الافتتاحية

صيحة نذير .. أدركوا المناطق المحررة!

نِعَمُ الله تعالى تدومُ بالشُكر وتزول بالكُفر، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]، والعجب ممَّن يعرف هذا القانون ثم يرتكب ما يوجب زوال النعمة وحلول النقمة، وهذا العجب يزداد مع من ذاق النعمة بعد فقدِها؛ فهذا أجدرُ من غيره بالمحافظة على النعمة والتمسُّك بها، لأنه عَرَف الفقد وعايشه! بخلاف مَن نشأ على النعمة؛ فإنه قد يظنُّها استحقاقًا دائمًا.

ونعمة الأمن من أعظم النعم، وهي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها حياة الإنسان، ولا تستقيم من دونها، وبزوالها تستحيل الحياة ضربًا من العذاب ونوعًا من الشقاء؛ فهذه مملكة سبأ التي أنعم الله عليهم بنِعم عظيمة ﴿جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أمرهم الله أن يشكروا هذه النِّعم ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾؛ لكنهم قابلوها بالإعراض عن دين الله فأزالها الله عنهم، وبدَّلهم بها ﴿جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ [سبأ: ١٦]. ومِن النعم التي كانوا يرفلون بها نعمة الأمن: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾؛ لكنَّهم من ط غيانهم وسفاهتهم تمنَّوا أن تكون أسفارهم بعيدة، ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، فأزال الله عنهم نعمة الأمن ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ١٩]؛ وصاروا عِبرة للناس إلى يوم القيامة تُتلى فيهم الآيات.

الأمن ضرورة للبشر:

حفلت نصوص الوحيين بالتذكير بهذه النعمة العظيمة في العديد من المواضع وبمختلف الأساليب؛ فقد امتنَّ تبارك وتعالى على قريش بنعمة الأمن بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]، وجعل شكر هذه النعمة بتوحيده وعبادته، فقال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ٣ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣-٤]. كما امتنَّ على المسلمين في غزوة أُحُد بنزول الأمن والطمأنينة عليهم فقال: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا﴾ [آل عمران: ١٥٤]، فجعل النعاس أمانًا لهم بعد الخوف من كثرة عدوِّهم وقلة عَددهم وعُددهم.

وعدَّها النبي ﷺ إحدى أهمّ النعم التي يتقلَّب فيها الإنسان، فقال: (مَنْ أصبَحَ آمِنًا في سِرْبِهِ، معافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا)[1]. والدعاء بالأمن من أهم أدعية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فكان من دعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [البقرة: ١٢٦]، فَبَدَأَ بالأَمْنِ قَبل الرِّزْقِ.

وهو جزاء الله لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور: ٥٥]، وفي الآخرة: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: ٨٩].

نِعَمُ الله تعالى تدومُ بالشُكر وتزول بالكُفر، والعجب ممَّن يعرف هذا القانون ثم يرتكب ما يوجب زوال النعمة وحلول النقمة، ويزداد العجب مع من ذاق النعمة بعد فقدِها؛ فهذا أجدرُ من غيره بالمحافظة على النعمة والتمسُّك بها، لأنه عَرَف الفقد وعايشه

لا حياة دون أمن:

الأمن من ضروريات الحياة؛ فإن لم يكن أمنٌ فلا حياة، قال الماوردي: «اعلم أنَّ ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة ستةُ أشياء، هي قواعدها وإن تفرَّعت، وهي: دِين متَّبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن، وخِصب دائم، وأمل فسيح»[2]. وقال الجويني: «لا تصفو نعمة عن الأقذاء ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار…؛ فالأمن والعافية قاعدتا النِّعم كلها، ولا يُهنأ بشيء من دونها»[3].

بل إن حفظ الأمن وسيلة للحفاظ على الدين والدنيا؛ قال الغزالي: «إنَّ نظام الدِّين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدِّين بالمعرفة والعبادة لا يُتوصل إليهما إلا بصحّة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة، والمسكن، والأقوات، والأمْن»، إلى أن قال: «فلا ينتظم الدِّين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمّات الضروريات»[4].

وقد جعل تعالى ذهابَ الأمن قرينَ القتل وإزهاق الأنفس، كما في قوله: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: ١٩١]، والمراد بالآية: «إن فتنتهم إيّاكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب، والإخراج من الوطن، والمصادرة في المال، أشدّ قبحًا من القتل؛ إذ لا بلاء على الإنسان أشدّ من إيذائه واضطهاده، وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكّن من عقله ونفسه، ورآه سعادة له في عاقبة أمره»[5].

الأمن مسؤولية مَن؟

أمنُ الناس على أمور دينهم ودنياهم مسؤولية جماعية تشترك فيها الأطراف كافَّة:

١- مسؤولية الحاكم:

الأمن أحد أهم مسؤوليات القائم على شؤون الناس في الإسلام، فالخلافة -كما كان منصب الحاكم القائم بشؤون الحكم- هي: «رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي ﷺ»[6]، ومن مهام الخليفة: «حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»[7].

وقد أجمَل الماورديُّ مسؤوليات الحاكم بكلامٍ طويل خلاصته: حِفظُ الدينِ، وتنفِيذُ الأحكامِ بَينَ المُتَشاجِرِينَ، وقَطعُ الخِصامِ بَينَ المُتَنازِعِينَ، وحِمايةُ البَيْضَةِ ليأمن الناس من تَغرِيرٍ بنَفسٍ أو مالٍ، وإقامةُ الحُدُودِ لِتُصانَ مَحارِمُ الله تَعالى وَتُحْفَظَ حُقُوقُ العباد، وتَحصِينُ الثُّغُورِ، والجهادُ، وجِبايَةُ الفَيْءِ والصَّدَقاتِ، وتقديرُ العَطايَا، وتوليةُ الولاة والمسؤولين الأمناء النصحاء. وأنّ يتولى الأمر بنفسه ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذّة أو عبادة وفي القرآن والسنة إشارة إلى ذلك، قال اللهُ تَعَالَى: ﴿يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص: ٢٦]، وقال النبيُّ ﷺ: (كلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[8].

وهذه المسؤولية تعمُّ جميع مَن ولّاه الله شيئًا من أمر المسلمين، من مسؤولين سياسيين، ومدنيين، وأمنيّين، وعسكريين وغيرهم؛ فكلٌّ منهم مسؤولٌ في نطاق مسؤوليته، وهو محاسبٌ عليها يوم القيامة.

قد تكون كلمة الحق باهظة الثَّمن؛ فقد تفُقد العالم أو الداعية -الذي لا يخشى إلا الله ولا يخاف فيه لومة لائم- ماله وحريته، وقد تنفيه وقد تُقيِّده، وقد تؤدِّي لقتله، لكنها صمام أمانٍ للمجتمع تقيه من ظلم الظالمين، وتقي الظالمين من شرِّ أنفسهم

٢- مسؤولية أهل العلم:

فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم مصابيح الهداية التي ترشد الناس في الملمّات، ولهم دور عظيم في حفظ الأمن والاستقرار في المجتمع، تتمثل بثلاثة أمور:

  • بيان الحق للناس؛ ولا سيما في الأمور المشتبهة التي تخفى على الناس، والأخذ بأيديهم إلى صراط الله المستقيم، ومنعهم من الانزلاق في مهاوي الفتن والفوضى، وقيادتهم في الأزمات الخطيرة.
  • والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيادة عملية الإصلاح المجتمعي بهدف القضاء على كلِّ ما من شأنه زعزعة الأمن وإشاعة الفوضى.
  • والصدع بكلمة الحق دون خوف، ونصح المسؤولين على اختلاف مستوياتهم واختصاصاتهم، وتخويفهم بالله عند تقصيرهم في حفظ الأمن والوقوع في مخالفته؛ احتسابًا وأداءً لجهاد البيان وأمانة الكلمة، ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، وقد قال رسول الله ﷺ: (أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ)[9].

وقد تكون كلمة الحق باهظة الثَّمن؛ فقد تُفقد العالم أو الداعية ماله وحريته، وقد تنفيه وقد تُقيِّده، وقد تؤدِّي لقتله، (سيد الشهداء حمزة…) لكنها صمام أمانٍ للمجتمع تقيه من ظلم الظالمين، وتقي الظالمين من شرِّ أنفسهم؛ إذا قيلت من عالمٍ لا يخشى إلا الله ولا يخاف فيه لومة لائم، ويزرع الله مهابته في قلوبهم، فيرتدعون وينزجرون ويتوقّفون عن الظلم والبغي.

المجتمع هو السياج الحامي للدين والأخلاق، وقد أناط به الشارع واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يتأكد عند تفريط الجهات والمؤسسات الرسمية في واجبها، أو انحرافها عن الواجب بتسلُّط بعض المنتفعين والفاسدين عليها، فإن خشي الجميع من قول كلمة الحق فإن هذا نذيرٌ بفساد الأحوال وذهاب الأمن

٣- مسؤولية المجتمع:

للمجتمع في الإسلام مكانة كبيرة فهو أساس قيام الدولة، وهو السياج الحامي للدين والأخلاق، وأصل الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.

ومما هو منوط بالمجتمع: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤]، وقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].

ويتأكَّد هذا الواجب المجتمعي عند ضعف الجهات والمؤسسات الرسمية عن القيام بواجبها، أو انحرافها عن الواجب بتسلُّط بعض المنتفعين والفاسدين عليها، وقد توعَّد الله المجتمعات التي تتوانى عن هذا الواجب بأشدِّ العقاب.

قال رسول الله ﷺ: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[10]. وقال ﷺ: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)[11].

ذكر ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ قوله ﷺ: (إنَّ أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتَّقِ الله ودعْ ما تصنع، فإنَّه لا يحلُّ لك. ثم يلقاهُ من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أَكِيلَه وشَرِيبَه وقعيده، فلمَّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)، ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ ٧٨ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ٧٩ تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ٨٠ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٧٨-٨١]، ثم قال: (كلّا والله لَتأمُرُنَّ بالمعروف ولَتنهَوُنَّ عن المنكر، ولَتأخُذُنَّ على يد الظالم، ولَتأطُرُنَّه على الحق أطرًا – أو تقصرُنَّه على الحقِّ قصرًا)[12].

وهذه المسؤولية عامة لا يُستثنى منها أحد؛ فإنه لما فهم بعض الناس قوله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] أنها تَركُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه قائلاً: «أيّها الناس إنّكم تقرؤون هذه، وإنّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعتُ النبي ﷺ يقول: (إنّ النّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه)[13].

أما إذا خشي الجميع من قول كلمة الحق فإن هذا نذيرٌ بفساد الأحوال وذهاب الأمن، قال رسول الله ﷺ: (إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم)[14]، أي: أنَّ الأمّة إذا أصبحت في حالٍ تخشى فيه من الإنكار على الظلَمَة ومَنْعهم من الظلم فقد تُوُدِّع منهم؛ أي: تودَّعهم الله وتركهم لاستواء وجودهم وعدمهم. واستنبطَ منه أنَّ ترك إنكار المنكر من أسباب خذلان الله للأمة[15].

أنجزت الثورة الكثير في التصدي لمشروع الغلاة التخريبي وما يمثله من اختراق، لكن خطرهم ما زال ماثلاً للعيان، سواء بفكرهم المنحرف الذي يحاولون بثه بين الناس بشتى الوسائل، أو تآمرهم واعتداءاتهم المتكررة على المحرر، وأثرهم في إضعاف الثورة وإشغالها عن التصدي لمشروع استكمال التحرُّر والبناء

واقع الشمال السوري المحرر:

مرَّت الثورة السورية بالكثير من الامتحانات والمصاعب التي عصفت بها حتى كادت تقضي عليها، وتركَّز وجودها في شمال البلاد، وكان المنتظر والمتوقع بعد التغلُّب على هذه المصاعب، وبعد التخلُّص من عهد الخوف والقمع في ظل حكم آل الأسد واجتماع كوادر الثورة فيها أن يستتبَّ الأمن، وأن ينعم الناس به على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ودينهم، وأن تبدأ المشروعات النهضوية بالظهور والنضج؛ لكن الواقع كان على خلاف ذلك!

لا ينكر أحد أنَّ التدخلات والضغوط الخارجية لم تتوقَّف بجميع أشكالها وصورها؛ بدءًا من الإملاءات السياسية، مرورًا بالتحكم بالفصائل والإدارات المحلية والكيانات المجتمعية، وانتهاءً بالمساومة بورقة المساعدات الإنسانية. لكنّ ذلك لا يعني إعفاء المسؤولين مما وصلت إليه الأوضاع.

فغياب السلطة المرجعية لهذه المناطق هو السائد حتى في أصغر الأمور، إضافة إلى تعدُّد مراكز المسؤولية وتنازعها للسلطة والقرار، وتعطيل بعضها لبعض، وتنصُّلها من المسؤوليات؛ مما يولِّد اختلافًا في المسائل الإدارية، وصعوباتٍ لعموم الناس، واضطرابًا في معاملاتهم؛ وهذا يُفقدهم الأمن الإداري، وضياع حقوقهم بين هؤلاء وأولئك.

مع ضعف مؤسسات العمل السياسي وتفرُّقها وتنازعها، وتسلل بعض من لا يؤتمن على مستقبل البلاد والعباد إليها، وانخراطها في مشاريع ومساومات مرفوضة من عامة الناس، ولا تخدم مصالحهم.

ويعاني الاقتصاد من عدم ضبط الأسعار، وتهريب البضائع من مناطق الثورة وإليها، مما يؤدِّي إلى إدخال بضائع غير موثوقة، بالإضافة إلى الاحتكار ورفع الأسعار، فضلاً عن الصعوبة الشديدة في تصدير منتجات هذه المناطق إلى خارجها، مما يزيد من صعوبات التكسُّب والاتِّجار والإنتاج؛ وهذا يُفقد الناس الأمن الاقتصادي.

ولعل قطاع التعليم من أكثر القطاعات المتضرِّرة بغياب التنسيق بين الإدارات المسؤولة عن سير العملية التعليمية وما يتعلق بها من مناهج وشهادات ونحوها، مع تسرّب التلاميذ من التعليم، والصعوبات التي يواجهها الكادر التعليمي، وجميع هذا مما يضعف الأمن الفكري والعلمي للمجتمع.

أما المخاطر الفكرية فلها مظاهر عديدة من تسلُّل المنظمات والشخصيات ذات الاتجاه المنحرف أو المشبوه، عن طريق المساعدات والدورات التدريبية وغيرها؛ لتبثّ سمومها في عقول الشباب والفتيات، بما تحمله من أفكار منفلتة، ومشاريع مشبوهة.

ومما يفاقم الأزمة: فوضى السلاح بيد الفصائل والتشكيلات العسكرية، مع شيوع الفصائلية والتحزب لها، وعدم وجود قيادة أو مرجعية واحدة تنظم هذه الفصائل، وتضبطها، وتحاسبها في حال تجاوزت حدودها.

وأخطر ما هنالك وجود التشكيلات المسلَّحة الفاسدة التي تتسلَّط على الناس؛ فتمارس جرائم العصابات بشتى أنواعها من القتل والاعتداء على أعراض الناس وأموالهم، والتجارة بالمخدرات، وترفع اسم الثورة ومعارضة النظام تمويهًا وتضليلاً.

كما أن غياب السلطة القضائية الرادعة، وتعطيل تطبيق العقوبات الزاجرة؛ زاد من انتشار الجرائم والجرأة عليها.

ومع ما أنجزته الثورة من التصدي لمشروع الغلاة التخريبي وما يمثله من اختراق، إلا أنَّ خطرهم ما زال ماثلاً للعيان، سواء بفكرهم المنحرف الذي يحاولون بثه بين الناس بشتى الوسائل، أو اعتداءاتهم المتكررة على المحرر، وتآمرهم عليه وتحالفهم مع الفاسدين والمنحرفين، وأثرهم في إضعاف الثورة وإشغالها عن التصدي لمشروع استكمال التحرر والبناء.

كلُّ هذه الإشكالات أدَّت لظهور عددٍ من المشاكل الأخرى كالفقر والجهل والانحرافات الفكرية والسلوكية؛ مما جعل من الشمال السوري المحرر منطقةً تعاني من الاضطراب، يتطلع الناس فيها للحياة المستقرة الآمنة لإكمال مسيرة الثورة.

لا شك أن إنجازات الثورة كبيرة وكثيرة يضيق المقام بذكرها، ولعل من أهمها تحرير الناس من سلطة النظام المجرم الأمنية والفكرية، ولا شكّ أن للثورات ضرائبها ومشاكلها، لكن من غير المقبول شرعًا ولا واقعًا استمرار الأوضاع على ما هي عليه، والاستسلام لهذه المشكلات وتركها دون حل ناجع.

الحرية التي ذاقها الناس وبذلوا في سبيل الحصول عليها الغالي والنفيس علّمتهم أمورًا كثيرة لا يمكنهم التنازل عنها بحال، ليس أولها شجاعتهم في الصدع بالحق، وليس آخرها حبّهم لدينهم وبذلهم في سبيله، وتمسُّكهم به وتجربتهم للعيش في ظلاله بعيدًا عن المنع والقمع والتضييق

بارقة أمل:

على الرغم من وجود هذه المنغِّصات لا يزال في الأمل فسحة، والجزء القاتم من المشهد ليس كامل الصورة، لكنه جزءٌ قابل للتمدُّد والتوسُّع، وفي مقابله مساحاتٌ من الأمل والتفاؤل والعزيمة الصادقة على الإصلاح والنهوض؛ فالحرية التي ذاقها الناس وبذلوا في سبيل الحصول عليها الغالي والنفيس علّمتهم أمورًا كثيرة لا يمكنهم التنازل عنها بحال، ليس أولها شجاعتهم في الصدع بالحق، وليس آخرها حبّهم لدينهم وبذلهم في سبيله، وتمسُّكهم به وتجربتهم للعيش في ظلاله بعيدًا عن المنع والقمع والتضييق.

والجهود التي قامت على أيدي عموم الناس -وبالأخص الشباب- الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء الزكية، ولم تمتلئ جيوبهم بالمال الحرام، ولم ينضموا لكيانات مشبوهة، بل كان كلُّ همهم بناء مستقبل مشرق للبلاد في شتى مجالات الحياة التعليمية، والعلمية، والعسكرية، والمدنية، والخدمية؛ تؤكِّد حياة المجتمع ونبضه وجريان الروح فيه.

ثمة واجبات مناطة بجميع شرائح المجتمع للنهوض بواقع المحرر وإصلاح وضعه: سياسيين، وقضاة، وعسكريين، وقائمين على الإدارات المدنية والخدمية، وعلماء ودعاة، وعامة المجتمع، كلٌّ بحسب مجاله وميدانه، والتفريط في هذه الواجبات خيانة للأمانة وتفريط في المسؤولية

ما الدور المنتظر؟

هذه المناطق هي البيئة الحرّة التي يُنتظر منها قيادة التغيير في المستقبل القريب، لا سيَّما وأنّ التضحيات التي بُذلت في سبيل تحريرها كبيرة لا يُستهان بها، وهذا يفرض على جميع شرائح المجتمع الكثير من الواجبات؛ لعل من أهمها:

– ما يجب على السياسيين:

قيامهم بمسؤولياتهم وواجباتهم في تمثيل الثورة والدفاع عنها وتحقيق مصالحها، وعدم الافتئات عليها، واستشارة أهل الرأي من بقية الدوائر الثورية في الموقف من المؤتمرات والمشروعات والقضايا الدولية، أو الاعتزال في حال عدم القدرة على تحمل مسؤولياتها، وإفساح المجال لمن يتولى المسؤولية بحقها، فهذه المناصب ليست مكسبًا ولا استثمارًا ولا استحقاقًا، بل هي واجبٌ وأمانةٌ (وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ إلا من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها)[16].

وليعلموا أنَّ الأصل في هذه المناصب أن تكون باختيار الناس ورضاهُم، وأنّهم شركاء معهم في صياغة مستقبل البلاد وما يتعلَّق بشؤون الحكم، وأنهم محاسَبون أمامهم على تقصيرهم أو عدم أداء الأمانة على الشكل الصحيح.

– ما يجب على القضاة:

الاستقلال التام عن الكيانات والمسميات الفصائلية والحزبية، وتقوى الله في الأمانة التي يتحملونها، واعتماد الأنظمة والمدونات القانونية التي تحقق إقامة العدل؛ مما لا يترتَّب عليه ضرر ولو في المستقبل، مع إنزال العقوبات الصارمة والرادعة لكل مُفسِد ومجرم دون تأخير أو تساهل أو محاباة، والحذر من التفريق بين الأقوياء والضعفاء أو الأغنياء والفقراء.

– ما يجب على القائمين على الإدارات المدنية بمختلف أنواعها التعليمية والصحية والخدمية:

العمل على خدمة الناس وتيسير معاملاتهم، وحل مشاكلهم، وتوحيد المرجعية والإجراءات والأنظمة القانونية، وتطلبات الوثائق والشهادات، وليعلموا أنهم مؤتمنون على هذه الأعمال، وأنهم ما تسلموها إلا للقيام بخدمة الناس ورعايتها، وهي أمانة كما تقدم.

– ما يجب على الفصائل العسكرية:

استشعار حساسية الدور الذي يقومون به، والتفاني في حفظ الأمن، وتحصين الثغور وحراستها، وتركيز العمل على تنقية الصفوف من الخونة والانتهازيين والنفعيين، والسعي الجاد لجمع الكلمة وتوحيد الصفوف، وعدم استغلال المناصب العسكرية وقوة السلاح في تحقيق المنافع الشخصية الضيقة.

– ما يجب على العلماء والدعاة:

التكاتف فيما بينهم، وتنحية الخلافات عن المنابر ومجالس الناس، وحصرها في غرف العلم والدرس، والتعاون في نشر العلم والإجابة عن الشبهات، وتثبيت الناس، والتصدي للمشاريع والأفكار التخريبية مهما كان مصدرها، والاحتساب على المؤسسات والجهات التي لديها تقصير أو أخطاء، والوقوف بوجه الظلمة وأَطرُهم على الحق، والحذر من إعطاء الشرعية لفاسد أو ظالم تحت أي ذريعة كانت.

المناطق المحررة هي البيئة الحرّة التي يُنتظر منها قيادة التغيير في المستقبل القريب، لا سيَّما وأنّ التضحيات التي بُذلت في سبيل تحريرها كبيرة لا يُستهان بها، وهذا يفرض على جميع شرائح المجتمع الكثير من الواجبات والتضحيات

– ما يجب على عموم المجتمع:

  1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (للمسؤولين والعامّة)؛ للحفاظ على مركب المجتمع من الفساد والغرق.
  2. الفرار إلى الله والالتجاء إليه والتقرب إليه بالاجتهاد في العبادة (العِبادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرَةٍ إلَيَّ)[17].
  3. المحافظة على البنية المجتمعية وتقوية الروابط الأسرية والاجتماعية، وتربية الأولاد والأسر على التمسك بالدين والعزة والكرامة والتضحية والبذل.
  4. توعية الأجيال بالرواية الصحيحة لما جرى من أحداث منذ اللحظة الأولى لشرارة الثورة حتى الوقت الحالي، لئلا يختلط الحابل بالنابل وتُشوَّه الأحداث ويُساوى المصلحون بالمفسدين.
  5. عقد العزم على الانحياز للمظلوم حيثما كان، ونبذ الظلم والبغي كيفما كان.
  6. المرابطة على الثغور الدعوية والتربوية، وعدم تركها إلا لأسباب قاهرة.
  7. بالشكر تدوم النعم، وعلى رأسها المحافظة على (الشمال المحرر)؛ شكرًا لله تعالى على نعمة تحرُّره من بغي النظام المجرم، وتقويته ليكون شعلة الثورة التي تضيء منها جميع مناطق سوريا الحبيبة.

نسأل الله تعالى أن يحفظ البلاد والعباد، وأن يمكّن لدينه في الأرض؛ إنه سميع مجيب.


أسرة التحرير


[1] أخرجه الترمذي (٢٣٤٦)، وابن ماجه (٤١٤١).

[2] أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص (١٣٣).

[3] غياث الأمم في التياث الظلم، للجويني، ص (٢١٢).

[4] الاقتصاد في الاعتقاد، للغزالي، ص (١٢٨-١٢٩).

[5] تفسير المنار (٢/١٦٩).

[6] الخلافة، لرشيد رضا، ص (١٧).

[7] تاريخ ابن خلدون (١/٢٣٩).

[8] الأحكام السلطانية، ص (٤٠-٤١).

[9] أخرجه أبو داود (٤٣٤٤) والترمذي (٢١٧٤).

[10] أخرجه مسلم (٤٩).

[11] أخرجه الترمذي (٢١٦٩).

[12] أخرجه أبو داود (٤٣٣٦)، وانظر: تفسير ابن كثير (٣/١٤٥).

[13] أخرجه أحمد (١).

[14] أخرجه أحمد (٦٧٨٤) والحاكم (٧٠٣٦).

[15] فتاوى الشبكة الإسلامية رقم (٥٦١٢٢).

[16] أخرجه مسلم (١٨٢٥).

[17] أخرجه مسلم (٢٩٤٨). الهَرْجِ هو وقت الفتن واختلاط الأمور وتخبّط الناس. وقد حثّ النبي r على العبادة في هذا الوقت وعظّم أجرها؛ لأنّ فيها صدق اللجوء إلى الله والإقبال عليه وترك الأهواء، وفي ذلك تحصين من الفتن، وحفظ من الفساد.

X