دعوة

هل ستنتصر أمة الإسلام حقًا؟

هل ستنتصر أمة الإسلام حقًا؟

تعيش الأمة الإسلامية اليوم في وضع بائس وظروف غير مسبوقة، فالتمزق يزداد كل يوم، والأعداء يزدادون ضراوة، والظلم يحيط بالمسلمين من كل جانب، وخيارات الخروج من الأزمة تضيق، والفقر ينهش الأوضاع، واليأس بدأ يتمكَّن من القلوب، وصارت بعض الأصوات تتساءل: هل ستنتصر أمة الإسلام حقًا؟ ومتى يكون ذلك؟

في زمن الاستضعاف والهزيمة التي تعيشها أمّة الإسلام اليوم ومع توالي الضربات والأزمات يتسلّل اليأس إلى بعض النفوس وتسودُ معاني الهزيمة والاستسلام، كما يغدو الظرف مواتيًا لرواج أقوال تناقش في المسلّمات، والتي منها: وعد الله لأمّة الإسلام بالنصر والظهور والتمكين، وأنّ العاقبة للمتّقين، وأنّ المستقبل لهذا الدين، فغدا من الناس مَن يجادل في هذا أو يراه بعيدًا بدعوى العقلانية في التعامل مع الواقع، ولهؤلاء المشكّكين سمّاعون يردّدون مقالتهم وينشرون أقوالهم، فهل تُعَدُّ مسألة انتصار أمّة الإسلام مسألة جدلية يصحّ الاختلاف حولها؟ أم أنّها مسألة راسخة محكمة لا ينبغي أن يشكّ فيها مسلم؟

النصر المعنوي للإسلام ظاهر في كلِّ حين، فقيمُه أعلى القيم ومبادئه أرقى المبادئ، ولا دين غيره يجيب عن الأسئلة المبدئية والقضايا الكبرى إجابات منطقية يقبلها العقل السليم، ولا يصمد أمامه في المناظرة مبدأ ولا دين

مفهوم النصر ودرجاته:

يخلط البعض بين مستويات وصور من النصر تزيد من الاختلاف والجدل حول هذه المسألة نظرًا لعدم تحرير محلّ النزاع فيها، وبقدر ما يكون التمييز والتفريق يقلّ اللغط ويخفّ الخلاف، فهناك نصرٌ معنوي قيمي مبدئي وآخرُ حسيٌّ مادّيٌّ واقعيّ، وهناك نصرٌ على المستوى الفردي وآخر على المستوى الجماعي، ومن النصر ما هو عامٌّ شاملٌ وآخر جزئيّ في جوانبَ وأماكنَ دون أخرى، ومنه ما هو نصرٌ مباشر ظاهر أو نصرٌ غير مباشر باعتبار ما يؤول إليه الحال والواقع، وهناك نصرٌ بمجرّد النجاة من الأعداء وعدم تحقُّق غرضهم ونصر بهزيمة الأعداء ومحقهم وسحقهم.

فالنصر المعنوي للإسلام ظاهر في كلِّ حين، فقيمُه أعلى القيم ومبادئه أرقى المبادئ، ولا دين غيره يجيب عن الأسئلة المبدئية والقضايا الكبرى إجابات منطقية يقبلها العقل السليم: (من أين جئنا؟ وكيف بدأت الحياة؟ ولماذا خُلقنا؟ وما هو المطلوب منا؟ وإلى أين سنذهب؟ وما هو المصير؟) ولا يصمد أمامه في المناظرة مبدأ ولا دين.

وقد أدرك ذلك الأعداء الأوائل للإسلام، فقال الوليد بن المغيرة عن القرآن الكريم بعدما سمعه من فم النبي ﷺ: (إنّ لِقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطَلاوة، وإنّه لمثمرٌ أعلاه، مغدقٌ أسفله، وإنّه ليعلو وما يُعلى، وإنّه ليَحطِم ما تحته)[1].

والمناظرات التي جرت بين أهل الإسلام وغيرهم، وبين أهل السنة وأهل البدعة منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا شاهدة على هذا الانتصار مؤكِّدة له.

والموت في سبيل الله بالرغم من كونه خسارة مادّية في منظار الحياة الدنيا إلّا أنّه في أسمى مكانة في الحياة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: ١٦٩]، ولو استحضرنا معنى النصر المعنوي فسنفهم جيدًا سبب ثبات سحرة فرعون أمام تهديده لهم بالتنكيل، فقالوا له في ثبات: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [طه: ٧٢]، ووصف الله حال المؤمنين الذين حرقهم أصحاب الأخدود بقوله: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: ١١].

ومن صور النصر أيضًا: المكاسبُ الكبرى التي تتحقّق من بعض الأحداث التي ليس فيها مواجهة مباشرة باعتبار ما يؤول إليه الحال والواقع، من ذلك الهجرة إلى المدينة التي سمّاها الله نصرًا ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [التوبة: ٤٠]، ومنها صلح الحديبية الذي سمّاه الله فتحًا مبينًا ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: ١]؛ لعظيم دوره في انتشار الدعوة الإسلامية، وأثره في فتح مكة.

والنجاةُ من الأعداء صورةٌ من صور النصر، كما تحقّق للمسلمين في غزوة الخندق يوم اجتمع الأحزاب لاستئصال دولة الإسلام ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: ٢٥]، وكما نجّى الله مؤمن آل فرعون ﴿فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا﴾ أي: «في الدنيا والآخرة، أمّا في الدنيا فنجّاه الله مع موسى عليه السلام، وأما في الآخرة فبالجنة»[2]، وكما نصر الله إبراهيم بتسليمه من النار ﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: ٦٩]، وكما سمّى الله نجاة نوح نصرًا فقال: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٦-٧٧].

هذه صورٌ شتّى للنصر، قد يلتبس بعضها بصورة الهزيمة عند النظرة القصيرة أو السطحية، فيُخطئ الذين يَقصُرون معنى النصر على صورةٍ معيّنةٍ معهودة أو قريبةِ المنال، ولا سبيل لتجاوز ذلك إلا بالنظرة الشمولية السابقة، أمّا النصرُ الحسّي فلأهل الإسلام مع غيرهم فيه جولاتٌ وأحوال، والعاقبة لهم متى أذن الله تعالى.

وكي يتحقّق النصر بمفهومه الحسّي الشامل فإنّه لابدّ من اكتمال أسبابهِ وزوالِ معوّقاته، واللهُ يحكم ما يشاءُ ويفعلُ ما يريد.

الأمّة اليوم ليست بأسوأ مما كانت عليه في أيامٍ خلت، والذي تولّ هذه الأمّة في سابق ضعفها سيتكفّل بها في لاحق أمرها، وهو على كل شيء قدير

سياق التاريخ:

عند تأمّل تاريخ أمّة الإسلام سيتجلّى لنا تحقُّق موعود الله بالعزّة والتمكين ماثلاً على الأرض رغم كلّ محاولات الحرب والمكر، فمنذ النشأة الأولى للجماعة المؤمنة في مكّة بقيادة رسول الله ﷺ ومعه نفر قليل مستضعفون وحتى هجرته إلى المدينة وما بعدها، توالت المحاولات واجتمعت أحزاب المشركين والكفار والمنافقين واليهود للحيلولة دون وجود هذه الأمّة لكنّها باءت جميعًا بالخيبة والخسران، بل مرّت بالمسلمين أيامٌ في حصار الشعب وليلة الهجرة إلى المدينة ويوم الخندق وغيرها أوشكت أو كادت أن تمحو أثر هذه الأمّة، لكن موعود الله كان ثابتًا وراسخًا على الأرض وفي النفوس، حتى قامت دولة الإسلام ومُكّن لها في المدينة، ثم فُتحت الجزيرة كلها.

ومع تتبُّع ما تعرَّضت له الأمّة حين ارتدّت بعض قبائل العرب، وتوالي الفتن من مقتل الفاروق ثم مقتل عثمان t وتسبُّبها في توقف الفتوحات مدّة من الزمن؛ نجدُ الأمّة قد نهضت من جديد وواصلت سيرها وانتصارها، وتتابعت الدول بعد الخلافة الراشدة، لتتسلّم الرايةَ الدولةُ الأموية ثم العباسية وما بعدها من دول وممالك.

والأمّة مع ما مرّت به من صعود وهبوط، وما تعرّضت له من حروب همجية ونكبات ومجازر للقضاء على وجود الإسلام، إلا أنّها بقيت عصيّةً على كلّ محاولات الإفناء والإنهاء، وهكذا ستبقى إلى قيام الساعة بحفظ الله لهذا الدين وموعوده لها بالنصر والتمكين، وليست اليوم بأسوأ مما كانت عليه في أيامٍ خلت، والذي تولّى هذه الأمّة في سابق ضعفها سيتكفّل بها في لاحق أمرها، وهو على كل شيء قدير.

الوعد الحقّ:

تنوَّعت الأدلّة من القرآن والسنّة التي تؤكّد انتصار أمّة الإسلام، ويمكن تصنيفها إلى ما يلي:

١. أدلّة تؤكّد على وعد الله لرسله وأتباعهم بالنصر والظهور:

قال سبحانه: ﴿إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمَنوا فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ يَقومُ الأَشهادُ﴾ [غافر: ٥١] وقال: ﴿وَلَقَد سَبَقَت كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا المُرسَلينَ (١٧١) إِنَّهُم لَهُمُ المَنصورونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُندَنا لَهُمُ الغالِبونَ﴾ [الصافات: ١٧١-١٧٣] وقال: ﴿هُوَ الَّذي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالهُدى وَدينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكونَ﴾ [التوبة: ٣٣].

٢. أدلّة تؤكّد على فشل أعداء الأمّة في محاولاتهم لإطفاء نور الوحي والرسالة:

بل تدلّ على هزيمتهم وقطع دابرهم: قال سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٣٢] وقال في الكافرين: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٢] وقال في المنافقين: ﴿لَئِن لَم يَنتَهِ المُنافِقونَ وَالَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ وَالمُرجِفونَ فِي المَدينَةِ لَنُغرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لا يُجاوِرونَكَ فيها إِلّا قَليلاً (٦٠) مَلعونينَ أَينَما ثُقِفوا أُخِذوا وَقُتِّلوا تَقتيلاً (٦١) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبديلاً﴾ [الأحزاب: ٦٠-٦٢].

٣. أدلّة حذّرت من الهوان والهزيمة والاستسلام:

خاصّة أوقات الهزيمة المؤقّتة كما هو واقعنا اليوم، قال تعالى: ﴿وَلا تَهِنوا وَلا تَحزَنوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩] وحذّرت من استبطاء النصر واستعجال النتائج، قال سبحانه: ﴿أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأتِكُم مَثَلُ الَّذينَ خَلَوا مِن قَبلِكُم مَسَّتهُمُ البَأساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلزِلوا حَتّى يَقولَ الرَّسولُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَهُ مَتى نَصرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصرَ اللَّهِ قَريبٌ﴾ [البقرة: ٢١٤].

٤. أدلّة حذّرت من التشكيك في موعود الله بالنصر:

قال تعالى: ﴿وَإِذ يَقولُ المُنافِقونَ وَالَّذينَ في قُلوبِهِم مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسولُهُ إِلّا غُرورًا﴾ [الأحزاب: ١٢]، وقال لنبيه ﷺ مرارًا: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ [الروم: ٦٠]، [غافر: ٥٥]، [غافر: ٧٧].

٥. أدلّة بيّنت طبيعة معادلة القوّة بين أهل الإسلام وأعدائهم:

وأنّ الغلبة تكون لهم بالرغم من قلّة عددهم وعدّتهم، ومنها قوله تعالى: ﴿قَد كانَ لَكُم آيَةٌ في فِئَتَينِ التَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ في سَبيلِ اللَّهِ وَأُخرى كافِرَةٌ يَرَونَهُم مِثلَيهِم رَأيَ العَينِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشاءُ إِنَّ في ذلِكَ لَعِبرَةً لِأُولِي الأَبصارِ﴾ [آل عمران: ١٣].

٦. آيات وسور بأكملها حكت قصص مَن سبق من الأنبياء:

وقد قصّها الله تعالى تسلية لرسوله ﷺ وللمؤمنين، وتأكيدًا على سننه في الحياة، وبما أنّ رسالة الإسلام هي الوارثة الباقية فانتصارها سائر على سنن تلك الأمم، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: ٥٥]، وقال سبحانه: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥]، وفي مقابل ذلك آيات وسور حكت قصص مَن عادى الرسل وعاندهم كفرعون وهامان والنمرود وغيرهم وكيف أنّ الدائرة كانت عليهم، وستكون الدائرة كذلك على مَن يحارب دين الله الخاتم الذي جاء به النبي ﷺ.

أكَّدت السنَّة النبوية أنَّ الهزيمة المادية لن تكون شاملةً لجميع أفراد الأمة، بل سيستمرُّ ظهور طائفة من المسلمين ظهورًا ماديًا على مرِّ الزمان إلى أن تقوم الساعة، إضافة إلى الأحاديث الصحيحة التي أخبرت بعودة الخلافة على منهاج النبوة في آخر الزمان

٧. تواتر الأدلّة التي تؤكّد انتصار أمّة الإسلام في السنّة النبوية:

قال ﷺ: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بِعزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل، عزًا يُعزُّ الله به الإسلام، وذُلاً يُذلُّ الله به الكفر)[3]، وفي حديث خبّاب بن الأرتّ المشهور: (والله ليَتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون)[4].

وقد أكَّدت السنَّة النبوية أنَّ الهزيمة المادية لن تكون شاملة لجميع أفراد الأمة، بل سيستمر ظهور طائفة من المسلمين ظهورًا ماديًا على مرِّ الزمان إلى أن تقوم الساعة[5]، إضافة إلى مجموع ما جاء في أحاديث الملاحم، والأحاديث التي أخبرت بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في آخر الزمان[6].

بشارة الإنجيل:

ضرب الله لنا في القرآن مَثَل النبي ﷺ وأصحابه كما هو في الإنجيل مؤكّدًا بهذا المثل على ظهورهم وانتصارهم على أعدائهم فقال: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأهُ﴾ قال الضحاك: «يعني أصحاب محمد ﷺ، يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون ويستغلظون»[7]، وقوله: ﴿فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ﴾ أي: استقام على قصبه، و(السُّوقُ) جمعُ ساق، ﴿يُعْجِبُ الزُّرّاعَ﴾ أي: يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه وحسن نباته وبلوغه وانتهائه الذين زرعوه»[8].

وحينما كان النصارى مع عيسى عليه السلام يعيشون فترة استضعاف -بل إنّ اليهود حاولوا قتله لكنّ الله رفعه إليه وأنجاه منهم- فإنّهم كانوا يُصابرون أنفسهم ويُعزّونها بقُرب زمان ظهور نبينا محمد ﷺ ويبشّرون بأنّه سيُعزّ وينتصر وتكون له الغلبة على أعدائه حتى سُموا «المبشّرين» أي المبشرين بظهور نبينا ﷺ وتمكينه وغلبته، ومما ورد في كتبهم مما يدلّ على هذا ما جاء في إنجيل برنابا: «يا الله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعًا لخلاص العالم»[9].

التواؤم مع الفطرة:

إنّ المتأمِّل في خصائص وسمات الدين الإسلامي يُدرك أنّه الدين الأحقّ بالتمكين، وأنّ ذلك سيتحقّق عندما تتوفر شروطه، فقوّة هذا الدين تكمن في الحقّ الذي يملكه والمبادئ التي قام عليها، وفي موافقته للفطرة، واتِّساقه مع السنن الكونية، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ٣٠]، في حين أنّ الحضارات الأخرى والأديان المحرّفة أو الوضعية ونظرًا لبعدها عن الحق والفطرة تكون آيلة للسقوط والانهزام، وإن بدت مُنتصرةً في زمنٍ استثنائيٍّ أو ظرفٍ ما! كيف وهي إنّما قامت على حرب تلك المقوِّمات ومُعاكستها ومضادتها!

وما ذُكر على الصعيد الأممي ينطبق على المستوى الشخصي كذلك؛ فالروح التي غذاؤها ذكر الله وطاعته بحاجة للانسجام مع الجسد وجوارحه، فإذا انشغل الجسد بالكفر والمعاصي والآثام فهذا يجعل الإنسان في فصامٍ وتمزّقٍ وتخبّط، ولا يحقّق هذا التواؤم إلا شريعة الإسلام الموافقة للفطرة! وبهذا ندرك حتمية النصر لهذه الأمّة -المكوّنة من مجموع أفرادها المسلمين المتمتّعين باستقرار نفوسهم وانسجامها مع فطرتها- كما نوقن بحتمية الهزيمة لأعدائها ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾ [آل عمران: ١٩٦-١٩٧].

الواقع المشاهَد:

من العبارات التي طرقت أسماعنا كثيرًا أنّ أسرع الأديان توسعًا وتزايدًا وانتشارًا هو دين الإسلام! وهذا الأمرُ مُشاهَدٌ ملموسٌ كما أظهرت كثيرٌ من الدراسات، وبِغضّ النظر عن دوافع المؤسسات التي تنشر مثل هذه الدراسات إلا أنّ البيانات التي نشرها المنتدى الاقتصادي العالمي لعام ٢٠١٩م وغيره تذكر هيمنة المسيحية على الأمريكتين وأوروبا والنصف الجنوبي من أفريقيا، بينما يُعدّ الإسلام الدين الأوسع انتشارًا في سلسلة من البلدان تمتد من شمال أفريقيا عبر الشرق الأوسط إلى إندونيسيا[10].

وتُشير الدراسات التي تُعنَى بسرعة نمو أتباع الأديان إلى أنّ نمو أتباع الإسلام في العالم من المتوقّع أن يكون أكبر من نمو غير المسلمين بحلول عام ٢٠٥٠م لعدّة أسباب منها صغر الأعمار النسبي[11] وارتفاع معدّل الخصوبة[12].

مما يلفت الانتباه أنّ الإسلام هو أسرع الأديان انتشارًا، وهذا ليس في زمن تمكين أمّة الإسلام وبسط نفوذها، بل هذا يحدث في ظل تمزّق الأمة وتبعيتها السياسية وتخلفها الاقتصادي وتراجعها العسكري، فكيف بها إذا تمكّنت؟!

كما كشفت دراسة نشرها موقع «الغارديان» أنّ الإسلام سيتسنَّم الريادة عالميًا في عدد معتنقيه في أفق سنة ٢٠٦٠م، إذ سيبلغ عدد أتباعه ٣ مليارات شخص أي حوالي (٣١,١٪) من إجمالي سكّان المعمورة.

وبحسب ما كشفته توقّعات عدد سكان العالم في الفترة ما بين سنتي ٢٠١٥ و٢٠٦٠م، فإنّ نسبة النموّ الإجمالية لسكان العالم هي (٣٢٪) خلال إجمالي هذه الفترة، يشكّل المسلمون وحدهم (٧٠٪) من نسبة النموّ تلك، في المقابل -وبالرغم من أنّ عدد المسيحيين في العالم يبقى الأكبر حاليًا- فإنّ نسبة النمو ستستقر لدى أتباع المسيحية عند (٣٤٪)، ما يعني أنّ الأخيرة ستخسر موقعها في الترتيب العالمي في منتصف القرن الحادي والعشرين لصالح الإسلام[13].

والناظر في واقع الأسر المسلمة وتماسكها وسعيها لتحقيق مقاصد الإسلام من وجودها وبخاصّة مقصد التكاثر، وبمقارنتها بالمجتمعات الغربية والشرقية التي تعاني من تمزّق أسري وعزوف عن الزواج والتكاثر، والذي أدّى إلى شيوع الشيخوخة والندرة في الأجيال الناشئة مما ينذر بتناقصٍ وأفولٍ متسارعٍ؛ لَيُوقِنُ أنّ المستقبل ليس إلا لأهل الإسلام.

والـمُلاحظ أنّ سرعة الانتشار المذكورة هنا ليست في زمن تمكين أمّة الإسلام وبسط نفوذها، بل إنّها تحدث في ظل تمزّق الأمة وتبعيتها السياسية وتخلفها الاقتصادي وتراجعها العسكري، فكيف بها إذا تمكّنت؟!

ما هو دورنا؟

أهم واجب على المسلم هو اليقين بوعد الله تعالى، والثقة بما أخبر به من رِفعة هذا الدين وعُلوِّه، وهو جزء من الإيمان وشعبة منه، ويقتضي هذا اليقين عدّة أمور، أهمّها:

1. توعية الناس بحقائق الأمور، وأنّ الدنيا دار ابتلاء لا دار بقاء، وأنّ العبرة فيها بمعرفة الحقّ واتِّباعه والثبات عليه، وهذا هو مقتضى جواب النبي ﷺ لخبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه عندما طلب من النبي ﷺ أن يستنصر الله لهم وهم في أشدّ حالات الاستضعاف[14]. فالنتائج بيد الله وحده ومنها النصر، والله تعالى كان يُعلِّم النبي ﷺ ألّا يحزن لعدم إجابة قومه، فيقول له: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: ٤٨].

2. مواصلة العمل للدين بالقدر الذي يستطيعه كلّ مسلم، ولو كان نصيحةً عابرةً أو صدقةً يسيرةً أو دعوةً في جوف الليل، وهذا الفقه هو ما يُفهم من قوله ﷺ: (إنْ قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسْها)[15]، ومن أهمّ وجوه العمل للدين: تعليم الناس الإيمانَ والثقةَ بتقدير الله العزيز الحكيم الذي لا يعجزه شيء، وأنّ إمهاله للكفّار والظلمة لحِكَمٍ قد تبدو وقد تخفى.

لا بد من الصبر والتواصي به؛ فالصحابة رضي الله عنهم تعرَّضوا للعذاب الشديد ورسول الله بين أظهرهم لا يملك إلا أن يُصَبِّرهم ويذكِّرهم بالجزاء في الآخرة، ومن الصحابة من قُتل تحت سياط التعذيب في مكّة ولم يروا نصرًا ولا تمكينًا ولا هجرة ولا فتحًا، ولم يثنهم ذلك ولم يصبهم باليأس

3. الثبات على الدين والصبر على البأساء والضرّاء في سبيل ذلك، واستحضار أنّ النعيم المقيم الذي ينتظر المؤمن في الآخرة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والاستعانة على الصبر بالعبادة وتلاوة القرآن وقيام الليل، فإنّها زاد روحي لا ينضب، وقد وجّه الله تعالى نبيه ﷺ بقوله: ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾ [المزمل: ٢-٤].

4. تثبيت الناس وتذكيرهم بوعد الله تعالى، وتسليتهم بقصص الثابتين على الدين، كغلام الأخدود وسَحَرة فرعون، والصحابة y الذين تعرّضوا للعذاب الشديد ورسول الله ﷺ بين أظهرهم لا يملك إلا أن يُصبِّرهم ويذكِّرهم بالجزاء في الآخرة، فهذا ياسر وسمية رضي الله عنهما قُتلا تحت سياط التعذيب في مكّة ولم يريا نصرًا ولا تمكينًا ولا هجرة ولا فتحًا، وكلّ ما كانا يريانه هو بشاشة الإيمان التي خالطت قلبيهما، فهانت في نفسيهما كلّ متع الدنيا فنالا الخلود المقيم.

5. بثّ الأمل في النّاس وتبشيرهم بأنّ العاقبة للمتقين، وأنّ المستقبل لهذا الدين، وبأنّ بعد العسر يسرًا، وبأنّ الدين سيبلغ ما بلغ الليل والنهار، وبأنّ الألم الذي يعيشه الناس اليوم في سبيل الثبات على دينهم سيتلوه خيرٌ عظيمٌ ورفعةٌ لهذا الدين وأهله، شاء من شاء وأبى من أبى، ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف: ٨]، ومما يعين على ذلك دراسة السنن الإلهية، والتي منها سنن التداول والتغيير والاستخلاف والتمكين.

وختامًا:

فإنّ الله جلّ شأنه قد ذكر في كتابه حال أولئك الذين يستبطئون النصر لدرجة الظنّ بأنّ الله تعالى لن ينصر نبيّه ﷺ وأمّته ويُعلي دينه فقال متهكّمًا بهم: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج: ١٥]، والمعنى: «مَن كان يظنّ أنْ لن ينصر اللهُ محمّدًا ﷺ في الدنيا والآخرة، فليمدد بحبل إلى سماء بيته ثم ليختنق به وليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه! فإنّ الله ناصره لا محالة»[16].

فنصر الله تعالى له أَجَلٌ لا يعلمه إلا هو لكنّه آتٍ لا محالة، ولا ريب أنّ عقيدة النصر هي من أعظم ما يثبّت العاملين لهذا الدين ويشجّع قلوبهم ليكونوا من أنصاره وممن يتحقّق على أيديهم هذا الوعد، وإنّما تحلّ الكارثة عندما تهتزّ هذه العقيدة فتُقعد المسلم عن العمل ويستسلم، فما أسعد أعداءه به حينها!


[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (٣٨٧٢).

[2] تفسير ابن كثير (٧/١٤٦).

[3] أخرجه أحمد (١٦٩٥٧).

[4] أخرجه البخاري (٦٩٤٣).

[5] أخرجه مسلم (١٩٢٣).

[6] منها الحديث الذي أخرجه أحمد (١٨٤٠٦): (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها…) وفي آخره بعد أن ذكر مراحل الأمة المختلفة قال: (… ثم تكون خلافة على منهاج نبوة) ولم يذكر بعدها شيئًا.

[7] تفسير الطبري (٢٢/٢٦٨).

[8] محاسن التأويل، للقاسمي (٨/٥١١).

[9] إنجيل برنابا، ص (١٦٢)، وللاستزادة ينظر: موقع الدرر السنية، الموسوعة العقدية، بشارات الأمم السابقة.

[10] تقرير (الإسلام أسرع الأديان نموًا في العالم) باللغة الإنجليزية، موقع BBC، ٢٠١٧م.

[11] ذكر تقرير أعده مركز (PEW) للأبحاث بعنوان (مستقبل أديان العالم: توقعات النمو السكاني، ٢٠١٠-٢٠٥٠م) أنّ الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن ١٥ عامًا يشكلون (٣٤٪) من مجموع المسلمين وهي أعلى نسبة في العالم، بينما يبلغ المعدل العالمي (٢٧٪)، وتبلغ نسبة من تزيد أعمارهم عن ٦٠ عامًا (٧٪) من المسلمين، وهي أقلّ نسبة في العالم، بينما يبلغ المعدل العالمي (١١٪).

[12] جاء في تقرير أعده مركز (PEW) للأبحاث بعنوان (لماذا يُعتبر المسلمون المجموعة الدينية الأسرع نموًا في العالم؟) أنّ معدّل الخصوبة العالمي لدى المسلمين يبلغ (٢,٩) طفلاً لكل امرأة في السنوات (٢٠١٥ – ٢٠٢٠م) في مقابل (٢,٢) لغير المسلمين، ويبلغ معدّل خصوبة المسلمين في أوروبا (٢,١) مقابل (١,٦) لغيرهم في أوروبا، ويبلغ في آسيا (٢,٤) مقابل (١,٩) لدى غيرهم، والنسبة هي دومًا لصالح المسلمين. وحسب موسوعة ويكيبيديا: النسبة اللازمة لبقاء أيّ أمة مع المحافظة على عدد أفرادها هي (٢,٠٥) طفل لكل امرأة.

[13] تقرير بعنوان (Islam set to become world›s largest religion by ٢٠٧٥, study suggests)، الإسلام سيصبح أكبر ديانة في العالم بحلول عام ٢٠٧٥م.

[14] أخرج البخاري (٦٩٤٣) عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسّد بُردة له في ظلّ الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: (قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون).

[15] أخرجه أحمد (١٢٩٠٢).

[16] تفسير ابن كثير (٥/٣٥٣) باختصار.


د. عمر النشيواتي

طبيب، وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

X