من جماليات الإسلام أنه دعا إلى معاملة الناس بالفضل والإحسان، وعدم الاكتفاء بالمعاملة بالمثل، ورتّب على ذلك الأجر الكثير الذي يتوّج بمعية الله ومحبته لعباده المحسنين، ولم يقف الأمر عند الحثّ والتوجيه، فقد جسّد ذلك النبيُّ ﷺ خير تجسيد فكان خير قدوة لخير أمة، فقابل الإساءة بالإحسان، وأحسن الوفاء، وأبلغ في إكرام من أحسن إليه.
حينما تظهر الفاقةُ، أو تَكسد الأسواق، وتلقي المِحن أثقالها، قد تزل أقدامٌ ثابتة، أو يروع الشيطان بعض القلوب خوفًا من نقص الرزق، وقد يصول إبليسُ تلبيسًا بالحيل النفسية والتخريجات غير الشرعية، فتصبح الحاجة إلى هذا الفقه العظيم أشدَّ وأوضح، فكل طرفٍ قد يستشعرُ ويكبُرُ عنده ما لَهُ ويستصغر ما عليه، إلا من رحم الله تعالى.
إن الوفاء وحُسن الأداء لعموم الحقوق – عقدًا مكتوبًا كانت أو وعدًا منطوقًا- واجبٌ من أهم الواجبات الشرعية وديدنٌ عام عند الرسل والصحابةِ والصالحين يستحقُ أن يُنبَّه عليه مرارًا -قولاً وفعلاً وقدوةً- خصوصًا وقت الشدة واختلاطِ الأحوال، لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾ [المائدة: ١]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند أهل التفسير.
ولقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٥]، قال السعدي في تفسيره: «ويؤخذ من عموم المعنى: النهيُ عن كل غش في ثمنٍ أو مُثْمَنٍ أو معقود عليه، والأمرُ بالنصح والصدق في المعاملة. ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ من عدمه ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي: أحسن عاقبة به يَسلمُ العبد من التبِعات وبه تنزل البركة»[1].
يقول الطبري كذلك في تفسيره: «يقول تعالى: ﴿أوْفُوا الكَيْلَ﴾ للناس ﴿إِذَا كِلْتُمْ﴾ لهم حقوقهم قِبَلَكم، ولا تبخَسوهم ﴿وَزِنُوا بالقِسْطاس المُسْتَقِيمِ﴾: وقَضى أن زِنوا أيضًا إذا وزنتم لهم بالميزان المستقيم، وهو العدل الذي لا اعوجاج فيه، ولا دَغَل، ولا خديعة»[2].
وقال تعالى أيضًا منذرًا: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ١ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ٢ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ٣ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ [المطففين: ١-٤].
كيف لا يكون حُسن الوفاء -أداءً وقيمةً وجودةً- دأبَ الصالحين وهاجسهم وهو نقيضٌ للتّطفيفِ وعاقبة الويل، ومما كتبه اللهُ تعالى على الأمة من الإحسان؟، كما في حديث شدّاد بن أوس رضي الله عنه قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله ﷺ، قال: (إنّ الله كتبَ الإحسان على كلِّ شيء، فإذا قَتَلتم فأَحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليُحِدَّ أحدكم شَفرتَه، فليُرح ذبيحته)[3].
إنَّ هذا المبدأ الرصين مقررٌ في الكتاب والسنة، ويشملُ «البيوع» و«الخدمات» و«المعاملات» على حدٍ سواء.
من أجل هذا، جعل الرسول ﷺ الصدقَ وصلاحَ النيةِ والبيانَ أساسًا في توفيق الطرفين، فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (البيِّعانِ بالخِيار ما لم يتفرَّقا، فإن صَدقا وبَيَّنا بُورك لهُما في بَيعهما، وإن كَذبا وكَتما مُحِقَت بركةُ بَيعهما)[4].
وعليه فإنَّ في هذا التوجيه النبوي، قطعٌ لمواردِ التَحايُلِ واستغلالِ شدةِ الحاجةِ، وإخفاءِ العيوب والنَوايا، كمن يُسَمِّنُ شاتَهُ بالماء قبلَ عرضِها للبيع.
حُسن الوفاء -أداءً وقيمةً وجودةً- مبدأ رصين مقررٌ في الكتاب والسنة، يشملُ «البيوع» و«الخدمات» و«المعاملات» على حدٍ سواء، وهو دأبُ الصالحين وهاجِسُهم
وتاليًا رحلةً في هذا الباب العظيم؛ كتابًا وسُنة وأثرًا وفقهًا:
- إيفاء الكيل على أحسن وجهٍ بل وزيادته، نهجٌ وخُلقٌ نبوي رفيع، كما في قصة موسى مع شعيب عليهما السلام في قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ﴾ [القصص: ٢٧]، قال جمهور المفسرين كالطبري وابن كثير: إنَّه أتم عشرًا -أطبقَ المفسرون على الزيادة- وأوردوا روايات كثيرة عن ابن عباس أنه قّالَ: أَتَمَّ خيرَهما وأكملهما وأطيبَهما[5].
وهاكم موقفًا نبويًا زكيًا آخر، فقد أورد الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي رافع رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ استَسْلفَ من رجلٍ بَكْرًا، فَقدِمت عليه إِبِلٌ من إِبل الصَّدقة، فأمر أبا رَافعٍ أن يَقضيَ الرجل بَكْرَهُ، فرجع إليه أبو رافعٍ، فقال: لم أجد فيها إلا خِيارًا رَباعِيًا، فقال: (أَعطهِ إياهُ، إنَّ خِيارَ الناسِ أحسنُهُم قضاءً)[6].
كما قال رسول الله ﷺ لرجلٍ وَزَّانٍ يَزِنُ بالأجرِ: (زِنْ وأَرْجِحْ)[7].
ولا شك أن الشرع هنا وعمومًا يتناول المبدأ وليس مجرد صورة الميزان المبسطة، فالأحكامُ تدور مع العِلل وجُودًا وعدمًا.
وهذا قبسٌ آخرٌ من قصة يوسف عليه السلام، إذ قال تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ [يوسف: ٨٨].
قال الإمام البغوي في تفسيره: «﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾، أي: أعط لنا ما كنتَ تُعطينا قبلُ بالثمنِ الجيد الوافي، ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا﴾، أي: تفضَّل علينا بما بين الثمَنَين الجيدِ والرديءِ ولا تَنْقُصنا. هذا قول أكثرِ المفسرينَ»[8].
يرى الصالحون في إيفاء الكيل وحُسن أدائه طريقةً لتنظيف أصل المال من غبار الحرام مما لم يُحتَرز منه، علاوة على تنميته ومباركته وحمايته من الهَلكة
2. ولا يزال السلفُ والصالحون وأهل التجارة الأخيار تُرْوى سِيرهم في إكمال العطاء، بل والتحللِ من أي عيبٍ خفيٍّ بالزيادة، وهذا «فقهٌ عظيمٌ» دَأَبَ عليه واستشعره أهلُ القلوب الحية حيطةً أو من باب الورعِ في أحسن حال. إذ يرى الصالحون في حُسنِ الأداءِ والزيادة طريقةً أخرى -فضلاً عن الزكاة الواجبة- لتنظيف أصل المال من غبار الحرام مما لم يُحْتَرَز منه، علاوة على تنميته ومباركته وحمايته من الهَلَكة.
وهو فقه جليلٌ مأخوذٌ من قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِم﴾ [التوبة: ١٠٣]، لذلك نجدُ أن الرسول ﷺ وصفَ الصدقات بأنها أوساخُ الناس، فهي كغسيلِ الدَّرَن! فعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الصدقةَ لا تَنْبَغي لآل محمدٍ، إنما هي أوساخ الناس)[9].
3. أمَّا سِيَرُ الصحابةِ والصالحين في هذا الباب فمستفيضةٌ. فقد ذكر ابنُ حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري، باب قول النبي ﷺ: (الدين النصيحة):
«ولمسلم من طريق الشعبي عن جرير قال: «بايعتُ النبيَّ ﷺ على السمع والطاعة» فلقَّنني: «فيما استطعتُ، والنصحِ لكل مسلم»، ورواه بن حبان من طريق أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن جده وزاد فيه: فكان جرير إذا اشترى شيئًا أو باع يقول لصاحبه: اعلم أنَّ ما أخذنا منك أحبّ إلينا مما أعطيناكه، فاختر.
وروى الطبراني في ترجمته أن غلامه اشترى له فرسًا بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه فقال: إنَّ فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة»[10].
4. وقفةٌ لا بدّ منها مع أكثر أسباب الخلافات والتفريط في الحقوق، وهو مَورد مُهلك يقع فيه بعض الصالحين، ألا وهو عدم قيام صاحب العقد أو العملِ الأساسي – كالمُلّاك وأرباب المصانع والتجارات وغيرهم- بمعاينة الوفاء وحُسنِ الأداءِ «بنفسه»، قبل وبعد وقوع «الخلاف» أو «الشكوى»، وذلك غالبًا لتوكيله أو تسليمه الشأن لمساعديه، ويصبح الأمر أصعب إن كان من «المُقرَّبين» أو «الأقارب»، فقد لا يقبلُ المالكُ صرفًا ولا عدلاً أو يُسرفُ بالثقة بوكيله ومُساعده، دون مُعاينة متواصلة وتَحقُق، فغالبُ ما قد يَركن إليه عند التَظَلُّم هو «النَقلُ المُعَنعَن»، لِهوىً خَفيٍّ في النفس وعاطفة أو كسل، وقد يَتَنَبَّهُ لتقصيره وجَورهِ متأخرًا فتَنالهُ دعوة مَكلومٍ.
ودعونا نقفُ هنا أمام شاهد عملي وعبرة جليلةٍ من عمر بن عبدالعزيز، وحُسن قيامه على الشؤون وعدم رُكونه إلى المُساعدين دون رقابةٍ أو ثقة مُطلقةٍ:
«فعن عنْبَسة بن غصن قال: كان وَهب بن منبّه على بيت مال اليمن، قال: فكتب إلى عمر بن عبدالعزيز t: «إني فَقَدْتُ من بيت مالِ المسلمين دينارًا» قال: فكتب إليه: «إني لا أَتَّهمُ دينك ولا أمانتك، ولكن أَتَّهم تَضييعَك وتَفريطك، وأنا حَجيجُ المسلمين في أموالهم، وإنما لأَشَحِّهِم، فاحلف لهم، والسلام»[11]!!
وهذا يقودنا إلى التوجيه الرباني «باتّهام النفس» في كل شُؤون الخلاف وأداء الحُقوق، إذ يقول الله تعالى في التنزيل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾… الآية [النساء: ١٣٥]، وعليه فقد أمر الشارعُ سبحانه الأمةَ بضرورة إقامة العدل، وشرطَ فيه أن يكون عدلاً خالصًا لا يَشوبُهُ شيءٌ من المَصلحة والهوى أو العاطفة.
لقد تَضمنت الآيةُ السابقة مقصدًا عظيمًا في الشريعة الإسلامية، وهو العدل بعبارة جامعةٍ: «أعطِ كل ذي حقٍ حقه».
5. ولنا وقفةٌ هنا لازمةٌ مع أعظمِ العقودِ وأشدّها رابطةً وأثرًا على طرفي العقد والمجتمع، ألا وهي «عقود الزواج» التي تجمعُ بين مقاصد شرعية لا تجتمع في سِواها من العقود، فهي تشمَلُ أيضًا تحقيق مقصد «حفظ النسل»، بل وتعضُد مقصد «حفظِ الدين». إنه حقًا لَعَقدٌ عظيمٌ تَحِلُّ به النساء، فَتتفَرَّعُ الأنساب، وتنشأ الروابط الأبديةُ وتَتَّصل الأرحام، وتُبنى عليه مُكوّناتُ الأُسر والمجتمعات.
لذا خاطبَ الله تعالى المتقين خطابًا عظيمًا، ربط فيه بين هذه المعاني الأُسريّة التناسلية مُذكِرًا بربوبيته وخَلقِه وبَثّه لهذه النفوس المُتراحمة المتناسلة من نفس واحدة، مشيرًا عزَّ وجلَّ إلى أن ذلك من عظيم خَلقِهِ ومعجزاته الإنسانية والاجتماعية اللطيفة، إذ قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍۢ وَٰحِدَةٍۢ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً ۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
من أكثر أسباب الخلافات والتفريط في الحقوق عدم قيام صاحب العقد أو العمل بمعاينة الوفاء وحُسنِ الأداءِ بنفسه، والثقة المطلقة بوكلائه ومساعديه دون تمحيصٍ أو تحقق
قال العلامة السعدي في تفسيره: «وقرنَ الأمرَ بتقواه بالأمر ببرِّ الأرحام والنهي عن قطيعتها، ليؤكِّد هذا الحق، وأنه كما يلزم القيام بحقِّ الله، كذلك يجبُ القيام بحقوق الخلق، خصوصًا الأقربين منهم، بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالأمر بالتقوى، وصلة الأرحام والأزواج عمومًا، ثم بعد ذلك فَصَّلَ هذه الأمور أتمَّ تفصيل، من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنيةٌ على هذه الأمور المذكورة، مفصلةٌ لما أجمَلَ منها، موضحة لما أبهم. وفي قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به، لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج، فبينهم وبينهن أقرب نسب وأشد اتصال، وأقرب علاقة»[12].
من أجل ما سبق من معانٍ جَمَّة، سمى الله تعالى العهد بين الزوج وزوجته بالمِيثاق الغليظ، فقال: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١]، وإذا كانت العلاقةُ بين الزوجين هكذا موثقةً مؤكدةً، فإنّه لا ينبغي الإخلال بها، وكلُّ أمرٍ من شأنه أن يُهَوِّن هذه العلاقة، فهو بغيضٌ إلى الإسلام؛ لأنه يُفَوّتُ المنافع، ويُهددُ مصالحَ كلٍ من الزوجين، ولأن استقرارَ الحياة الزوجية، غاية من الغايات الشرعية التي يَحرِصُ عليها الإسلام، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا من غير بأس، فحرامٌ عليها رائحة الجنة)[13].
وبهذا نعلمُ أن ما يجري بين الزوجين من مُشاداتٍ خفيفة، واختلاف وجهات نظر مما لا يخلو منه بيتٌ غالبًا، لا ينبغي أن يكون سببًا لحلّ ذلك الميثاق الغليظ، ولا في تفكيك هذه الأسرةِ الصالحة.
أمَّا إن استعصت الأمور، فالشرع لا يترك سبيلاً للصلح إلا وفتحَ بابه وحثَّ عليه؛ يقول سبحانه: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: ١٢٨]، قال د.عمر بن عبد الله المقبل بصدد هذه الآية: «هذه قاعدةٌ من «القواعد القرآنية» المهمة في بناء المجتمع وإصلاحه، وتدارك أسباب تفككه، إنها قول ربنا العليم الخبير: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾، وقد وردت مشرقةَ المعنى، مسفرةَ المبنى، في سياق الحديث عما قد يقع بين الأزواج من أحوال ربما تؤدي إلى الاختلاف والتفرق، وأن الصُلحَ بينهما على أيّ شيءٍ يرضيانه خيرٌ من تَفَرُّقِهِما.
ويُمكننا القول: إنّ جميعَ الآياتِ التي وَرَدَ فيها ذِكر الإصلاح بين الناسِ هي من التفسير العملي لهذه القاعدةِ القرآنيةِ المتينة.
ومن المناسبات اللطيفة أن تَرِدَ هذه الآية في سورة النساء، وهي نفسُ السورةِ التي وَرَدَ فيها قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾»[14].
قال السعدي مفسرًا: «وذِكرُ المَانِع بقوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ أي: جُبِلَت النفوس على الشُحِ، وهو: عدم الرغبة في بذل ما على الإنسان، والحرص على الحق الذي له، فالنفوس مجبولةٌ على ذلك طبعًا، أي: فينبغي لكم أن تحرصوا على قلع هذا الخُلُقِ الدَنِيء من نفوسِكم، وتستبدلوا به ضده وهو السماحة، وهو بذل الحق الذي عليك، والاقتناع ببعض الحق الذي لك»[15].
إذًا فَلنَستَصحِب القاعدتين السابقتين: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وكذلك ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، في هَمَساتِنا التاليةِ لِفَضِّ الخلافات في كل الشؤون والعقود.
جدير بالمسلم أن يحرص على حُسن المخرج والتفاهم الودِّي في حل الخلافات، خصوصًا في وقت العُسرة، وهو توجيه رباني أصيل يتلخص في قوله تعالى: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾
توصيات لحل الخلاف بين طرفي العقد:
ختامًا في زمن النوازلِ، همساتٌ لحل الخلاف بين طرفي العقدِ إن كان لا بدَّ من الفراق:
أخي المسلم، إن كنت أنت الطرف الأقوى في العقد -كمالك العقار أو صاحب العمل- فهذا أَدْعى أن تُنْصِفَ حال الطرف الأَضعف، فلا تَستكثرنَّ بعض الخسارة فالتجارة مبناها البركة والتوفيقُ، وأنت أَقدَر على تحمُّلها، فلن تَمسَّ غالبًا قُوت يومك، ولا تستقِلَّنَّ خَسارةَ الطرف الأضعف، فقد يصل الأمر إلى قُوت أطفاله وضَرورات الصحة، فَسَدِّد وقارِب ثمَّ أمسك بمعروفٍ أو سرِّح بإحسان يا رعاك الله.
أما الطرف الأضعف، فأَهمس إليه: لا يحمِلَنَّكَ ضعفك على طلب ما ليس هو حقًا لك، أو الغَمْط وسُوء الظن، واعذِرْ فيما هو موضع خلاف معقول، ولا يَحمِلَنَكَ ضعفُك أو حتى وجود حقٍ لك على التَّشهير أو الاستطالة في عِرض غَريمك.
فقد ورد في مثل هذا قوله تعالى: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص: ٢٤].
واحرِص أيها المسلم على حُسن المَخرج والتفاهم الودي خصوصًا في وقت العسرة، فإفساح المجال للتفاهم الودي معمولٌ به كأول خطوة في حلِ الخلافات في العقود العالمية «كلجان التحكيم الودية»، كما في «الشروط العامة» الموحدة لعقود فيدك الدولية -FIDIC- وهي عقودٌ باتت معتمدهً في المشاريع والخدمات في غالب الدول، وقد أقرَّتها وعَمَّمتها مثلاً دولُ الخليج العربي منذ زمن، بلْ وفرضتها على «القطاع الحكومي»، وانتشرت في «القطاع الخاص» كذلك.
هذه العقودُ عادةً تُحدِدُ مسبقًا بالتراضي أسماء المُحَكمين ذوي الخبرة في مادة العقد والمَعقود عليه، أو تُحدد الجهة المِهَنية التي تقوم بالتحكيم، وآليةَ الدفع لأتعابها. كما أنه في حالة عدم الإذعان لقرار «التحكيم الودي» والتحول إلى المَحاكم، فإن المَحاكم غالبًا ما تُقرُّ قرارَ لجنة التحكيم الودِية، أو تستأنس به على الأقل، خصوصًا أنه رأيٌ مهنيٌ وجزءٌ من وثائق العقد، ويُعدُّ بمثابة الحكم الابتدائِي.
مثل هذا الاعتبار للتحكيم الودي وأهميته في حل الخلافات، حريٌ أن يُؤخذ به بين المسلمين من باب أولى، فقد حضَّتْ عليه النصوص لما فيه من تقليل للشحناء وتفاقُم الخلاف وتَعقُّده، وتَحقيقًا لمَقصد التراضي والتسامح والتوافق بدلاً من الإِلزام ومرارة الحكم الملزم ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
[1] تفسير السعدي (٤٥٧).
[2] تفسير الطبري (١٤/٥٩١).
[3] أخرجه مسلم (١٩٥٥).
[4] أخرجه البخاري (٢٠٧٩) ومسلم (١٥٣٢).
[5] تفسير ابن كثير (٦/٢٣١) وتفسير الطبري (١٨/٢٣٥): «قضى أكثرَهما وأطيبَهما»، وأخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢٦٨٤).
[6] أخرجه مسلم (١٦٠٠)، ومعنى: (بَكْرًا): الفتيُّ من الإبل، و(خِيارًا رَباعِيًا): الخيار هو المختار، والرباعي: ما أتى عليه ست سنين ودخل في السابعة حين تطلع رباعيته.
[7] أخرجه أبو داود (٣٣٣٦) والنسائي (٤٥٩٢) والترمذي (١٣٠٥).
[8] تفسير البغوي (٢/٥١١).
[9] أخرجه مسلم (١٠٧٢).
[10] فتح الباري (١/١٣٩).
[11] سيرة عمر بن عبدا لعزيز، لابن عبد الحكم، ص (٦٥).
[12] تفسير السعدي (١٦٣).
[13] أخرجه أبو داود (٢٢٢٦) والترمذي (١١٨٧) وابن ماجه (٢٠٥٥).
[14] ينظر: قواعد قرآنية، للدكتور عمر المقبل، ص (٤١).
[15] تفسير السعدي، ص (٢٠٦).
م. طاهر صيام
باحث إسلامي
لتحميل المقال اضغط [هنا]