قبل تشريع الأذان اعتنى النبي ﷺ بكيفية تنبيه الناس لموعد الصلاة، وشاورهم وسمع منهم، واهتم عبدالله بن زيد رضي الله عنه، فرأى رجلاً في منامه يُعلِّمه الأذان، فأمره النبي ﷺ أن يُعلِّم بلال بن رباح رضي الله عنه؛ لأنَّ صوتَه أطيب وأرفع[1].
ليس من السهل على صاحب الفكرة أن يقالَ له: قدّمها إلى فلان لأنه أقدرُ منك على تنفيذها، وأصعبُ من ذلك أن يقال للمبادر: توقَّف عن هذا العمل؛ فغيرك يُحسنه أكثر منك، وأشقُّ منه أن يُطلب من شخص تركُ وظيفته أو التنازلُ عن منصبه لغيره.
مواقف تختبر ما في النفوس من شُحٍّ وجشعٍ وهلعٍ وتعلقٍ بالأشياء والأحوال، ويظهر عندها الخوفُ من الفشل في المكان الآخر أو المهمة الجديدة، وتبرز الرغبةُ في الاسترخاء الناشئ عن الراحة في المكان المألوف .. ونحو ذلك مما ينتج عن الخوف من مصاعب المهمّات الجديدة، وتحدياتها المجهولة.
بينما تتطلَّب عجلة التنمية ومسيرة الحياة عكس ذلك، من نُصحِ المرء لعمله واستعداده للتخلي للأجدر، بل البحث والتقصِّي عن الأكمل ليحلّ مكانه، ليُتوِّج نجاحَه بتخليه عن منصبه لمن هو أقدر منه على المسؤولية وعلى متابعة المسيرة والإنجاز. وقد استنبطَت الدراسة المسطّرة في كتاب (من جيد إلى عظيم) أنَّ العامل الأول لذلك التحوّل هو القائد المتواضع، القادر على رفع جنوده ذوي الجدارة فوق مرتبته إذا كانوا يستحقونها، فهو رجل رسالة لا صاحب منصب. وما أسعده بالمناصب التي تأتيه صاغرة، دون أن يذلّ نفسه في التطلع إليها.
هؤلاء الذين يمتلكون مرونة التخلي عن مواقعهم هم الذين يوسّعون مساحة تأثيرهم، على عادة المؤسسات الناجحة التي لا تشغل نفسها بغير ما تأسست له مما يمثّل قيمتها الحقيقة وإضافتها النوعية، ثم تقوم بشراء ما عدا ذلك من الخدمات من بيوت الخبرة في التخصصات المتنوعة، فتحصل على أكمل الخدمات في كل شيء، وتعثر على الحلول المثلى لمشكلاتها؛ لأنها حصدت زهرة العقول والخبرات. والعاقل الحكيم من أضاف حكمة الناس إلى حكمته. وما قامت المنجزات التاريخية الكبرى إلا على يد أناسٍ عرفوا قدر أنفسهم، فأتاحوا مساحة العمل الأوسع للعدد الأكبر، كما لم يشتغلوا بتخليد أسمائهم، فقام أتباعهم بتخليدها.
على خلاف من حجّم نفسه بأوهام إرادة فعل كل شيء بنفسه، أو نسبة كل نجاح إلى ذاته كالعديد من الزعماء في عالمنا، فحَرَم نفسه الجودة والإنصاف والرقيّ، وربما حرم نفسه لذة عبادة الترك التي قد يحين وقت وجوبها، فإن على راجي الدرجات العلى معرفة (أين يقف) كمثل معرفته (أين يتقدَّم)، لأن تجاوُز المرسوم قد يكون أشدَّ ضررًا من التقصير في المطلوب.
قيمةُ المرء ما يحسنُه، واستثمارُه الأعلى في نقاط قُوته، وجدارتُهُ العليا في موهبته الأولى. هنالك عليه أن يتموضع، وفي ذلك الموضع عليه أن يتخصَّص. ساعتها سيتمكن من الإبحار بمهارةٍ في تخصصه الدقيق وموضعه النفيس، فما يستطيع أحدٌ منافسته، فضلاً عن التفُّوق عليه، إلا من ملك أعلى من موهبته، وفاقه في إتقان تموضعه.
وهذا التموضع يتحقَّق شكلاً وموضوعًا في القوالب والمحتوى، وفي الوسائل والغايات.
وكلَّما كان المرء أقدرَ على الترك بنيةٍ صالحةٍ ونفسٍ طيبةٍ عوضه الله خيرًا ممّا ترك، فانفتحت له أبواب الغَوص نحو الدُّرر، واكتشف ساحات السعة الممتدَّة في الأعماق.
[1] أخرجه أبو داود (499)، وفيه أن النبي ﷺ قال لعبدالله بن زيد رضي الله عنه: (فقُم مع بلالٍ فألقِ عليه ما رأيتَ فليؤذّن به فإنه أندى صوتًا منك).
1 تعليق
التعليقات مغلقة