تأخرت عائشة رضي الله عنها عن الجيش لحاجة فارتحل دونها، فلحقت بهم على راحلة الصحابي المكلف بتفقد المتأخرين[1]، فنفخ المنافقون بإفك أرهق أطهر القلوب على وجه الأرض، حتى شهد الله تعالى ببراءتهما رضي الله عنهما. لكن الأخطر خوض أفراد من المسلمين في القصة بلا بينة، فكان عقابهم وعتابهم شديدًا: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٤ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 14-15].
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ يستقبله بعضكم بآلة الكلام دون آلة الفهم والتعقل، وكأنه يسمع بلسانه، ولا همّ له إلا في التكلم، ثم تطير الكلمة فلا يسهُل اصطيادها، ترسم في القلوب صورةً يصعُب تغييرها. ولذا يعتمد الخائنون بثَّ الإشاعات، يمزِّقون بها أكباد الأطهار، يتلقفها ناشط غيور يفترض في مثله أن يضع نفسه مكان أخيه المتهم فيقول: “سبحانك هذا بهتان عظيم”.
خوض الألسنة منحدرٌ زَلِق، وغَيهَبٌ مظلم، من دخل فيه قلّ أن يسلم، ولذا لاذ الصالحون بالصمت وورع اللسان وكسوة الألفاظ، واعتنوا بحماية أنفسهم من التباس نصرة الدين بإرضاء النفس وشهوة انتقامها من أقرانها ومنافسيها، أو من خصومها بغير حق. وإنه لعسيرٌ على النفس أن تعامل غيرها بالعدل، وخاصة مَن تنافسهم أو تكرههم، فكيف بمن تعاديهم.
يسهر العاملون عشرات السنين في بناء الرجال والمشاريع وتأليف القلوب وتصحيح المفاهيم، ويأتي متكئ على أريكته يبثّ تهمةً موتورةً تهدم في عيون كثيرين ما بناه أولئك، فيكفّ الباذلون، ويتشكك البعيدون، وينصرف بعض الأنصار خشية أن تلحقهم التهمة. وفي المقابل يبرز “نجم” لا تدري تاريخه ولا أرومته ولا حقيقته، فيتشبع بما لم يُعط، ويدعي ما ليس له، فتتجه إليه أنظار وأموال. ويقول الناس للأول: ألا فعلت كما فعل فلان! جاهلين بثقل الصدق وشجوى العمل وخفّة الكذب ورخص الادعاء.
ما عمل في خدمة الناس أحد بصدق -والله أعلم بالصادقين- إلا كانت حقيقته ومنجزاته أكبر من صورته وسمعته التي يعرفها الناس؛ لأنه منهمك في خدمة الناس لا في إشهار نفسه أو الدفاع عنها. أما المفسد فقد شغل نفسه بإظهار نفسه وإشهارها، ورمي الصادقين بالتهم الأفّاكة، حتى ينفر الناس عنهم، لأجل أن تستمر الخديعة بمن يقهرون الناس ويصادرون أرزاقهم وحرياتهم، وينصره في ذلك من يتلقى الكلام دون تمحيص ولا تثبُّت فينشره ويبثه.
لله أناس علموا أن لا نجاة إلا لصادق، فلزموا الصدق دون التفات لبهرج الأدعياء، ولازموا الصادقين ولو شتمهم الناس، ومحّصوا الأخبار فلم يقبلوا ثناء رجل على نفسه، وخاصة إذا كثر الطعن فيه مِن ثقات أهل الميدان والثغر، ولم يسمحوا لناشئ بالتطاول على كبير، ولم يتعجلوا نفي ما لا علم لهم به، وتوقفوا حينما تختلط عليهم الأمور؛ لئلا يفرطوا فيما ائتمنهم الله عليه من مال وجاه وعلم.
قتل عثمان رضي الله عنه بإشاعة كلام، وثارت معارك واحتلت بلدان بفلتات لسان، وتعطلت أعمال بكلمة حائفة، وهُجرت عقول بتقويم متعجل جائر. فلا يجوز للمرء أن يحدث بكل ما سمع أو قرأ حذرًا من الكذب والإثم، ولا أن يوظف نفسه إذاعة لنشر الأخبار، ولا أن يجعل من نفسه قاضيًا يصدر الأحكام على الناس، فإن الوظيفة الأولى للعلم إنما هي العمل لا النقل، ثم يأتي التبليغ والتعليم بعد العمل.
عضو صغير شأنه خطير وجُرمه كبير، وصدق ابن مسعود رضي الله عنه: “والذي لا إله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان”[2]. وما يسجن اللسان مثل العقل المتفكر، والفكر الناقد المتفحص، والقلب اليقظ الأسيف على حسناته وإيمانه.
د. خير الله طالب
[1] هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطّل السلميّ رضي الله عنه، وقصة الإفك في البخاري (4141)، ومسلم (2770).
[2] صحيح الترغيب والترهيب، برقم (2858).