قضايا معاصرة

كيف واجه الإسلام التحديات النفسية الحديثة؟

في عالم مضطربٍ، تموج فيه النفس البشرية تحت ضغط المادية والتوتر والعزلة الرقمية، يقف الإسلام بمنهجه المتكامل كحصنٍ نفسيٍ راسخٍ، لا يقدّم حلولاً سطحية، بل يعالج الجذور: بالعقيدة التي تمنح المعنى، وبالعبادات التي تهدّئ القلق، وبالأخلاق التي تزكّي النفس، وبالرؤية التي توازن بين الدنيا والآخرة، إنّه علاجٌ ربانيٌ متكاملٌ، يصنع الطمأنينة من الداخل، ويمنح الإنسان السكينة التي لا تهزّها عواصف العصر.

في لجّة العصر الحديث، حيث تتلاطم أمواج التغيرات المتسارعة على شواطئ النفس البشرية، وحيث يزحف إيقاع الحياة بضراوة تترك الإنسان ملهثًا، ضائعًا في خضم سيل جارف من المعلومات والمؤثرات التي تفوق طاقته على الاستيعاب والتكيف؛ تبرز “التحديات النفسية” لا كقضية هامشية أو مُحصّلة لقلة قليلة من الناس، بل كسِمة غالبة وواقع مؤرق يُخيّم على حياة الكثيرين؛ فالقلق الذي لا يفتر، والتوتر الذي يستوطن النفوس، والإحباط الذي يُلوّن الرؤى بألوان قاتمة، واليأس الذي يُقْعِد عن السعي، والخوف من غدٍ مجهول يتسلل إلى القلوب كالصقيع، وضغط التنافس الذي لا يرحم، والعزلة الخانقة رغم صخب الاتصالات الافتراضية وجِعَة الأجهزة؛ كلها تجليات لأزمة نفسية عميقة تُقَوّض أركان الاستقرار الذاتي والاجتماعي، وتُفقِد الحياة بهجتها ومعناها.

لقد بذل علم النفس الحديث جهودًا مقدرة في فك ألغاز النفس البشرية، وتطوير نظريات وعلاجات تسعى للتخفيف من وطأة هذه التحديات. ومع احترامنا لهذه الجهود، يبقى السؤال الجوهري قائمًا: هل تملك النظريات التي تُجَرّد الإنسان غالبًا من بُعده الروحي وتُغفِل صلته بخالقه ومصيره النهائي القدرةَ على منح السكينة الحقيقية والطمأنينة المستدامة التي تنشدها الروح؟ هل تستطيع المقاربات التي تتعامل مع الأعراض دون الغوص في الجذور الوجودية والقِيَمِية للنفس البشرية أن تُلبي حاجاتها الدفينة وتُعالج قلقها العميق الذي يضرب أوتار الكينونة؟

هنا يتجلى الدور الفارق والبناء الشامل للمنهج الإلهي الذي أكرم الله به البشرية في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ فالإسلام ليس مجرد ديانة بمعناها الضيق، ولا هو مجرد طقوس تعبدية تُمارس بمعزل عن صخب الحياة؛ بل هو “منظومة متكاملة” و”نظام حياة” شامل، يخاطب الإنسان بكليته: عقله، وروحه، وجسده، ونفسه، وعلاقاته، وواقعه، يهدف إلى بناء إنسان سوي، متوازن، نافع، مُستخلف في الأرض على بصيرة. وفي قلب هذه المنظومة تكمن “العقائد” التي تُشَكّل الأساس المتين، و”الأخلاق” التي تُبنى عليها السلوكيات والتفاعلات، و”الأفكار والتصورات” التي تُكوِّن رؤية الإنسان عن نفسه، عن الكون، عن الحياة، وعن خالقه. هذه المنظومة بكليتها تُقدم للمسلم حصنًا منيعًا ودواءً ناجعًا في مواجهة التحديات النفسية الحديثة، ليس بمُسكنات مؤقتة أو آليات تكيف قشرية، بل ببناء “حصانة داخلية” متينة، تُثمر “سكينة” لا تُزعزعها الخطوب، و”يقينًا” لا تُضعفه تقلبات الزمان والمكان.

الأزمة النفسية المعاصرة ليست وليدة فراغ، بل هي نتاج تراكم عوامل وأسباب عميقة، من أبرزها: طغيان الماديّة وغياب الغاية الكبرى من الوجود، والإدمان على الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي وما تحمله من تزييف للواقع، وضغط التنافس والفردانية المُفرطة، والتعرض المستمر للأخبار السلبية والأزمات مع الشعور بالعجز عن فعل شيء إزاءها

أولاً/ نظرة في أسباب ومنشأ الأزمات النفسية الحديثة:

قبل الحديث عن العلاج، لا بد من الوقوف على الداء.

إن الأزمة النفسية المعاصرة ليست وليدة فراغ، بل هي نتاج تراكم عوامل وأسباب عميقة تضرب في صميم بنية المجتمع الحديث ونمط الحياة السائد فيه، ومن أبرز هذه الأسباب التي يُمكن للمنظومة الإسلامية أن تُقدم إزاءها معالجة أو مساعدة:

1. طغيان المادية وغياب الغاية الكبرى: في عصر يُمَجّد فيه النجاح المادي والاستهلاك السريع، وتُقاس قيمة الإنسان بما يملك لا بما يُقدم أو بما هو عليه؛ يفقد الكثيرون الشعور بالغاية السامية لوجودهم؛ يصبح الركض وراء المال والمكانة الاجتماعية هدفًا نهائيًا يُوَلّد قلقًا مُزمنًا من الفشل، ويُحدِث فراغًا روحيًا هائلاً، كما أن غياب المفهوم الحقيقي للإيمان بالله وغاية تحقيق رضاه، وتجاهل أن الحياة تنتهي بالموت؛ يُوَلّد إحساسًا عبثيًا بالحياة ويُغذي مشاعر اليأس واللاجدوى عند مواجهة الصعوبات أو عند فقدان مُكتسبات الدنيا.

2. ثورة الاتصالات وتزييف الواقع: على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية قد قرّبت المسافات ظاهرًا، إلا أنها ساهمت في ظهور مفارقات عجيبة؛ فالتكنولوجيا الرقمية تتستر على “عزلة” نفسية حقيقية، وأصبح لمتابعة الشاشات نوعٌ من الإدمان الذي يُشتت الذهن، ويُقلل من التواصل الإنساني الحقيقي وجهًا لوجه، ويُغذي ثقافة المقارنة المستمرة من خلال استعراض حياة الآخرين المُنمّقة (وغالبًا المزيّفة) على هذه المنصات، هذا يُوَلّد شعورًا دائمًا بالنقص، والحسد، والخوف من فوات زينة الدنيا، ويُقلل من الرضا بالحال، ويهدر الأوقات التي يُمكن استثمارها في بناء الذات والعلاقات الحقيقية أو في العبادة والتفكر. إدمان هذه الوسائل يُصبح بذاته مشكلة نفسية تزيد من القلق والتوتر وضعف التركيز.

3. ضغط التنافس والفردانية المُفرطة: يدفع المجتمع الحديث الأفراد إلى سباق لا يتوقف نحو النجاح والتميز في كل شيء (المهنة، الدراسة، المظهر، العلاقات). هذا الضغط المستمر، وغياب مفهوم “الرزق المقسوم” و”التوفيق من الله” و”التعاون على البر والتقوى”، يُوَلّد شعورًا دائمًا بالتهديد، والخوف من الفشل، ويُضعف روابط التكافل والتعاضد التي تُشكل شبكة أمان نفسي للفرد. الفردانية المفرطة تجعل الإنسان يشعر بأنه وحيد في مواجهة تحديات الحياة، بينما حاجته الفطرية للمجتمع والدعم تتزايد.

4. التعرض المستمر للأخبار السلبية والأزمات: في عالم مُتصل على مدار الساعة، يجد الإنسان نفسه مُحاطًا بكم هائل من الأخبار المزعجة عن حروب، كوارث، أزمات اقتصادية، وجرائم. هذا التعرض المُستمر، مع الشعور بالعجز عن فعل شيء إزاءها يُوَلّد شعورًا دائمًا بالتهديد، والقلق العام، واليأس من إمكانية تغيير الواقع نحو الأفضل.

هذه ليست سوى أمثلة قليلة، لكنها تُبين أن الأزمة النفسية الحديثة متجذرة في نمط حياة وتصورات عن الوجود غالبًا ما تكون مُغايرة للفطرة السوية أو مُتعارضة معها.

على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي قد قرّبت المسافات ظاهرًا، إلا أنها ساهمت في ظهور مفارقات عجيبة؛ فالتكنولوجيا الرقمية تتستر على “عزلة” نفسية حقيقية، وأصبح لمتابعة الشاشات نوعٌ من الإدمان الذي يُشتت الذهن، ويُقلل من التواصل الإنساني الحقيقي وجهًا لوجه، ويُغذي ثقافة المقارنة المستمرة من خلال استعراض حياة الآخرين المُنمّقة (وغالبًا المزيّفة)

ثانيًا/ العقيدة والعبادات.. صخرة الإيمان في بحر القلق:

إن أول وأقوى حصن تُقَدّمه المنظومة الإسلامية في وجه التحديات النفسية هو: “العقيدة” الصحيحة؛ فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليس مجرد قناعات نظرية، بل هو قِوَام الوجود النفسي للإنسان ومصدر أساسي لاستقراره.

1. التوحيد: حين يُوقِن الإنسان أن لهذا الكون خالقًا واحدًا، قادرًا على كل شيء، رحيمًا بعباده، عليمًا بكل خافية؛ يتحرر قلبه من عبودية المخلوق التي تُوَلّد القلق والذل. فبدلاً من التعلق المَرَضي بالوظيفة، أو المال، أو رضا الناس، أو الأجهزة الإلكترونية كمصادر للسعادة والأمن (وهي مصادر مُتقلّبة تَجلب خيبة الأمل والقلق)؛ يصبح تعلّقه الأساسي بالله تعالى مصدر القوة والعطاء الحقيقي. هذا التحرر هو بحد ذاته شفاء عميق للنفس من الكثير من مخاوفها وهواجسها. معرفة الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: (الرحمن، الرحيم، اللطيف، الرزاق، الشافي، القوي، الجبار) تُورِث النفس طمأنينة وتُشعرها بأنها مُستنِدة إلى ركن شديد لا يميل ولا يزول. كذلك فإن معرفة الخالق تعالى تعطي للحياة معنى قيم. يقول الطبيب النفسي النمساوي “فيكتور فرانكل”: “الافتقار إلى معنى للحياة هو أحد المحركات المركزية للاكتئاب، والإنسان لا يستطيع تحمّل الفراغ الوجودي طويلاً دون أن يظهر عليه عرضٌ نفسيّ ما”[1].

قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ 1 اللَّهُ الصَّمَدُ 2 لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 3 وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1-4]، هذه الآيات تُشَكّل أعظم مُخَرّج للنفس من متاهات القلق والتشتت، بتوحيد جهة الاعتماد وكمال اللجوء.

2. الإيمان بالقدر: إن التسليم بأن كل ما يحدث في الكون هو بتقدير الله وعلمه وحكمته البالغة، لا يعني الجبرية أو القعود عن العمل، بل يعني أن القلب بعد بذل الأسباب المشروعة يسلم النتائج لـمُدبّر الأمر كله. هذا الإيمان يُحرر النفس من عبء قلق النتائج الذي يُثقل كاهل الكثيرين في العصر الحديث؛ فالخوف من الفشل، والندم على ما فات، والقلق المفرط على المستقبل، كلها تتلاشى أو تضعف أمام اليقين بأن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك، وأن الله تعالى قد كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض.

قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ 22 لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23]. هذه الآية تُبيّن بوضوح كيف أن الإيمان بالقدر يُشَكّل أساسًا نفسيًا متينًا لمواجهة المصائب والتقلبات (كي لا تأسوا على ما فاتكم)، ولضبط النفس عند حصول النعم (ولا تفرحوا بما آتاكم)؛ مما يُحقق توازنًا نفسيًا عظيمًا.

3. الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالحياة بعد الموت، بالجزاء والحساب، بالجنة والنار، يُعطي للحياة الدنيا معناها الحقيقي كـ “مزرعة للآخرة” و”دار ابتلاء وامتحان”. هذا التصور يُعيد ترتيب الأولويات ويُخفف من هول المصائب الدنيوية ومُغريات الحياة الفانية؛ فالمسلم يعلم أن ما ينتظره عند ربه من نعيم مقيم، أو ما يخشاه من عذاب أليم، أعظم وأبقى بكثير مما يمر به في الدنيا. هذا الإيمان يزرع الأمل العميق في النفس حتى في أحلك الظروف، ويُعين على تجاوز الألم النفسي الناتج عن الفقدان، أو الظلم، أو عدم تحقيق الأهداف الدنيوية؛ لأن الجزاء الأوفى والعدالة المطلقة هناك.

قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]، هذا الفهم لحقيقة الدنيا وعلاقته بالآخرة هو أساس نفسي عميق للتخفف من ضغوط الحياة ومقارناتها التي تُوَلّد الكثير من التحديات النفسية المعاصرة.

ولا تنفصل العقيدة الإيمانية بالتأكيد عن السلوكيات التعبدية؛ فالعبادات مثل الصلاة والصيام والذكر هي جزء أصيل لا ينفصل عن أساس العقيدة التي يبنى عليها أساس الإيمان، فيتكاملان معًا لتدعيم النفس البشرية في كل ما قد يواجهها من تحديات على اختلافها، يقول عالم الأعصاب “أندرو نيوبرغ” في كتابه “كيف يغيّر الله دماغك”: “أظهرت دراسات الدماغ أن تكرار الأذكار أو الأدعية يؤدي إلى تقليل نشاط مناطق الدماغ المرتبطة بالقلق، ويزيد من الاستقرار الانفعالي”[2]، وفي مثال آخر يقول “مارك ماتسون”: “الصوم المنتظم (حتى لو ليومين في الأسبوع) يُحدث تأثيرًا ملحوظًا في ضبط التوتر، وتحسين المزاج، وزيادة التركيز العقلي، وتقليل نوبات الغضب”[3]، وتتفق تلك الحقيقة مع أن الشعائر التعبدية بين العبد وربه هي بالتأكيد من أقوى دعائم النفس ضد التحديات النفسية والمادية كذلك.

يقول عالم الأعصاب “أندرو نيوبرغ” في كتابه “كيف يغيّر الله دماغك”: “أظهرت دراسات الدماغ أن تكرار الأذكار أو الأدعية يؤدي إلى تقليل نشاط مناطق الدماغ المرتبطة بالقلق، ويزيد من الاستقرار الانفعالي”

ثالثًا/ الأخلاق.. بناء النفس السوية من الداخل:

إذا كانت العقيدة هي الأساس الراسخ، فالأخلاق هي البناء الذي يُقام عليه صرح النفس السوية المتوازنة. الأخلاق الإسلامية ليست مجرد سلوكيات ظاهرية، بل هي قيم مُتجذرة في القلب تُثمر أفعالاً على أرض الواقع. ومن أبرزها ما يُشَكّل مُعالجة مُباشرة للتحديات النفسية:

1. الصبر: الصبر ليس مجرد تحمل سلبي، بل هو حبس النفس على ما تكره ابتغاء مرضاة الله، وهو شجاعة داخلية ورباطة جأش في مواجهة البلاء. الصبر ضروري لطاعة الله (كأداء العبادات التي قد تثقل على النفس في زمن الكسل، أو طلب العلم الذي يحتاج مجاهدة)، وكذلك الصبر عن معصية الله (وهو شديد الأهمية في زمن الشهوات الـمُباحة عبر الشاشات وغيرها، ويُعالج إدمان النظر، وإدمان المتابعة، وإدمان طلب الإعجابات والرضا من الآخرين)، والصبر على أقدار الله المؤلمة (كمرض، أو فقدان، أو فشل مادي، أو ضغوط اجتماعية). الصبر يُعزز قوة الإرادة التي تضعف في زمن الإغراءات السهلة، ويُعلم النفس كيفية التعافي بعد السقوط، ويُقلل من ردود الفعل الانفعالية السلبية كالتسخط والجزع التي تزيد من وطأة المشكلات النفسية.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، الاستعانة بالصبر والصلاة هي الوصفة الربانية لتجاوز الصعاب النفسية والواقعية.

وفي الحديث الشريف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (‌عجبًا ‌لأمر ‌المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)[4]. يربط الحديث بين الصبر عند الضراء وتحقق الخيرية للمؤمن، وهذا يُوَلّد القوة النفسية لمواجهة الشدائد.

وفي القرآن الكريم وردت قصة نبي الله أيوب عليه السلام، لتبين ابتلاء الله تعالى له في صحته وماله وأهله، فصبر صبرًا عظيمًا، ولم يجزع ولم يسخط على قضاء ربه، بل ظل يذكر الله ويثني عليه، حتى كان مضرب المثل في الصبر، قال تعالى واصفًا صبره: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]، صبر أيوب لم يكن ضعفًا، بل كان قوة نفسية هائلة، ويقينًا مطلقًا بأن ما عند الله خير وأبقى، وأن البلاء مقدر من حكيم عليم، وأن الفرج آتٍ لا محالة بعد الصبر الجميل.

فالصبر بالتأكيد يفيد الإنسان عند الشعور بالتوتر والقلق من المستقبل مثل (قلق الامتحانات، قلق العمل، قلق الأزمات)، مع استحضار أن هذا من أقدار الله التي تحتاج إلى صبر جميل مقرون بالعمل والأخذ بالأسباب.

وعند مواجهة خيبة أمل أو إحباط (فشل في مشروع، فقدان عزيز)، تذكر أن هذه الحياة دار ابتلاء، وأن الجزع لا يرد فائتًا ولا يغير واقعًا، وأن الصبر هو مفتاح الفرج وأن بعد العسر يسرًا.

2. التوكل: وهو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب، وهو ليس كسلاً، بل هو قمة العمل القلبي المقرون بالعمل الجسدي في زمنٍ يُثقل فيه التفكير الـمُفرط بالمستقبل وكثرة الاحتمالات المخيفة كاهلَ النفس، فيأتي التوكل ليُعلّم المؤمن أن عليه أن يبذل ما في وسعه، ثم يُسلّم النتائج لله الذي يملك مقاليد الأمور كلها، هذا التسليم يمنح القلب راحة هائلة ويُزيل عنه عبء الشعور بالمسؤولية المطلقة عن نتائج هي في حقيقة الأمر خارجة عن إرادته الكاملة. التوكل يُعالج بشكل مباشر قلق المستقبل، قلق الرزق، والخوف من الفشل، لأنه يربط القلب بالقوي القادر الذي لا يعجزه شيء.

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، “فهو حَسبه”: أي كافيه؛ هذه الكفاية الربانية هي أعظم بلسم لنفس تُعاني من القلق والضعف.

ومن أبلغ الأمثلة: توكل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما في الغار والمشركون على مقربة، قال أبو بكر: “يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيقين المتوكل: (يا أبا بكر، ما ظَنُّكَ باثنين اللهُ ثالثُهما؟)[5]. هذا التوكل لم يمنع الأخذ بالأسباب (دخول الغار، استئجار الدليل)، لكنه منحهم السكينة المطلقة في أشد لحظات الخطر.

ومن أمثلة التوكل في القرآن: قصة نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما ألقاه قومه في النار، لحظةٌ عصيبة وموقفٌ مهيب لا يملك فيه الإنسان إلا التوكل على خالقه، وعندما سأله جبريل عليه السلام: “ألك حاجة؟” قال إبراهيم: “أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل”[6]. هذا التوكل الصادق لم يكن قعودًا؛ فقد فعل إبراهيم كل ما يستطيعه قبل ذلك في الدعوة والحوار، ولكنه عند غلبة الأسباب المادية لجأ إلى خالق الأسباب، فكانت النتيجة: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

فالتوكل مهم عند الشعور بالضغط من كثرة المسؤوليات والأعباء، أو عند الخوف من الفشل في مشروع أو دراسة، أو حتى عند تعرض القلب للمخاوف المتعلقة بالرزق، الصحة، أو أي أمر مستقبلي؛ فيجب أن يقوم الإنسان بما يجب عليه من أسباب، ويدعو الله، ويتيقن بأن الله لن يُضيعه ما دام مستقيمًا على أمره.

3. الرضا: الرضا بالقضاء والقدر هو تتويج لمقامات الصبر والتوكل، هو حالة قلبية رفيعة يجعل المؤمن يتقبل ما قضاه الله عليه بعد فعل الأسباب بنفس مطمئنة، عالـمًا أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، وأن وراء كل قدر حكمة بالغة يعلمها الله. الرضا يُحرر النفس من أسر الندم على الماضي، ومن عذاب الحسرة على ما لم يتحقق، ومن سموم الحسد على ما لدى الآخرين، هو يُعلّم النفس القناعة بما قسم الله، والشكر على الموجود لا الجزع على المفقود، إنه يُحول النقمة إلى نعمة، والألم إلى أجر، والتحدي إلى فرصة للتقرب إلى الله، إنه الدواء الأعظم لمشاعر النقص، والمقارنة السلبية، والإحباط المزمن. يقول “هارولد كوينغ” أستاذ الطب النفسي: “المرضى ذوو الإيمان العميق يتعافون بشكل أسرع من الاكتئاب، وتكون لديهم استجابات أقوى للعلاج، مقارنة بالمرضى غير المتدينين”[7].

ويتماشى ذلك مع قول الله تعالى في وصف حال المؤمنين المتقين: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]، بعد قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155-156]، فقولهم: “إنا لله وإنا إليه راجعون” هو قمة الرضا والتسليم الذي يُثمر صلوات ورحمة وهداية من الله.

الأخلاق تبني النفس السوية من الداخل، فالصبر يُعزز قوة الإرادة ويُعلم النفس التعافي بعد السقوط ويُقلل من الانفعالات السلبية، والتوكل يُعلّم التسليم لله بعد فعل الأسباب مما يمنح القلب راحة هائلة من القلق والخوف من الفشل، والرضا هو الدواء الأعظم لمشاعر النقص والمقارنة السلبية والإحباط المزمن، والشكر يزيد النعم ويُرسخها ويُوَلّد في النفس حالة من الامتنان والرضا

4. الشكر: الشكر هو الاعتراف بنعم الله باطنًا (بالقلب) وظاهرًا (باللسان والجوارح) واستخدامها فيما يُرضيه. في زمن يُركز فيه الإعلام والنزعة الاستهلاكية على ما يَنقص الإنسان لا على ما يملك؛ يصبح الشكر دواءً ناجعًا لمشاعر النقص وعدم الرضا التي تُغذي الكثير من المشكلات النفسية، استحضار نعم الله التي لا تُحصى (الصحة، الأمن، الأهل، فرص العمل، القدرة على العبادة) يُوَلّد في النفس حالة من الامتنان تُبدد ظلمات التسخط والجحود والحسد، الشكر يزيد النعم ويُرسخها، وهو بحد ذاته عبادة تُقوي الصلة بالله وتُشعر المؤمن بمعيته وعنايته.

قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، والوعد بالزيادة هنا لا يقتصر على الماديات، بل يشمل الزيادة في الطمأنينة والبركة والسكينة.

رابعًا/ الأفكار والتصورات.. بناء عقل مُحصّن ونفس مُستنيرة:

تُشَكّل الأفكار والتصورات التي يُقَدّمها الإسلام عن الكون والحياة والإنسان عنصرًا حيويًا في بناء المناعة النفسية ومواجهة التحديات، هذه التصورات تُقدم إطارًا معرفيًا يُفسر الواقع ويُعين على فهمه والتعامل معه.

1. الحياة الدنيا دار ابتلاء: التصور الإسلامي للحياة الدنيا بأنها “دار ابتلاء” وليست “دار جزاء” أو “دار استمتاع محض” يُغير نظرة الإنسان للتحديات والصعوبات؛ فالمحن لا تُصبح مُجرد “مشاكل” أو “عقبات” تُثير القلق واليأس، بل تُصبح “ابتلاءات” و”اختبارات” من الله، تحمل في طياتها فرصًا لرفع الدرجات، وتكفير السيئات، واكتشاف مكامن القوة في النفس، والتقرب إلى الخالق بالدعاء والصبر واللجوء إليه. هذا التصور يُحول الألم النفسي إلى دافع إيجابي نحو العمل الصالح والتحمل والتوكل.

قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 1 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 1-2]، الآية تُصَرّح بأن غاية خلق الحياة والموت هي الابتلاء.

2. المجتمع المسلم بناء مُتراص: في زمن تُعاني فيه النفوس من العزلة والشعور بالوحدة رغم الازدحام، يُقدم الإسلام تصورًا عن المجتمع كبناء مُتراص أساسه الأخوّة الإيمانية والتكافل الاجتماعي: المساجد، مجالس العلم والذكر، الزيارات الأسرية، صلة الرحم، تفقّد الجيران، التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر برفق وحكمة؛ كلها آليات تُشَكّل شبكة أمان نفسي واجتماعي قوية. والشعور بأن هناك من يسندك، وينصحك، ويدعمك، ويُشاركك همومك وأفراحك، ويُعينك على الطاعة ويُبعدك عن المعصية؛ يُقلل كثيرًا من وطأة الضغوط النفسية ويُعالج الشعور بالعزلة.

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، هذه الأخوة ليست مجرد كلمة، بل هي رابطة عقدية تُلزم بحقوق وواجبات مُتبادلة تُعزز التماسك الاجتماعي والنفسي.

وفي الحديث، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ المؤمنين في تَوادِّهِم وتَرَاحُمِهِم وتعاطُفِهِم كَمَثَلِ الجسدِ؛ إذا اشتكى منه عُضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى)[8]، هذا التصوير يُجسد الترابط العضوي بين أفراد المجتمع المسلم ودوره في الدعم النفسي المتبادل.

خامسًا/ التكامل الضروري بين الهدي الشرعي والتطبيق العصري:

إن المنظومة الإسلامية التي تشمل العقيدة والأخلاق والأفكار تُقدم إطارًا نظريًا وتطبيقيًا قويًا جدًا لمواجهة التحديات النفسية الحديثة، لكن هل هذا يُغني عن الاستفادة مما توصل إليه علم النفس الحديث؟ الجواب من منظور شمولي وتكاملي هو: أن الهدي الشرعي هو الأساس والـمُوجّه والوقود الروحي والنفسي الأعمق، بينما يُمكن لعلوم النفس والاجتماع الحديثة أن تُقدم أدوات تشخيصية وتطبيقية وإرشادية تُعين على تطبيق هذا الهدي الشرعي في سياقات الحياة المعاصرة وفهم الآليات النفسية والسلوكية الدقيقة التي تُساهم في المشكلات وتُساعد في حلها.

مثلاً، في مسألة إدمان استخدام الهاتف ووسائل التواصل، تُقدم المنظومة الإسلامية العلاج الجذري عبر:

» العقيدة: التذكير بأن الوقت نعمة سيسأل عنها العبد يوم القيامة، وأن إضاعة العمر فيما لا يُفيد لا يُرضي الله.

» الأخلاق: تفعيل خلق “الصبر” في كبح جماح النفس عن تصفح لا ينتهي، وتطبيق “المراقبة” (أن تعبد الله كأنك تراه) حتى في استخدام الهاتف، و”الشكر” على نعمة الوقت باستغلاله فيما يُفيد.

» الأفكار: تغيير التصور بأن القيمة تأتي من عدد المتابعين أو الإعجابات، وأنّ القيمة الحقيقية تكون برضا الله والعمل الصالح.

إن السكينة والطمأنينة النفسية التي ينشدها إنسان العصر المضطرب ليست سلعة تُباع وتُشترى، ولا هي نتيجة لظروف خارجية مثالية قلّما تتحقق، إنها ثمرة عمل داخلي، وجهاد مستمر، وبناء واعٍ للنفس على أسس متينة تُقدمها منظومة الإسلام المتكاملة: عقيدةٌ راسخة تُجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى وتُوَحّد القصد والغاية، وأخلاقٌ فاضلة تُقَوّم السلوك وتُهَذّب النفس وتُعزز الإرادة، وتصوراتٌ عن الكون والحياة تمنح المعنى وتُقدم إطارًا لفهم الابتلاء والتعامل معه

في الختام.. سكينة لا تُمنح، بل تُكتسب:

إن السكينة والطمأنينة النفسية التي ينشدها إنسان العصر المضطرب ليست سلعة تُباع وتُشترى، ولا هي نتيجة لظروف خارجية مثالية قلّما تتحقق، إنها ثمرة عمل داخلي، وجهاد مستمر، وبناء واعٍ للنفس على أسس متينة، هذه الأسس تُقدمها منظومة الإسلام المتكاملة: عقيدةٌ راسخة تُجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى وتُوَحّد القصد والغاية، وأخلاقٌ فاضلة تُقَوّم السلوك وتُهَذّب النفس وتُعزز الإرادة، وتصوراتٌ عن الكون والحياة تمنح المعنى وتُقدم إطارًا لفهم الابتلاء والتعامل معه.

حين يتشبث المسلم بعقيدته، ويتخلّق بأخلاق قرآنه، ويستنير بتصورات هديه، ويُعمِل عقله في فهم واقعه مستعينًا بما تيسر من أدوات العصر التي لا تُعارض شرعه، ساعيًا للتكامل بين الهدى الرباني والمعرفة الإنسانية؛ حينئذٍ يجد السكينة الحقيقية التي لا تهتز أمام عواصف الحياة. يطمئن قلبه بذكر الله، ويُسلم أمره للقوي القادر بعد بذل الجهد، ويرضى بقضاء الله وقدره، ويُصبح حصنًا منيعًا في وجه التحديات النفسية التي تفتك بغيره.

إن العودة الصادقة إلى منابع الوحي، وفهمها بعمق، وتطبيقها بحكمة، هو الطريق الأقوم لبناء النفس المسلمة القوية الواثقة المطمئنة في زمن الاضطراب، عندها فقط يتحقق وعد الله الحق: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28][9].


د. محمود حلمي

كاتب وباحث أكاديمي، أخصائي إرشاد أسري وتربوي


[1] البحث عن معنى للحياة، لفيكتور فرانكل، ص (113).

[2] كيف يغيّر الله دماغك، لأندرو نيوبرغ، ص (70–72).

[3] التحول الأيضي المتقطع، اللدونة العصبية وصحة الدماغ، لمارك ماتسون وآخرين، مجلة نيتشر ريفيوز لعلوم الأعصاب، المجلد 19، 2018، ص (63–80).

[4] أخرجه مسلم (2999).

[5] أخرجه البخاري (3653) ومسلم (2381).

[6] أخرج البخاري (4563) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: “{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}”.

[7] الدين، الروحانية، والصحة: البحث والتطبيقات السريرية، هارولد كوينغ، مجلة ISRN للطب النفسي، 2012م.

[8] أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، واللفظ لمسلم.

[9] وقد اقتصرت في هذا المقال على الاستشهاد بأقوال علماء النفس الغربيين الذين لا يدينون بالإسلام، وهم مع دينهم المحرّف يجدون أثرًا لهذا الدين على النفس، فكيف بدين التوحيد الخالص؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *