نظرات نقدية

هل أوصى الرسول ﷺ لعلي رضي الله عنه بالخلافة يوم غدير خم؟

هل أوصى الرسول ﷺ لعلي رضي الله عنه بالخلافة يوم غدير خم؟

هذه الحادثة كغيرها من حوادث السيرة النبوية؛ وقع فيها ما يستدعي التوضيح والبيان، فوقف الرسول ﷺ واعظًا ومبينًا، وسرعان ما انتهت دون رواسب أو آثار؛ لصفاء قلوب الصحابة رضي الله عنهم، وكمال أخلاقهم. لكن أهل الأهواء والشهوات عجزوا عن إيجاد ما يرومون إليه في هذه الواقعة، فعمدوا إلى ليِّ أعناق النصوص بالتفاسير الباطلة، واختلقوا روايات أخرى؛ ليتوصلوا إلى ما اعتقدوه ابتداء. وفي هذا المقال بيان لحقيقة وقائع هذه الحادثة.

يستغلُّ أعداء الحقِّ جهلَ الناس وقلةَ بضاعتِهم في العلم بإثارة الشبهات؛ للنيل من الحق وأهله، ونشر باطلهم وتزييفهم والتلبيس على أتباعهم وخداعهم.

والرافضة مِن أكثر الناس استغلالاً لهذا الأمر؛ بإثارةِ الشبهات، واختلاقِ روايات مَكذوبةٍ لا أصلَ لها، ولَيِّ أعناق النصوص الصحيحة، وتزويرِ التاريخ؛ لخدمة أغراضِهم وعقائدِهم المنحرفة، ومِن تلك المسائل التي يثيرون حولها الشبهات: قصة (غَدِير خُمّ)؛ حيث بلغ بهم الغُلو في تعظيم ذلك اليوم أن كفَّروا به الصحابةَ رضي الله عنهم، وصيّروه عيدًا يُحتفل به، وفضّلوه على يوم عرفة، وبنَوا عليه عقائدَهم، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فزعموا أن قول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] أنزل في هذا اليوم بعد أن اكتمل الدين بإبلاغ الصحابة أن الولي والوصي والخليفة من بعد رسول الله ﷺ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه[1].

فما حقيقة حادثة يوم الغدير؟ وهل أوصى النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه بالخلافة وجحدها الصحابة؟ وهل كان الصحابة يُبغضون عليًا ويُبغضهم؟ رضي الله عنهم أجمعين.

في هذا المقال إجابة عن هذه الاستفسارات بالاعتماد على الروايات الصحيحة وروايات أهل البيت رضي الله عنهم بمن فيهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

أحداث سبقت قصة الغدير:

بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى اليمن، فأصاب غنائم فكتب إلى رسول الله ﷺ أن ابعث إلينا مَن يُخَمِّسُه، فبعث عليًا. فحدث بين علي وأصحابه أشياء منها:

  • لما أخذ عليٌّ رضي الله عنه إبل الصدقة سأله جماعةٌ أن يركبوا منها ويُريحوا إبلهم فأبى عليهم، فلما تعجَّل لإدراك الحج واستخلف عليهم سألوا الذي استخلفه ركوبَ الإبل ففعل، فلمّا علم عليٌّ رضي الله عنه لام الذي أمره، فأظهر الجيش الشكاية لما لقوه من التضييق.
  • قَسَمَ عليٌّ رضي الله عنه الغنائم على الجيش، فصار في سهمه جارية هي أفضل ما في السبي، فأنكر عليه أصحابه ذلك، فلما قدموا على النبي ﷺ ذكروا ذلك له. وكان الذين أظهروا الشكاية أربعة من الصحابة، وهم: بُريدة بنُ الحصيب، وأبو سعيد الخدري، وعمرو بن شاس الأسلمي، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم أجمعين.

أحداث يوم الغدير:

«خم» هو غدير ماء يقع بين مكة والمدينة، بالقرب من ميقات الجُحْفَة، نزل به النبي ﷺ في طريق رجوعه من حجة الوداع، وخطب خطبة تحدث فيها عن فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما شكاه عدد من الصحابة إليه.

عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله ﷺ يومًا فينا خطيبًا، بماءٍ يُدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فحَمِدَ الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: (أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسولُ ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به) فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: (وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)[2].

وعن البراء بن عازب، أنَّ رسول الله ﷺ قال: (ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟) قالوا: بلى، قال: (ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟) قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد علي، فقال: (مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه) قال: فلقيه عمر رضي الله عنه بعد ذلك، فقال له: «هنيئًا يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة»[3].

خطبة الرسول ﷺ في غدير خُم كانت لبيان فضل علي رضي الله عنه وأمانته وعدله وقُربه منه، وإزالة ما وقع في نفوس عدد من الصحابة تجاهه

سبب حادثة غدير خم:

سبق أن ذكرتُ أنه وقع بين عليّ وعدد من الصحابة رضي الله عنهم خلاف في عدد من المسائل، ظنُّوا أنَّها من الظلم والجَور عليهم، واشتكوا لرسول الله ﷺ، فلما وجد فرصة للتوضيح والبيان قام فيهم خطيبًا موضحًا لحقيقة الأمر، ومزيلاً لما علق في النفوس من بغض الخلافات.

قال ابن كثير رحمه الله: «خطب النبي ﷺ بمكانٍ بين مكة والمدينة مرجعه من حجة الوداع قريبٍ من الجحفة، يقال له: غَدِيرُ خُمٍّ. فبين فيها فضل علي بن أبي طالب، وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المَعْدَلَةِ[4] التي ظنها بعضهم جورًا وتضييقًا وبخلاً، والصواب كان معه في ذلك، ولهذا لما تفرغ عليه الصلاة والسلام من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بَيَّنَ ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة عامئذ، وكان يوم الأحد بغدير خم تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء، وذكر من فضل علي وأمانته وعدله وقربه إليه، ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه»[5].

وقال في ذلك اليوم: (من كنت وليَّهُ فعليٌّ وليُّه)[6]، وهذا من أوضح البيان أنَّ خطبة يوم الغدير كانت لبيان فضل عليّ t وأمانته وعدله وقربه منه، وإزالة ما وقع في نفوس عدد من الصحابة تجاهه.

ردود على الشبهات التي يثيرها الرافضة في هذه الحادثة:

١. متى نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾؟

يدعي الرافضة أن تعيين علي كان من تمام الدين إذ لم يتفرق الناس يوم الغدير حتى نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣].

وهذا افتراء قامت الأدلة على بطلانه؛ فالآية نزلت على النبي ﷺ وهو على ناقته يخطب الناس يوم عرفة، التاسع من شهر ذي الحجة في حجة الوداع، وهذا باتفاق علماء الأمة من المحدثين والمفسرين وأهل السير، والخبر في الصحيحين، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: «أي آية؟» قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، قال عمر: «قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة»[7].

بينما حادثة الغدير حصلت في الثامن عشر من ذي الحجة في طريق عودة النبي ﷺ من حجة الوداع.

٢. هل كتم الصحابة وصية يوم «غدير خم»؟

يزعم الرافضة أن الصحابة كتموا هذا الحديث[8]، وأنهم أخفوا هذه القصة ولم يرووها حتى لا يُقرُّوا بأحقية علي رضي الله عنه بالخلافة.

وهذا كذب، فأهل السنة رووا قصة غَدِيرِ خُمٍّ عن جمع من الصحابة الكرام بلغت حد التواتر؛ فقد روى حديث: (من كنت مولاه فإن عليًا مولاه) أكثر من ثلاثين صحابيًا، منهم: بريدة الأسلمي وعلي وزيد بن أرقم وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد الخدري وأبو الطفيل عامر بن واثلة وجابر بن عبدالله وأبو هريرة والبراء بن عازب وأبو أيوب الأنصاري، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين[9].

وأما قوله: (اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)[10] فزيادة قوية الإسناد مروية عن عدد الصحابة، قال ابن كثير: هذا إسناد جيد، ونقل عن الذهبي قوله: وهذا حديث صحيح[11].

فأين الزعم أن الصحابة كتموا هذا الأمر بغضًا في علي؟ رضي الله عنهم أجمعين.

المستقر عند أهل الحديث والسِّير أن رسول الله ﷺ لم يُوصِ لأحد بشيء في شؤون الحكم والخلافة، جاء ذلك في عددٍ من الأحاديث، وبعضُها مرويٌّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآل البيت الكرام

٣. هل أوصى النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه بالخلافة يوم الغدير؟

المستقر عند أهل الحديث والسير أن رسول الله ﷺ لم يُوصِ لأحد بشيء، نص على ذلك أصحاب رسول الله ﷺ في عدد من الأحاديث، منها:

عن طلحة بن مصرف قال: «سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصى رسول الله ﷺ؟ فقال: لا. قلت: فلم كتب على المسلمين الوصية؟ أو: فلم أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله عز وجل»[12].

وعن الأسود قال: «ذكروا عند عائشة أن عليًا كان وصيًا، فقالت: متى أوصى إليه؟»[13].

وقال العباس لعلي رضي الله عنهما: «اذهب بنا إلى رسول الله ﷺ فلنسأله فيمن هذا الأمر [أي: الخلافة]، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا»، فقال علي: «إنا والله لئن سألناها رسول الله ﷺ فمنعَناها لا يعطيناها الناس بعده[14]، وإني والله لا أسألها رسول الله ﷺ»[15].

٤. هل معنى المولى في الحديث: الحاكم والخليفة؟

استدلَّ الرافضة بحديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه)[16]، على أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة، وزعموا أن سلمان رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ولاء ماذا؟ فقال: (ولاء كولائي، من كنت أولى به من نفسه فعليٌّ أولى به من نفسه) وأنه ﷺ قال يومها: (عليٌّ أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن من بعدي)[17].

وهذه الزيادة باطلةُ لا أصل لها، والمعنى الذي ذهبوا إليه غير صحيح؛ فالمولى في اللغة يُطلق على عدة معان منها: المالك، والعبد، والمُعتِق، والمُعتَق، والصاحب، والقريب، والحليف، والنزيل، والشريك، والولي، والرب، والناصر، والمُنعِم، والمُنعَم عليه، والمحب، والتابع، والصهر… وغيرها[18].

والمراد «بالموالاة» في الحديث: ولاء الإسلام ومودته، فالموالاة ضد المعاداة، والمقصود في الحديث: أنه ينبغي على المسلمين أن يوالوا عليًا ولا يعادوه، لما سبقت الإشارة له من حصول الخلاف بينهم، وهو في معنى قول علي رضي الله عنه: «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي ﷺ إلي: أنه لا يحبُّني إلا مؤمن ولا يُبغضني إلا منافق»[19].

وهذا الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهما ينفي وصية النبي ﷺ بالإمارة لجده علي موضحًا هذه العبارة عندما سأله رجل: ألم يقل رسول الله ﷺ: (من كنت مولاه فإن عليًا مولاه) قال: «بلى، أما والله لو يعني بذلك رسولُ الله ﷺ الإمارةَ والسلطان لأفصح لهم، وما كان أحد أنصح للمسلمين من رسول الله ﷺ، لقال لهم: أيها الناس، إن هذا ولي أمركم، والقائم لكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، والله ما كان وراء هذا شيء، والله إن كان الله ورسوله اختارا عليًا لهذا الأمر والقيام للمسلمين به من بعده، ثم ترك علي رضي الله عنه ما اختار الله له ورسوله أن يقوم به حتى يعذر فيه إلى المسلمين، إن كان أحدٌ أعظم ذنبًا ولا خطية من علي رضي الله عنه إذ ترك ما اختار الله له ورسوله حتى يقوم فيه كما أمره الله ورسوله»[20].

قال أبو نعيم: والولي والمولى في كلام العرب واحد، والدليل عليه قوله تبارك وتعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ١١]، أي، لا ولي لهم، وهم عبيده وهو مولاهم، وإنما أراد لا ولي لهم. وقال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التحريم: ٤]، وقال: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة: ٢٥٧][21].

وفيما سبق من نصوص بيان فضل علي رضي الله عنه وأنه يستحق المولاة ظاهرًا وباطنًا، لكن ليس هناك فيها أنه ليس للمؤمنين مولى إلا علي رضي الله عنه.

٥. هل خص النبي ﷺ عليًا رضي الله عنه وآل البيت بشيء دون الناس؟ وهل منع الصحابةُ أهلَ البيت حقَّهم؟

زعمت الرافضة أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ أن ينصب عليًا وليًا ووصيًا من بعده لكنه خاف الناس، وأن الآية ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٦٧] نزلت عند ذلك، وأنه لما نزل عند غدير خم امتثل أمر ربه وأقام عليًا في مكان مرتفع يراه الناس، وأبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد. ثم أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجًا فوجًا فيهنئوه، ويسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلهم. عندها نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، وأنَّ النضر بن الحارث بن كَلدة (وقيل النعمان بن الحارث الفهري) اعترض وقال: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢] فرماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله وأنزل الله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١][22].

وهذا ادِّعاءٌ باطلٌ من وجوه:

  1. آية البلاغ آية مكية تضمَّنت الأمر بتبليغ الدعوة مع ضمان العصمة له من الناس[23].
  2. وآية إكمال الدين نزلت في التاسع من ذي الحجة يوم عرفة كما سبق بيانه.
  3. وأما آية ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١] فمكية أيضًا، وسبب نزولها ما رواه ابن عباس t: «النضر بن الحارث بن كَلدة»[24].
  4. وقد أمر النبي ﷺ بقتل الحارث يوم بدر وكان في الأسرى[25].
  5. وأما ادِّعاء الاختصاص بالخلافة بعد النبي ﷺ فإن خير من يجيب عنه هو صاحب الشأن علي رضي الله عنه وفي ذلك عدد من الروايات، منها:
    • سئل علي رضي الله عنه: أخَصَّكُم رسولُ الله ﷺ بشيء؟ فقال: «ما خصَّنا رسول الله ﷺ بشيء لم يعمَّ به الناس كافة»[26].
    • وفي رواية: «من زعم أن عندنا شيئًا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة -قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه- فقد كذب، فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات»[27]. قال النووي: «فيه إبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة والإمامية من الوصية إلى علي وغير ذلك من اختراعاتهم»[28].
    • عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل: «إن رسول الله ﷺ لم يعهد إلينا عهدًا نأخذ به في إمارة، ولكنه شيء رأيناه من قبل أنفسنا، ثم استُخلف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر، فأقام واستقام، ثم استُخلف عمر رحمة الله على عمر، فأقام واستقام، حتى ضرب الدّين بجِرانه»[29].

وفي هذه الروايات تصريح بأنَّ النبي ﷺ لم يعهد لعلي وآل بيته بشيء من الخلافة ولم يوص لأحد منهم، لا لعلي ولا لغيره. وهذا دليل واضح على أن دعوى النص عليه رضي الله عنه إنما هي من اختلاق الرافضة.

٦. هل كان الصحابة يبغضون عليًا ويبغضهم؟

زعم الروافض أنَّ عليًا لم يزل متظلمًا متألمًا من قريش منذ قبض الرسول ﷺ إلى أن توفاه الله. وأنه كان يقول: اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم! فإنهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمرًا هو لي. ثم قالوا: ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه[30].

وهذا واضح البطلان؛ فمما لا شكَّ فيه أن الصحابة كانوا من أنقى وأطهر الناس قلوبًا لا يحملون غِلاً على أحد من المؤمنين، وأنهم كانوا يحبُّون آل بيت النبي ووصيته من بعده، امتثالاً لأمر رسول الله ﷺ: (وأهلُ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)[31]. وكان آل البيت يبادلونهم هذا الحب وينافحون عنهم.

قيل لأنس بن مالك رضي الله عنه: إنهم يزعمون أن حب علي وعثمان رضي الله عنهما لا يجتمعان في قلب أحد، قال: «فقد كذبوا، والله! لقد اجتمع حبهما في قلوبنا»[32].

ومن الأمارات الكبيرة الظاهرة في تلك العلاقة الطيبة المتينة بين الصحابة وآل البيت:

  1. ثناء آل البيت على الشيخين أبي بكر وعمر والصحابة، وثناء الصحابة على آل البيت.
  2. رواية آل البيت في فضائل الصحابة، ورواية الصحابة في فضائل آل البيت.
  3. كتب السنة التي روت فضائل آل البيت عامة ومناقب علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وبيان أن حبهم من الإيمان.
  4. التسمِّي بأسمائهم والتكني بكُناهم، لأن المبغِض لا يتسمّى باسم من يُبغضه.
  5. المصاهرات الكثيرة بين آل البيت والصحابة من آل أبي بكر وعمر وغيرهم، في أجيال متعاقبة.

وهم مع ذلك بشر كغيرهم يتلاحَون ويختلفون ويُذنبون، ويقع بينهم سوء الفهم أو نزغ الشيطان، ولذلك أمثلة كثيرة، كما وقع بين أبي بكر وعمر، وبلال وأبي ذر، وسيدَي الأوس والخزرج، وغيرهم، لكنهم أسرع الناس رجوعًا عن الخطأ، وأسمح الخلق خُلقًا بعد الأنبياء، ولا يجاوزون أمر الله ورسوله، وكما مرَّ في روايات يوم الغدير يأمرهم النبي ﷺ بحبِّ علي رضي الله عنه فيأتمرون ويمتثلون في سرِّهم وعلانيتهم ويكون هذا آخر عهدهم بالخلاف معه.

٧. متى أصبح يوم الغدير عيدًا عند الرافضة؟

لم يُعرف اتخاذ يوم الغدير عيدًا في زمن النبي ﷺ ولا في زمن أصحابه ولا من بعدهم كالتابعين وتابعيهم في القرون المفضلة، وأول من أحدثه معز الدولة بن بويه[33] في العام (٣٥٢) للهجرة، حيث أمر بإظهار الزينة في البلد، وأشعلت النيران، وأظهر الفرح، وفتحت الأسواق بالليل، كما يُفعل ليالي الأعياد[34].

الخاتمة:

تبين لنا بعد هذه الجولة في قصة الغدير أنها ثابتة صحيحة مروية في صحاح كتب أهل السنة، وأن جميع الروايات الواردة في قصة غدير خم تتعلق بفضل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأمانته وعدله وصواب رأيه وقربه من النبي ﷺ لنزع ما حصل في نفوس بعض الصحابة مما ظنّوه تعسّفًا في الأمر، أو جَورًا في قسمة الغنائم.

ولا توجد أي دلالة في روايات حديث الغدير على الوصية لعلي رضي الله عنه بالخلافة مطلقًا، بل جميع النصوص الصحيحة الواردة عن الصحابة وآل البيت تنفي دعوى النص على الولاية، وتثبت بطلانها، وفيها روايات يُصرِّح فيها عليٌّ رضي الله عنه بأنَّ النبي ﷺ لم يعهد لهم بشيء من الإمامة أو الخلافة، وهذا الأمر مما لم يسمعه أحد من أهل العلم من حديث رسول الله ﷺ بل أجمعوا على بطلانه.


[1] ينظر: مجمع البيان، للطبرسي (٣/٣١٣-٣١٤) والأمالي، للمفيد (١٧٤) والأمالي، للطوسي (١/١٩٤) وبحار الأنوار، للمجلسي (٣٤/١٣٥).

[2] أخرجه مسلم (٢٤٠٨).

[3] أخرجه أحمد (١٨٤٧٩).

[4] المعدلة: الحكم العدل الذي حكم به علي على من معه.

[5] البداية والنهاية، لابن كثير (٧/٦٦٦)، وينظر: الاعتقاد للبيهقي، ص (٣٥٤).

[6] أخرجه أحمد (٢٢٩٦١) والنسائي في السنن الكبرى (٨٠٨٨).

[7] أخرجه البخاري (٤٥) ومسلم (٣٠١٧).

[8] ينظر: بحار الأنوار، للمجلسي (٢٢/٣٣٣) و(٣٣/١٥١) والكافي، للكليني (٨/٢٤٥).

[9] نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للكتاني (٢٣٢).

[10] أخرجه أحمد (١٨٤٧٩) عن أبي هريرة، و(٩٦١) عن علي، و(٩٦٢) عن البراء، و(١٩٢٧٩). والنسائي في السنن الكبرى (٨٤١٠) عن زيد بن أرقم، و(١٩٣٠٢) والنسائي في السنن الكبرى (٨٠٩٢) عن أبي الطفيل.

[11] ينظر: البداية والنهاية (٧/٦٦٨)، و(٧/٦٧١) و(٧/٦٧٦).

[12] أخرجه البخاري (٢٧٤٠) ومسلم (١٦٣٤).

[13] أخرجه مسلم (١٦٣٦).

[14] لا يعطيناها الناس: أي: الخلافة ويحتجون بمنع رسول الله r إياهم.

[15] أخرجه البخاري (٤٤٤٧).

[16] حديث صحيح سبق تخريجه.

[17] ينظر: بحار الأنوار، للمجلسي (١٧/٣٠٣) وتفسير نور الثقلين (٣/١٩٢) بلا سند صحيح.

[18] ينظر: القاموس المحيط (١٣٤٤).

[19] أخرجه مسلم (٧٨).

[20] السنة للخلال (٢/٣٥٠) رقم (٤٦٥)، والاعتقاد للبيهقي (٣٥٥) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي (٨/١٤٥١) رقم (٢٨٠٣).

[21] كتاب الإمامة والرد على الرافضة للأصبهاني (٢١٨).

[22] ينظر: مجمع البيان، للطبرسي (10/530) الغدير، للشيخ الأميني (1/240) الإرشاد، للمفيد (1/166-176) ومنتهى الآمال، للقمي (1/268) بلا سند صحيح.

[23] ينظر: الأحاديث المختارة، للضياء المقدسي (٢)، وجامع البيان، للطبري (١٠/٤٦٧)، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (٦/٢٤٢)، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير (٣/١٥٠).

[24] أخرجه النسائي في الكبرى (١١٥٥٦)، وابن أبي حاتم في تفسيره (٩٠١٣).

[25] السيرة النبوية، لابن هشام (١/٦٤٤) والبداية والنهاية، لابن كثير (٥/١٨٨).

[26] أخرجه مسلم (١٩٧٨).

[27] أخرجه مسلم (١٣٧٠).

[28] شرح النووي على مسلم (١٣/١٤١-١٤٢).

[29] أخرجه أحمد (٩٢١) والبيهقي في الدلائل (٧/٢٢٣) وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (١/٨٣٤): إسناده حسن، ومعنى الجِرانُ: باطن العُنُق، وقيل: مُقدَّم العنق، والمعنى: حتى ثبتَ الدينُ واستقرَّ.

[30] ينظر: نهج البلاغة (٢٤٦) وبحار الأنوار (٢٨/٣٧٢-٣٧٣) بلا سند صحيح.

[31] أخرجه مسلم (٢٤٠٨).

[32] إسناده صحيح: أخرجه الدينوري في المجالسة وجواهر العلم (٢٩٢٩)، وابن الأعرابي في معجمه (٩٥).

[33] البويهيون: أسرة رافضية، أسست دولة في أجزاء من العراق وإيران في أيام ضعف الخلافة العباسية، وكان بداية قيام دولتهم بدخول معز الدولة أحمد بن الحسن بغداد سنة (٣٣٤هـ) فلما دخلها قبض على الخليفة المستكفي وسمل عينيه وعين المطيع لله بدلاً منه، وضعف أمر الخلافة جدًا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير، وبقيت دولتهم إلى أن سقطت على أيدي السلاجقة سنة (٤٤٧هـ). وكان للرافضة في عهدهم صولة وقوة. ينظر: البداية والنهاية (١١/٣٥) و(١١/٥٧٧) و(١٥/٦٩-٧١).

[34] ينظر: الكامل في التاريخ (٧/٢٤٥)، وتاريخ الإسلام (٢٦/١٢) والبداية والنهاية (١٥/٢٦١).


أ. عبد الناصر حسن صويص

دبلوم دراسات إسلامية، خطيب وداعية.

لتحميل المقال اضغط [هنا]

X