيات تلازمية” لا يمكن فصلها، فبإحداها تكون الأخرى، فإذا ألغي طرف ألغي بموجبه الطرف الآخر، فثنائية الوجود الإنساني (ثنائية المادي والروحي) لا يمكن تفسيرها وضمان بقائها واستمرارها إلا بافتراض ثنائية أخرى هي ثنائية الخالق والمخلوق، وهي ثنائية تأسيسية لا يمكن ردها إلى ما هو خارجها. ومن هنا يرى عزت بيجوفيتش أن الإنسان بصفة أساسية لا يوجد إلا “بفعل الخلق الإلهي”[25].
فهذه النفخة الربانية في جسد الإنسان لا يمكن أن تكون عبثًا، بل هي المميز والفاصل بين الحياة الإنسانية والأخرى البهيمية، فمن المحال أن تكون الغاية من هذه النفخة مجرد بث الحياة، لأن الحيوان يتمتع بالحياة من غير هذه النفخة التي اختص بها الإنسان، فهذه النفخة جاءت الإنسان بأكرم وأقدس شيء أعطيه، تكريمًا له، ألا وهو الروح! فالروح هي سر هذه المعاني الخلقية الإلهية التي يجدها الإنسان في فطرته والتي تظل نورًا فيها يصله بالأصل الأقدس الذي فاضت منه، ألا وهو الروح الإلهي[26].
“الإنسان بمقدوره أن يحيا كلا الحياتين في ذات الوقت، أي أن يكون مُنوجدًا في العالم المرئي، ومتواجدًا في العالم غير المرئي، إذ إنه يقيم في الأول بجسمه مزدوجًا بروحه، في حين أنه يعرج إلى الثاني بروحه وحدها، وعليه: فإن الإقامة في العالم المرئي لا تمنع من العروج إلى العالم غير المرئي، بل إن العروج غير المرئي يجدد الإقامة المرئية تجديدًا، ويزيدها أمانًا وكمالاً”.
طه عبد الرحمن
فالإنسان -إذًا- مركب من جسم مدرك بالبصر ونفس مدركة بالبصيرة[27]، وبالمنظار القرآني قائم على التناقض، قوتان متضادتان تتجاذبان باتجاهين مختلفين، إحداهما نحو القعر الرسوبي للحياة والأخرى نحو القمة التي سجدت له فيها الملائكة أجمعون، المهم أن الإنسان الواقع دائمًا تحت تأثير هاتين القوتين والمواجه أبدًا لمفترق طريقين، قادر على الاختيار بانتخاب أحد الطريقين[28]، والإنسان بطبيعته المتعدية لا القاصرة، تكون حياته أشبه بحياتين متلازمتين -أو قُل: متزاوجتين- منها بحياة واحدة، إحداهما عبارة عن عالم من المرئيات ينوجد فيه ببدنه وروحه، والأخرى عبارة عن عالم من المغيبات يتواجد فيه بروحه، ففي هذه الحياة الموسعة يجد الإنسان نفسه موصولاً بالغيبي وصله بالمرئي في كل عمل يأتيه[29].
وفي الذريعة تعبير بديع عن هذه الثنائية التي تتجاذب الإنسان، يقول الأصفهاني: “الإنسان لما ركب تركيبًا بين بهيمة وملك، فشبه بالبهيمة بما فيه من الشهوات البدنية، من المآكل والمشارب والمناكح، وشبه بالملك بما فيه من القوى الروحانية من الحكمة والعدالة والجود، صار واسطة بين جوهرين: وضيع ورفيع، ولهذا قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، فالنجدان من وجه: العقل والهوى، ومن وجه: الآخرة والدنيا، ومن وجه: الإيمان والكفر، ومن وجه: الهدى والضلال، ومن وجه: موالاة الله تعالى وموالاة الشيطان”[30].
لذلك كانت إنسانية الإسلام، من خلال رفض الواحدية المادية، وإصرارها على ثنائية الإنسان، وثنائية الطبيعة / المادة، لتصعد منها إلى ثنائية الخالق والمخلوق وكل الثنائيات الأخرى مثل ثنائية الأرض والسماء، الجسد والروح، الحلال والحرام، المقدس والمدنس[31]، وهكذا يقع الإسلام بكامله تحت صيغة الوحدة ثنائية القطب[32]، ليكون على خلاف الدين المجرد[33]، دين العالمين.
فاعتراف الإسلام بوجود عالَمين: العالم الطبيعي والعالم الروحي الجواني، يُعلِّمنا أن الإنسان بتكوينه الفريد هو الذي وَصَل بين هذين العالمين، وبدون هذا التوحيد بين العالمين سنجد الدين يميل إلى التخلف (حيث يرفض أي نوع من أنواع الحياة المنتجة)، ونجد العلم يميل إلى الإلحاد[34].
ولما كان يستحيل على الإنسان أن يحيا حياة بيولوجية، أو حياة رهبانية خالصة، كان قدره على هذه الأرض أن يأخذ موقعًا بين هاتين الحقيقتين المتضادتين. ومن هنا جاءت أهمية الإسلام باعتباره الحل الأمثل للإنسان، لأنه يعترف بالثنائية في طبيعته، وأي حل مختلف يغلب جانبًا من الطبيعة على حساب جانبه الآخر، من شأنه أن يعيق انطلاق القوى الإنسانية أو يؤدي إلى الصراع الداخلي[35].
وهكذا كان الإسلام هو التصور المتكامل للإنسان خلاف التصورات الأخرى القاصرة، فهو جمع في خطابه بين الإنسان الحي المتكامل كما صوره القرآن وتمثل في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الطبيعة أو العالم الخارجي، فكان بذلك تعبيرًا عن الإنسان الكامل وعن الحياة في جميع وجوهها، وفي هذا الإطار توحد الإيمان مع القانون وتوحد التعليم والتربية مع السلطة، وبذلك أصبح الإسلام نظامًا[36].
ولفرادة هذا العالم الصغير، ارتأى عبد الوهاب المسيري أن المدخل الطبيعي للإيمان في هذا العصر الذي تسود فيه المادية، محاولة الوصول إلى الله من خلال الإنسان ومن خلال رؤية تركيبية لهذا العالم[37]، والإنسان بطبيعته الثنائية كان أكبر حجة للإسلام[38]، والآية الموصلة للإيمان بوجود الخالق سبحانه.
اعتراف الإسلام بوجود عالَمين: العالم الطبيعي والعالم الروحي الجواني، يُعلِّمنا أن الإنسان بتكوينه الفريد هو الذي وَصَل بين هذين العالمين، وبدون هذا التوحيد بين العالمين سنجد الدين يميل إلى التخلف (حيث يرفض أي نوع من أنواع الحياة المنتجة)، ونجد العلم يميل إلى الإلحاد.
علي عزت بيجوفيتش
خلاصة:
بعد الموازنة بين النظرة الإسلامية الموصولة بمدد الوحي والأخرى الإنسانية الوضعية التي قطعت صلتها بالسماء في النظر لأبعاد الإنسان الوجودية، يتضح أن العور الذي أصاب الفكر الغربي في تأصيله لتركيبة الإنسان يعود في جذوره وأصله إلى طبيعة الخلق الإنساني.
بل إن إشكالية “من نحن؟” -كما سلف- تتحدد معالم حلِّها في الرؤية القرآنية المتكاملة، التي جعلت الإنسان محور حديثها، فكان النظر فيه مفتاحًا للوصول إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فرسمت له بداياته وحدوده ومآلاته.
فكانت أولى القضايا الفكرية المترتبة على فلسفة الخلق هذه نظرة الإسلام المتّزنة لأبعاد الإنسان الوجودية، مقابل التصورات الأخرى القاصرة، وهي تصورات لم تراع ثنائية البعد الإنساني، فإما أنها ألغت جانبه الروحي فبات الإنسان فيها يحيا حياة أفقيًا لا معنى لها، وإما أنها ألغت الجانب المادي فيه، وكبتت متطلباته الجسدية، فأضحى الإنسان فيها مكبلاً.
ولعل ما وصل إليه الإنسان الغربي الحديث بعدما ألغى الإلهي من تصوره، يجعلنا نقف لنجدد النظر في حال إنسان اليوم، ثم نتبصر في قيمته ومعنى حياته في ظل الحضارة الغربية الحديثة، باحثين عن النموذج البديل، الذي يكون فيه الإنسان إنسانًا.
د. كريمة دوز
دكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي ومقارنة الأديان، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس- المغرب
[1] الغرب والعالم، كافين رايلي، ترجمة: عبد الوهاب المسيري وهدى حجازي، (1/256).
[2] ينظر: “مدارج مسخ الإنسان في الرؤية الحداثية”، مجلة رواء، العدد 27، (يوليوز 1446ه-2024م).
[3] ينظر: أساتذة اليأس (النزعة العدمية في الأدب الأوروبي)، نانسي هيوستن، ترجمة: وليد السويركي.
[4] ينظر: الإسلام بين الشرق والغرب، علي عزت بيجوفيتش، ص (138).
[5] الكلمات، بديع الزمان النورسي، ص (148-149)، (بتصرف).
[6] إنجيل مرقس، الإصحاح (12)، الفقرة (17).
[7] حاول هربرت ماركوز الحديث من خلال كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” عن المجتمعات الصناعية وهي مجتمعات ذات بعد واحد، قائمة على تمجيد التصنيع وطمس الذات الإنسانية، غير أن طغيان الروح الأحادية في المجتمعات الصناعية وتوطد أركان المادية لا يعني أن الاهتمامات الروحية الميتافيزيقية والنشاطات البوهيمية قد اختفت، بل على العكس من ذلك، فما يزال هناك الكثير من دعاة “لماذا لا نجرب الله؟”، غير أن هذه الأشكال من الاحتجاج حسب رأيه ما عادت تتناقض مع الوضع القائم، وفي كتابه هذا مزيد تفصيل لهذا.
[8] مدرسة فرانكفورت: مجموعة من الفلاسفة والنقاد الثقافيين وعلماء الاجتماع المرتبطين بمعهد البحث الاجتماعي الذي تأسس في فرانكفورت عام (1929م). ينظر: The Cambridge dictionary of philosophy, Robert Audi, p (324).
[9] ومن نتاج هذا التقدم الصناعي القائم على الرؤية المادية الاختزالية التي سادت القرن التاسع عشر الحديث عن الإيمان باعتباره مجرد “أفيون”، حيث لم تدرك هذه الرؤية مدى تركيبة الأبعاد الإنسانية وتداخلها فسقطت في هذا الخطاب الاختزالي الذي يحول الإنسان إلى ظاهرة كمية أحادية البعد، يمكن رصدها والتنبؤ بسلوكها ثم التحكم فيها. (ينظر: العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري وعزيز عظمة، ص (231)، بتصرف).
[10] صور شارلي شابلان بسخرية كوميدية ما وصل إليه الإنسان الغربي بعد الثورة الصناعية، حيث قدم من خلال فيلم الأزمنة الحديثة (The modern times) صورة الإنسان الحديث الذي يقضي معظم أوقاته في المعمل، فلا شيء غير الإنتاج والتصنيع، وأول مشهد في الفيلم يصور العمال كقطيع من الخراف، وهو مشهد يختصر ما صار عليه الإنسان الحديث الذي تمت قولبته وترشيده ليناسب ما آلت إليه الحداثة الغربية وأولى معالم الترشيد تتمظهر من خلال محو تطلعاته نحو اللامتناهي.
[11] العلمانية تحت المجهر، عبد الوهاب المسيري وعزيز عظمة، ص (95-96)، بتصرف.
[12] آلام العقل الغربي، ريتشارد تارناس، مرجع سابق، ص (391)، (بتصرف).
[13] نفس المرجع، نفس الصفحة، بتصرف.
[14] مصطلح مسيري، وهو اختصار لعبارة (تحويل الإنسان إلى سلعة)، استلهمها عبد الوهاب المسيري من الاستعمال الإسلامي لاختصار “الحوقلة”، وكثيرًا ما يستخدم مصطلح “حوسلة” في سياق حديثه عن الإنسان في النظرة الغربية المادية الحديثة.
[15] يعد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي من أهم من تناول ظاهرة الاستهلاك المتنامي للمجتمعات الحديثة بالدراسة، فذهب إلى أن الاستهلاك العالي ومبدأ الفردانية الذي تحياه المجتمعات الغربية هو من مخلفات الحداثة ومنجزاتها، فذهب إلى أن الترف الذي كان ثقافة محصورة في عالم مغلق أضحت منتشرة بين العامة التي أهوسها الاستهلاك، فالناس في عصر الحداثة وما بعدها أبدلت عبادة الله بعبادة الماركات. (للتوسع في الموضوع والوقوف على رؤية جيل ليبوفستكي يمكن الرجوع إلى: (الترف الخالد: من عصر المقدس إلى زمن الماركات) كتبه بشراكة مع البروفيسورة إلييت روت، ترجمة: الشيماء مجدي، وينظر كذلك: عصر الفراغ (الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة)، جيل ليبوفتسكي، ترجمة: حافظ إدواخرز).
[16] الإنسان والحضارة، عبد الوهاب المسيري، ص (113-114)، بتصرف.
[17] ينظر: نفس المرجع، ص (112).
[18] أساتذة اليأس (النزعة العدمية في الأدب الأوروبي)، ص (21).
[19] الإسلام بين الشرق والغرب، ص (95).
[20] في ظلال القرآن، لسيد قطب (14/2139).
[21] أخرجه البخاري (5063).
[22] يشير إلى شيطان الشهوة والمال في الكتابات الإنجيلية.
[23] الإسلام بين الشرق والغرب، ص (263-264)، بتصرف.
[24] روح الدين، لطه عبد الرحمن، ص (36).
[25] رحابة الإنسانية والإيمان، لعبد الوهاب المسيري، ص (137-138)، بتصرف.
[26] بؤس الدهرانية، لطه عبد الرحمن، ص (115).
[27] الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني، ص (72).
[28] معرفة الإسلام، لعلي شريعتي، ص (215).
[29] روح الدين، لطه عبد الرحمن، ص (41).
[30] الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص (81).
[31] الثقافة والمنهج، لعبد الوهاب المسيري، ص (86).
[32] الإسلام بين الشرق والغرب، ص (285)، بتصرف.
[33] الدين المجرد حسب السياق الذي ورد في كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، يقصد به الدين كتجربة فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهي علاقة تعبر عن نفسها فقط في عقائد وشعائر يؤديها الفرد، وهذا هو الدين في أنموذجه الغربي، أما الإسلام فلا يمكن تصنيف كدين مجرد؛ لأنه يحتوي الحياة كلها، فهو جاء ليقَوِّم الحياة المادية للإنسان ويروي الرمق الأنطلوجي عنده.
[34] الإعلان الإسلامي، لعلي عزت بيجوفيتش، ص (86).
[35] الإسلام بين الشرق والغرب، ص (302)، بتصرف.
[36] الإعلان الإسلامي، ص (110).
[37] الثقافة والمنهج، ص (88).
[38] الإسلام بين الشرق والغرب، ص (302).