دعوة

حصاد الإلحاد

قد تغالب المرءَ الشهواتُ والشبهاتُ فتغلبه، ويُدرّجه الشيطان في خطواته حتى يوقعه في شرَك الإلحاد، ويجعلَه من جنده في الغواية والضلالة، عندئذٍ لن يفهم هذا الملحد علّة وجوده في الحياة، والغاية من خلقه، ومهما تلبّس بلبوس العلم، فإنه سيبقى بعيدًا عن منهجياته المنضبطة، ومهما ادّعى في نفسه من طيب قلبٍ وكرم خلق، فإنّه لن يصل إلى قاعدةٍ موضوعيةٍ في التمييز بين الخير والشر، إلا ما أشرب من هواه.

تمهيد:

حين يُجعل العلم بديلاً من الدين، وتُفترض مناقضتهما لبعضهما، والطبيعة بديلاً من الله، فإنّ الفساد سيعمّ البرّ والبحر معًا، وسيخيّم الشقاء على الحياة والأحياء جميعًا، وذلك بما كسبت أيدي الناس، وتلك نتيجةٌ حتميةٌ لكلّ من يتنكّر لفطرته؛ فيؤمن بالصدفة والعشوائية بدلاً من الإيمان بخالق السماوات والأرض.

سنطوف في هذا المقال لنقف على حصاد الإلحاد وآثاره السيئة العميقة على شتى الأصعدة؛ في علة الخلق وغاية الحياة، وفي المجال الأخلاقي، وفي المجال العلمي.

الآثار السلبية للإلحاد في علّة الخلق وغاية الحياة:

كلّ الناس على اختلاف معتقداتهم وثقافاتهم يشتركون في التفكير بالأسئلة الفطرية؛ ما أصل الخلق؟ وما غايته؟ وما مصيرنا بعد الموت؟ فهذه الأسئلة الفطرية الغائيّة هي التي تميّزنا عن الحيوانات التي لا تحرّكها إلا الغرائز. والملاحدة عمومًا يرون الإنسان ذرّاتٍ ماديةً لا روح فيها، أو وسخًا كيميائيًّا لا إرادة له([1])، وما دام ذلك كذلك، فلا يوجد هدفٌ موضوعيٌّ للحياة، إنّما أهدافٌ شخصيةٌ لكلّ فردٍ.

ويلخّص لنا البروفيسور الملحد ألكس روزنبرغ Alex Rosenberg حقيقة الحياة وغايتها في نظر الملحدين في مقدمة كتابه (دليل الملحدين للحقيقة) في أسئلةٍ وأجوبةٍ بقوله:

  • هل ثمّة إلهٌ؟

لا.

  • ما طبيعة الواقع؟

ما تقوله الفيزياء.

  • ما الغرض من الكون؟

لا يوجد.

  • ما معنى الحياة؟

كما سبق.

  • لماذا أنا هنا؟

حظٌّ غبيٌّ فقط.

  • هل الصلاة تعمل؟

بالطبع لا.

  • هل يوجد روحٌ؟

أنت تمزح!

  • ماذا يحدث عندما نموت؟

كل شيء يسير كما كان من قبل، باستثنائنا.

  • ما الفرق بين الصواب والخطأ، الخير والشر؟

لا يوجد فرقٌ أخلاقيٌّ بينهما.

  • لماذا يجب أن أكون أخلاقيًا؟

لأنّه يجعلك تشعر بأنّك أفضل من أن تكون فاسدًا.

  • هل الإجهاض أو القتل الرحيم أو الانتحار أو دفع الضرائب أو المساعدات الخارجية أو أي شيء آخر لا تحبّه ممنوع أو مسموح به أو إلزامي في بعض الأحيان؟

كل شيء مباحٌ.

  • هل للتاريخ أيّ معنى أو غرض؟

إنه مليء بالصخب والغضب، لكنّه لا يدلُّ على شيء([2]).

وهذا زعيم الملاحدة دوكينز Dawkins يصف كوننا الذي نعيش فيه بأنّه “في حقيقته بلا تصميمٍ، وبلا غايةٍ، وبلا شرٍّ ولا خيرٍ، لا شيء سوى قسوةٍ عمياء لا مباليةٍ”([3]).

أمّا بعد الموت ففناء مطلقٌ، وكلّ مساعي الإنسان تنتهي بلحظة موته، وقد أخبرنا الله تعالى عن هذه العقيدة الفاسدة بقوله: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا ‌إِلَّا ‌الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24]، حيث ترينا هذه الآية تخبطات الملحدين في فهم رسالة الحياة، لذلك يحاولون سدّ هذا الخواء الروحي والعذاب النفسي بأساليب غريبةٍ ومتناقضةٍ.

فريتشارد دوكينز يعتقد أنّ السؤال عن الغاية من وجود الإنسان -وهو أهمّ مخلوقٍ في هذا الوجود- سؤالٌ سخيفٌ، فحينما سئل عمّا إذا كان العلم يجيب عن سؤال: “لماذا نحن هنا في هذه الحياة؟” أجاب: “سؤال سخيف لا يستحق جوابًا، وليس من حقّ السائل أن يسأله!”([4])، علمًا أنّ دعاة العلم التجريبي يحاولون معرفة الغاية من وجود الأشياء والظواهر الطبيعية حولنا. فهل يعقل أن يستكشف الإنسان الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما، ثم يجهل نفسه التي بين جنبيه، والغاية من وجودها؟

واختار فريقٌ آخر من الملاحدة الهروب من سؤال الغاية وإشغال النفس بأيّ شيءٍ، فما دامت العبثية هي التي تحكم عالمنا هذا فليعبّ المرء من شهواته وملذّاته ما تمنّى، وليملأ وقت فراغه بما يشاء، هذا ما نصح به مخرج الأفلام الملحد وودي آلن Woody Allen متابعيه، وأنّ على المرء أن يلهي نفسه بأيّ شيءٍ ويشتّتها؛ كيلا يواجه الحقيقة المرّة عن المصير بعد الموت([5]).

وهنا نلاحظ أنّ كل هذه المحاولات للالتفاف على الشعور الفطري بالغائية؛ ما هي إلا حِيَل نفسية يخدع بها الملحدون أنفسهم، فيزداد قلقهم وصراعهم النفسي، ويَحيون حياة العبثية والتفاهة، وبعضهم يرضى بحياة الضنك في إسراره ويستمرّ في الخداع في إعلانه، وبعضهم يفرّ من هذه الحياة معلنًا كلماته الأخيرة قبل انتحاره: “سامحوني حاولت النجاة وفشلت”! معبّرًا فيها عن حقيقته التي كان يهرب منها قولاً وفعلاً.

في حين أنّ الحقيقة الواضحة المتوافقة مع الفطرةّ أنّ الإنسان مخلوق لغايةٍ عظيمةٍ، هي عبادة الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ‌إِلَّا ‌لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ومن مجالات هذه العبادة: عمارة الأرض ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ‌وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، وقد أخبر الله تعالى أنّه سخّر كلّ شيء على الأرض للإنسان، فقال: ﴿‌هُوَ ‌الَّذِي ‌خَلَقَ ‌لَكُمْ ‌مَا ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]. والإنسان يتبوّأ منزلة عظيمة بين المخلوقات، وهو مكرّم في الإسلام أيّما تكريم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].

وفي المقابل نجد أنّ انعدام الغائية لدى الملحد سببٌ رئيسٌ في فراره من الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى، ليسكنه القلق بعد ذلك، وتصاحبه الهموم والاضطرابات النفسية أينما حلّ وارتحل.

هذا عدا عن الاختلالات الفكرية لدى الملاحدة، وتخبطهم في الموازين العقلية تحليلاً وتعليلاً، فلا وجود لقانون السببية، ولا مصدرية إلا العدمية، فليسوا على قلب رجل واحد إلا في العدمية والفجور. ولذا فهم في الحقيقة يجترون شبهات من قبلهم، ولا جديد عندهم إلا في نوع الفجور الذي يتجرؤون عليه التزامًا منهم بالعدمية وبانعدام الترابط المنطقي بين الأسباب ونتائجها.

انعدام الغائية لدى الملحد سببٌ رئيسٌ في فراره من الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى، ليسكنه القلق بعد ذلك، وتصاحبه الهموم والاضطرابات النفسية أينما حلّ وارتحل

الآثار السلبية للإلحاد في المجال الأخلاقي:

من أكبر المعضلات التي تواجه الخطاب الإلحادي: مسألة الأخلاق؛ إذ لا يمكن لمجتمعٍ أن يعيش دون منظومةٍ أخلاقيةٍ ثابتةٍ ملزمةٍ، وهنا يتخبّط الملاحدة في تقرير مصدرية الأخلاق، أو وجود أخلاقٍ موضوعيةٍ من حيث الأصل.

أمّا أتباع الدين السماوي فيسندون مصدر الأخلاق إلى الخالق، ويعتقدون بالحساب والجزاء في الآخرة، خلافًا للملحد الذي ينكر وجود الله تعالى، فينكر -تبعًا لذلك- أيّ إلزامٍ خُلقيٍّ. ولعلّ هذا ما حدا بكثيرين من اللادينيين إلى تنكّب الصراط المستقيم، “لينطلق في حياته فاجرًا، دون أن تقف في طريقه تصوّرات قانون العدل. قال تعالى: ﴿‌بَلْ ‌يُرِيدُ ‌الْإِنْسَانُ ‌لِيَفْجُرَ ‌أَمَامَهُ ٥ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ [القيامة: 5-6]”([6]).

ونحن هنا لا ننفي وجود ملحدين ذوي خلقٍ حسنٍ، يقول المفكر الإسلامي بيغوفيتش: “يوجد ملحدون على أخلاقٍ، ولكن لا يوجد إلحادٌ أخلاقيٌّ”([7]).

وقد حاول الملاحدة الالتفاف على مأزق مرجعية الأخلاق لديهم، فتخبّطوا يمنةً ويسرةً دون أن يصلوا إلى ظنٍّ أو شبهه في حلّ هذه المعضلة، فهذا الملحد الشهير سام هاريس في كتابه (المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم الإنسانية؟) حاول أن يسوّغ ما هو أخلاقي بما يحقّق للبشرية السعادة والرخاء، وقد علّق أستاذ الفلسفة كواميه أنتوني Kwame Anthony بإجمال على رؤية هاريس الأخلاقية قائلاً: “في الحقيقة فإنّ ما ينتهي هاريس إليه هو شبيهٌ جدًا بالمذهب النفعي، وهو موقفٌ فلسفيٌّ ظهر منذ قرنين من الزمن”([8]).

وبناءً على ما سبق نرى أنّ الالتزام بلوازم الإلحاد يجعل الملحد ساقطًا في نسبيةٍ لا نهائية من القيم، الأمر الذي يؤدّي إلى إيمان الملحدين ببعض “الأخلاقيات” الصادمة، مثل: زنا المحارم، والإجهاض، والشذوذ الجنسي، والتحرّش، والاغتصاب، وإتيان البهائم، حتى بات الإلحاد رديفًا للفجور، والجنس، وشرب الخمور، وتعاطي المخدرات. ونظرةٌ عجلى في الإحصاءات ما بين الدول التي تدين بالإسلام وبين الدول التي يدين غالبية سكانها بالإلحاد، تُظهر فرقًا شاسعًا في معدّلات التحرّش والاغتصاب، وتعاطي الحشيش والمخدّرات.

 

 

ويكفي هنا أن نشير إلى بروفيسور القانون الدنماركي الملحد فاجن جريف Vagn Greve الذي يطالب بعدم تجريم زنا المحارم، وتناول حبوب منع الحمل فقط. ويعلل ذلك بأنّه طالما العلاقة بين بالغين بمحض إرادتهما الحرّة فلا يحقّ للدولة التدخل والعقاب، ويقترح حذف القانون الذي يعاقب بالسجن ست سنواتٍ لمن يمارس زنا المحارم([9]). أمّا في ألمانيا فقد خرج جمعٌ من الملاحدة والعلمانيين في تظاهراتٍ يطالبون فيها بالسماح لهم بممارسة الجنس مع الحيوانات، وعدم تجريمهم وَفقًا لقانون حماية الحيوان في بلادهم([10]).

وفي السياق نفسه نجد أنّ نسبة الجرائم في المجتمعات اللادينية أكثر منها في البلدان المؤمنة، والسبب هو ما أشرنا إليه آنفًا، وهو ما صرّح به جيفري دامر Jeffrey Dahmer‏ القاتل المتسلسل الذي قتل خمس عشرة ضحية حين قال في إحدى المقابلات معه: “… لأنّه دائمًا ما كنت أصدق تلك الكذبة: أنّ نظرية التطور حقيقة، وأنّنا جميعًا جئنا من بكتيريا، وعندما نموت فهذه هي النهاية، ولن يكون هناك شيء! النظرية كلّها تقلّل من قيمة الحياة”([11]).

ولا غضاضة عند كثيرٍ من الملحدين من قتل ملايين الناس للمحافظة على الاقتصاد العالمي؛ فكلنا سمع أو قرأ عن المليار الذهبي؛ والذي يعني ضرورة المحافظة على ثراء الدول الصناعية الغنية، وذلك من خلال استغلال ثروات العالم الثالث، والتخلّص من شعوبها بأيّ طريقةٍ كانت، فهذا ديفيد أتينبورو David Attenborough، ينادي بالتوقّف عن إطعام دول العالم الثالث للحدّ من عدد السكان([12])، ومثلهما سام هاريس Sam Harris الذي لا يجد حرجًا من قتل الناس وَفق اعتقاداتهم، فيصرّح: “إنّ بعض المعتقدات خطيرةٌ جدًا لدرجة أنّه من الممكن أن يكون قتْلُ الناس الذين يعتقدون هذه المعتقدات فعلاً أخلاقيًا”([13])، ويردّد مرارًا أنَّ أمريكا ليست في “حربٍ على الإرهاب”، إنّما في “حربٍ على الإسلام”، لذلك دعا إلى الهجوم النووي (الاستباقي) على أيّ نظامٍ إسلاميٍّ لمجرّد أنّه “يمتلك” أسلحةً نوويةً([14])!

لا غرابة في هذا كلّه؛ فالأخلاق الداروينية لا تنتج سوى الحرص والتكالب على الدنيا، وسحق الفقراء لمصلحة الأغنياء. وآليّة الصراع من أجل البقاء، والبقاءُ للأصلح لا يفرز إلا الوحشيةَ والدَّناءة، والمجتمعُ الدارويني لا يكوِّن إلا مجتمعًا فاشيًّا؛ ينتشر فيه التعصب العنصري والتصفية العِرقية.

إنّ التشريعات الأرضية التي تُلزم بالأخلاق لن تُوجِد في ضمائر الناس وازعًا لفعل مأمورٍ أو ترك منهيٍّ إلا ما أشربت القلوب من هواها. في حين أنّ ارتباط الأخلاق بالقيم الدينية الصافية التي جاء بها الإسلام وارتباطها بالإيمان باليوم الآخر هو معيار ثباتها، وهو الحافز على الالتزام بها طاعةً لله تعالى وطلبًا لرضاه والجنّة، وخوفًا من غضبه ومن النار.

حاول الملاحدة الالتفاف على مأزق مرجعية الأخلاق فتخبّطوا يمنةً ويسرةً دون أن يصلوا إلى ظنٍّ أو شبهه في حلّ هذه المعضلة، وسقطوا في نسبيةٍ لا نهائية من القيم، مما أدى إلى إيمان الملحدين ببعض “الأخلاقيات” الصادمة المنحرفة

الآثار السلبية للإلحاد في المجال العلمي:

لا تختلف جناية الإلحاد في حقل العلم والثقافة عن مثيلتها في الأخلاق أو الغائية، فمن يعتقد أنّ هذا العالم نشأ دون خالقٍ كيف سيوظّف قانون السببية في حياته؟ ومن يرى أنّ الصدفة والعشوائية هي التي تتحكّم في تطوّر المخلوقات كيف سيفيد من قوانين الحياة وانتظامها في فهم غائيّة حركة الكون من الذرّة إلى المجرّة؟ ومن يصدّق خرافات الملاحدة وسفسطاتهم كيف سيفرّق بين حقائق العلوم وزيوفها؟

وهذه البَدَهيّات الضرورية هي التي تبتدأُ منها العلوم وتنتهي إليها، وهي مستغنيةٌ عن البرهان، بل إليها المرجع في العملية الاستدلالية([15]). ومع ذلك تجد الملحد يتنكّر لها، ويرفض بدهيات الحسّ والعقل زعمًا منه أنّه لا يؤمن إلا بما أثبتته التجارب في المخبر، لذلك لن ينتفع بعقله، ولن يكون قادرًا على إدراك الحقائق أيًّا كانت، يقول ابن تيمية رحمه الله: “‌فإذا ‌وقع ‌الشكّ ‌فيها انقطع طريق النظر والبحث؛ ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية لم يناظر”([16]).

ومن أقرب الأمثلة على ذلك: إصرار الملاحدة على رؤية الخالق سبحانه، فإن رأوه وإلا فهو غير موجودٍ. وهي شبهةٌ داحضةٌ لا تستحقّ الردّ، فثمّة أمثلةٌ كثيرةٌ لما لا نراه وهو موجودٌ يقينًا، من ذلك الجاذبية، وذرات أجسادنا، وأجزاء الذرات، والهواء، والموجات الصوتية والتلفزيونية، والمجرّات… نؤمن بهذا كلّه من خلال تأثيراتها المختلفة أو العلم الذي يخبرنا عنها.

ومن ذلك استدلال الملحدين على عدم وجود الخالق باكتشاف الفاعلية السببية، بل جعلوا من اكتشاف العلم أسباب حدوث الأشياء دليلاً على أنّها لم تحدث بقدرة خالقٍ، وأنّ الإنسان في العصر الحديث ليس بحاجةٍ إلى الإيمان بالخالق حتى يفهم الكون وطريقة سيره، وهذا ما عبّر عنه واينبرج Weinberg بقوله: “بل إنّه حتى القرن التاسع عشر كان تصميم النباتات والحيوانات يعدّ دليلاً بيّنًا على وجود الخالق، ما تزال في الطبيعة أشياء لا حصر لها لا نستطيع تفسيرها… وعلينا اليوم لمعرفة الأسرار الحقيقية أن ندرس علم الكون وفيزياء الجسيمات العنصرية… وبالنسبة لأولئك الذين لا يرون تعارضًا بين العلم والدين، لقد أصبح انسحاب الدين من الأرض التي يحتلّها العلم يكاد يكون كاملاً”([17]).

والحقّ أنّه لا تعارض بين تفسير العلم لكلّ شيءٍ في الكون وبين الإيمان بالله تعالى، بل الإيمان بالله تعالى أصلٌ لصحة تفسير العلم، يقول جون لينكس John Lennox، وهو عالم رياضيات مؤيد للمسيحية ومعارض وناقد للإلحاد: “النقطة التي نريد هنا أن نلمّ بها أنّ الله ليس بديلاً عن العلم كتفسيرٍ، فلا يجوز أن نفهمه كإلهٍ للفراغات، بل على النقيض من ذلك هو أساس جميع التفاسير… من المهمّ التأكيد على هذا الأمر؛ لأنّ المؤلفين المؤثّرين مثل ريتشارد دوكينز سيصرّون على تصوّر الله كبديلٍ تفسيريٍّ للعلم، وهذه فريةٌ لا توجد في الفكر الديني بأيّ عمقٍ كان”([18]).

والعجيب هنا أن نرى الملحد يستميت في إثبات خرافاته الإلحادية وخيالاته الافتراضية -كفكرة التطوّر- بغير دليلٍ ماديٍ واحدٍ ملموسٍ حسب طريقة تفكيره! وذلك إمّا بالمسارعة إلى (إله فجواتٍ) خاصٍّ به لتفسير كلّ ما يجهله من وظائف الأعضاء بكونها أدلةً على التطوّر، وإمّا بالمزيد من تأليف القصص الوهمية عن التطوّر في الماضي السحيق، والتي لم ولن يراها أحدٌ، وإمّا بمزيدٍ من الغشّ والتزوير لأدلةٍ ما تلبث أن يُكشف زيفُها، مثل تزويرهم وتأليفهم للعديد من حفريات الكائنات الوسيطة التي لم توجد في الحقيقة([19]).

لقد ظنّ هؤلاء العلماء أنّهم قادرون على فهم كلّ الحقائق الوجودية من مختبراتهم، وما بلغ بهم هذا الاعتقاد سعة مكتشفاتهم وتطوّر مخترعاتهم، إنّه طغيان البشر، قال تعالى: ﴿‌كَلَّا ‌إِنَّ ‌الْإِنْسَانَ ‌لَيَطْغَى ٦ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: 6-7]. لكنّ الحقيقة أنّ للعلم حدودًا، وقد أدرك كثيرٌ من العلماء المعاصرين قصور العلم التجريبي، وعجزه عن كفاية الاحتياجات الإنسانية.

وقد ألّف سوليفان Sullivan كتابًا خاصًّا في هذه القضية سمّاه (حدود العلم)، محّضه للتأكيد على قصور العلم الإنساني واستحالة إحاطته بكلّ الحقائق الوجودية، وأثبت أنّ له حدودًا يقف عندها. ومن الأمور التي يعجز العلم التجريبي عن الوصول إليها: القضايا المتعلقة بالأخلاق والمبادئ والقيم والغاية ونحوها([20]). ويعترف ستانليStanley  آخِرَ عمره قائلاً: “إنَّ العلمَ يَصطاد في بحرِ الواقعِ بنوعٍ مُعيَّنٍ مِن الشباك يُسمّى المنهجَ العلميّ، وقد يكون في البحر -الذي لا يُمكننا أن نَسبر غوره- الكثير ممّا تعجز شِباك العلم عن اقتناصه”([21]).

 “الله ليس بديلاً عن العلم كتفسيرٍ … بل على النقيض من ذلك هو أساس جميع التفاسير… من المهمّ التأكيد على هذا الأمر؛ لأنّ المؤلفين المؤثّرين مثل ريتشارد دوكينز سيصرّون على تصوّر الله كبديلٍ تفسيريٍّ للعلم، وهذه فريةٌ لا توجد في الفكر الديني بأيّ عمقٍ كان”
جون لينكس

الخاتمة:

نخلص ممّا سبق إلى أنّ الإنسان في ظلّ الإلحاد وسخٌ كيميائيٌّ تافهٌ، حياته عبثيةٌ بلا معنى، وأخلاقه نفعيةٌ بلا ضوابط. ومهما بلغ في علومه واكتشافاته فسيبقى تائهًا عمّا خلق له، غافلاً عن الآخرة، لا يحجزه شيءٌ عن الشذوذ والإباحية والجريمة والظلم.

أمّا الإيمان بالله والتسليم له فهو يعلي من قيمة الإنسان، ويجعله صاحب رسالةٍ وسيادةٍ، ويجيب عن الأسئلة الوجودية، ويفسر له ما يعجز العلم التجريبي عن تفسيره، ويرسم له حدود علاقته بخالقه وبالبشر وبقية المخلوقات والموجودات، و”هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حلّ لها ولا معنى، إنّه طريقٌ للخروج دون قنوطٍ ولا تمرّدٍ، ولا عدميّةٍ ولا انتحارٍ”([22]).


أحمد خضر المحمد
ماجستير عقائد وأديان، مسؤول ملف الإلحاد في مركز مناصحة.



([1]) يقول عالم الفيزياء الملحد ستيفين هوكينغ Stephen Hawking: “الجنس البشري مجرد وسخ كيميائي موجود على كوكب متوسط الحجم”، [(1995) From the TV show Reality on the Rocks: Beyond Our Ken].

([2]) ينظر: كتاب دليل الملحد إلى الحقيقية (See The Atheist’s Guide to Reality)، للمؤلف: (AlexRosenberg)، ص (13).

([3]) ينظر: كتاب نهر خارج الجنة (River out of Eden)، للمؤلف: (Dawkins)، ص (155).

([4]) لقاء مع داوكينز في مانشستر سنة 2003م، على منصة Youtube بعنوان: ريتشارد داوكنز يعجز عن الإجابة ويسميه سؤال سخيف.

([5]) لقاء مع وودي آلن Woody Allen في المؤتمر الصحفي الذي عقد عن فلم (Irrational Man) سنة 2015م، على منصة Youtube بعنوان: وودي آلن – معنى الحياة (مترجم).

([6]) كواشف زيوف، لعبد الرحمن الميداني، ص (498).

([7]) الإسلام بين الشرق والغرب، لعلي عزت بيغوفيتش، ص (175).

([8]) مقالة: الإلحاد والأخلاق.. إذا كان الإله خرافة فكل شيء مباح، لإبراهيم السيد، على موقع الجزيرة نت.

([9]) مقطع مرئي بعنوان: يقول دكتور القانون البروفيسور فاجن جريف إن زواج سفاح القربى بين أبناء العمومة البالغين والأشقاء أمر مبرر، بل وقانوني (Adult Cousin & Sibling Incest Marriage is Justified, even legal, says Dr. of Law Prof. Vagn Greve)، على منصة Youtube.

([10]) خبر بعنوان: مطالبات بممارسة الجنس مع الحيوانات تثير الجدل في ألمانيا، على موقع نبض، 17 نيسان أبريل 2024م.

([11]) مادة بعنوان: جيفري دامر يمثل نظرية التطور (Jeffrey Dahmer Epitomizes Evolutionary Theory)، على موقع airocross.com، بتاريخ 13 أكتوبر 2011م.

([12]) مقالة: توقفوا عن إطعام دول العالم الثالث لتقليل عدد السكان (STOP FEEDING THIRD WORLD NATIONS TO REDUCE POPULATION) للكاتب: David Attenborough، على موقع: archives.infowars.com.

([13]) كتاب: نهاية الإيمان (The End of Faith)، للكاتب: Sam Harris، ص (52-53).

([14]) المرجع السابق، ص (129).

([15]) ينظر: شموع النهار، لعبد الله العجيري، ص (39).

([16]) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (3/310).

([17]) أحلام الفيزيائيين، لستيفن واينبرغ، ترجمة: أدهم السمان، ص (195).

([18]) أقوى براهين جون لينكس، جمع أحمد حسن، ص (67).

([19]) ينظر مقالة: المواطن الملحد (خطر الإلحاد على المجتمع)، لأحمد حسن، على موقع الحصن، alhesn.net.

([20]) ينظر: ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، لسلطان العميري، ص (443-444).

([21]) بساطة العلم، لبيك ستانلي، ص (229).

([22]) الإسلام بين الشرق والغرب، لعلي عزت بيغوفيتش، ص (396).

ماجستير عقائد وأديان، مسؤول ملف الإلحاد في مركز مناصحة.
X