قضايا معاصرة

استلهام السنن الإلهية في التخطيط الاستراتيجي

هذه المقالة عن السنن الإلهية، واستلهام قوانينها في استرداد الدور الحضاري للمسلمين، عبر أدوات التخطيط الاستشرافي أو الاستراتيجي، وهي محاولة لوضع لبنة تقلل الفصام الموهوم الذي أنشأ مفاهيم مغلوطة أو مشتتة، كالصراع بين الغيب والوجود، وبين الروح والجسد، وبين الفرد والجماعة، وفي مفاهيم الفناء والخلود، وفي النظرة للدنيا والآخرة، بدلاً من تصالح هذه المفاهيم وفق أقصى حالات التوافق والانسجام، تمامًا كما أمر الله، في قوانين ثابتة لا تتغير

مدخل:

كل ما يقع في هذا العالم من حوادث ليس فيه مجال للمصادفة، ولا يخبط خبط عشواء، وإنما يحدث وفق قوانين عامة، ثابتة صارمة، لا يخرج عن أحكامها شيء. فجريان الشمس ومنازل القمر وسير السحاب وإنبات الزرع، كل ذلك يسير وفق نظام كوني دقيق.

والبشر كذلك بحراكهم الجمعي والأممي يخضعون لقوانين كونية ثابتة تحكم أحوالهم في الحياة، وما يقع عليهم من أحداث، وما يترتَّب على ذلك من نتائج حضارية، كالرفاهية أو الفقر، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف.

وهذه القوانين هي «السنن»، التي قال الله عنها: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ [فاطر: ٤٣]، وهي «طريقته وحكمته سبحانه وتعالى»[1] ، وقال ابن القيم رحمه الله: «فسنته سبحانه عادته المعلومة»[2]، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن السنة، هي: «العادَةُ التي تَتَضَمَّنُ أَنْ يَفْعَلَ في الثانِي مِثْلَ ما فَعَلَ بِنَظِيرِهِ الأَوَّلِ»[3]، ويمكن تعريفها بأنها «القانون الدائم الذي وضعه تعالى للكون والإنسان، وعادته المعلومة في أوليائه، وفي أعدائه، وطريقته المتبعة في معاملته للبشر»[4].

وثمة فرق بين أثر هذه القوانين والسنن على الكون وعلى الإنسان، فالكون وما فيه من أفلاك وأجرام وجبال وبحار وأشجار ودواب وغيرها.. كلُّها ليست مخيَّرة، بل هي مسيرةٌ ومسخرةٌ وفق هذه القوانين كما يريد لها القاهر الجبار سبحانه، أما الإنسان فهو مخيَّرٌ فيما يفعل؛ وقد يختار الخير أو يختار الشر، ولذلك وضع الله له قوانين تناسب أحواله وأفعاله واختياراته، وتكون نتائج هذه القوانين مبنية على ما يختاره البشر أفرادًا وجماعات من الأقوال والأفعال، قال ابن تيمية رحمه الله: «وأنه -تعالى- يقضي في الأمور المتماثلة بقضاء متماثل لا بقضاء مخالف فإذا كان قد نَصَرَ المؤمنين لأنَّهم مؤمنون، كان هذا موجبًا لنصرهم حيث وُجد هذا الوصف، بخلاف ما إذا عصوا وجرحوا إيمانهم كيوم أحد؛ فإنَّ الذنب كان لهم، ولهذا قال: ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ فعمَّ كلَّ سنة له، وهو يعمُّ سُنَّته في خلقه وأمرَه في الطبيعيات والدينيات»[5].

الكون وما فيه مسيَّر ومسخَّر وفق السنن والقوانين كما يريد لها الجبار سبحانه، أما الإنسان فمخيَّرٌ، وقد وضع الله له قوانين تناسب أحواله وأفعاله واختياراته، ونتائج هذه القوانين مبنية على ما يختاره البشر أفرادًا وجماعات

والإنسان العاقل لا يُصارع هذه القوانين والسنن ليُغيِّرها، ولا يُعارضها، بل لا يستطيع الناس ولو اجتمعوا على أن يغيروا شيئًا من هذه القوانين، لأنها -ببساطة- قوانين، أي مسلَّمات وليست فرضيات قابلة للتجربة والخطأ. والذي يسعُ الإنسان ويحسُنُ به: أن يزيد من علمه بهذه القوانين.

قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ٢ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ٣ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٢-٤].

العاقل لا يُصارع القوانين والسنن الإلهية ولا يُعارضها؛ لأنها مسلَّمات، وليست فرضيات قابلة للتجربة والخطأ. والذي يسعُ الإنسان ويحسُنُ به: أن يزيد من علمه بهذه القوانين

استلهام السنن «القوانين» في مدخلات التخطيط الاستراتيجي:

والحديث في هذه المسألة يكون عبر ثلاث مسائل:

المسألة الأولى: طريق معرفة هذه القوانين:

أمرنا الله تعالى بمعرفة القوانين، وهي السنن، والأخذ بها، وبقدر ما يعرف الإنسان من تفاصيل وجزئيات هذا القانون يكون مقدار الاستفادة منه. قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧].

وهذه القوانين على نوعين: نوع من القوانين الكونية متاح للجميع، مثل معرفة مواسم الزرع والحصاد، وأوقات الغروب والشروق والخسوف، وقوانين الذرة والفيزياء والفلك، فهذا العلم مشاع للجميع ولا يختص المسلمون بشيء منه باعتبارهم مسلمين. قال تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: ١٠١]. وقال: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا﴾ [يس: ٣٨]. فهذه السنن والقوانين تقع بطريق القهر وعلى الفور.

والنوع الآخر يتعلَّق بالأمم والجماعات، ومعرفته متاحة بالوحي المنزّل، وهو في ثبوته واطِّراده مثل الأول، لكن الفقه به أقل انتشارًا، لخصوصية المخاطب به، ولأن تمييزه أصعب وأدق، ومثاله قوانين الذنوب والمعاصي، وقوانين التمكين والاستخلاف للمؤمنين. قال تعالى عن قانون العدل: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ [النساء: ١٢٣]؛ فالجزاء بحسب سنّة الله تعالى أثر طبيعي للعمل لا يتخلف عنه. وهذه السنن تقع لا محالة لكنها تحمل صفة الإمهال بعض الوقت.

ولأجل هذا الفرق بين الأحداث الكونية من جهة، والأحداث البشرية من جهة أخرى، فإن بعض الناس يغفلون عن سنة الله في تصرُّفات وسلوك الأفراد والأمم، ويظنُّون أنها لا تخضع كما تخضع الظواهر الكونية للقانون الإلهي.

ثمة فرق بين الأحداث الكونية والأحداث البشرية، وبسبب هذا الفرق فإن بعض الناس يغفلون عن سنة الله في تصرُّفات وسلوك الأفراد والأمم، ويظنُّون أنها لا تخضع للقانون الإلهي كما تخضع الظواهر الكونية

المسألة الثانية: قانون السببية:

قانون إلهي عام يؤثر في عامة ما سواه من القوانين، وهو من النوع الذي تتاح معرفته للعقلاء كافة، فقد دلّ القرآن الكريم والعقل السليم على أنَّ كلَّ شيءٍ يحدُث بسبب، سواءً كان هذا الحدثُ يتعلَّق بالجماد أو النبات أو الحيوان أو الإنسان أو الأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة.

وقانون السببية الذي هو ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها، هو قانون عام شامل لكل ما في العالم ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة. قال ابن تيمية: «فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات»[6].

فمن الأسباب المادية قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢]، ومن الأسباب المعنوية قوله تعالى: ﴿إِن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ [الأنفال: ٢٩].

والقرآن الكريم مليء بترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب بطرق متنوعة[7]: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤] هنا ذكر النتيجة مرتبة على ما سبق منهم، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: ٢] وهنا علق النتيجة على حصول مقدمتها. وقانون السببية أحد أهم دواعي التدبر في السنن.

وهناك تفصيلاتٌ كثيرة في هذا القانون ليس هذا مجالُ بسطِها، غير أن الإشارة تجدُر إلى أن السبب إنما يستوجب مُسَبَّبَه إذا توفرت شروط عمل هذا السبب وفعاليته واستدعاؤه لمسبَّبه، كما لا بد من انتفاء الموانع التي تعيق عمل هذا السبب أو تسلبه فعاليته بحيث يصبح غير قادر على استدعاء مسبَّبه.

فالأكل مثلاً سبب للغذاء والشبع واستدامة الحياة، لكن بشرط سلامة أعضاء الإنسان الضرورية لتلقي الطعام والاستفادة منه، وانتفاء الموانع والعوائق التي تعيق عمل هذه الأعضاء في انتفاعها من الأكل.

والزرع سببه حرث الأرض وإلقاء البذر، وشرطه صلاحية الأرض للإنبات وصلاحية هذا البذر للنبات وتوفر الماء الكافي وانتفاء الموانع كالآفات التي تهلك الزرع والثمر أو تمنع نموه، … وهكذا.

قال الشاطبي: «وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ولا استكملت شرائطها ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبَّباتها، شاء المكلَّف أو أبى، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره. وأيضًا فإن الشارع لم يجعلها أسبابًا مقتضية لمسبَّباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببًا شرعيًا، سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا، فالثمرة واحدة»[8].

وفي التخطيط الاستراتيجي، فإن مفهوم السبب والنتيجة (Cause and Effect) هو أحد أهم المفاهيم التي تقوم عليها عمليات التخطيط الاستراتيجي في سائر المنهجيات.

ينبغي أن ينصبَّ اهتمام الجماعات العاملة على قانون «التنقية والفرز»، والذي يعتني بتنقية الصفوف من المنافقين والدخلاء، وتطوير برامج وآليات عمل تربوية وتنظيمية لهذا المقصد الاستراتيجي، أكثر من الاهتمام باستخدام ذات القانون للحكم على الجماعة الفلانية أنها تفككت بسبب المنافقين والدخلاء

المسألة الثالثة: التفريق في استخدام القوانين بين مدخلات التخطيط ومخرجاته:

من المعلوم أن قياس الأعمال والاستراتيجيات يحصُل عبر مؤشِّرات معيارية يطلق عليها اسم مؤشرات الأداء الرئيسة (KPIs -Key Performance Indicators) وهي: «مقاييس كمية تساعدنا على معرفة مقدار تقدمنا باتجاه تحقيق الاستراتيجية».

وهذه المؤشرات على نوعين:

  1. مؤشرات السبب أو «المؤثر» (Lead) وتركز على ما يجب أن نقوم به من أعمال ومبادرات لتحقيق النتائج المرجوة من الاستراتيجية.
  2. مؤشرات النتيجة أو «الأثر» (Lag) وتركز على قياس الانجاز المحقق من هذه المبادرات والأعمال تحت سقف الاستراتيجية.

وفي الجملة: إذا أحسنَّا القيام بـ (مؤشر السبب)، فسنتمكن من تحقيق (مؤشر النتيجة)، ونضرب مثالاً للتوضيح:

في العملية التعليمية: فإنَّ نسبة عدد المعلمين إلى أعداد الطلاب، وجاهزية المناهج هي مؤشراتُ سبب، بينما عدد الطلاب الناجحين ونسبة النجاح هي مؤشرات نتيجة.

وكما يُستخدم مبدأ السبب والنتيجة والعناية بالمقدمات في زراعة الأرض، فكذلك يستخدم القانون نفسه ضمن أدوات التخطيط الاستراتيجي في بطاقة الأداء المتوازن، فهي تضع تراتبية الأعمال الاستراتيجية، عبر مبدأ السبب والنتيجة.

ونحن بحاجة للتركيز على مؤشرات السبب في النظر إلى السنن باعتبارها قوانين وقواعد «مدخلات» في عملنا الاستراتيجي، أكثر من استخدامها أدوات لتحليل «النتائج» على ما يجري في واقع الأمة اليوم، مع أنهما مترابطان على مبدأ السبب والنتيجة (Cause & Effect)، إلا أن التفريق بينهما في غاية الأهمية للنهوض بالعمل.

فمثلاً:

  • ينبغي أن ينصب اهتمام الجماعات والكيانات على قانون «التنقية والفرز»، والذي يعتني بتنقية الصفوف من المنافقين والدخلاء، وتطوير برامج وآليات عمل تربوية وتنظيمية لهذا المقصد الاستراتيجي، وينبغي أن ينصبَّ الاهتمام بهذا الأمر أكثر من الاهتمام باستخدام ذات القانون للحكم على الجماعة الفلانية أنها تفككت بسبب المنافقين والدخلاء.
  • كما ينبغي التركيز على قانون «الجماعة»، والذي يعتني بوحدة الصف، ويطلق المبادرات التي تجمع الكلمة على مقصد مركزي وفكرة محورية، أكثر من استخدام القانون ذاته في تحليل حالة التشرذم.

بهذا نخرجُ من جدلية نقاش النتائج الذي لا يعود بفائدة كبيرة، إلى واقع العمل الرحب الذي يستوعب الجميع، فيقل الشغف بالحكم على الأفراد والجماعات والمؤسسات، من قبيل: (هل البلاء الذي أصابها هو بلاء الاصطفاء وما قبل التمكين؟ أم هو بلاء التطهير؟ أم بلاء الانتقام؟ وهل زوال هذه الأسماء والكيانات الكبيرة هو محضُ اختيارِ قادَتِها نحو التطوير؟ أم هو قانون الاستبدال؟ … إلخ).

ونخرجُ بوعيٍ من الحالة الحُكمية (إطلاق الأحكام) التي تصيب العاملين بالإحباط أحيانًا، وبالشعور بكمالٍ زائفٍ أحايينَ أخرى، ولنُعطِها قدرَها الذي تستحقُّه فحسب، وننتقل إلى العمل الجادِّ الذي يستخدم هذه القوانين في توليد المبادرات والمشاريع البناءة، مستشعرين القانون الإلهي الذي لا يتبدَّل: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: ١٧].

نموذج تطبيقي على خطتين استراتيجيتين وفق قوانين مختلفة:

كلمة «استراتيجية» لفظ أعجمي مقتبس من كلمة «Stratégie» الفرنسية أو «Strategy» الإنجليزية، وأصلها في هاتين اللغتين من الكلمة اللاتينية «Strategos»، وهو الجيش. وبهذا المعنى تكون كلمة «Strategos»، هي قائد الجيش، و «Stragegia» هي فنُّ قيادة الجيش، أو فن قيادة الحروب. ثم اتسعت دائرة استعمال المصطلح في العصر الحديث ليصبح دالاً على فنّ التخطيط أو فنّ التدبير في جميع مجالات الحياة المعاصرة.

ولقد تطوَّر مفهوم الاستراتيجية تطورًا كبيرًا عبر التاريخ. فهي عند كارل فون كلاوزفيتز (Carl von Clausewitz) -كبير الكتَّاب العسكريين في القرن التاسع عشر: «فن استخدام المعارك وسيلة لتحقيق أهداف الحرب». ثم جاء أحد تلامذته من بعده، وهو القائد هلموث فون مولتكه (Helmuth von Moltke) فطوّر هذا المفهوم ليصبح دالاً على «فن استخدام الوسائل الموضوعة تحت تصرُّف القائد العسكري لتحقيق أهداف الحرب». ثم تطوَّر هذا عند الألماني إيريك لودندورف (Erich Ludendorff)، حيث يعرّف الاستراتيجية بأنها «دخول المعارك الحاسمة للقضاء على جيش العدو وتحطيم إمكانياته»[9].

ولا يخفى على ذي لبٍّ أننا نخوض اليوم صراعًا استراتيجيًا شرسًا، تُستخدم فيه كل أدوات المكر لإخضاع الآخر، أو تنحيته عن ممارسة دوره، ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: ٤٦].

وإذا أردنا أن ننطلق من المحور الأول في تطبيقٍ عملي، ومثالٍ واقعيٍّ في حال قوانين الصراع، فعلينا النظر بشمولية أوسع لاستشراف الخطط الاستراتيجية والسيناريوهات الأكثر مناسبة وملاءمة لواقع الحال، وطلب المآل.

وفي هذا المحور نتحدَّث عن ثلاثة قوانين إلهية بإيجازٍ شديد، كلُّها تتحدَّث حول المعنى الأصلي للاستراتيجية، عن قوانين الصراع، ونحاول الجمع بينها في واحدة من تطبيقات السياسة الشرعية، للخروج باستراتيجية مقترحة:

١. قانون المدافعة:

وهو قانون الصراع الأول، القانون الذي يُوضح طبيعة العلاقة بين الحقِّ والباطل، والتدافع بين الحق والباطل يعني بالضرورة التدافع بين أصحابهما، فلا يظنَّ ظانٌّ أنَّ الحق ينتصر هكذا لأنَّه الحق فحسب، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: ٤].

كما أنَّ التدافع يقع بين الباطل والباطل أيضًا، فلا بد من قوة تقوم بعمل هذه المدافعة حتى يحصل التعارض والتزاحم والتدافع بين الفريقين، وغلبة أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته، أو على الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة.

وهذا القانون حتميٌّ لا مفرَّ منه منذ أن خلق الله البشر، قال ابن خلدون: «اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله»، قال: «وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل»[11]، فلا يُتصوَّر إذن أن يعيش الحق والباطل في سِلمٍ من دون غَلَبةِ أحدهما على الآخر.

قانون المدافعة هو القانون الذي يُوضح طبيعة العلاقة بين الحقِّ والباطل، والتدافع بين الحق والباطل يعني بالضرورة التدافع بين أصحابهما، كما أنَّ التدافع يقع بين الباطل والباطل أيضًا، وهذا القانون حتميٌّ لا مفرَّ منه منذ أن خلق الله البشر

٢. قانون هلاك الظالمين، وانتصار المظلومين:

هلاك الظالمين قانون مطَّرد في كتاب الله، قال تعالى: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: ٤٧]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾ [يونس: ١٣]، وهلاك الظالم له أجل مضروب عند الله حتى لو كان مجهولاً لنا ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الأنبياء: ١١]، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: ٤٩]، ولا يتحقق هلاك الأمم بمجرد الكفر، بل لابد من وجود الظلم.

قال الرازي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧]، قال: «إنَّ المراد من الظلم في هذه الآية: الشرك. والمعنى أنَّ الله تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين، إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم يعامِلُ بعضهم بعضًا على الصلاح وعدم الفساد، والحاصل أنَّ عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر، بل إنما يُنزل ذلك العذاب إذا أساؤوا في المعاملات وسَعَوا في الإيذاء والظلم. ويقال في الأثر: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم»[10].

وقال ابن تيمية: «وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إنَّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»[11].

وهذا القانون عامٌّ ينطبق على سائر الأمم، ويمكن العمل عليه من كل أحدٍ في مواجهة الظلم ببذل الحدِّ المطلوب من المدافعة، ليتحقَّق هذا النوع من الانتصار، وهي اشتراطات عامة.

٣. قانون انتصار التمكين:

انطلاقًا من قانون المدافعة، فإن انتصار الإيمان، وتحقُّق التمكين للمؤمنين في الأرض، والاستخلاف بدرجةٍ أكبر، لا بد أن يتحقَّق بقدرٍ من المدافعة أكثر مما يتطلَّبه قانون انتصار المظلومين، حيث يتطلَّب تحقيق شروط هذا النوع من الانتصار (انتصار التمكين والاستخلاف)، وتجنب معوقاته وموانعه.

«إنَّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»

الاستقامة لابن تيمية

فمن شروطه:

  1. الإيمان الصادق عند أصحابه، وخلوهم من الدَّخَن في جملتهم، ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧].
  2. تقوى الله والإخلاص له، ﴿بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥].
  3. أن يكون القيام نصرة للدين، ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ [الحج: ٤٠].
  4. أن يكون الهدف هو إقامة الصلاة وشعائر الدين، ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج: ٤١].
  5. الصبر، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠].
  6. ذكر الله كثيرًا، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: ٤٥].

ومن العوائق والموانع التي يلزم تفاديها لتطبيق قانون التمكين:

  1. ترك الجهاد، فهو مدعاة للعذاب، والاستبدال، ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [التوبة: ٣٩].
  2. التنازع والاختلاف، ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ٤٥ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٥-٤٦].
  3. الغرور والرياء، ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٤٧].

كما أن السنن والقوانين الإلهية تتشابك وتتداخل، فهي لا تعمل منفردة، فكذلك المشاريع الاستراتيجية يمكن أن تتداخل وتتشابك

استراتيجية مقترحة لرفع الظلم عن أهل الشام والتمكين لهم:

انطلاقًا مما سبق، فإنَّ وضع خطةٍ استراتيجيةٍ لرفع الظلم الواقع على أهل الشام يتطلَّب العمل بقانون خاص ومشاريع ومبادرات لذلك، أما وضع خطة استراتيجية لتمكين دين الله في أرض الشام، فيتطلب العمل بقوانين أخرى إضافية، ولذلك مشاريع ومبادرات زائدة.

والخلط الحاصل في تطبيق القوانين الإلهية على جملة من المشاريع الشامية يجعل نتائج تخبطها واضحة، على الأقل في المنظور الحالي ما لم تتغير المعطيات، أو «المدخلات» بمعنى آخر.

وكما أن السنن والقوانين الإلهية تتشابك وتتداخل، فهي لا تعمل منفردة، فكذلك المشاريع الاستراتيجية يمكن أن تتداخل وتتشابك، لكنها أفرزت على هذا النحو لغرض التوضيح.

وعليه يمكن أن يعمل القادة على مشروعين متوازيين: مشروع رفع الظلم، وهو الأسرع والأقرب، والأيسر مناولة، ومشروع التمكين، وهو الأطول زمنًا والأعمق أثرًا في الحضارة البشرية. ولا ينبغي أن نخلط بينهما، فنطلب الثاني بقانون الأول، أو نطلب الأول دون تحقيق متطلباته.

المشروع الأول يعطي مساحة واسعة للمقبول المشترك لكلِّ من يتمركز حول الهدف المحوري ويسعى لرفع الظلم، حتى لو كان من غير المسلمين، كمثل حلف الفضول، والمشروع الثاني يعتني ببناء النخب القيادية التي تقوم على الإيمان العميق، وعلى منظومة الأخلاق الإيمانية، متسلِّحةً في مجموعها بجوانب القوة الروحية والنفسية والمادية والتقنية، مع إيجاد عوامل استمرار وحدة صفها واتساع رقعتها، ما يؤهلها لقيادة مشروع التمكين.

متطلبات أولية:

مشروع رفع الظلم يتطلب القدر الإنساني المشترك لرفعه، والمتمثل في:

  1. بلورة الفكرة المحورية التي تدور حول رفع الظلم.
  2. التجمُّع «التعصُّب» عليها بجمع الصف ووحدة الكلمة.
  3. قيادة واعية موجهة.
  4. الإعداد المادي.

ومشروع التمكين يتطلَّب، إضافةً لما سبق:

  1. الإيمان الصادق بالله، وخلو الصف القيادي من المنافقين.
  2. القيام نصرة للدين، ولإقامة الدين وشعائره.
  3. الصبر، والمصابرة والمرابطة.
  4. الجهاد المستمر لتحقيق التمكين، ولحمايته وأهله.
  5. تقوى الله والإخلاص له، والتخلص من أي قصد للدنيا.

كما يمكننا اقتراح الاستراتيجيات التالية لتحقيق مشروع التمكين، إضافة لجميع ما سبق:

  1. التوسع في إنشاء المدارس والمعاهد، وإعداد المناهج التي تشكل الجيل الجديد المتسلح بالإيمان العميق، المتخلق بالأخلاق السامية، وسطًا بين الإفراط والتفريط، وتنظيم ذلك بطرق مركزية وغير مركزية لتسهيل العلوم على فئات المجتمع كلها.
  2. إطلاق المشروعات التربوية المختلفة، التي تبني مؤسسات الثورة على الأسس الفكرية والأخلاقية الإسلامية الصحيحة.
  3. الاهتمام بالعمل التنظيمي والأمني الذي يحمي الصف من الاختراق، والحذر من الانتهازيين.
  4. تطوير الكوادر المتخصصة، وانتداب الموهوبين والمميزين للتخصصات التي تدعو الحاجة لها، وعمل برامج لبناء القيادات.
  5. تحرير المؤسسة القضائية، وتفعيل الرقابة عليها، ونشر العدل سواسية بين جميع الناس بغض النظر عن أي عوامل أخرى.
  6. تقديم البرامج الإيمانية والمواعظ التي ترقق القلوب، وتذكر الكوادر كافةً بالهَمِّ الرسالي الذي يحملونه، وبأهمية الصبر عليه، وفضل ذلك، حتى لا يستطيلوا الطريق.

أخيرًا ..

هذه استراتيجياتٌ ومبادراتٌ طويلة الأمد، لكن هذا هو الطريق الصحيح، وهذا هو تطبيق القانون الإلهي، وما عداه هو اعتساف لا يوصل إلى تمكين ولا استخلاف.

وصدق الله إذ يقول: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٨].

ويقول: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: ١٧].


أ.طلحة الناصر

باحث مهتم بقضايا التخطيط والتربية.


[1] المفردات في غريب القرآن، للراغب، ص (٤١٥).

[2] شفاء العليل (٢٣/٤٨).

[3] مجموع الفتاوى (١٣/٢٠).

[4] خطبة للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان «مقدمات في السنن الإلهية» على موقعه الإلكتروني.

[5] رسالة في لفظ السنة في القرآن، لابن تيمية، مطبوعة ضمن جامع الرسائل (٢/٥٤).

[6] مجموع الفتاوى (٨/٧٠).

[7] ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (٣/٤٩٨).

[8] الموافقات للشاطبي (١/٢١٨).

[9] ويكيبيديا، تحت عنوان (إستراتيجية).

[10] مقدمة ابن خلدون، ص (١٤٥).

[11] ينظر: تفسير الرازي (١٨/٤١٠).

[12] الاستقامة (٢/٢٤٧).

X