قضايا معاصرة

واجب الشعوب في حماية النظام السياسي الشرعي

واجب الشعوب في حماية النظام السياسي الشرعي

من أهم الضمانات التي تحفظ المجتمع، وتمنع ظلم الظالم، وتأطره على الحق: القوة التي تملكها الشعوب، ويخشاها المستبدون، فعملوا على دفنها بعيدًا خلف طبقات من التجهيل والإفقار والتغييب، فتحكَّموا في مُقدَّرات الأمّة، وجعلوها فداءً لعروشهم، وإذا أردنا إحياء هذه القوة وإعادة بث الروح فيها فأول الطريق هو توعية الشعوب بحقوقها وحجمها الحقيقي، وما بإمكانها فعله وتغييره.

مدخل[1]:

دأبت الأنظمة المستبدّة على إلغاء أيّ مكانة للشعوب في بُنية نظامها السياسي، وحصرها في مسائل السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر، فجعلتها مسرحًا لتجاربهم ومغامراتهم، ومكانًا لممارسة سلطتهم وبطشهم، واستخدمت في سبيل ذلك ما تملكه من أدواتِ ترغيبٍ وترهيبٍ، وتسخيرِ «علماءِ السلطان» لتضخيم الحديث عن الواجبات دون بيان الحقوق التي أقرّتها الشريعة وأكّدت عليها؛ ممّا أدّى إلى جهلِ الشعوب بحقوقها؛ فصمتت عن أخطاء حكّامها، واستجدت جلّاديها، واعتبرت ما يلقونه إليها من فُتاتٍ مَكرُمَاتٍ تستحقّ جزيلَ الثناء!

مكانة الشعب في النظام السياسي الإسلامي:

تحتلّ جماعة المسلمين -وهي التي يطلق عليها الأمّة أو الشعب، بالاصطلاح المعاصر– مكانةً كبيرةً في النظام السياسي الإسلامي:

فهي التي يتوجّه إليها الخطاب الشرعي في عامّة الأمور السياسية مما ورد في القرآن بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا .. ﴾، وفي الحديث بقوله ﷺ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ..).

  • وهي التي يتوجّه إليها النظام السياسي بالتنظيم والضبط، فهي محلّ تطبيقه وتنفيذه.
  • وهي مصدر سلطة الحاكم «ولي الأمر».
  • وهي التي تنبثق منها سلطات الدولة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

لذا فقد أناط بها الشارعُ جملةً من الحقوق والأحكام التي تمثّل ركائزَ يقوم عليها النظامُ المتكاملُ في المنظومة السياسية الإسلامية: بناءً، ومشاركةً، وحمايةً من الانحراف، وفي هذا المقال عرض لأهمّ هذه الركائز[2]:

أناط الشارعُ بالشعوب جملةً من الحقوق والأحكام التي تمثّل ركائزَ يقوم عليها النظامُ المتكاملُ في المنظومة السياسية الإسلامية: بناءً، ومشاركةً، وحمايةً من الانحراف

الركيزة الأولى: حقّ اختيار الحاكم:

من غير الممكن أن يشارك جميع الشعب في الحكم؛ لذا فقد انتدب الشرع أحد أفراده ليقوم بهذه المهمة نيابة عنهم[3]، وفي المقابل: كفلت الشريعة الإسلامية للشعب حقّ اختيار من ينوب عنه ويتولى إدارة شؤونه، وجاءت بذلك العديد من النصوص الشرعية، منها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ في مرضه: (ادعي لي أبا بكرٍ أباكِ، وأخاكِ؛ حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنَّى مُتمنٍ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى اللهُ والمؤمنونَ إلا أبا بكر)[4].

ففي هذا الحديث أثبتَ النبي ﷺ لعموم الناس الحقَّ في إثبات تولي الخليفة أو رفضه، مما يدلّ على أنّهم أصحاب الشأن في ذلك.

وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم وعملوا به، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «مَن بايع رجلاً عن غيرِ مشورةٍ من المسلمين، فلا يُبايع هو ولا الذي بايعه؛ تَغِرَّةً أن يُقتلا»[5].

وإثبات حقّ الشعب في اختيار الحاكم محلُّ اتفاق بين أهل العلم:

قال النووي: «وأجمعوا على أنّه يجب على المسلمين نصبُ خليفة»[6].

وقال الماوردي في حال النزاع في عقد الإمامة لشخصين: «فإن تنازعاها وادّعى كلّ واحد منهما أنّه الأسبق لم تُسمع دعواه ولم يحلف عليها؛ لأنّه لا يختص بالحقّ فيها، وإنّما هو حقّ المسلمين جميعًا، فلا حكم ليمينه فيه ولا لنكوله عنه»[7].

وقال ابن تيمية: «إنّما صار -أي أبو بكر- إمامًا بمبايعة جمهور الصّحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة… فإنّ المقصودَ حصولُ القدرة والسّلطان اللذَين بهما تحصل مصالحُ الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك»[8].

واختيار الشعب للحاكم يكون بطرق من أهمها:

  • اختيار أهل الحل والعقد للحاكم، الذين هم ممثّلوا الشّعب ونوّابه في اختيار الحاكم، وهم الذين يختارهم الشعب بدوره للقيام بهذه المهمة، ومما يماثلهم في هذا الوقت أعضاء البرلمانات والمجالس النيابية.

قال الشيخ عبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني: «والمؤهّلون لاختيار واصطفاء أمير المؤمنين الأعلى وتأدية أمانة الحكم إليه يختلفون مِن مجتمع لمجتمع ومِن بيئة لبيئة ومِن زمن لزمن … وما دام هذا الأمرُ متروكًا للمسلمين فلهم أنْ يُنَظّموا الشّكل الذي يؤدّون به أمانة إمارة المؤمنين لمن هو أصلح المؤمنين لها، وهو أهلها.

وقد يكون ذلك بانتخاب أعيانهم وأهل الحلّ والعقد منهم في مواطنهم ودوائرهم، ثم يختار كلُّ أهلِ بلدٍ منهم الصّفوةَ، ثم تجتمع مجالسُ الصّفوة مِن البلدان في مجمعٍ واحدٍ لاصطفاء الأمير العام للمؤمنين.

واختيارُ أهل الحلِّ والعقد في بلدانهم أو قراهم أو أحيائهم أو حاراتهم يكون مِن قِبَل المؤهّلين لمعرفة أهل الحلِّ والعقد فيها، وقد يتم هذا تلقائيًا باجتماعات تُعقد لهذه الغاية، أو يتمّ بصورةٍ أخرى.

ويمكن تنظيمُ مجالس شورى محليّة عامّة للأمور الإدارية والسياسية، يكون أعضاؤها المختارون في قبل القاعدة الشّعبية هم أهلَ الحلِّ والعقد، في القضايا الخاصة بدوائر كلمتهم المسموعة، ومشورتهم المقبولة، وعن طريق هذه المجالس مع المجالس الشورى الأخرى التّخصصية يتم انتخاب أمير المؤمنين أو رئيس الدّولة»[9].

  • اختيار الحاكم عن طريق الشعب مباشرة، ومما يماثله في الوقت الحالي التصويت والانتخاب.

ومما يماثله من وقائع التاريخ ما فعله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عندما انحصر أمر الخلافة في عثمان وعليّ رضي الله عنهما، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: «جعل أهل الشورى الأمر إلى عبدالرحمن بن عوف ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فنهض عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعًا وأشتاتًا، مثنى وفرادى ومجتمعين، سرًّا وجهرًا، حتى خلص إلى النساء المخدّرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان»[10].

وقد جُعل حق اختيار الحاكم في يد الشعب لضمان جعل هذه السلطة الخطيرة في يد مَن هو أهلٌ لها ممن يُؤتمن عليها، وبذلك تُحفظ حقوق البلاد والعباد.

فمنصِبُ الحاكم ليس امتيازًا ولا خصوصيةً لفرد أو جماعة، وإنّما هي مهامٌ يجب القيام بها على الوجه الذي قرّرها الشرع، ومن هنا ظهر في كلام أهل العلم والمتخصصين بالسياسة الشرعية ما يعرف باسم: واجبات الحكام، أو حقوق المحكومين.

كفلت الشريعة الإسلامية للشعب حقّ اختيار من ينوب عنه ويتولى إدارة شؤونه، سواء عن طريق نوابه من أهل الحل والعقد، أو بطريق الانتخاب المباشر

الركيزة الثانية: حق المشاركة في صياغة نظام الحكم:

لذا فإنه شريكٌ في صياغة نظام الحكم، واختيار الأنسب من القوانين والأنظمة التي تحكمه، وهذا الحق نابع من أنّ السلطة للشعب، وأنّ الشعب هو منبع السلطات، ويدل عليه:

  1. أنَّ اللهَ تعالى وجّه الخطابَ للأمّة في مجموعها في قضايا الشّأن العام؛ مما يدلُّ على أنَّ الأمرَ أمرُها وأنّ السّلطانَ سلطانُها، وأنّ الشأنَ شأنُها.
  2. استشارة النّبي ﷺ لأصحابه في جلّ الأمور، العسكرية منها وغير العسكرية.
  3. تكليف الأمّة بمجملها بالقيام بأمور الدّين، كالجهاد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
  4. أنّ الأمّة هي من تختار أهل الحلّ والعقد لينوبوا عنها.
  5. أنَّ من مسؤوليات الأمّة اختيار الحاكم كما تقدّم، ومتابعة عمله ونصيحته والاحتساب عليه وعزله كما سيأتي..

قال الشيخ عبد الوهاب خلّاف: «دعائم الحكومة في الإسلام هي الشّورى، ومسؤوليةُ أولي الأمر واستمدادُ الرئاسة العليا مِن البيعة العامة، وهذه دعائم تعتمد عليها كلُّ حكومةٍ عادلة؛ لأنَّ مرجعَها كلّها أنْ يكون أمرُ الأمّة بيدها، وأن تكون هي مصدرَ السّلطات، وقد قضت الحكمةُ أنْ تُقرَّر هذه الدّعائمُ غيرَ مفصّلة؛ لأنّ تفصيلَها مما يختلف باختلاف الأزمان والبيئات، فالله أمر بالشورى، وسكت عن تفصيلِها؛ ليكون ولاةُ الأمر في كلِّ أمّة في سَعةٍ مِن وضع نظمِها بما يلائم حالَها، فهم الذين يقرّون نظامَ انتخابِ رجالها، والشرائط اللازمة فيمن يُنتخب، وكيفية قيامهم بواجبهم، وغير ذلك مما تتحقق به الشورى، ويُتوصل به إلى الاشتراك في الأمر اشتراكًا يحقّق أمرَ المسلمين شورى بينهم»[11]

وقال د. وهبة الزحيلي: «قال الرازي والإيجي وغيرهما: إنّ الأمّة هي صاحبة الرئاسة العامة»[12].

السُّلطة للشعب، والشَّعب مصدر السُّلطات؛ لذا فإنه شريك في صياغة نظام الحكم واختيار الأنسب من القوانين والأنظمة التي تحكمه

الركيزة الثالثة: وجوب حماية النظام السياسي الشرعي من الخروج عليه وتغييره بالقوة:

أحكام الشريعة كلّها مبنية على الحقّ والعدل، والحفاظ على حقوق جميع الأطراف، وكما أنّ الشريعة أعطت الأمّة حقّ اختيار الحاكم وحقّ المشاركة في صياغة نظام الحكم، فقد أمرت بالمحافظة على هذا النظام –القائم وفق المبادئ المعتبرة في الشريعة وحمايته؛ فمنعت من كلّ ما يهدّده أو يقوّضه، ومن ذلك:

1. تحريم التغلّب رغمًا عن إرادة الأمّة وتجريمه: فإذا كان للشعب حاكم عادل يقوم بما يجب عليه فيحرم قهره وأخذ السلطة منه بالقوة:

وقد اتفق العلماء على تحريم التغلُّب ابتداءً وتجريم فاعله.

قال ابن حجر الهيتمي: «المتغلّبُ فاسقٌ مُعاقَب، لا يستحقّ أَن يُبشّر ولا يُؤمر بالإِحسانِ فِيما تغلّب عليه، بل إِنّما يسْتَحق الزّجر والمقت، والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أَحواله»[13].

وقال أبو المعالي الجويني: «فإنّ الذي ينتهض لهذا الشّأنِ لو بادره مِن غير بيعةٍ وحاجة حافزةٍ، وضرورة مستفزّة، أشعر ذلك باجترائه، وغلوِّه في استيلائه، وتشوُّفه إلى استعلائه، وذلك يَسِمُه بابتغاء العلوِّ في الأرض بالفساد»[14].

والسبب في ذلك: أنّ المتغلّب مغتصبٌ لحقّ الأمة في اختيار مَن يحكمها، ومغتصبٌ لمنصب ليس له.

2. إيجاب طاعة الحاكم الشرعي وتحريم الخروج عليه:

فمن ثبتت له الإمامة فلا يجوز الخروج عليه ونزعها منه رغمًا عن إرادة الشعب.

قال أبو يعلى: «وإذا قام الإمام بحقوق الأمّة وجب له عليهم: الطاعة، والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة»[15].

وقال السرخسي: «فإن كان المسلمون مجتمعين على واحد، وكانوا آمنين به، والسبيل آمنة، فخرج عليه طائفة من المسلمين فحينئذ يجب على من يقوى على القتال أن يقاتل مع إمام المسلمين الخارجينَ؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ [الحجرات: ٩]، والأمر حقيقةً للوجوب، ولأنّ الخارجين قصدوا أذى المسلمين وإماطة الأذى من أبواب الدين، وخروجهم معصية، ففي القيام بقتالهم نهي عن المنكر وهو فرض، ولأنّهم يهيجون الفتنة قال ﷺ: (الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها)»[16].

والشرع حين يمنع الخارج من الخروج عن الشرعية فإنّه لا يكتفي بالمنع من الخروج استقلالاً بل يمنع أيضًا من المشاركة فيه أو المساعدة، ويجعل المقاتل في صفه أو المدافع عنه باغيًا، كما في قول الرسول ﷺ لعمار بن ياسر: (ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار)[17].

فجعل النبي ﷺ دعوة عمار إلى التمسك بالشرعية والمحافظة عليها دعوة إلى الجنة، ودعوة مخالفيه التي تمثل دعوة إلى الخروج عن الشرعية دعوة إلى النار.

3. وجوب حماية النظام السياسي من الانقلاب عليه وتغييره بالقوّة:

  • فعن عرفجة قال: قال رسول الله ﷺ: (مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحد، يُريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم، فاقتلوه)[18].
  • وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال ﷺ: (سيكونُ خلفاء فَيَكثُرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا بِبيعةِ الأولِ فالأول، أعطوهم حقَّهم، فإنَّ الله سائِلُهم عمَّا استرعاهم)[19].

قال النووي: «إذا بويع لخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها»[20].

4. بل يجب على الأمّة أن تقاتل أهل البغي والخروج إذا قاتلوا الإمام العادل حتى يردّوهم، ويحفظوا نظام الحكم من اعتدائهم:

قال ابن تيمية: «إذا طلبهم السلطان أو نوّابه لإقامة الحدّ بلا عدوان فامتنعوا عليه فإنّه يجب على المسلمين قتالهم -باتفاق العلماء- حتى يقدر عليهم كلهم»[21].

5. تحذير الأمّة من عاقبة العدوان على الحاكم العادل:

وليس العدوان المحرّم محصورًا في الخروج عليه بالسلاح، بل يشمل كلّ ما من شأنه إضعاف الحاكم وإضعاف سلطته، كالسخرية به، والاستهانة بأعماله أو قراراته؛ فقد توعد الرسول ﷺ فاعله بالهوان وعدم الهناءة في الحياة.

فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَن أهانَ سلطانَ اللهِ أهانَه الله»[22].

وعن أبي موسى الأشعري t قال: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشيبةِ المسلم، وحاملِ القرآنِ غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السُّلطان المُقسِط)[23].

فكيف بمن خرج على الحاكم الشرعي، أو انقلب؟

كما أعطت الشريعة للشعب حقّ اختيار الحاكم وحقّ المشاركة في صياغة نظام الحكم، فقد أمرته بالمحافظة على النظام السياسي الشرعي وحمايته وفق المبادئ المعتبرة في الشريعة؛ فمنعت من كلّ ما يهدّده أو يقوّضه

الركيزة الرابعة: حقّ مناصحة الحاكم والاحتساب عليه:

فالمهام الملقاة على عاتق الحاكم كبيرة وجليلة، وهو بشر يعتريه النقص والخطأ، وقد تستهويه السلطة والقوّة، أو يطرأ عليه الضعف ونحو ذلك؛ فيؤدّي ذلك إلى ظهور أخطاء أو تقصير، فيأتي دور الشعب في مناصحته وتسديده؛ إعانةً له على القيام بمهامّه، وحفاظًا على مؤسسة الحكم أن تنحرف عن دورها المنوط بها أو أن يكون فيها مَن ليس أهلاً لها، وصولاً إلى الإنكار والاحتساب عليه في حال عدم قبوله النصح.

ففي المناصحة:

حديث تميم الداري أنّ النبي ﷺ قال: (الدِّينُ النَّصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمةِ المسلمين وعامَّتهم)[24]. وعن زيد بن ثابت أنّ رسول الله ﷺ قال: (ثلاثُ خِصال لا يَغلُ عليهنَّ قلبُ مسلم أبدًا: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزومُ الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تُحيطُ مِن ورائِهم)[25].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تُشركوا به شيئًا، وأن تَعتصموا بحبلِ الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحوا من ولَّاه الله أمركم …)[26].

فصيغ العموم في هذه الأحاديث تدلُّ على أنّ نصيحة الحاكم وتسديده حقٌّ مكفول لجميع الناس دون استثناء، بل إنّ الشارع قد جعلها من الدين، ومما يرضي الله تعالى.

قال ابن حجر: «والنَّصيحةُ لأئمَّة المسلمين: إعانَتُهم على ما حمِّلوا القيامَ به، وتنبيهُهم عند الغفلة، وسدُّ خلَّتهم عند الهفوة، وجمعُ الكلمة عليهم، وردُّ القلوب النَّافرة إليهم، ومِن أعظم نصيحتهم دفعُهم عن الظلم بالتي هي أحسن»[27].

وفي الإنكار والاحتساب:

حديث أم سلمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنّه قال: (إنَّه يُستعمل عليكم أمراء، فَتَعرفونَ وتُنكرون، فمن كَرِه فقد برئ، ومن أنكر فقد سَلِم، ولكن من رَضي وتابع)[28].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: (ما مِن نبيٍ بَعثه الله في أُمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحابٌ يأخذونَ بِسُنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراءِ ذلك من الإيمان حبَّة خَردل)[29].

قال الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر الصالحي الحنبلي: « كان من عادة السلف الإنكار على الأمراء والسلاطين، والصدع بالحقّ، وقلّة المبالاة بسطوتهم؛ إيثارًا لإقامة حقّ الله سبحانه على بقائهم، واختيارهم لإعزاز الشرع على حفظ مُهَجهم، واستسلامًا للشهادة إن حصلت لهم»[30].

لم يكتف الشارع بجعل الإنكار والاحتساب على الحاكم الظالم أو المخالف للشرع حقًا لعامة الناس فحسب، بل عدَّه جهادًا، ولو أدّى إلى التضحية بالنفس في سبيل ذلك

وقال عبد القاهر البغدادي: «ومتى زاغَ عن ذلك كانت الأمّةُ عيارًا عليه [أي: مشرفين ومراقبين] في العدول به مِن خطئه إلى صوابه، أو في العدول عنه إلى غيره، وسبيلهم معه فيها كسبيله مع وزرائه وقضاته وعماله وسعاته، إن زاغوا عن سننه عَدل بهم أو عدل عنهم»[31].

فالإنكار والاحتساب على الحاكم لم يكتفِ الشرعُ بجعله حقًا لعامة الناس، بل عدَّه جهادًا، ولو أدّى إلى التضحية بالنفس في سبيل ذلك:

ففي الحديث السابق: (فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ).

وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (سيدُ الشُّهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قالَ إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله)[32].

»الأدبُ مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سرًّا، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفّوا عنه، وهذا كلّه إذا أمكن ذلك، فإن لم يُمكن الوعظ سرًّا والإنكار فليفعله علانيةً؛ لئلّا يضيع أصل الحق  «

الإمام النووي رحمه الله

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدل ٍعند سلطانٍ جائر)[33].

قال الغزالي رحمه الله: «فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلّة مبالاتهم بسطوة السلاطين؛ لكونهم اتَّكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النيَّة؛ أثّر كلامهم في القلوب القاسية فليَّنها وأزال قساوتها. وأمّا الآنَ فقد قيَّدتِ الأطماع ألسن العلماء فسكتوا، وإن تكلموا لم تساعد أقوالَهم أحوالُهم فلم ينجحوا، ولو صَدَقوا وقصدوا حقَّ العلم لأفلحوا، ففساد الرعايا بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، وفساد العلماء باستيلاء حبِّ المال والجاه، ومن استولى عليه حبّ الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل، فكيف على الملوك والأكابر؟»[34].

وسير أهل العلم مع الحكام في النصيحة والإنكار والاحتساب أكثر من أن تُورد في هذا المقام. وقد حفظت لنا كتب العقيدة والسير والتاريخ الآثار العظيمة لمناصحة المسلمين وإنكارهم على الحكام، سواء في الحفاظ على الدين من العبث والتحريف، أو البلاد من الضياع، أو سائر أمور الدنيا من الفساد.

وقال النووي رحمه الله: «الأدبُ مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سرًّا، وتبليغهم ما يقول الناس فيهم لينكفّوا عنه، وهذا كلّه إذا أمكن ذلك، فإن لم يُمكن الوعظ سرًّا والإنكار فليفعله علانيةً؛ لئلّا يضيع أصل الحق»[35].

الركيزة الخامسة: حقّ عزل الحاكم:

قد يطرأ على الحاكم ما يمنع استمرار ولايته، كالكفر أو الفساد والظلم الشديدين، ولا يستجيب للنصح، فعندها يعود الحقّ للشعب في النظر في حاله، فإن رأى عزله وتنصيب مَن هو خير منه فذاك حقّه.

قال القاضي عياض: «لا خلاف بين المسلمين أنّه لا تنعقد الإمامةُ للكافر، ولا تستديم له إذا طرأ عليه، وكذلك إذا ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها… فإذا طرأ مثل هذا على والٍ مِن كفرٍ أو تغير شرع أو تأويل بدعة، خَرَج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على الناس القيامُ عليه وخلعُه، ونصبُ إمامٍ عدل أو والٍ مكانه إن أمكنهم ذلك»[36].

وقال الإيجي: «وللأمة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، وإن أدّى خلعه إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين»[37].

وقد ذكر الجويني رحمه الله: أنّ الحاكم «إذا تواصل منه العصيانُ، وفشا منه العدوانُ، وظهر الفسادُ، وزال السدادُ، وتعطّلت الحقوق والحدود، وارتفعت الصيانة، ووضحت الخيانة، واستجرأ الظَلَمَة، ولم يجد المظلوم منتصفًا ممن ظلمه، وتداعى الخلل والخطل إلى عظائم الأمور، وتعطيل الثغور؛ فلا بدّ من استدراك هذا الأمر المتفاقم».

وذكرَ أنّ هذا الاستدراك يكون بعزله وتنصيب إمام آخر مكانه، فإن كان هذا الأمر سيترتب عليه إراقة الدماء ومصادمة أحوال جمّة الأهوال فينظر:

فإن كانت المفاسد أقلّ من مصلحة عزله فإنّه يُعزل ويجب احتمال هذه الأهوال المتوقّعة.

وإن كانت المفاسد أعظم فيتعيّن الاستمرار على الأمر الواقع»[38].

وكلام أهل العلم صريح في أن عزل الحاكم حق للشعب، يقوم به في حال الحاجة إليه بشروطه.

والذي يتولى العزلَ عند تحقّق السبب المعتبر شرعًا هم مَن يتولّون العقدَ، وهم أهلُ الحل والعقد في الأمّة عادة، قال الإمام الجويني في «غياث الأمم»: «فإن قيل: فمن يخلعه؟ قلنا: الخلع إلى مَن إليه العقد»[39].

وفي حقّ العزل هذا حماية لنظام الحكم من أن يبقى فيه مَن لا يستحقه ومن لا يؤتمن عليه، وحماية للدولة من أن ينحرف بها هذا الحاكم.

كلام أهل العلم صريح في أن عزل الحاكم حقٌّ للشعب، يقوم به في حال الحاجة إليه بشروطه، وفي حقّ العزل هذا حماية لنظام الحكم من أن يبقى فيه مَن لا يستحقه ومن لا يؤتمن عليه، وحماية للدولة من أن ينحرف بها هذا الحاكم

وأخيرًا..

فهذه النصوص وأقوال أهل العلم تكشف عن نظام إسلامي متكامل في التعامل مع مسألة الحكم، يجمع بين حق الشعب وحق الحاكم، بطريقة تضمن حقوق الطرفين دون إفراط ولا تفريط، كما تدلّ دلالة واضحة على أنّ الشعب غير منفصل عن شؤون الدولة وإدارتها، وأنّ الحاكم ليس صاحب سلطة مطلقة لا يمكن تغييرها ولا التعامل معها، وأن مهمته لا تنحصر في الخضوع والرضوخ وتنفيذ الأوامر ولو كان الحاكم مرتكبًا لجميع أنواع الظلم والبطش ومخالفة الدين، فعلى الشعب أن يعي حقوقه، ويعمل للحصول عليها والدفاع عنها، ويُحسن اختيار ممثّليه ويقف وراءهم بالتأييد والنصح والتسديد؛ حتى يستقيم أمر الدولة وينهض الجميع بالحضارة والعمران.


[1]  أصل المقال مشاركة في ندوة عقدها مركز محكمات بعنوان «الثوابت الشرعية في مواجهة الانقلابات العسكرية».

[2]  جميع المسائل المطروحة لها تفصيلات وضوابط وشروط لن يتعرّض لها المقال؛ لأنّ هدفه الكشف عن الإطار الكلّي العام الذي يحكم المسألة دون الخوض في تفاصيلها.

[3]  يختص الحاكم باجتماع أمور فيه نظرًا لأهميته وطبيعة مكانته: فهو نائب عن الشرع في إقامة الدين، ونائب عن الشعب في إدارة شؤونهم، ووكيل عن الشعب، وله نوع ولاية عليهم. فلا تنحصر مكانته في النيابة عنهم، لكن لما كانت هي المقصود بالكلام في هذا الموضع جرى الاقتصار على ذكرها.

[4]  أخرجه مسلم (٢٣٨٧).

[5]  أخرجه البخاري (٦٨٣٠)، قال ابن حجر: «والمعنى: أنَّ مَن فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرَّضهما للقتل» فتح الباري (١٢/١٥٠).

[6]  شرح النووي على صحيح مسلم (١٢/٢٠٥).

[7]  المرجع السابق (١/٢٩).

[8]  منهاج السنة النبوية (١/٥٣٠).

[9]  كواشف زيوف، لعبد الرحمن حبنَّكة الميداني ص (٦٩٧).

[10]  البداية والنهاية (٧/١٦٤).

[11]  السّياسة الشّرعية، لعبد الوهاب خلاف، ص (٣٤).

[12]  الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي (٨/٦١٦٩).

[13]  الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيتمي (٢/٦٢٧).

[14]  غياث الأمم، للجويني (١/٣٢٦).

[15]  الأحكام السلطانية للفرّاء (ص ٢٨).

[16]  الأحكام السلطانية (١/٢٨).

[17]  أخرجه البخاري (٤٤٧)، وينظر: الفقه السني في تعامله مع الخروج عن الشرعية، محمد بن شاكر الشريف، مجلة البيان، العدد (٣٥٢).

[18]  أخرجه مسلم (١٨٥٢).

[19]  أخرجه البخاري (٣٤٥٥)، ومسلم (١٨٤٢).

[20]  شرح النووي على صحيح مسلم (١٢/٢٣١).

[21]  مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٢٨/٣١٧).

[22]  أخرجه الترمذي (٢٢٢٤).

[23]  أخرجه أبو داود (٤٨٤٣).

[24]  أخرجه مسلم (٩٥).

[25]  أخرجه أحمد (٢١٥٩٠)، ومعنى: (يغلُّ عليهن قلب مسلم): أنّ المؤمن لا يخون في هذه الأشياء الثلاثة، ولا يدخله ضغن يزيله عن الحق حتى يفعل شيئًا من ذلك.

[26]  أخرجه أحمد (٨٧٩٩).

[27]  فتح الباري (١/١٣٨).

[28]  أخرجه مسلم (١٨٥٤).

[29]  أخرجه مسلم (٨٠).

[30]  الكنز الأكبر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص ٢٠١).

[31]  أصول الدين، للبغدادي ص (٣٠٨).

[32]  أخرجه الحاكم في المستدرك، (٤٨٨٤).

[33]  أخرجه أبو داود (٤٣٤٤)، والترمذي (٢١٧٤).

[34]  إحياء علوم الدين، للغزالي (٢/٣٥٧).

[35]  شرح صحيح مسلم، للنووي (١٨/١١٨).

[36]  إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي عياض (6/246).

[37]  المواقف، لعضد الدين الإيجي (٣/٥٩٥).

[38]  غياث الأمم (1/105).

[39]  غياث الأمم (1/126).


د. عماد الدين خيتي

باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، نائب رئيس مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.

X