تحقيق الاجتماع والائتلاف، والحذر مِن التّفرق والاختلاف من المحكمات التي جاءت بها النصوص الشرعية، بل لا يتحقق التمكين لأي أمة من الأمم إلا بوحدة الصف واجتماع الكلمة، ولتحقيق هذه الوحدة لابد من التربية المنهجية العلمية الصحيحة على أسس وأصول صحيحة، وعبر مسارات سليمة.
إنّ مِن أعظم المقاصد الشّرعية التي جاءت محكماتُ الوحيين والنّصوصُ الصّريحة ببيانها؛ تحقيق الاجتماع والائتلاف، والحذر مِن التّفرق والاختلاف، ولذلك وردت النّصوصُ الشّرعية مِن الكتاب والسّنّة داعيةً إلى الوحدة والاعتصام، ومحذرةً مِن التّنازع والشقاق، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].
وإنّ مِن لوازم نجاح مسيرة الهيئات والكيانات العلمية والسياسية أنْ تسير ضمن إطارٍ واضح المعالم؛ لتتمكن مِن تحقيق الأهداف والرؤى والسياسات التي رسمتها لنفسها، ولعل مِن أبجديات ديمومة التكتلات والهيئات ذات الرؤية الجماعية في مسيرتها ونهضتها؛ الحفاظ على مكونها العام مِن التفرق والتشرذم، ووحدة المرجعية العلمية والإدارية، وهذا بطبيعة الحال لا يتأتّى إلا بتضافر جهود العاملين لضمان وحدة الصفّ، وجمع الكلمة.
ولتحقيق وحدة الصف المسلم والحفاظ على كيانه مِن التنازع والتفرق لا بدَّ من التربية الجادة على ثقافة الوحدة الإسلامية ومفاهيم اجتماع الكلمة، وإدراك الأصول الواحدة والمشتركات الفكرية، وكيفية إبرازها وتعزيزها، وطرق استثمارها إيجابياً، ضمن أُطرٍ علمية وثقافية، والمناداة بذلك في المحافل الإسلامية والمؤسسات الشرعية والمحاضن التربوية؛ لأنّ بناء الوحدة الإسلامية والأخوّة الإيمانية على أسس شرعية ثابتة المعالم ضمانٌ لديمومتها، وحمايةٌ لها مِن التصدع والانهيار، ولعلّ مِن أهم وأجّل هذه الأسس الشرعية ما ذكره الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
فأساسُ هذه الوحدة هو القدرة على إيجاد المنهجية العلمية الصحيحة؛ والتي تتخذ مِن صراط الله المستقيم طريقاً تستنير به في دربها، يحمل رايتها علماءُ ربانيون يقومون بتربية الأجيال الناشئة والمسلمة على مفهوم (الأمة الواحدة) ضمن إطاره القرآني الواضح {وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52].
إنّ التربية الجادة على مفهوم (الأمة الواحدة) إنما يتأتّى عبر مساراتٍ منهجيةٍ، أهمُها:
المسار الأول:
تأصيل وتطبيق مفهوم الاعتصام بحبل الله تعالى والتمسك به، إذ هو المحور الأساس والمرتكز الرئيس في عملية تحقيق وحدة الصف؛ لأنه «سبب اتفاق الكلمة وانْتِظامِ الشَّتاتِ الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة مِن الاختلاف»[1].
والاعتصام بحبل الله تعالى حقيقة شرعية ثابتة، والعمل به يتطلب التكامل والتلازم التام بين أعمال القلوب: مِن محبة الله تعالى، وتحقيق الخوف منه، وموالاة عباده المؤمنين، والتجرد من الهوى. وبين أعمال الجوارح: من حفظ اللسان، وكف الأذى، وصون دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
فهذه الأعمال القلبية الباطنة لا بد وأن تنعكس إيجابياً على أعمال الجوارح الظاهرة، من خلال الممارسات العملية، وذلك في ارتباط جليّ، وتلازم واضح بين أعمال الباطن والظاهر؛ لأنّ منهج الاعتصام بالكتاب والسنة ليس مجردَ كلمات تُقال باللسان، ولا ديباجةً توضع في طليعة البيانات، إنما هو منهجٌ شرعي متكامل يجب أن يهيمن على ميادين الحياة العلمية والعملية مِن خلال الممارسات الفعلية، لا أن يُتخذ -مصطلحاً شرعياً[2]– لتقويض الوحدة الإسلامية من خلال الانشقاقات والتحالفات المشبوهة؛ إذ إنّ حقيقة الاعتصام بوحي الله تعالى: «هو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم وكشوفاتهم ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو منسلٌّ مِن هذا الاعتصام، فالدينُ كلُّه في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً واستعانةً، ومتابعةً، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة»[3].
وثمرة الاعتصام بحبل الله واضحةُ المعالم، فمَن صدَق في اعتصامه بحبل الله تعالى، وآثرَ وحدة الصف وجمع الكلم على هوىً متّبَع، وشحٍّ أخلاقي مطاع، فسيظهر أثر ذلك جلياً في طريقة استقامته وهديه وهدايته وسمته، وهذه هي الثمرة اليانعة مِن الاعتصام الصحيح كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [آل عمران: 101].
المسار الثاني:
التربية على تعظيم نصوص الوحيين، وجعل شريعة الله حاكمةً في جميع مسارات الحياة، امتثالاً لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً} [الأحزاب: 36].
وهذان المساران لهما دلالاتهما المنهجية والتربوية البيّنة، والتي يجدر بالمربين العناية بهما؛ ليمثّل ذلك صمام الأمان في الحفاظ على وجهة البوصلة بثباتٍ دائمٍ ومستقر نحو الأمة الواحدة، وليس باتجاه الأُطر الضيقة.
المسار الثالث:
وحدة المرجعية العلمية والدعوية، وهذا يكون عبر السير في خطّين متوازيين:
الأول: تكوين مؤسسات علمية ودعوية تتبنى المنهج الإسلامي المعتدل، لتطبيق مفهوم العمل الجماعي في الحياة الدعوية والعلمية، وتشمل الأطياف والمكونات ذات التوجه الإسلامي، إمْعاناً منها في اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والانضواء تحت عملٍ مؤسسي واضح الهيكلة والمعالم، يمثل مصفوفة واحدة.
الثاني: التفاف الأمة حول العلماء الربانيين، وتربية الأجيال على إجلالهم، ومعرفة قدرهم، ورفع مكانتهم، وإنزالهم منزلتهم التي جعلها الله لهم، لتفويت الفرصة على أهل الشِّقاق والنفاق، والمتربصين بالأمة مِن الغلاة وغيرهم، والذين ما برحوا يشككون في القيادات العلمية والقدوات التربوية لمحاولة إسقاطها.
المسار الرابع:
التربية العلمية، والتنشئة العملية على تأصيل الانتماء لتيار أهل السنة والجماعة، بمفهومه العام الذي ورد عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُـوهٌ} [آل عمران: 106]، «فأمَّا الذين ابيضت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأولو العلم، وأمَّا الذين اسودت وجوههم، فأهل البدع والضلالة»[4].
«وجاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجّةً فيما بيني وبين الله عزَّ وجلَّ، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: مَنْ أهلُ السنة؟ قال: أهلُ السُّنّة الذين ليس لهم لقب يُعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي»[5].
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: «وقد سئل بعضُ الأئمة عن السنة؟ فقال: ما لا اسم له سوى السنَّة. يعني: أنّ أهلَ السنة ليس لهم اسم يُنسبون إليه سواها»[6].
ولعلّ التركيز على هذه النُّقولات العلمية، وإبراز الأقوال المعتبرة فيها مهمٌّ لتحقيق غرض التأصيل العلمي في بيان المراد مِن مصطلح (أهل السنة) في هذا المقام تحديداً، لينتفي عنه تحريفُ الغالين، وانتحال المبطلين، وأن تستكمل هذه الأطروحات طريقها في الواقع الدعوي، لتُرفع راية الوحدة الإسلامية، وتُترجم إلى واقع ملموس في الحياة العملية والعلمية، فتُستبدل لغة التراشق بلغة الحوار، ولغة التخوين بلغة الإعذار، وتُرفع رايات العدل والإنصاف بدلاً مِن رايات التعصب والتحزُّب، وهذا أملُ كلِّ مسلم مخلص.
وممّا يشدُّ من عضد الأمة المسلمة تأصيلُ مفهوم الانتماء لمنهج أهــل السنة والجماعة، وتفعيل معالمه، وإدراك أبنائها ووعيهم أنهم (المكوّن الديني والسياسي) الذي يكيد أعداؤه له المكائد، ويتربّصون به الدّوائر؛ في محاولة منهم لتفريق هذا الكيان عبر بثّ السموم الفكرية والشُبه العقدية، والقيام بالعمليات العسكرية، واتباع طريقة التهجير القسري والتغيير الديموغرافي، ودعم خصوم هذا الكيان مِن الباطنية والغلاة والمنافقين.
إنّ أهل السنة والجماعة (وهم أصحاب المنهج الحق الذي يمثّل روح الإسلام وجوهره النقي) هم مَن سيرسمُ بإذن الله تعالى ملامح الوحدة الإسلامية في طريقها الطويل الشاق، وهم أملُ الأمة المشرق في إعادتها إلى صراط الله المستقيم.
[1] الجامع لأحكام القران، للقرطبي، (4/105).
[2] وهذا مسلك خطير؛ إذ فيه استهانة جلية بشعائر الله تعالى وآياته.
[3] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم، (3/323).
[4] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، (1/72).
[5] أخرجه ابن عبد البر في الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص (72).
[6] مدارج السالكين، (3/176).