حضارة وفكر

إطلالة على جهود تقنين أحكام الشريعة ودورها في مواجهة التغريب

تعد قضية التقنين لأحكام الشريعة الإسلامية من القضايا المعاصرة التي تناولتها العديد من الدراسات والأبحاث، وتباينت حولها الآراء بين من يرى عدم الإمكانية أو عدم الجواز، وفي هذا المقال محاولةٌ لتسليط الضوء على القضية من منظور التدافع الحضاري، وإبراز دور (التقنين) في (التمكين) لشريعة ربِّ العالمين، ودحض شبهات التغريبيِّين وتَقَوُّلاتهم

مدخل:

يُعبِّر التشريع في كل أمةٍ عن خصوصيَّتها الدينية والثقافية والحضارية، وفي الإسلام يرتبط التشريع ارتباطًا وثيقًا بأصل الدين وحاكمية الله رب العالمين، وشريعة الإسلام قائمة على الحكمة والتعليل، ومبنية على العدل وتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وفيها مجال واسع للاجتهاد المنضبط بقواعد ومقاصد الشريعة، وفي تقرير هذا يقول الإِمام ابن القيم: “إذا ظهرت أَمارات العدل، وأَسفر وجهه بأَيِّ طريقٍ كان؛ فَثمَّ شرعُ الله ودينُه”([1]).

وهنالك مقولة يتداولها البعض فحواها أن القوانين الأجنبية إنما تسللت إلى عالمنا الإسلامي بسبب جمود الفقهاء الذين رفضوا تقنين أحكام الشريعة؛ ما جعل الحكام يضطرون إلى العمل بالقوانين الأجنبية، وهذا المقال يناقش هذه المقولة، ويميط اللثام عن صفحات من جهود تقنين أحكام الشريعة بما يؤكد الارتباط الوثيق بين الأمة والشريعة، وأن الأمة لم تألُ جهدًا –أفرادًا ومؤسسات– في تأكيد ذلك الارتباط والتمكين له، فجاءت تلك الجهود مترادفة تؤكد تمسك الأمة بحقها في الاستقلال التشريعي الذي لا ينفصل بحال عن الاستقلال السيادي، كما لا ينفصل عن هوية الأمة ووجودها الحضاري.

موجة التغريب والافتتان بالقوانين الغربية:

بلغ الافتتان بالقوانين الغربية ذروته في ظل الحقبة الاستعمارية (الاستخرابية) منذ أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، واستطال دعاة التغريب في كيل التُّهم للشريعة بالقصور، ولفقهاء الإسلام بالجُمود، ولاكت ألسنتهم كثيرًا مسألة (التقنين) متذرِّعين بها لإقصاء الشريعة ونبذها، وإحلال القوانين الغربية محلها، ومما يذكره المتهمون للشريعة والفقهاء في سياق تبرير اللجوء للقوانين الغربية أنَّ الخديوي إسماعيل (ت١٣١٢هـ/١٨٩٥م) استدعى الشيخ رفاعة الطهطاوي (ت١٢٩٠هـ/١٨٧٣م) وقال له:

“يا رفاعة: أنت أزهريٌّ تعلَّمت في الأزهر، وتربَّيت به، وأنت أعرفُ الناس بعُلمائه وأقدرُهم على إقناعهم بما ندبناك له، إنَّ الفرنجة قد صارت لهم حقوقٌ ومعاملاتٌ كثيرةٌ في هذه البلاد، وتحدُث بينهم وبين الأهالي قضايا، وقد شكا الكثيرون إليَّ أنهم لا يعلمون أيُحكم لهم أم عليهم في هذه القضايا؟ ولا يَعرفون كيف يُدافعون عن أنفسهم؟ لأنَّ كتب الفقه التي يَحكم بها علماؤنا معقَّدةٌ وكثيرةُ الخلاف، فاطلب من علماء الأزهر أن يضعوا كتابًا في الأحكام المدنية الشرعية تشبه كتب القانون في تفصيل المواد واطّراح الخلاف، حتى لا تضطرب أحكام القضاة، فإن لم يفعلوا وجدتُني مضطرًا للعمل بقانون نابليون الفرنسي.

فرفض رفاعة الطهطاوي هذا الطلب خشيةً من طعن علماء الأزهر في دينه، وطلب الإعفاء لئلا يقال مات كافرًا.

فلما يئس الخديوي أمر بالعمل بالقوانين الفرنسية”([2]).

وبحسب هذه الرواية فإنَّ رفاعة الطهطاوي خشي من مخاطبة علماء الأزهر في أمر تقنين أحكام الشريعة لشيءٍ ما توهَّمهُ في التقنين.

لكن رواية أخرى للحادثة يذكرها الأستاذ عبد القادر عودة أفادت غير ذلك؛ إذ جاء فيها أن الخديوي إسماعيل تمكن من مخاطبة علماء الأزهر في أمر التقنين، فلم يتفقوا فيه على رأي بسبب تعصبهم لمذاهبهم، يقول عبد القادر عودة:

“الثابت تاريخيًا أنَّ القوانين الأوروبية نُقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأنه كان يودُّ أن يضع لمصر مجموعاتٍ تشريعيةً مأخوذةً من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، وقد طلب من عُلماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنَّهم رفضوا إجابة طلبه؛ لأنَّ التعصُّب المذهبيَّ منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صُورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه والتعصب له، وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحُقَّ لهم أن يبكوا عليها حتى تعود”([3]).

ومهما يكن من خلافٍ بين الرواية الأولى والثانية وبغضِّ النظر عن صحَّتهما فهما تتَّفقان على مسؤولية فقهاء الأزهر في التردُّد في تقنين أحكام الشريعة، مما أدَّى إلى إحلال القوانين الأجنبية محلَّ الشريعة الإسلامية!

ولسنا نُنكر أن بعض الفقهاء قد يقع في الجمود، غير أن الاستناد إلى هذه الرواية –التي لا يُعلم مدى ثبوتُها– في وصم فقهاء الإسلام بالجمود، وتحميلهم مسؤوليةَ العمل بالقوانين الأجنبية في ديار الإسلام، وغمط جهودهم في التعامل مع النوازل وتقديم الحلول المناسبة لها، هو مسلكٌ ينبو عن الإنصاف([4])، ويتجاهل الأسبابَ والملابساتِ والظروفَ التي اكتنفت إحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، وأهمُّ ما يجبُ التنبه له في تناول هذه القضية أمران:

الأمر الأول: الافتتانُ بالقوانين الغربية الذي اجتاح النُّخب السياسية والثقافية في عالمنا الإسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر للميلاد تحت نفوذ قوى الاستعمار (الاستخراب) الغربية، وهو افتتان ناتجٌ عن ولع المغلوب بتقليد الغالب حدَّ تعبير العلامة ابن خلدون.

والأمر الثاني: جُهود علماء الإسلام وفقهاء الشريعة في مدافعة تلك النازلة، ومقارعة دعاة التغريب والعلمنة بالحُجَّة، ومن ذلك جهودهم في تقنين أحكام الشريعة، والتي انطلقت من الوعي بأهمية الجانب التشريعي في حماية وتعزيز الهوية الدينية والحضارية، وإدراك أهمية الاستقلال التشريعي وأنه لا ينفصل عن الاستقلال السيادي.

وإلقاءُ اللائمة على فقهاء الإسلام فيما حدث من إحلالٍ للقوانين الأجنبية محلَّ الشريعة وإنْ جاء من قِبل البعض في سياق ذمِّ الجُمود والانتصار لحاكمية الشريعة، لكن يؤخذ عليه تجاهله لحملات التغريب الممنهجة وما نتج عنها من افتتانٍ بالقوانين الأجنبية، وأنَّ القوى الغربية الغازية فَرَضت بمنطق القوة والنفوذ والغلبة إقصاءَ الشريعة وأحلَّت القوانين الأجنبية محلها.

إلقاءُ اللائمة على فقهاء الإسلام فيما حدث من إحلالٍ للقوانين الأجنبية محلَّ الشريعة وإنْ جاء من قِبل البعض في سياق ذمِّ الجُمود والانتصار لحاكمية الشريعة، لكن يؤخذ عليه تجاهله لحملات التغريب الممنهجة وما نتج عنها من افتتانٍ بالقوانين الأجنبية، وأنَّ القوى الغربية الغازية فَرَضت بمنطق القوة والنفوذ والغلبة إقصاءَ الشريعة وأحلَّت القوانين الأجنبية محلها

الفقه مدونة التشريع الإسلامي:

امتازت التجربة الحضارية الإسلامية بجعل مسألة سن القوانين والأنظمة منوطةً بالدوائر العلمية والقضائية (الفقهاء)، وإن حصلت مشاركةٌ من رأس السلطة السياسية كما كان يحدث في عهد الخلفاء الراشدين فقد كانت تلك المشاركة باعتبار الصفة العلمية في الخليفة، لا باعتبار صفته السياسية، ونظرًا للارتباط الوثيق بين (الفقه) و(الشريعة) ربما حصل توهُّمٌ لدى البعض أنَّ مدلول المصطلحَين واحد، ولذلك يحسُن هنا أن نميز بين الشريعة والفقه؛ إذ لفظ الشريعة أوسع في دلالته من لفظ الفقه؛ ذلك أنَّ لفظ (الشريعة) يطلق على كل ما شرعه الله من العقائد والعبادات والأخلاق والأعمال، بينما يختصُّ لفظ (الفقه) بالأحكام العملية المأخوذة من الشريعة.

ومن منظورٍ آخر يمكن أن يُقال: إنَّ لفظ (الفقه) أعمُّ من لفظ (الشريعة) من جهة التناول للأحكام الشرعية؛ ذلك أن (الفقه) يتضمن الأحكام الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والأحكام المستنبطة بفهم الفقهاء واجتهادهم، بينما يختص لفظ (الشريعة) بالنصوص القرآنية وما صح من سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.

ويمتاز الفقه الإسلامي بالثراء الواسع واستيعابه لكثيرٍ من القضايا التي تناولتها القوانين المعاصرة، ومن ذلك القانون الجنائي الذي تناوله الفقهاء في مباحثهم حول الجنايات والحدود والتعزيرات، والقانون المالي الذي تناوله الفقهاء في مباحثهم حول الزكاة، وأحكام العشر، والخراج، والعطاء، والجزية، والركاز، وقانون المرافعات الذي تناوله الفقهاء في مباحثهم حول القضاء، والشهادة، والقانون المدني الذي تناوله الفقهاء في أبواب المعاملات، والقانون الإداري الذي يبحث في الأحكام المنظمة لعمل السلطة التنفيذية وقد تناولته كتب السياسة الشرعية ككتاب (الأحكام السلطانية) للماوردي (ت450هـ).

فالفقه إذن هو المدونة الكبرى للأحكام العملية في الشرع الإسلامي، وما يجب التفطُّن له هنا: أن الأحكام الفقهية وإن كانت تستند إلى الشريعة فهي ليست كلُّها كالشريعة القائمة على الوحي والتي لا مجال فيها للاجتهاد والرأي، ويتَّضح هذا من خلال التمييز بين نوعين من الأحكام الفقهية([5]):

النوع الأول: ما يضعف فيه جانب الرأي والاجتهاد أو ينعدم؛ وذلك كالمسائل المعلومة من الدين بالضرورة مثل الفرائض التي لا يجهلها أحد كالصلاة، والمحرمات القطعية كالزنا، وأمثال ذلك مما يستفاد حكمه من النصوص الشرعية قطعية الثبوت والدلالة، فهذه الأحكام هي من الشريعة التي لا تجوز مخالفتها.

النوع الثاني: ما يغلب فيه جانب الرأي والاجتهاد، وهذا النوع لا يعتبر جزءًا من الشريعة بمعناها الاصطلاحي؛ أي لا يعتبر من قبيل الشرع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل قد تكون المخالفة سائغة مادامت تستند إلى دليل أقوى، أو إلى اجتهاد أقرب إلى روح النصوص وتحقيق مصالح الناس.

وهذا النوع الثاني من الأحكام الفقهية أكثر من النوع الأول لأنه قائم على الحوادث وتجددها، والفقه هو بطبيعته حركة اجتهاد متفاعلة مع الحوادث والوقائع، وفي هذا يقول الشهرستاني (ت548هـ): “نعلم قطعًا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك أيضًا، والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”([6]).

وفي الخبرة والتجربة الحضارية الإسلامية كانت المدونات الفقهية هي مرجع الأحكام التشريعية لمختلف شؤون الحياة، وقد برزت مدونات المذاهب الفقهية الأربعة (المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية)، فأَغنت المجال التَّشريعي ورفدته بكثيرٍ من الأَحكام، وأَصبحت مقرراتها هي المعتمدة لدى الدوائر القضائية في عموم العالم الإسلامي

يمتاز الفقه الإسلامي بالثراء الواسع واستيعابه لكثيرٍ من القضايا التي تناولتها القوانين المعاصرة، ومن ذلك: القانون الجنائي، والقانون المالي، وقانون المرافعات، والقانون المدني، والقانون الإداري

معركة تقنين أحكام الشريعة الإسلامية:

التقنين في الاصطلاح المعاصر يقصد به وضع القوانين؛ أي أن تصاغ التشريعات في مواد قانونية مرتبة مرقمة يسهل الرجوع إليها([7]) وهو من الوظائف السيادية التي تقوم بها الدول.

وكان الحال قد استقرَّ في العالم الإسلامي على اعتماد المدونات الفقهية مرجعًا لمختلف الأحكام في شؤون الحياة العملية، حتى ظهرت دعاوى تزعُم أن المدوَّنات الفقهية لا تُساير العصر، وأنَّ الواقع يفرض الاحتكام إلى مدوَّناتٍ مقنَّنةٍ تستجيب لمتطلباته، ويسهل الرجوع إليها من قبل القضاة والمحامين، وأنَّ الشريعة الإسلامية لا يمكن تقنينها لأسبابٍ موضوعيةٍ تتعلق بطبيعة المدونات الفقهية التي تتعدَّد فيها الآراء وتختلف فيها الأقوال في المسألة الواحدة اختلافًا يستحيل معه تقنين أحكامها في مواد قانونيةٍ واضحةٍ وملزمةٍ للجميع، وبالتالي: لا مناص من الأخذ بالقوانين الغربية والعمل بها خروجًا من دائرة الخلاف وتحقيقًا لمصلحة انتظام وتوحُّد أحكام القضاء في الدولة، وتلك كانت دعاوى وحجج دعاة التغريب والعلمنة في بادئ الأمر([8]).

وقد برزت تلك الدعاوى في فترة ضعف الدولة العثمانية في أواخر عهودها، وتغلغل نفوذ القوى الأوروبية فيها، وفرضها الحماية للأقليات الدينية ذريعةً للتدخُّل في شؤون الدولة العثمانية، وفي ذلك السياق التاريخي تعرَّضت الدولة العثمانية للضغوط من قبل روسيا وإنجلترا وفرنسا والنمسا من أجل تأسيس محاكمَ جديدةٍ في الدولة بديلاً عن المحاكم الشرعية، ووجد تيار سياسي تغريبي يتجاوب مع تلك الضغوط، وبرز في مواجهته تيارٌ آخر يدعو إلى تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، ونشأ جدلٌ كبيرٌ بين الفريقين، ولحسم الخلاف بينهما شكلت هيئةٌ حكوميةٌ شارك فيها بعض النواب للنظر في أقوال الفريقين.

فعقد الاجتماع، وقدم الفريق المناصر لتقنين أحكام الشريعة مرافعةً قويةً دافع فيها عن حاكمية الشريعة، وفنَّد فيها شبهات التغريبيين، وأوضح إمكانية التقنين، فأثمرت المرافعة تراجعًا عن اقتباس القانون الفرنسي، وصُدور مرسومٍ سُلطاني بتشكيل لجنةٍ من الفقهاء وعلماء الشريعة لتقنين أحكام الشريعة في مجلة الأحكام العدلية([9]).

وهكذا انبثقت فكرة تقنين أحكام الشريعة من واقع التحديات التغريبية والصراع الثقافي والحضاري الذي فرضته قوى الاستعمار (الاستخراب) على عالمنا الإسلامي.

مجلة الأحكام العدلية أول تقنين لأحكام الشريعة الإسلامية:

عندما نمعن النظر في السياق التاريخي والملابسات التي اكتنفت صدور مجلة الأحكام العدلية، سندرك أن المسألة أبعد من كونها مجرد تقنين لأحكام الشريعة؛ وأن مجلة الأحكام العدلية كانت طليعة المواجهة والمدافعة الحضارية في العصر الحديث، وأنها كسبت جولة الصراع الفكري باقتدار، وتمكنت من إحراز نصر تشريعي مهم في مرحلة حرجة ودقيقة من تاريخ أمتنا، فكانت بحق صفحة مضيئة من صفحات الجهاد التشريعي.

وقد بدأ العمل في مشروع مجلة الأحكام العدلية في عام 1285ه/1868م، وانتهى عام 1293هـ/1876م؛ أي أن اللجنة المكلفة بالتقنين احتاجت سبع سنوات لإنجاز المهمة([10]).

وقد مرت كتابة المجلة بمراحل؛ إذ بعد إنجاز كتابة الباب الواحد من أبواب المجلة كان يُعرض على شيخ الإسلام في الدولة العثمانية وكبار علماء الشريعة وكانوا يبدون ملحوظاتهم، ثم تقوم اللجنة بالتعديل بناء على ذلك، ثم تُرفع إلى السلطان للمصادقة، وبعد ذلك يبدأ التنفيذ.

وقد قُسّمت مجلة الأحكام العدلية إلى (16) بابًا أولها: باب البيوع، وآخرها: باب القضاء، وكل باب قسم إلى فصول، وكل فصل إلى مواد مرقمة، وبلغ مجموع المواد (1851) مادة، منها مادة واحدة للمقدمة، و(99) مادة للقواعد الفقهية الكلية.

وبدأ تطبيق مجلة الأحكام العدلية في الدولة العثمانية عام 1286هـ/1869م، وشمل تطبيقها في العام نفسه كلاً من: مصر، والعراق، وسوريا، وفلسطين، وقبرص، وألبانيا، والبوسنة والهرسك.

وعند تأسيس الإمارة البلغارية ترجم البُلغار المجلة إلى لغتهم واتخذوها أساسًا لقوانينهم. وكذلك ترجمت المجلة إلى اللغات: الفرنسية، واليونانية، والبرتغالية، والإنجليزية، واستمر الإنجليز في تطبيق المجلة في قبرص بعد احتلالهم لها، ولا تزال المجلة تشكل الأساس للحقوق المدنية في قبرص، كذلك لا زال يعمل بها في فلسطين حتى أيامنا هذه.

وهكذا نجحت أول عملية تقنين للشريعة وأصبحت مجلةُ الأحكام العدلية هي القانون المدني للدولة العثمانية واستمر العمل بها حتى انهيار الخلافة، وحينها تخلت عنها تركيا عام 1934م وأحلَّت محلَّها قانونًا مقتبسًا من القانون السويسري، وكذلك فعلت الدول العربية فتخلت تباعًا عن مجلة الأحكام العدلية وأحلت مكانها القوانين الأجنبية([11]).

عندما نمعن النظر في السياق التاريخي والملابسات التي اكتنفت صدور مجلة الأحكام العدلية، سندرك أن المسألة أبعد من كونها مجرد تقنين لأحكام الشريعة؛ وأن المجلة كانت طليعة المواجهة والمدافعة الحضارية في العصر الحديث، وأنها كسبت جولة الصراع الفكري باقتدار، وتمكنت من إحراز نصرٍ تشريعيٍّ مهمٍّ في مرحلة حرجة ودقيقة من تاريخ أمتنا

توالي الجهود في تقنين أحكام الشريعة:

أدى تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مجلة الأحكام العدلية إلى استنهاض الهمم فخرجت إلى الوجود عدد من الأعمال في ذات الاتجاه، ومنها:

[1] أعمال الفقيه القانوني القاضي محمد قدري باشا (ت 1306هـ/ 1888م)([12]) وهي:

أ- مدونة (مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان في المعاملات الشرعية على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان) وفيها تم تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في الأموال (القانون المالي) وفي المعاملات (القانون المدني) وبلغت عدد موادها (1045).

ب- مدونة (الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب الإمام أبي حنيفة) وبلغ عدد موادها (644) مادة.

ج- مدونة (قانون العدل والإنصاف للقضاء على مشكلات الأوقاف) وبلغ عدد موادها (646) مادة.

[2] عمل رئيس المحكمة الشرعية بمكة آنذاك أحمد عبدالله القاري (ت1309هـ/ 1891م)([13]) على تأليف (مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) وبلغت عدد مواد المجلة (2382) مادة([14]).

[3] صدرت في تونس (مجلة الالتزامات والعقود التونسية) عن اللجنة التي شكلت في 6 كانون الأول سنة 1896م لوضع مشروع القوانين، وقد واستمر عمل اللجنة عشر سنوات (إلى 15 كانون الأول سنة 1906م)، وصدرت عنها المجلة المذكورة، وفيها تم تقنين جوانب من التشريع الإسلامي على مذهب الإمام مالك.

[4] قام الشيخ محمد بن محمد عامر (ت1381هـ/1961م)([15]) بمحاولة لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مؤلف حمل عنوان: (ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية) وبلغت مواده (198) مادة.

[5] ثم تتابعت وتوالت الجهود في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية من قبل المؤسسات العلمية والفقهية، وفي هذا السياق شكل (مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف) لجنة تحضيرية لتقنين الشريعة الإسلامية، وصدر عنها في سنة 1392هـ/ 1972م مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة في أربعة إصدارات مستقلة خطوة أولى على طريق “وضع قانون مختار من بين المذاهب جميعًا”([16]).

[6] وفي ذات المسعى جاءت مبادرات تقنين قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة([17]).

وتلك الأعمال وإن صدرت باجتهاد شخصي أَو جماعي من غير الجهات القانونية في الدولة؛ وبالتالي ليس لها صفة الإلزام القانوني، لكنها جهود مهمة، وفيها إثراء لحركة التقنين، وإمداد للجهات المختصة بمصادر يمكن البناء عليها والاستفادة منها.

القانون العربي الموحد:

في عام 1981م عقد مجلس وزراء العدل العرب مؤتمره الثاني في العاصمة اليمنية صنعاء، واتخذ قرارًا بإصدار قوانين موحدة للدول العربية تستند إلى الشريعة الإسلامية، وهو القرار الذي عرف بـ”خطة صنعاء لتوحيد التشريعات العربية” وقد نصت الخطة على: “اعتماد القرآن الكريم والسنة النبوية، وما يؤول إليهما من إجماع، أو قياس، أو مصالح مرسلة، دون التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه، وكذا مبادئ العدالة التي لا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية: مصادر للتقنين الموحدة”([18]).

ومن خلال “المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية” التابع لمجلس وزراء العدل العرب أمكن إنجاز القانون المدني العربي الموحد، والقانون الجزائي العربي الموحد، وعدد آخر من القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية تغطي مختلف المجالات([19]).

البرلمانات العربية وتقنين أحكام الشريعة:

مع قيام البرلمانات في البلاد العربية والإسلامية ومنحها سلطة التشريع في دساتير تلك الدول، أفرزت بعض البرلمانات لجانًا لتقنين أحكام الشريعة، ومن التجارب في ذلك نذكر تجربة مجلس النواب اليمني، فابتداءً من عام 1978م شكلت لجان لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية ضمت في عضويتها العلماء والفقهاء من أعضاء المجلس، ومع كل التطورات التي شهدها العمل البرلماني استمرت لجان تقنين أحكام الشريعة تمارس عملها وأنجزت تقنينًا لأحكام الشريعة أقر من مجلس النواب، وهكذا تمت المواءمة بين حق التشريع الممنوح للبرلمان دستوريًا، إذ ينص الدستور على أن “مجلس النواب هو السلطة التشريعية للدولة”([20])، وبين ما نص عليه الدستور من أن: “الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات”([21]).

ومن التجارب في هذا المضمار تجربة مجلس الشعب المصري في تقنين أَحكام الشَّريعة الإِسلامية([22])، وهنالك تجارب أُخرى للبرلمانات في عدد من البلدان العربية والإِسلامية قدمت إسهامات مقدرة في تقنين أحكام الشريعة الإسلامية في مختلف المجالات.

الشريعة الإسلامية شريعة ربانية عادلة، لا تراعي مصالح فئة أو جماعة بعينها، وإنما تراعي مصلحة المجتمع كله، وهي تكفل العدل للجميع، مسلمين وغير مسلمين، والمجتمعات الإسلامية كانت ولا تزال ترى في حاكمية الشريعة تعبيرًا عن إرادتها، وتجسيدًا لإيمانها، وحفظًا لمصالحها

الخاتمة:

الشريعة الإسلامية شريعة ربانية عادلة، لا تراعي مصالح فئة أو جماعة بعينها، وإنما تراعي مصلحة المجتمع كله، وهي تكفل العدل للجميع، مسلمين وغير مسلمين، والمجتمعات الإسلامية كانت ولا تزال ترى في حاكمية الشريعة تعبيرًا عن إرادتها، وتجسيدًا لإيمانها، وحفظًا لمصالحها، وقد تنوعت وسائل قوى التغريب والعلمنة في البلاد الإسلامية في محاربة الاستقلال التشريعي الذي لا ينفصل بحال عن الاستقلال السيادي، وفي البدء لاذوا بحجة عدم وجود تقنين لأحكام الشريعة زاعمين استحالة تقنينها، فهيأ الله من أهل العلم والتخصص من أبطل تلك المزاعم، ومع سقوط دولة الخلافة العثمانية وتمكن الدول الغربية من احتلال كثير من الأقطار الإسلامية حصل التعدي على حق الأمة السيادي في التشريع، ولم يكن ذلك التعدي نتيجة للعجز عن تقنين أحكام الشريعة، أو لتقصير الفقهاء المسلمين في ميدان التقنين، وإنما أَتى في سياق سعيٍ مقصودٍ لإحداث تغييرات جوهرية وعميقة في حياة الشعوب الإسلامية، وفي إطار الحرب على الهوية الحضارية والخصوصية الثقافية، ومع ذلك فقد أثبتت مختلف الجهود والوقائع بجلاء صلاحية الشريعة الإسلامية لتكون أساس القوانين في هذا العصر، وغناها بمختلف المواد والموضوعات التي تغطيها التخصصات القانونية.


د. أمين نعمان الصلاحي
أستاذ مادة العقيدة والأديان والفرق في المعهد العالي للمعلمين بمحافظة تعز – اليمن.

 


([1]) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، ص (31).

( ([2]ينظر: قذائف الحق، لمحمد الغزالي، ص (190-191).

([3]) الإسلام بين عجز علمائه وجهل أبنائه، لعبد القادر عودة، ص (27).

([4]) وستأتي الإشارة لجهود علماء الأزهر في التقنين خاصة مما يبطل هذه الادعاءات.

([5]) ينظر: المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد الكريم زيدان، ص (57).

([6]) الملل والنحل، للشهرستاني (1/197).

([7]) ينظر: تقنين قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مسائل المالية الإسلامية، للدكتور عمر زهير حافظ، ص (9).

(([8] ينظر: دراسة موجزة عن مجلة الأحكام العدلية، للدكتور شامل الشاهين، ص (11- 12).

([9]) ينظر: المرجع السابق، ص (13- 14).

([10]) ينظر: المرجع السابق، ص (13 – 21)، و: العثمانيون حضارة وقانون، للدكتور نجم الدين بيرقدار، ص (382 – 385).

([11]) ينظر: دراسة موجزة عن مجلة الأحكام العدلية، ص (26 – 32).

([12]) محمد قدري باشا، ولد سنة 1237هـ/ 1821م، من رجال القضاء في مصر، عمل مستشارًا في المحاكم المختلطة، ثم وزيرًا للمعارف، ثم وزيرًا للحقانية (وزارة العدل)، ومن مؤلفاته إضافةً لما ذكر في المتن: (قانون الجنايات والحدود) و(تطبيق ما وجد في القانون المدني موافقًا لمذهب أبي حنيفة) توفي سنة 1306هـ/1888م. ينظر: الأعلام، للزركلي (7/10).

([13]) أحمد بن عبد الله القاري، ولد سنة 1309هـ/1891م، وعين قاضيًا لجدة سنة 1340هـ، وجعل من أعضاء مجلس الشورى سنة 1349هـ، وأحد أعضاء رئاسة القضاء سنة 1357هـ، عكف على تدوين (مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل) وعاجله الأجل قبل طباعتها، توفي بالطائف سنة 1359هـ/ 1940م. ينظر: الأعلام، للزركلي (1/163).

([14]) ينظر: دراسة موجزة عن مجلة الأحكام العدلية، ص (26 – 29).

([15]) محمد بن محمد عامر، ولد في بنغازي سنة 1898م، ونشأ في بيئة دينية وعلمية، عمل في القضاء والمحاماة، توفي سنة 1961م. ينظر: ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية، لمحمد بن محمد عامر، ص (7 – 8).

([16]) مشروع تقنين الشريعة الإسلامية على مذهب الإمام مالك، ص (9) (إعداد اللجنة التحضيرية لتقنين الشريعة الإسلامية بإشراف مجمع البحوث الإسلامية، الطبعة التمهيدية 1392هـ/ 1972م، القاهرة، مصر، د. ن).

([17]) ومن تلك المبادرات كتاب الدكتور عمر زهير حافظ: (تقنين قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مسائل المالية الإسلامية)، وقد سبقت الإشارة إليه.

([18]) خطة صنعاء لتوحيد التشريعات العربية، المركز العربي للبحوث القانونية والقضائية: https://www.carjj.org/category/

(([19] للتوسع في تجربة القانون العربي الموحد، ينظر: القانون العربي الموحد.. دراسة وتقييم، إعداد المكتب العلمي، هيئة الشام الإسلامية. ط1، 1435هـ/2014م. و: قراءة لمشروع القانون المدني العربي الموحد، للطيب زروتي، ص (160 – 178)، حوليات جامعة الجزائر، ملتقى دولي 24 – 25 نوفمبر 2015م.

([20]) دستور الجمهورية اليمنية، الباب الثالث: تنظيم سلطات الدولة. الفصل الأول: السلطة التشريعية (مجلس النواب)، مادة (62).

([21]) دستور الجمهورية اليمنية، الباب الأول، الفصل الأول، المادة (3). وللتوسع حول تجربة لجان تقنين الشريعة في البرلمان اليمني وبعض الدول الأخرى ينظر: موقف الفقهاء من تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، للدكتور عبد المؤمن عبد القادر شجاع الدين.

([22]) للتوسع حول تجربة مجلس الشعب المصري في تقنين الشريعة الإِسلامية ينظر: تقنين الشريعة الإِسلامية في مجلس الشعب، إِعداد: عاطف مظهر، وتقديم المستشار طارق البشري، و د. إِبراهيم البيومي.

X