في لحظات التحول الكبرى تبرز القيادة الرشيدة كالبوصلة التي تهدي المجتمعات نحو الرخاء والاستقرار، فالقيادة ليست مجرد موقع أو سلطة، بل رؤية تُلهم، وحكمة تُنقذ، وقرار يصنع الفرق بين الجمود والنهوض، وحين يقترن العدل بالحكمة؛ تُزرع بذور التنمية في أرض الشعوب، فتنبت حضارة تستند إلى الثقة، وتُسقى بالمسؤولية، وفي زمن التحديات: وحدها القيادة الواعية تصنع الفارق.
مقدمة:
يؤكد القرآن الكريم في آياته البينات على الدور القيادي والأستاذي للأمة الإسلامية تجاه الإنسانية جمعاء؛ وذلك بما تمتلك من رسالة ربانية خالدة ومستوعبة لكل جوانب الاحتياج البشري في المعاش والمعاد على الوجه الأكمل، وبما تمتلكه من رؤية ورسالة وأهداف وأدوات وثروات وتراث وإنتاج حضاري وثقافي وقيادة رمزية تتعلق بالقيادة النبوية الأخلاقية للإنسانية.
وهو ما يعضده معنى ظهور الأمة والرسالة على الأديان قاطبة، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، ويبدو أن الظهور هنا هو ظهور حجة وبيان، وظهور قوة وسلطان، كما تظاهرت الأدلة النقلية على بلوغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار.
وكذلك تفضيل هذه الأمة بالشهادة على العالمين كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].
لكن بلا شك لن تتمكن الأمة الإسلامية -لا على مستوى الدول ولا على مستوى الجماعات- من تأدية دورها الرسالي تجاه العالم والإنسانية إن لم تكن هي نفسها تتمتع بقيادة راشدة قادرة على حشد الأفراد والمؤسسات والطاقات تجاه تحقيق الرؤية، قائمة بمهمة الدعوة والحرب على المنكر وإشاعة المعروف في وضع إنساني بات على شفا جرف هار بسبب النكوص الأخلاقي عن غرائز الفطرة، وشيوع حالة التفكك والفردانية الأنانية التي تنقاد وراء شهوتها بلا خطام ولا زمام ولا إمام.
وقد باتت الإنسانية اليوم تعاني من أزمة قيادة على مستوى العالم، حتى على مستوى الدول العظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تُعرف بإنتاجها لقيادات كبيرة تُعبر عن حجم قوتها أصبحت الآن عاجزة عن إنتاج قيادات جديدة تليق بمكانتها كقوة عظمى، وهو جزء من مشهد النقص العالمي في إعداد القادة، لكن الدول المتقدمة تعوض هذا النقص بالاعتماد على المؤسسات القوية والبراعة الإدارية لسد العجز القيادي.
في المقابل، نجد أن حالة المجتمعات العربية والإسلامية تعاني من تخلف كبير وفجوة واسعة في بناء المؤسسات والأنظمة الإدارية، بالإضافة إلى نقص شديد في القيادة الكفؤة؛ مما يجعل الأزمة مضاعفة وخطيرة على كل المستويات وخصوصًا في جانب العمل السياسي والثقافي، فالسياسة في الشرق لا يمكن أن تقوم إلا من خلال ثلاثية الفريق المحترف، وبرنامج عمل واضح، والقيادة الكاريزمية القادرة على صوغ الرؤى وتوظيف الطاقات وترشيد الموارد ضمن تخطيط استراتيجي محكم. وبالتالي فإن أي عمل جماعي -سواء كان دعويًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا- يحتاج إلى نظام متين وقيادة فعالة قادرة على الاتصال والحشد وتفعيل الطاقات والاستثمار الأمثل للموارد.
لن تتمكن الأمة الإسلامية -لا على مستوى الدول ولا على مستوى الجماعات- من تأدية دورها الرسالي تجاه العالم والإنسانية إن لم تكن هي نفسها تتمتع بقيادة راشدة قادرة على حشد الأفراد والمؤسسات والطاقات تجاه تحقيق الرؤية، قائمة بمهمة الدعوة، والحرب على المنكر وإشاعة المعروف
مفهوم القيادة المسؤولة:
يمكن تعريف القيادة بأنها “عملية تحريك مجموعة من الناس باتجاه محدد ومخطط وذلك بتحفيزهم على العمل باختيارهم”. والقيادة الناجحة تحرك الناس في الاتجاه الذي يحقق مصالحهم على المدى القريب والبعيد، وقد يكون ذلك اتجاهًا عامًا مثل نشر الدعوة، أو اتجاهًا محددًا مثل عقد مؤتمر يتناول قضية معينة[1]. إذن فالقيادة هي القدرة على تحريك الأتباع نحو تحقيق الهدف، وهي مهمة شريفة مارسها الأنبياء في قيادة مجتمعاتهم نحو الإسلام والدين الحق لتحقيق سعادتهم في العاجل والآجل، وبتوسيع هذا المعنى يتضح أننا -كمسؤولين عمن يقع تحت ولايتنا- نمارس القيادة على كل المستويات؛ إن كان على مستوى البيت أو المسجد أو المنظمة أو التنظيم أو المؤسسات، ونحاول أن نحرك من يقع تحت ولايتنا لتحقيق رؤيتنا وأهدافنا، ونستخدم أساليب التحفيز والتخطيط في سبيل ذلك كما دل حديث الرعاية في قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)[2]، وهكذا فإن القيادة ليست معنى محصورًا في زمرة اجتماعية دون غيرها، وإنما هي سلوك عام لكل من تقع المسؤولية على عاتقه، حتى لو كانت مسؤولية محدودة كالخادم الذي يدير مال سيده.
وهنا لا بد من التنويه للتصور الخاطئ لمسألة القيادة، حيث لا يزال البعض يحمل ثقافة الطغاة في فهم معنى القيادة، ويجعلها قسيم التسلط والطغيان واللهث وراء المناصب والمغنم.
وفي الحقيقة، وكما بيّنت نصوص السنة فإن القيادة مسؤولية ثقيلة يتجنبها العقلاء ويدركون ثقلها، كما يظهر في طلب النبي موسى عليه السلام من ربه قائلاً: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي 29 هَارُونَ أَخِي} [طه: 29-30]، وهنا لا بد من ترسيخ معنى القيادة المرتبط بالخدمة للناس ورعاية مصالحهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد القوم في السفر خادمهم)[3].
أهمية دور القيادة في تحقيق استقرار المجتمعات ونهضتها:
تعد الأمة الإسلامية من أغنى الأمم والمجتمعات بالموارد البشرية والثراء النسبي بعنصر الشباب، لكن رغم هذا الثراء الفاحش ما تزال الدول الإسلامية في خانة الضعف على المستوى الدولي، والمجتمعاتُ الإسلامية من أضعف المجتمعات في قدرتها على استثمار الموارد البشرية والكوادر؛ بسبب ضعف التأهيل القيادي لديها، فالقيادة الراشدة هي القادرة على توجيه الطاقات الشبابية نحو العمل ضمن المنظومات الإدارية وضمن أطر العمل الجماعي، وبدونها تغيب منظومات العمل الجماعي وتترك سفينة المجتمع لقيادة السفهاء الذين حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحكمهم بمصير المجتمع وتركهم يعبثون بسلامته، كما جاء في حديث السفينة: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)[4]، وهو نص واضح التحذير من ترك مصير الأمة والمجتمع لقيادة السفهاء قاصرة النظر والتي تتصرف بأنانية وفردانية؛ مما يغرق المجتمع بالفساد والفوضى حينما يتنكب أولو الأحلام والنهى عن دورهم، كما قال الشاعر القاضي عبد الوهاب المالكي:
ومَن يُثني الأصاغرَ عن مرادٍ *** وقد جلس الأكابرُ في الزوايا
وإنّ ترفّعَ الوُضعاء يومًا *** على الرُفعاءِ من إحدى البلايا[5]
وهكذا يتضح أن البشر لا يستقيم أمرهم ويُحفظ وجودهم بدون رأس يرجعون إليه لحسم خلافهم وإدارة مصالحهم، وهو ما عبر عنه عالم الاجتماع المسلم عبدالرحمن بن خلدون: “قد بيّنا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلّا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروريّاتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كلّ واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه؛ لما في الطبيعة الحيوانيّة من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوة البشريّة في ذلك؛ فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع، وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة، فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يَزَع بعضَهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم”[6]. وقد أبدع ابن خلدون حيث شبه الجماعة التي تعيش بلا نظام ولا إمام أنهم أقرب إلى الطبيعة الحيوانية، مع أن الكثير من المجتمعات الحيوانية كعالم الطيور والنمل والنحل تعيش ضمن نظام صارم وقيادة ترعى مصالحها. ومع ذلك قد تكون هناك قيادة ذات كفاءة عالية لكنها لا تستطيع تحقيق الأهداف في بيئة من الفساد الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي، مثال ذلك ما حدث مع نبي الله موسى عليه السلام، حيث لم يتمكن من تحريك بني إسرائيل لدخول الأرض المقدسة رغم أن دخولها أمر إلهي، ورغم ما رأت أعينهم من آيات الله تعالى في تنجيتهم من فرعون وجنوده؛ وما ذاك إلا بسبب ظروفهم النفسية والاجتماعية التي كانوا يعانون منها بعد فترة طويلة من حالة الاستعباد والقمع في ظل حكم فرعون؛ فألفوا حياة الذل والهوان كما أخبر عنهم القرآن في ردهم على نبي الله موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ 21 قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 21-22]. ولعل من حكمة الله تعالى قبل أن يبعث موسى نبيًا في بني إسرائيل: اختياره أن يتربى في قصر فرعون في مكان بعيدٍ عن مرتع الذل والعبودية، وليألف التمرس على القيادة والعزة في منعة وقوة.
وهكذا.. قد تكون أزمة القيادة أزمة اجتماعية مستعصية على التنظيم بسبب تفكك العصبات الاجتماعية والمجتمع الأهلي بسبب الضغط الذي تمارسه الدولة الحديثة اليوم على النظم الاجتماعية لأجل تفكيكها وربط الأفراد بالدولة، وليست أزمة شغور قيادي، وقصة سيدنا موسى عليه السلام هي أبرز دليلٍ تاريخي على كون أزمة القيادة ناتجة عن أزمة في الأتباع وليست في القائد ذاته.
القيادة الراشدة هي القادرة على توجيه الطاقات الشبابية نحو العمل ضمن المنظومات الإدارية وضمن أطر العمل الجماعي، وبدونها تغيب منظومات العمل الجماعي وتترك سفينة المجتمع لقيادة السفهاء الذين حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحكّمهم بمصير المجتمع وتركهم يعبثون بسلامته، كما جاء في حديث السفينة
مركزية أزمة القيادة في المجتمعات المسلمة:
إن أزمة القيادة هي الأزمة الأساسية التي تواجه الأمة في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ، وقد أشار الحديث النبوي الشريف إلى أهمية القيادة وربطها بعلامات الساعة، حين قال: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة). قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا وُسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)[7].
ولقد أشار ابن تيمية -رحمه الله- إلى هذا المعنى في كتابه: “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” حينما فسر معنى الأمانة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا 58 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58-59]، بقوله: “قال العلماء: نزلت الآية الأولى في ولاة الأمور، عليهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، ونزلت الثانية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم طاعة أولي الأمر الفاعلين لذلك في قَسْمهم وحُكْمهم ومغازيهم وغير ذلك، إلا أن يأمروا بمعصية الله عز وجل، فإذا أمروا بمعصية الله عز وجل فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله”[8]، وفي ربط القيادة بالأمانة معنىً أخلاقي عميق، لا نجده في الاتجاهات القيادية الحديثة التي تربط فكرة القيادة بالميكافيلية المتجردة عن القيم.
وأهلية القيادة هنا تشير إلى توفر المعايير الضرورية في القائد، مثل: الكفاءة، والعلم، والأمانة. وإسناد الأمور إلى غير أهلها يُعتبر مؤشرًا خطيرًا على تدهور الأنظمة والمجتمعات، ففقدان الأهلية القيادية هو الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمعات الإسلامية والعربية، ويجعلها غير قادرة على مواجهة التحديات بفعالية.
وهنا يبدو أن تصدير ثقافة الغثائية -التي ترمز للتفكك والفردانية وغياب الوجهة وذهاب الريح والبأس لتبقى المجتمعات الإسلامية بلا قيادة تذود عن حماها وتحفظ بيضتها- هو المخطط الذي يستهدف المسلمين، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفسر حالة الوهن العام للمسلمين: (يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن)، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت)[9]، ومعلوم أن غثاء السيل هجين من عناصر غير مؤتلفة تطفو على وجه الماء بلا وزن ولا قيمة وتقاد بقوة السيل مسيرة بلا قرار لها.
وأمام هذه الحالة الغثائية تتقدم القيادات التافهة بعد أن تم توهين مناعة المجتمع ليقاد نحو السفاسف والترهات كما بين رسول الله في حديث الرويبضة: (سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يصدّق فيها الكاذب، ويكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه في أمر العامة)[10]، وهو ما بات واضحًا في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث بات التافهون يحظون بالأتباع والمعجبين وبدعم وسائل الإعلام لهم، ويصنعون الرأي العام ويقودون شرائح اجتماعية واسعة من خلال المحتوى السخيف الذي يفيضون به بحثًا عن الشهرة السريعة والتأثير.
وهو ما حذر منه أبو الأسود الدؤلي:
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم *** ولا سَراةَ إذا جهّالهُم سادوا[11]
فقدان الأهلية القيادية هو الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمعات الإسلامية والعربية، ويجعلها غير قادرة على مواجهة التحديات بفعالية
أثر غياب القيادة المؤهلة على مصير المجتمعات والدول:
بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطن الصحابة رضي الله عنهم إلى أهمية دور القيادة وخطر بقاء الأمة ولو ليوم واحد بلا رأس؛ فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة قبل أن يوارى جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم لاختيار قائد للأمة، وقد أدركوا أن الرسالة ليست مرتبطة بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من اختيار خليفة وقائد لتستمر الرسالة، وقد أنجزوا بيعة أبي بكر رضي الله عنه في ظرف سياسي معقد؛ فقد ارتدت العرب قاطبة إلا مكة والمدينة والطائف، وبدأت تحركات الروم للغدر بالمسلمين، وأصبح المسلمون وكأنهم شياه في ليلة مطيرة في أرض مسبِعة، فتصرف أبو بكر برباطة جأش وأنفذ جيس أسامة بن زيد لتأديب الروم رغم الخطر المحدق بالمدينة المنورة، ورغم نهي البعض له عن إنفاذ جيش أسامة بسبب إحاطة المرتدين بالمدينة فقد أصر على تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل بذلك رسالة حازمة للروم والعرب أن المسلمين ليسوا في ضعف من أمرهم، ثم أعلن حربه على المرتدين ومانعي الزكاة رغم معارضة عمر -رضي الله عنه- له بادئ الأمر، فحفظ الله به البيضة وأنقذ الأمة من خطر داهم وأعاد للإسلام هيبته وسطوته على الجزيرة العربية، وذلك ببركة الائتلاف واجتماع الكلمة على قيادة أبي بكر[12].
إن عدم الاجتماع على قيادة موحدة هو مرض إسرائيلي أصاب اليهود من قبل، ولم تتفق كلمتهم على قائد لهم حتى حُسم الأمر بوحي من السماء باختيار طالوت ملكًا: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، ومع ذلك عادوا للاعتراض قائلين: “نحن أحق بالملك منه”، وهذا هو لسان حال بعض من يتبع سنن اليهود في رفض أي قيادة مهما أوتي من الصفات المرضية.
المشكلة الحقيقية تظهر عندما يريد كل فرد أن يكون قائدًا دون أن يتقن مهارة أن يكون جنديًا، والتجارب أثبتت أن أفشل القادة هم من لا يحسنون الجندية؛ فالقائد الحقيقي لا يرى حرجًا في العودة ليكون جنديًا بعد أن كان قائدًا، كما فعل سيدنا خالد بن الوليد عندما عزله عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- عن قيادة الجيش حتى لا يفتن الناس به.
والأخطر من ذلك عندما تكون الروابط الأقوى لتماسك الجماعة هي المصالح النفعية البحتة وليست الفكرة والرسالة، هنا تصبح العلاقة بين القيادة والجند علاقة مقلوبة، بمعنى أن الأتباع هم من يوجهون رأس الهرم على هواهم، ويصبح رأس الهرم خاضعًا يمارس قيادة صورية. في مثل هذه الأوضاع، يصبح السفلة هم من يقودون الأمور، مما يؤدي حتمًا إلى المسار المنحدر، كما يقول الشاعر إبراهيم يازجي:
تعجبَ قومٌ من تأخر حالنا *** ولا عجب في حالنا أن تأخرَا
فَمُذ أَصبحت أذنابُنا وهي أرؤُسٌ *** صرنا بحكم الطبع نمشي إلى الورا
في الصورة الأخرى أيضًا وهي لا تقل خطورة عن الصورة الأولى: القيادة المستبدة التي لا تستشير وتستبد في الأمر فتورد قومها المهالك، وفي القرآن الكريم الصورتان: قيادة امرأة (بلقيس) استشارات قومها، فقادتهم إلى شاطئ الأمان والنجاة حين قالت: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]، بينما قائد (فرعون) مستبد برأيه على قومه فأوردهم موارد الهلاك قائلاً: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
نماذج قيادية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
رغم أهمية الجانب الأخلاقي والإيماني في القيادة إلا أنه عندما يكون القائد المؤمن ضعيفًا فإن المصلحة تقضي باختيار القوي القادر على حماية المصالح؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل خالد بن الوليد على الحرب منذ أسلم، وقال: (نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين)[13]، مع أنه أحيانًا قد كان يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه -مرة- قام ثم رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد)[14] لما أرسله إلى بني جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع شبهة ولم يكن يجوز ذلك، وأنكره عليه بعض من معه من الصحابة، حتى وَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمِن أموالهم، ومع هذا فما زال يقدمه في إمارة الحرب؛ لأنه كان أصلح في هذا الباب من غيره وفعل ما فعل بنوع تأويل[15]، وكان أبو ذر رضي الله عنه أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا فقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمّرن على اثنين، ولا تولّيَن مال يتيم)[16]، وأمّر النبي صلى الله عليه وسلم مرة عمرو بن العاص في غزوة “ذات السلاسل” استعطافًا لأقاربه الذين بعثه إليهم على مَن هم أفضل منه من الصحابة، وأمّر أسامة بن زيد على قيادة الجيش وهو ابن 18 سنة ورغم اعتراض البعض على إمارته؛ لأجل طلب ثأر أبيه. كذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة مع أنه قد يكون مع الأمير مَن هو أفضل منه في العلم والإيمان[17]، ويبقى النموذج الذي قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيادة الشاملة هو النموذج الأكمل الذي استحوذ على قلوب الصحابة وعقولهم فاتبعوه في كل ما يأمر به بعد أن يستشيرهم، حتى قال له سعد بن عبادة رضي الله عنه: “لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْك الغِماد لفعلنا”[18].
وفي دار من دور المدينة المباركة جلس عمر رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: “أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان”[19].
وقد قيل: رحم الله عمر الفاروق، لقد كان خبيرًا بما تقوم عليه الحضارات الحقة، وتنهض به الرسالات الكبيرة، وتحيا به الأمم الهامدة، ويعلم علم اليقين أن زوال الأمم لا يكون بنقص في الأنفس والأموال والثمرات وإنما بذهاب الرجال والقادة الكبار الذين تنهض بنهضتهم الأمة.
خاتمة:
إن التاريخ اليوم يعيد علينا السؤال نفسه: كيف لنا أن ننهض من جديد؟ وكيف لنا أن نعود لمسرح التاريخ بعد طول غياب؟ إن هذا السؤال يفرض علينا مواجهة الحقيقة الثابتة وهي أن الأمم والرسالات لا تنهض بلا رجال وقادة كبار يحملون في أرواحهم الغاية السامية والرؤية السامقة، ويتجردون في سبيلها، وينكرون ذواتهم من أجل انتصار فكرتهم؛ فتقوم الأمة بقيامهم فتعلو على الوهن وتستنشق روح البعث.
إن القادة الكبار هم الركن الشديد الذي تفزع إليه العامة عند حلول الخطوب والمحن وعند تطاول الشدائد والفتن، وإن الحاجة لتشتد إلى هؤلاء أكثر من الحاجة إلى المعادن الثمينة.
إن القادة الكبار أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجوده عزيزًا في دنيا الناس، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)[20]، والرجل الكفء الصالح هو إكسير الحياة، وروح النهضات، وعماد الرسالات ومحور الإصلاح؛ فقد ظهر الإسلام بالرجال الذين صاحبوا رسوله فآوَوه وأيدوه وآثروه على أنفسهم فكانوا قادة بجوار قائد عظيم.
إن القادة الكبار هم الركن الشديد الذي تفزع إليه العامة عند حلول الخطوب والمحن وعند تطاول الشدائد والفتن، وإن الحاجة لتشتد إلى هؤلاء أكثر من الحاجة إلى المعادن الثمينة
أ. عباس شريفة
باحث في الصراعات والفكر الإسلامي
[1] دليل التدريب القيادي، سلسلة التنمية البشرية، هشام الطالب، ص (52).
[2] أخرجه البخاري (2409)، ومسلم (1829).
[3] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8407).
[4] أخرجه البخاري (2493).
[5] الديباج المذهب، لابن فرحون (2/28).
[6] مقدمة ابن خلدون (1/234).
[7] أخرجه البخاري (59).
[8] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، ص (5).
[9] أخرجه أبو داود (4297).
[10] أخرجه ابن ماجه (4036).
[11] ديوان أبي الأسود الدؤلي، ص (182).
[12] يراجع: البداية والنهاية، الجزء السادس، فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد.
[13] أخرجه أحمد (٤٣).
[14] أخرجه البخاري (4339).
[15] ينظر: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، ص (21).
[16] أخرجه مسلم (1826)، قال القرطبي: “أي ضعيفًا عن القيام بما يتعين على الأمير من مراعاة مصالح رعيته الدنيوية والدينية؛ ووجه ضعفه عن ذلك أن الغالب عليه كان الزهد واحتقار الدنيا؛ ومَن هذا حاله لا يعتني بمصالح الدنيا وبأموالها اللذين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ويتم أمره، وقد كان أبو ذر أفرط في الزهد في الدنيا”، حاشية السيوطي على سنن النسائي (6/255).
[17] ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/255).
[18] أخرجه مسلم (1779).
[19] أخرجه الحاكم في المستدرك (5005).
[20] أخرجه البخاري (6498) ومسلم (2547).
باحث في الصراعات والفكر الإسلامي.