“كنت أضرب غلامًا لي، فسمعتُ مِن خلفي صوتًا: (اعلَم أبا مسعود، لَلهُ أقدر عليك منك عليه)، فالتفتُّ فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، فقال: (أما لو لم تفعل لَلَفحتك النار، أو لَمَسّتك النار) رواه مسلم.
تعظيم العبد لخالقه عز وجل وخوفه منه أوّلُ خطوةٍ لرحمته بالناس وخاصّة إذا كانوا ضُعفاء من نساءٍ وأطفالٍ وعبيدٍ وعمّالٍ ومرؤوسين، وتأمينهم على أنفسهم وأموالهم، واعترافه بحقوقهم ومنجزاتهم ومساحتهم الخاصّة، وحرصه على حريتهم وأمنهم النفسي.
تحرَّرت كثيرٌ من شعوب المنطقة العربية الإسلامية من عُقدة خوفها من سطوة حكّامها، فانتزعت مساحةً لحريتها، وفي أتون معركة التحرّر وما يرافقها من بعض الفوضى أو الانشغال: تسلَّطت فئاتٌ على الضعفاء ومَن لا يملكون حولاً ولا قوةً ولا مالاً. كما ابتلي مثقّفوها وقادتها بمخاوف على نحوٍ آخر، كالخوف من نقد الجماهير الثائرة وحساسياتها، وأشدُّ منه: الخوف من الأقران وصعوبة الجهر بالنقد الذاتي الواجب والتصريح بالقناعات بشكل شفّاف؛ بسبب متلازمة خاطئة تعدُّ النقدَ إسقاطًا!
أدّى ذلك -مع أسبابٍ أخرى- إلى ضعف للعقل الجمعي القيادي لمؤسسات الثورات وأجسامها، وخمول للفكر الرائد، ودوران في المكان؛ الأمر الذي ترك الجماهيرَ حيرى تحاول تدبير نفسها بنفسها، ساعية إلى الاستغناء عن أهل الفكر والرأي كما استغنت عن أهل السلطة والحكم! فأدّى ذلك إلى تيهٍ عامّ للرأي، وغثائية محزنة لجهود ضخمة اضطربت بوصلتها، فلربّما صبّت جهودها في مصالح عدوّها الدائب على توظيف ما أمكنه من تكتيكات الشعوب الثائرة وتحويلها إلى صالحه، أو استنزافها في صراعات بينيّة داخليّة لا عماد لها إلا طيش العقول أو شرعنة الظلم.
الخوف كلّه مبدؤه الجهل، جهل بالكبرياء والعظمة الإلهية، والسيادة السماوية، والسلطة الإيمانية، والرسالة الربانية، والسنن المجتمعية، والضعف الآدمي بعجزه ومحدوديته البشرية.
مَن غَفل عن شيء من ذلك نقصت إمامته للناس بقدر غفلته، ومَن عجز عن اقتحام عقبات الخوف من شركاء دربه وجماهير شعبه فلن تغنيه شجاعته الظاهرة في مقابل عدوه، ما لم يَظهر معدن ثبات قلبه ورباطة جأشه عندما تنهال عليه عجائب التخويف الأمني والقانوني والسياسي والاقتصادي والمعيشي والعسكري، وتتبدّى أمامه المصالح الموهومة. أمّا أصحاب المصالح الشخصية والفئوية الضيّقة فما استحقوا أصلاً الوقوف في صفوف الامتحان الصعب، لقد انكسروا عندما مدّوا أيديهم، فانهاروا بخيانة شعوبهم بما امتلأت به قلوبهم من الخوف على معايشهم.
أمّا الجماهير ونُخَبها المنتصرة على مخاوفها فقد مَثُلت أمام امتحان جديد، بأن تصنع الأمن في دوائر مسؤولياتها المتنوعة، بدءًا من دوائرها الشخصية، إلى ملتقيات الأسرة، والصف الدراسي، ومكاتب العمل، وبيوت الله، والمجالس الإدارية، والمنتديات الاجتماعية، والأندية الرياضية.. وذلك بأن تربّي نفوسها على سماع النقد، بل تستنصح مَن دونها من زوجات وأبناء وطلاب ومراجعين ومصلين وأعضاء وحاضرين وجلساء ولاعبين، حتى تبلغ نفوسها مبلغَ (رحم الله امرءًا أهدى إليّ عيوبي)، وحينها ستكون قد وضعت قدمها على سلّم الكرامة عند الله ودرج المحبة عند خلقه، حينما تشتغل بعيوبها عن عيوب مرؤوسيها وتابعيها؛ فتصبح قدوة تصنع بيئة آمنة للحوار والتفاهم لأجل التناغم والتفاعل والتعاون والتكامل.
تكثيف الوعي برسالة العلم وغايته ضرورة نهوض؛ فـ “إنما العلم الخشية”، فلا بركة في علم ولا تعليم يستبدل خشية الناس وخوف الرزق بخشية مالك خزائن السماوات والأرض، تلك الخشية التي عظّمت المعنويات والمبادئ في قلوب حَمَلة العلم المجاهدين بالقرآن، فهان في نفوسهم كلّ عظماء الأرض، فاستعلَوا بالوحي، واستقوَوا بمنزّلِه جلّ قدره سبحانه، فدبّر الله لهم أحسن تدبير، وأغناهم عن كلّ كبير، فصاروا مرجعية حقيقية للناس، وتقدّموا صفوفهم، فصاروا للمتقين إمامًا، فعزّ بهم أهل الإسلام، وانتشر بريادتهم السلام.
لا أمن بلا إيمان، ولا سلام بلا إسلام، ولا انتصار بلا إمام لا يعرف الخوف حتى يصنع الله به الأمن للجميع.