العدوى لا تسري في الأمراض فحسب، بل تسري في الأذواق والأخلاق والعادات، وتتجاوز ذلك إلى الأفكار والعقائد، وذلك عائد إلى طبيعة التقليد التي جبل عليها البشر، فيحاكي بعضُهم بعضًا بغير وعي، وخطورة ذلك أن الخطأ والانحراف قد يسري في الناس فتتوارثه الأجيال، حتى يصبح كالسلسلة المتتابعة، تستمر بلا توقف ما لم تكسرها يد الإصلاح بالتربية والوعي والعلم
الإنسان بين التعلم والمحاكاة:
الإنسان اجتماعي بطبعه، يأنس بأبناء جنسه، ويخالطهم ويتعاون معهم، ويشكِّلون باجتماعهم كياناتٍ مُتفاوتة في العدد، بدءًا بالأسرة الصغيرة، وانتهاءً بالمجتمعات والدول والأمم.
وللإنسان في نشاطه الدؤوب صفاتٌ معلومة، من أهمِّها: التعلُّم والمحاكاة، وهاتان الصفتان تمنحان الإنسان القدرة على تشكيل واقعه وطريقة حياته؛ فالتعليم يضيف للمتعلِّم معلوماتٍ جديدة، ويجيب عن تساؤلاته، ويبني تصوراته وعقيدته، ويطوِّر أساليب تفكيره، وينقله نقلاتٍ كبيرةً في مختلف أنشطة الحياة، فيصبح أقدر على القيادة ونقل المعرفة والكسب والابتكار، وحل المشكلات ومواجهة المخاوف، والمحاكاة تصنع التماثل والتشابه الذي يُشكِّل المجتمعات والتجمعات، فيتشابه سكان قرية أو مدينة أو أبناء قبيلة أو دولة في أعرافهم وعاداتهم، وملابسهم ومطاعمهم ومشاربهم ولغاتهم، وأساليب تخاطبهم، وأنماط حياتهم وأشكال بنائهم.
فضل العلم على مجرد التقليد:
وللتعلُّم مزية ظاهرةٌ على المحاكاة والتقليد؛ وهي تهيئة الإنسان للخروج عن المألوف المتوارث من خلال كشف ما فيه من خطأ ومخالفةٍ للقواعد والقوانين والشرائع، بينما تبقيه المحاكاة في محيط ما اعتاد عليه وتلقاه من غيره متقوقعًا منغلقًا عن النقد والتصحيح. وهذا مشهودٌ معلوم، ودلَّت عليه الأدلة الكثيرة المتضافرة، من أظهرها أنَّ العلم رافق خَلقَ الإنسان، فالله سبحانه وتعالى ﴿عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١]، وهذا عِلمٌ عظيم، رفع مكانته عاليًا، ولعلَّ ورود قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البقرة: ٣٤] بعد ذكر تعليمه لآدم، فيه إشارة لعلوِّ مكانة العلم، قال صاحب التحرير والتنوير: «فإنَّ أمْرَهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيَّته عليهم؛ إذ عَلِم ما لم يعلموه»[1].
وكان الله يبعث الأنبياء لأقوامهم كلَّما ابتعدوا عن التوحيد، وساد فيهم الجهل، ليعلموهم ويقيموا عليهم الحجة ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥]، بينما كان موقف أقوامهم المتكرر والمعتاد هو التمسك بما جرت عليه عادتهم وعادة آبائهم، ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣] فكان موقف الأنبياء هو موقف التعليم، وكان موقف معانديهم هو التقليد الأعمى.
وهذا ليس ذمًا مطلقًا للتقليد، بقدر ما هو تفضيلٌ بين الصِّفَتين؛ فمن التقليد ما ليس فيه بأس، فيما كان في الحاجات اليومية والصنائع وسائر المباحات؛ «فعملية الاقتداء ليست حالة طارئة قد تحصل وقد لا تحصل، ولكنها كما تقدم غريزة موجودة في نفس كل إنسان»[2]. ومنه ما ليس منه بُد؛ كتقليد العلماء لغير العالم، ومن لا يملك أهلية التعلُّم، أو لا يتفرَّغ له، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٧]، قال القرطبي: «لم يختلف العلماء أنَّ العامةَ عليها تقليدُ علمائها»[3].
للتعلُّم مزية ظاهرةٌ على المحاكاة والتقليد؛ وهي تهيئة الإنسان للخروج عن المألوف من خلال كشف ما فيه من خطأ ومخالفةٍ للقواعد والقوانين والشرائع، بينما تبقيه المحاكاة في محيط ما اعتاد عليه وتلقَّاه من غيره متقوقعًا منغلقًا عن النقد والتصحيح
كيف تحصل المحاكاة؟
صفة المحاكاة والاقتداء التي جُبل عليها البشر وكانت جزءًا من تكوينهم، لها تأثير عجيب في تشكيل سلوك الناس، وهي تنشأ عادةً بسبب الصعوبة التي ترافق التعلُّم وتحصيل المعرفة، فيحصل نوع من الاسترخاء والاطمئنان إلى محاكاة الآخرين، وعدم التمايز عنهم.
والتقليد يحصل غالبًا بلا وعي، فيكبُر المرء في قومه على عادةٍ من العادات فلا يسأل عنها أحقٌّ هي أم باطل، كما نرى اليوم في اتِّباع كثير من الناس لأنماط معينة من اللباس وقصات الشعر وأساليب الكلام، ولو سألت أحدهم عن سبب فعله ذلك، لأجاب بأنَّ الناس يفعلونه، وربما أجاب بأنَّ هذا هو الدارج في الموضة… وهكذا، وهذا القدر من التقليد في دائرة المباحات مقبول عمومًا، وهو يصنع الملامح التي تميز فئةً من الناس عن غيرها.
خطورة المحاكاة والتقليد دون وعي:
تكمن الخطورة في انتقال المحاكاة والتقليد إلى العقائد والسلوكيات المؤثِّرة على المجتمع وعلى الآخرين دون وعي أو تمحيص؛ إذ لا يجوز للشخص أن يكتفي بما هو منتشر في المجتمع مما يخالف العقيدة والشريعة، بل عليه أن يبحث عن الحقيقة، ويسأل عنها، ويتبنَّى التصوُّر العقدي الذي يُمليه الدليل القاطع والعقل السليم، وألا ينساق في تقليد المجتمع والآباء والأجداد عند كونهم مخطئين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠].
وخطورة المحاكاة والتقليد لا تقف عند أثرها على المُقلِد الذي يحاكي غيره دون وعي، بل أثرُها أخطر على المتبوع الذي يُقلِّده الآخرون، لأنَّه إذا كان منحرفًا في اعتقاده أو سلوكه، ثم قلَّده الآخرون، فإنَّ ذلك يضيف على كاهله أوزارًا إضافية على وزره الشخصي، وقد يتتابع عدَّاد الأوزار إلى يوم القيامة، قال تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: ٢٥]، ومن ذا الذي يطيق أوزاره حتى يحمل معها غيرها؟!
وقد أشار النبي ﷺ إلى خطورة تعلُّق المقلِّدين بمتبوعهم، فقال: (من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة فعُمِل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء)[4]؛ فبيَّن عليه الصلاة والسلام بأنَّ من سنَّ فعلاً قبيحًا ثم اقتدى به الناس وقلَّدوه، فإنَّه يبوء بآثامهم، وهكذا كلُّ سَلَفٍ يتحمَّل ذنب من خلف إذا اتَّبعوهم في باطلهم دون أن ينقص ذلك من آثام الآخِرين، وأمثلته كثيرة، منها عمرو بن لحي الخزاعي الذي بيَّن النبيُّ ﷺ مصيره وسوء عاقبته، فقال: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه –أمعاءه- في النار، وكان أول من سَيَّبَ السوائب)[5]، ومنها ابن آدم الذي قتل أخاه، قال فيه النبي ﷺ: (لا تُقتل نفسٌ ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأولِ كِفْل من دمها، وذلك لأنه أولُ من سنَّ القتلَ)[6].
خطورة المحاكاة والتقليد لا تقف عند أثرها على المقُلِد، بل أثرُها أخطر على المتبوع الذي يقُلِّده الآخرون، لأنهَّ إذا كان منحرفًا في اعتقاده أو سلوكه، ثم قلَّده الآخرون، فإنَّ ذلك يضيف على كاهله أوزارًا إضافية على وزره الشخصي إلى يوم القيامة
ما هو علاج التقليد المذموم؟
كما تقدَّم في بداية المقالة فالإنسان بين التعلُّم والتقليد، فكلَّما ازداد التعلُّم قلَّ مقدار التقليد، وكلّما ضمر العلم وتراجع دوره شاع التقليد، وصار قانونًا متبعًا، وكلَّما ازداد التعلُّم قلَّ مقدار التقليد، لكن التعلُّم بابٌ واسع، والمؤثِّر في علاج التقليد منه أمران:
١. إدراك خطر التقليد المذموم:
وهذا يحصل بالإيمان باليوم الآخر، وإدراك أنّ الإنسان مسؤولٌ عن نفسه وفعله، ويُحاسب وحده يوم القيامة ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٩٥]، قال السعدي: «لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر»[7]. وهذا يدلُّ على أنَّ فعل الخطأ غير مبرَّر حتى لو كان الناس جميعًا يفعلونه.
وعاقبة التقليد والانسياق الأعمى مبسوطةٌ في نصوص الوحيين في مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ٦٩ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ [الصافات: ٦٩-٧٠]، وكذلك الحديث المذكور آنفًا (مَن سَنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً …)، وفي حياة البرزخ قال ﷺ: (وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنتُ أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيْتَ ولا تَلَيْتَ. ويُضرَب بمطارقَ من حديد ضربةً، فيصيح صيحةً يسمعها مَن يليه غيرَ الثقلين)[8]. ولاحظ كيف كانت الإجابة «لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس» دالَّةً على المعنى المقصود، وغيرَ منجيةٍ لصاحبها من الجزاء.
٢. توطين النفس على الاستقلالية والنقد البنَّاء:
وهذا سبيله التربية والتزكية ومجاهدة النفس، فالمؤمن كَيِّسٌ فطِنٌ يقظ البصيرة، يعلم أنه مجازًى على أفعاله؛ فلا يخطو خطوةً إلا وهو يعلم عاقبتها، وهذا المعنى جاء في الأثر فيما يروى عن النبي ﷺ: (لا تكونوا إِمَّعَةً، تقولون: إن أحسنَ الناسُ أحسنّا، وإن ظلموا ظلمْنا، ولكن وَطِّنوا أنفسَكم، إن أحسَنَ الناس أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تَظلِموا)[9]، قال ابن عثيمين: «والذي ينبغي للمسلم أيضًا ألا يكون إمَّعَةً يتبع كلَّ ناعق، بل ينبغي أن يُكَوِّن شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعًا لا تابعًا، وحتى يكون أسوة لا متأسيًا، لأن شريعة الله -والحمد لله- كاملة من جميع الوجوه»[10].
من أهم علاجات التقليد الأعمى: توطين النفس على الاستقلالية والنقد البنّاء، وسبيله التربية والتزكية ومجاهدة النفس، فالمؤمن كَيِّسٌ فطِنٌ يقظ البصيرة، يعلم أنه مجازًى على أفعاله؛ فلا يخطو خطوةً إلا وهو يعلم عاقبته
لنكسر سلسلة الخطأ:
الانسياق المجتمعي خلف ما هو معتاد دون تمحيصٍ أو تدقيق يُوقع الناس في سلوكيات خاطئة دون وعيٍ منهم، وإذا كانت هذه الأخطاء متوارثةً أو متناقلةً فهي تشكِّل بمجموعها سلسلةً مترابطة من الأخطاء، شخصًا بعد شخص، وجيلاً بعد جيل، وهكذا تستمرُّ الأخطاء وتتولَّد عنها مظاهر من التخلف الحضاري والتفكُّك المجتمعي، حتى تُصبح هذه المظاهر ثغراتٍ يدخل منها الشيطان لإفساد ذات البين، ويتسلَّل منها أعداء الله لهدم الأسرة وتفكيك المجتمع المسلم.
وحتى يكون الحديث مُلامسًا لواقعنا سأضرب أربعة أمثلة لسلوكيات مجتمعية خاطئة مؤثرة، ينبغي مواجهتها وكسر سلسلة الخطأ المتكرر فيها:
١. حرمان المرأة من الميراث:
وهي عادةٌ جاهلية منتشرة، منشؤها الطمع، مع ضعف الوازع الديني، فتُستضعف المرأة ويؤكل حقها الذي فرضه الله تعالى بنصِّ القرآن: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: ٧]. قال سعيد بن جبير وقتادة: «كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورِّثون النساءَ ولا الأطفالَ شيئًا»[11]، وكانوا يقولون: «لا يُعطى إلا مَن قاتل على ظهور الخيل، وطاعَنَ بالرمح، وضارب بالسيف، وحاز الغنيمة»[12].
فتجد أنَّ هذه العادة الجاهلية تقع جيلاً بعد جيل في بعض المجتمعات، وقد يستنكرها القوم، ثم إذا آلت إليهم ترِكة ميِّتهم فعلوا ذات الفعل، متذرِّعين بأنَّ الناس يفعلونها، وقد وقفتُ بنفسي على حالات تكون المرأة قد ظُلمت من إخوتها بالتهديد أو بالإحراج أو بالترضية، فتتنازل لهم حتى لا تحدث قطيعة أو مشكلة، ثم إذا دارت الأيام ومات زوجُها تجد المرأة نفسَها تعين أبناءها على حرمان بناتها من الميراث بدعوى أنها تنازلت، وأنهنَّ ينبغي أن يتنازلن كما فعلت، وبأن البنت إذا أخذت نصيبها فسيصل إلى الغريب (زوجها)!!
وهكذا تقوم هذه البنت المحرومة بالضغط على بناتها لاحقًا لحرمانهن من ميراثهن بالدوافع والأسباب نفسها، ولا تسَل بعدها عن تسلُّل حركات تحرير المرأة والدعوات النسوية المشبوهة، وهنَّ يناصرن المرأة المظلومة، فينقلونها من ظلم إلى باطل!
ولا يوقف مثلَ هذه السلسلة والثغرة التي تنتجها إلا وقفةٌ جادَّةٌ تحصل فيها التوعية بالحقِّ وبما شرع الله لهنَّ، والتزام حدود الله، والشجاعة من الرجال قبل النساء في مقاومة أهل الجشع، والوقوف في وجههم بالعلم وبالرأي والحزم.
الانسياق خلف المعتاد دون تمحيصٍ أو تدقيق يُوقع الناس في سلوكيات خاطئة دون وعيٍ منهم، وإذا كانت هذه الأخطاء متوارثةً أو متناقلةً فهي تشكِّل بمجموعها سلسلةً مترابطة من الأخطاء، وتتولَّد عنها مظاهر من التخلف الحضاري والتفكُّك المجتمعي
٢. القسوة في تربية الأبناء:
مرَّت على الأمة أحوال تراجع فيها العلم، وفقد الناس الاتِّصال بالقُدوات، وتضاءل الاستهداء بأنوار الهدي النبوي في التربية، فصار كثيرٌ من الآباء والأمَّهات يعاملون أولادهم بالقسوة والضرب المبرِّح، فيكسرون نفوسهم ويُذلونها، ويغيب عنهم الهدي النبوي الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله ﷺ شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله)[13]، وحديث أنس رضي الله عنه: (لقد خدمتُ رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي قطُّ: أفٍّ، ولا قال لشيء فعلتُه: لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعله: ألا فعلتَ كذا؟)[14]، فتأمَّل معي:
كم هي ثمينةٌ في عين رسول الله ﷺ كرامةُ من حولَه من الأبناء والزوجات والصبيان والخَدَم، وكم هي رخيصةٌ في عين أولئك الذين استمرؤوا الضرب المبرِّح الذي لا يعرفون غيره سبيلاً للتربية والتفاهم!! والأب الذي يسيء تربية أولاده، وكان قدوة سيئة لهم، واقتدوا به في سلوكياته المنحرفة، يتحمَّل وزر أولاده، لأنه هو السبب في انحرافهم.
فينشأ الأولاد -مرغمين- على تقبُّل هذا النمط من التنشئة؛ لضعفهم في صغرهم، ولأنَّ غالب الآباء يفعل هذا في زمان ومكان معين، فإذا صاروا في موقفٍ مماثلٍ -آباءً أو أمهاتٍ- لم يجدوا سبيلاً غير ما نشؤوا عليه من الضرب والقسوة، فينتقل النموذج إلى الجيل التالي، وهكذا إلى الذي يليه، ثم يجد قُرناء السوء سبيلاً إلى نفس هذا الولد الذي يضربه أبواه فيأخذونه بالكلام المعسول، وبفسحة الصداقة فيفسدونه بما لديهم من انحراف وفسوق.
ولا يوقف مثل هذه السلسلة إلا تعلُّم الهدي النبوي في التربية، وحملُ النفس على مخالفة الخطأ المتجذِّر في النفس، والسير عكس المألوف في هدى وبصيرة ونور.
كم هي ثمينةٌ في عين رسول الله ﷺ كرامةُ من حولَه من الأبناء والزوجات والصبيان والخَدَم، وكم هي رخيصةٌ في عين أولئك الذين استمرؤوا الضرب المبرِّح الذي لا يعرفون غيره سبيلاً للتربية والتفاهم!!
٣. مكائد الحماة والكنة:
الحرب بين الحماة والكنة[15] من السلوكيات الشائعة بين النساء، وفيها من القصص والمماحكات ما لا يخلو منه بيتٌ من البيوت، والدافع الأساسي في هذه المكائد هو التنافس على الاستئثار بالرجل! فهذه تراهُ ابنَها الذي كانت سبب مجيئه للدنيا، وسهرت عليه ورعتهُ حتى كبر، فتأتي تلك الغريبة لتحصل عليه جاهزًا، وهذه تراه زوجَها وعمودَ بيتها وشريكَ حياتها وفتى أحلامها، وأنَّ أمه قد قامت بدورها الطبيعي، وآن الأوان لأنْ تتخلَّى عنه ليتفرَّغ لزوجته وأولاده ومستقبله.
لكن الأمر له مضاعفاتٌ لا تُحتمل، فتجد الحماة متأهِّبةً مستعدّةً للفتك بالكنة الدخيلة، فتعاملها كالخادمة وتُهينها، وتطلب من ابنها ما لم تكن تطلبه منه قبل زواجه، وقد تطالبه بمالٍ لا تحتاجه، وتلوِّح لها بتطليقها في كل مناسبة، وربما بتزويجه من أخرى، وتُعينها على ذلك بناتُها، حتى إذا تراخت في أذى الكنة والتضييق عليها، جاءت صويحباتها محرِّضات، ولم يُقصِّرن في اقتراح ما ينغِّض حياة ابنها قبل كنتها.
والكنة بالمقابل لن تقصر بالإيماء واللمز والتأفُّف وبرفع الصوت والحديث بنبرة خالية من الاحترام، ونقل معاناتها لزوجها مع المبالغة والتهويل فتُغيِّره على أمه، وقد تُحرجه بكثرة الاتصال إذا زارها، أو تمنعه من الإنفاق عليها، أو تُضيِّق على أبويه إذا زارا ابنهما في بيته، وهي كذلك معها حزبُها من أهلها وصويحباتها اللاتي يقترحن عليها ما تكيد به حماتها.
ويجدر التنبيه هنا أننا لا نقصد التعميم، فهناك حموات فاضلات لا يُسئن لكنّاتهن ويعتبرنهن بناتهن وإن كنَّ مسيئات، وهناك كناتٌ فاضلاتٌ يصبرن على ما يُصيبهنَّ من أهل الزوج من أذى.
وهناك ممارساتٌ في هذا المجال يضيق المقام عن وصفها، والملفت هنا أنَّ الكنة التي تعرضت لظلم حماتها تمارس نفس الفصول على كنَّتها في مستقبل الأيام، فتُذيقها ما تُمليها عليها خبرتها، وتلك الكنة مصيرُها أن تكون حماة غيرها، وهكذا في سلسلة متشعبة مرهقةٍ مستهلكةٍ للأوقات والطاقات في المجتمع.
ولا يسعدُ في بيئات المشكلات المتراكبة إلا الشيطان الذي يحترف التحريش بين المسلمين، ويبعث سراياه لإفساد بيوتهم، فيسعَون في قطع رحم هذه، وتطليق تلك، (فأدناهُم منه منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرّقتُ بينه وبين امرأتِه. قال: فيُدنيه منهُ ويقول: نَعم أنتَ)[16].
ولا يوقف هذه السلسلة إلا تمثٌّل سنَّة النبي ﷺ: (لا يؤمنُ أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه)[17]، ومعرفةُ خطر هذه المشاقة والمعاملة السيئة، قال ﷺ: (مَن ضارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، ومَن شاقَّ شَقَّ اللهُ عليه)[18]، وأن تجرب النساء التوقُّف عن هذه الحالة المجهدة لجميع الأطراف، كل من طرفها، يساعدهن في ذلك الرجال الصالحون.
٤. مبالغات الزواجات:
الزواج قانون إلهي، وضعه الله لتتحقَّق به عمارة الأرض وتناسل البشر، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: ١٣]، وهو سنة نبوية حثَّ عليها النبي ﷺ، فقال: (تزوَّجوا الوَدود الوَلود فإنِّي مُكاثرٌ بكم الأُمم)[19] ووجَّهَ شبابَ المسلمين توجيهات كثيرةً للمبادرة للزواج وعدم التأخُّر عنه بلا عذرٍ، وحضَّ على اختيار الزوجة الصالحة، وعلم أصحابه كيفية التقدُّم للخطبة، وما الذي يُصلح البيوت ويُقيمها ويجعلها تزدهر ويملؤها الودُّ والتفاهم، وقدَّم بنفسه الأسوة الحسنة التي تحقق السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.
لكن الوضع يختلف كلَّما ابتعد الناس عن معين النبوة الصافي، فينسى الناس أهداف الزواج ومقاصده السامية في تحقيق سنّة النبي ﷺ، وإكثار تعداد من يوحِّد الله تعالى، وإعفاف الشباب والفتيات، وتوجيه طاقاتهم نحو عمارة الأرض والبناء الحضاري، ويتحول الزواج إلى ميدان للمباهاة والتسابق.
ويُصبح المهر قدرًا باهظًا من المال لا يستطيع أوساطُ الشباب جمعَه في عشر سنوات أو أكثر ضمن ظروفهم العادية، وفوق المهر شروطٌ تعجيزية من الطلبات المرهقة كالصالة الفاخرة، والهدايا الثمينة، والرحلات والفنادق، ومع موجة الهجرة صارت بعض الشروط تصل لمرحلة استقدام أهل الزوجة لبلدان المهجر، وحدث ولا حرج عن أصناف الطلبات والاقتراحات التي لا تخطر على بال الشابّ الذي يحلُم بتأسيس بيتٍ يستقرُّ فيه ضمن إمكاناته وظروفه.
والأمر يزداد خطورةً إذا كان بين هذه الطلبات والشروط ما حرَّمه الله تعالى، مثل اختلاط الرجال بالنساء، والتساهل في إظهار ما لا يرضيه من الأجساد والزينة، ومحرَّمات المآكل والمشارب، مما لا يخفى خطره وأثره.
والجانب الذي يُهمُّنا في هذه العادات هو حصول العدوى بها؛ فكيف يكون زواج ابنة العائلة الفلانية أقل مبالغةً من زواج العائلة تلك؟! وإذا لم يحصل تشعر البنت أو أهلها بالغيرة والنقص، وقد يرفضون الزواج لاعتذار الخاطب عن هذه الشروط أو بعضها مما لا يطيقه ولا يقدر عليه.
ومما يثير الاستغراب أنَّ العائلة نفسها إذا أرادت تزويج ابنها استحضرت مسألة تيسير الزواج وتخفيف الشروط، وطالبت به غيرها، وإذا خُطبت ابنتهم نسوا ذلك كلّه، وأعدُّوا قوائم شروطهم وطلباتهم كأنَّ ابنتهم هي الفرصة الوحيدة في العالم للشاب المتقدِّم.
وهكذا تستمرُّ المباهاة والعناية بالمظاهر، وتصويرها ونشرها، وتداولها على الشبكات الاجتماعية حتى تصبح عادةً متبعة وسنة جارية وسلسلة متتابعة، فيقتدي بها هؤلاء وأولئك، ويفعلون مثلهم غيرةً وتقليدًا بلا وعيٍ ولا تعقُّل، والعاقل يرى ويبصر كم صدّت هذه المظاهر عن الزواج، وحوَّلته من معناه السامي إلى سباق في التكثُّر من حطام لا يستفيد الزوجان منه إلا القيل والقال، بل كانت في كثير من الأحيان سببًا في ضيق الحال وكثرة الديون، وعاملاً من عوامل الطلاق وانهيار البيوت.
ولا يوقف هذه السلسلة إلا وقفةٌ صادقةٌ من أولياء الأمور والمصلحين والمربِّين لإيقاف هذه المهازل، وذلك بإيقاظ الناس من انسياقهم وغفلتهم، وبيان خطر هذه التصرفات على المجتمع، فقد حذَّر النبي ﷺ من مغبة هذه الأمور، فقال: (إذا خطب إليكم مَن تَرضَون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكُنْ فتنةٌ في الأرضِ، وفسادٌ عريضٌ)[20]. قال القاري رحمه الله: «لأنَّكم إن لم تزوجوها إلا من ذي مالٍ أو جاه، ربَّما يبقى أكثرُ نسائكم بلا أزواج، وأكثرُ رجالكم بلا نساء، فيكثر الافتتان بالزنا، وربما يلحق الأولياء عار، فتهيج الفتن والفساد، ويترتَّب عليه قطع النسب، وقلة الصلاح والعفة»[21]، والواقع يشهد والإحصاءات تنطق أنَّ هذه المبالغات تتناسب طردًا مع نسب الطلاق في المجتمع.
المحاكاةُ العمياء هي السببُ في تدهور الأحوال الدينية والاجتماعية في سالف الأمم؛ فهي السبب في نشوء الشرك في قوم نوح، والشذوذ في قوم لوط، وتطفيف الموازين في قوم شعيب، ووأد البنات في العرب قبل البعثة، وغيرها؛ لذا جاء تحذير النبي ﷺ منها واضحًا جليًا
أنت المسؤول:
الانسياقُ خلف المعتاد والجاري من العادات والسلوكيات الخاطئة لا يليق بالمسلم، ولا يصنع نهضةً ولا حضارة. والمحاكاةُ العمياء هي السببُ في تدهور الأحوال الدينية والاجتماعية في سالف الأمم؛ فهي السبب في نشوء الشرك في قوم نوح، وانتشار الشذوذ في قوم لوط، وتطفيف الموازين في قوم شعيب، ووأد البنات في العرب قبل البعثة، وغيرها؛ لذا جاء التحذير واضحًا من النبي ﷺ من اتباع هذا المنهج بقوله: (لتَتَّبعنَّ سَننَ من قبلكم شِبرًا بشِبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنصارى؟ فقال ﷺ: فَمَن؟!)[22].
وإذا أردنا الاسترسال في سرد الأمثلة فلن يتَّسع المقام، وفيما ذُكر منها إشاراتٌ واضحةٌ للسلوك المقصود الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، متعلِّمًا واعيًا مُدركًا لخطورة ما يفعله في نفسه وعلى أبنائه ومن بعدهم، لا ينساق مع الناس في الخطأ والباطل والإساءة، بل يتعلَّم ويستمر في السؤال والتبصُّر، ويختار لنفسه ما يحبُّ أن يجده في صحائف أعماله من الأفعال والأخلاق والخصال.
ومثل هذا الوعي هو ما نحتاجه للنهوض الحضاري المنشود بواقعنا ومجتمعنا، فتصبح الأمة شيئًا فشيئًا أمة واعية متعلمة، لا تقبل بالخطأ ولا تجاريه ولا تسكُتُ عنه، بل تقف بوجهه وتصحِّحُه وتدفعه حتى تنكسر سلسلة الخطأ.
أ. محمود درمش
كاتب في قضايا التربية والفكر.
[1] التحرير والتنوير (١/٤٢٠).
[2] حياة القائد بين القدوة والاقتداء، د. علي القرني، بحث منشور في مجلة جامعة أم القرى.
[3] تفسير القرطبي (١١/٢٧٢).
[4] أخرجه مسلم (١٠١٧)، وقال ابن علان في المقصود بـ «سنة سيئة»: معصية، دليل الفالحين (٢/١٣٦).
[5] أخرجه البخاري (٣٥٢١) ومسلم (٢٨٥٦)، وفي رواية في سيرة ابن هشام (١/٧٦): (إنه كان أول من غير دين إسماعيل). السائبة: نوع من أنواع تحريم الحلال، كانوا إذا ولدت الناقة عشر إناث تباعًا لم يُركب ظهرُها ولم يُجَزَّ وَبَرُها ولم يَشرَب لبنَها إلا وَلدُها أو ضَيف. وتركوها مسيبة لسبيلها وسموها السائبة.
[6] أخرجه البخاري (٣٣٣٥)، ومسلم (١٦٧٧).
[7] تفسير السعدي، ص (501).
[8] أخرجه البخاري (١٣٣٨).
[11] أخرجه الترمذي (٢٠٠٧) وقال: هذا حديث حسن غريب.
[12] مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (٢/٣٠١-٣٠٢).
[13] تفسير ابن كثير (٢/٢١٩).
[14] تفسير القرطبي (٥/٤٦).
[15] أخرجه مسلم (٢٣٢٨).
[16] أخرجه البخاري (٦٠٣٨) ومسلم (٢٣٠٩).
[17] الحماة أم الزوج، والكنة زوجة الابن.
[18] أخرجه مسلم (٢٨١٣).
[19] أخرجه البخاري (١٣) ومسلم (٤٥).
[20] أخرجه أبو داود (٣٦٣٥) والترمذي (١٩٤٠) وابن ماجه (٢٣٤٢).
[21] أخرجه أبو داود (٢٠٥٠).
[22] أخرجه الترمذي (١٠٨٤).
[24] أخرجه البخاري (٣٤٥٦) ومسلم (٢٦٦٩).