دعوة

من مآلات التفرق والتنازع: الفشل وذهاب الريح

إذا كان ثمة خطر محدق يهدد وحدة الأمة المسلمة فهو خطر التفرق والتنازع؛ لأنه إذا فشت أوبئته فإنّ الثمن ستدفعه الأمة مِن رصيد قوتها وتماسكها وبقائها، كما أنه يهدّد سجل نجاحاتها بالإخفاق والضُّمور المرحلي

سنقتصر في هذا المقال على دراسة أحدِ أهمِّ مآلات التفرُّق والتنازُع، وذلك في ضوء الإطار الذي حدَّدته الآيات الواردة لمعالجة هذا الشأن في سورتي آل عمران والأنفال[1]، والذي يتمحور حول (الفشل وذهاب الريح):

لقد رسَم القرآن الكريم عوامل النصر، واختطَّ طريق الظَّفَر للفئة المؤمنة في معركتها مع الباطل، كما حذَّرها من أسباب الهزيمة، ونتائجها الوخيمة، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ٤٥ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٥- ٤٦].

إنَّ إدراكَنا لتلك الحقيقة الشرعية الثابتة حول التنازع؛ وأن مآل أمره يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح، يجعلنا نقفُ مليًا عند محطاتٍ تاريخية مفصلية؛ لنستلهم منها الدروس والعبر؛ حيث يحكي لنا ابن كثير حال خصوم الإسلام واقتناصهم فُرص تفرُّق المسلمين لمحاولة الانقضاض عليهم، وكأنه يتحدث عن واقعنا المؤلم فيقول:

«ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة: فيها‏ ثارت الروم واستجاشوا على مَن بالشام، واستضعفوهم لما يرون من الاختلاف الواقع بين بني مروان وابن الزبير»[2].

ولو قلّبنا صفحات التاريخ وتأملنا المرحلة التي أعقبت سقوط الخلافة العباسية، وأجرينا مقارنة بينها وبين أوضاع الساحة الإسلامية المعاصرة؛ لوجدنا أنَّ ثمةَ تشابهًا نسبيًّا مِن حيث خصائص المرحلتين في جوانب التنازع والاختلاف، وقد دوّن مَنْ كتبَ عن أحداث هذه المرحلة الحرجة من حياة الأمة أنَّ: «بلاد الشرق: من أسباب تسليط الله التتر عليها، كثرةُ التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها»[3].

وليس بالضرورة أن يكون التشابُه مُختزلًا في قدر الضعف والهوان والتسلط؛ وإنَّما في الكيفية ومن ثمّ في النتائج المشتركة، والتي عادة ما تكون ذات تكاليف باهظة الثمن، وقد تقرر أنّ التاريخ يعيد نفسه ولكن بصورٍ مُتعددة.

وقد شخّص شيخ الإسلام ابن تيمية الأسبابَ والنتائجَ لحالة الاختلاف والتنازع الحاصل في الأمة، فقال: «وهذا التفريق الذي حصل مِن الأمة -عُلمائها ومشايخها وأُمرائها وكُبرائها- هو الذي أوجب تسلّطَ الأعداء عليها، وذلك بتركهم العملَ بطاعة الله ورسوله، كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾ [المائدة: ١٤].

فمتى ترك الناسُ بعضَ ما أمرَهم الله به وقعتْ بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرَّق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإنّ الجماعة رحمةٌ، والفرقة عذاب»[4].

إن تفرق النجب وتنازعها؛ يفتح الباب على مصراعيه لتسلط الأعداء وتمكنهم من الأمة، والاستيلاء على مفاصل حراكها بوجهٍ عام، وبقدر تنازُع هذه النخب واختلافها يكون تسلط الأعداء والخصوم.

وإنّ التنازع المرير، وحالة التشرذم التي تشهدها الساحة الإسلامية، تجعلنا نقف مليًّا لنتأمل الفوضى الثقافية والفكرية، والتي تُنبئ عن حالةٍ من الضعف والتشرذم، نتيجة انحراف البوصلة الثقافية كنتيجةٍ حتمية لأخطاء إحداثياتها العلمية والعملية.

وفي لفتةٍ ذات مدلولات تربوية جديرة بالتأمل يقول ابن عاشور رحمه الله: «وإنَّما كان التناُزع مُفضيًا إلى الفشل؛ لأنَّه يثير التغاضُب، ويُزيل التعاون بين القوم، ويُحدث فيهم أن يتربَّص بعضُهم ببعضٍ الدوائر، فَيَحْدُثُ في نفوسهم الاشتغال باتِّقاء بعضهم بعضًا، وتوقُّع عدم إِلْفَاءِ النصير عند مآزق القتال، فَيَصْرِفُ الأمة عن التوجه إلى شغل واحد فيما فيه نفع جميعهم، ويصرف الجيش عن الإقدام على أعدائهم، فيتمكن منهم العدو»[5].

إن من طليعة خطوات الاتجاه الصحيح لبناء وحدة الصف المسلم، وتجنيب الأمة ويلات التسلط والهزيمة، هو إيجاد وتهيئة أجواء من القبول النفسي للنقد الذاتي البناء لدى طلبة العلم والدعاة، لتدارس أسباب ومآلات التفرق والاختلاف ومن ثمَّ تجنبها وتفعيل فقه الوفاق

إن التلازم الحقيقي بين ذهاب الريح وتسلط الأعداء؛ يوضحه ما ورد في حديث ثوبان رضي الله عنه من تداعي الأمم؛ ونزع هيبة المسلمين من صدور أعدائهم، فمتى ازدادت الحالة الغثائية لدى الأمة؛ ازدادت نسبةُ التسلُّط والتداعي عليها؛ فقد أخرج أبو داوود في سننه من حديث ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: (يُوشِك الأمم أن تَداعى عليكم، كما تَداعى الأَكَلَةُ إلى قصْعَتها. فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنَّكم غُثاء كغثاء السَّيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوَهَن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا، وكراهية الموت)[6].

وهذا لا يتأتّى إلا مِن خلال النظرة الواقعية للأحداث التاريخية التي تشابه وتحاكي واقعنا المعاصر في جوانب الضعف والهوان، وتشخيص الداء، دون تبريرٍ للأخطاء، أو اتهامٍ للآخرين، عبر رؤية تتسم بالشفافية والوضوح.

إن النصر لا يتأتى إلا عبر قنطرة الوحدة الصادقة، والائتلاف الصحيح، وليس عبر مبادرات شكلية، وكيانات جبهوية اجتمعت فيها الأجساد، وافترقت القلوب، وليس لها مِن رصيد الوحدة سوى البيانات تلو البيانات

إننا مطالبون بأن نبدأ بالإصلاح مِن الداخل، وهو الإصلاح المنهجي الصحيح الذي اختطّه القرآن الكريم منهجًا واضح المعالم، صريح العبارة، قوي اللهجة، في تقريرٍ لمنهجية النقد الذاتي البنّاء للمؤمنين الصادقين وهم يتساءلون عن مصابهم الجلل في غزوة أحد حيث قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا﴾ [آل عمران: ١٦٥]، فيأتي الردُّ الصريح دون مواربة أو مجاملة ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٥].

قال مجاهد: «وذهبت ريحُ أصحابِ محمدٍ حين نازعوهُ يوم أحد»[7].

وفي غزوة حنين قال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥].

إنَّها التربية بالأحداث والتي ربَّى القرآن الكريم الرعيل الأول عليها، ليسير على خطاها المؤمنون الصادقون، والمربون المخلصون، لاستلهام تجارب الأمة ومعرفة أسباب هزيمتها أمام الأعداء.

والتي ما إن يجفَّ حبرُها حتى تعودَ الصراعات مرة أخرى، وعندما نخسر المعركة نرمي بفشلنا وذهاب ريحنا على المؤامرات الخارجية فقط، ونتناسى النقد الذاتي والأسباب الحقيقية لخسارة المعركة.

وتأمل أخي الكريم كيف عالج النبيُّ ﷺ إحدى القضايا الخلافية العلمية، وذلك من خلال اتِّباع أسلوب التوجيه المباشر، والتنبيه بأخذ العِبرة ممن قبلنا، فعن ابن مسعود t قال: سمعتُ رجلًا قرأ آية، وسمعت النبي ﷺ يقرأُ خلافها، فجئتُ به النبيَّ ﷺ فأخبرتُه، فعرفتُ في وجهه الكراهية، وقال: (كِلاكُما مُحسن، ولا تختلفوا؛ فإنَّ من كانَ قبلَكم اختلفوا فَهَلكُوا)[8].

إنَّ تجاربَ العمل المؤسَّسي ذي الأطياف المتعددة تُؤكِّد وتُرسِّخ أنّ رصّ الصفوف ووحدة الكلمة إنَّما يبدأ حراكَه العملي مِن طلبة العلم والدعاة، كما أنّ سبيل التفرق والاختلاف يبدأ مِن الكلمة واللسان، ومِن ثمّ إلى السِّنان!

وهذا بدوره يجعل المسؤولية المنوطة بطلبة العلم والدعاة في جمع الكلمة ووحدة الصف في موقع محوري بارز، فهم القدوات العملية للأمة، وقد شرّفهم الله تعالى بحمل همّ هذا الدين، وأناط بهم مسؤولية الدعوة إلى الله تعالى، وإنّ واجبهم الديني والأخلاقي يُحتّم عليهم أن يكونوا مصلحين بين أطياف المجتمع، موحدين لشتاته، مقربين لوجهات النظر فيه، كما أنّ مِن واجباتهم الدعوية أن يسعوا إلى تسكين الثائرة، وألا يكونوا طرفًا سلبيًا في الخلافات الدعوية، ولا وقودًا في إذكاء نارها، أو طرفًا في النقاشات الجدلية التي تَشغلهم عن دورهم الذي تنتظره الأمة منهم.

فرُبّ كلمةٍ أو تغريدةٍ صَدَق قائلها مع الله؛ فصدقه الله، فجمع الله به الصفوف، وألفّ به بين القلوب، وكم من كلمة أو تغريدةٍ قالت لصاحبها: دعني دعني!

وكما أوصى علي بن أبي طالب فقال: «الاختلاف حالِقَةُ الدين، وفَسَادُ ذات الْبَيْنِ، وإياكم والخصُوماتِ؛ فإنها تحبط الأعمال، والاختلاف يدعو إلى الفتنة؛ والفتنة تدعو إلى النار ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦]»[9].


أ. عاصم الحايك

باحث شرعي.


[1] أعني بذلك المواضع الثلاث التي تحدثت عن الفشل وذهاب الريح في سورتي آل عمران والأنفال، وهي قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْر﴾ [آل عمران: ١٥٢]، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [الأنفال: ٤٣]، وقوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦]. ومعنى قوله تعالى: ﴿فتفشلوا﴾ أي: فتضعفوا وتجبنوا ، ومعنى قوله تعالى: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ أي: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل. وللاستزادة ينظر: تفسير الطبري (١٣/٥٧٥).

[2] البداية والنهاية، لابن كثير (٨/٣١٣).

[3] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٢٢/٢٥٤).

[4] المرجع السابق (٣/٤٢١).

[5] التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (١٠/ ٣١).

[6] أخرجه أبو داود (٤٢٩٧).

[7] الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (٨ /٢٥).

[8] أخرجه البخاري (٣٤٧٦).

[9] أخرجه الهروي في ذم الكلام وأهله (٤/ ٢٤٧، برقم ٧١٠).

X