لما انتدبت قريشٌ عتبة بن ربيعة ليعرض المال والملك والطب على النبي ﷺ ليترك دعوته، لم يقاطعه ولم يُسكته أثناء كلامه على الرغم من صعوبة الاستماع لهذا العرض، فلمّا سكتَ سأله: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ ثم قرأ عليه سورة فُصّلت، فاستمع إليها حتى أثّرت فيه وجعلته يرجع لقومه عارضًا عليهم أن يتركوا محاربة الدعوة ويتربّصوا انتصارها([1]).
أحيانًا لا تجد أشقَّ على بعض المصلحين والمربين من الصمت والاستماع للسائل أو المستشير؛ لشعور بعضهم بعدم الحاجة إلى الاستماع إلى ما يَعرف، أو أنَّه قد أحاط بالسؤال أو المشكلة، وربما لكثرة الانشغال وضيق الوقت.
لكنَّ من أتقن الاستماع منهم جيدًا يعلم أنَّ إنصاته أكثرُ تأثيرًا، واختصارًا للجهد والوقت؛ لأنَّ السائلَ أو المستشير في كثيرٍ من الأحيان يُريد من يستمع إليه ويهتمُّ به ويُطمئنه أكثر ممن يجيب عن سؤاله، فإذا فرغ من كلامه سيكون أكثر استعدادًا لسماع النصيحة، شعورًا منه بأنه قد أفرغ ما في جُعبته من كلامٍ وتفاصيل.
كما أنَّ الاستماعَ للسائل أو المستشير يمكِّن من فهم الواقع بدقّةٍ، ويعين على معرفةِ كامل احتياج المتكلِّم والمستشير، ومن ثم تكون الإجابة أقربَ إلى ملامسة الحلِّ الملائم له، والتي كثيرًا ما تختلف من شخصٍ لآخر وإن تشابهت في بعض تفاصيلها مع غيرها.
ليس الأمر بالسهل، ويحتاج لدُربةٍ ومراس، خاصةً إن علِمَ المستشارُ والمسؤول أنَّ الاستماع هو أقصر طريق إلى قلوب وعقول المستشيرين، والوقت هو هو، إما أن يُقضى في مجادلتهم وعودتهم إليه مرارًا أو إلى غيره لاحقًا إذا شعروا أنه ما زال لديهم ما يقولونه، أو أن يُستوعب كل ما لديهم من المرة الأولى فيأخذ الجواب مكانه بهدوء وطمأنينة.
الاستماع لا يتحقق إلا بالإنصات الحقيقي للكلام والمشاعر والدوافع، فهو ليس مجرّد التوقُّف عن الكلام فحسب، وإنما التوقف عن التفكير في الجواب حتى يفرغ الطرف الآخر من كلامه، وهنا قد يحتاج المستمع أن يصمت برهة ليرتِّب أفكارَه، كعادة أهل العلم الراسخين.
لهذا يزول العجب ممن يعالجون المشكلات بالاستماع أكثر من الكلام. مشتكيةٌ تقول لمستشارٍ استمعَ لمشكلتها: يُمكنكَ إنهاءُ المكالمة دون إجابتي؛ لأنَّك أولُ مستشارٍ يستمع إلى كلامي إلى النهاية دون مقاطعة.
والشيطان يدخل عن طريق الكلام أكثر مما يدخل عن طريق الصمت، أما دخوله عن طريق الكلام والجدل فكثيرٌ وظاهرٌ في الشرع والواقع. بل ربما دخل من طريق مقاطعة المتحدِّث ولو كان المقاطع على حقٍّ. وكم أفسدت المقاطعاتُ من مجالس، وضيعت من فوائد، فأوغرت الصدور، ومزَّقت العلاقات، وأتلفت الأفكار، وأهدَرت الخبرات.
في جلسة صلح لم يستطع الحاضرون ضبط المقاطعات، فضاع مقصودها بعد أن تحقق جزء منه في أولها بحسن الاستماع.
وفي نقاش تخطيطي ازدحمت الأصوات طويلًا، وكان كلُّ ذي رأيٍ يُثبت رأيه دون فهم رأي صاحبه، فصار الأمر إلى حسم المسألة بعد أسبوع، فلما جاء الموعد وإذ بالقرار قد نضج بالتوافق بعد تأمُّل كل طرف في رأي صاحبه بهدوء.
الاستماع: إصغاء للمشاعر، فهم للدوافع، تهدئة للنفوس، وتسكين للثائرة، وتبريد لأرضية الحوار أو النقاش، يختصر المراحل، ويكسب مزيدًا من الأنصار والمؤيدين؛ لذا قد يكون هو بداية الطريق لاجتماع الكلمة؛ فلا اجتماع للكلمة قبل اجتماع قلوب القائمين على الشأن العام، ولا اجتماع لها دون اجتماع عقولهم، ولا سبيل إلى الأمرين دون الاستماع العميق دون مقاطعة، ودون استعجال للإقناع، فما أسهل التوافق عند وجود الفهم المشترك الذي يغذي الثقة المتبادلة.
وكم هي حكيمة تلك المقولة: (إذا جاءك المهموم.. أنصت). ولنا في رسول الله ﷺ أسوةٌ حسنة.
([1]) ينظر: سيرة ابن هشام (١/٢٩٤).