تزكية

جماليات التوجيهات الإسلامية عند الابتلاءات

الإسلام دينٌ عظيم، وجمالياته لا تقتصر على جانبٍ واحد، ففضلاً عن التوحيد والنجاة في الآخرة، يتضمن جوانب تجعل صعوباتِ الحياة أسهل وأيسر، والمصائبَ أمرًا يمكن تحمُّله، بل تجعل المسلم باحثًا عن مواطن الرحمة في الأقدار المؤلمة، ليعيش بذلك حياةً كريمة رضية مطمئنة. هذه المقالة تتناول هذه الجوانب والتوجيهات وجمالياتها

الرحمن الذي خلق الإنسان، قسّم حياته إلى دارين، الدنيا وهي دار الامتحان والابتلاء، والأخرى وهي دار الجزاء والثواب والقرار، وهي الحياة الحقيقية، قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤]، والله سبحانه لم يرتضِ الحياة الدنيا -التي وصفها باللهو واللعب- جزاءً للمؤمن، وإنما ادَّخر له جزاءه في دار البقاء الخالدة.

فنحن نعيش الحياة باختباراتها وابتلاءاتها التي لا تنتهي، فتتكرَّر وتعاود الكرَّة مرةً بعد أُخرى، فتطحن الصالحين والطالحين على حدٍّ سواء.

والابتلاءات التي تصيب الأمة الإسلامية لا تقتصر على العصاة، بل وقعت حتى في خير قرونها، الذين خاطبهم الله ببعض ما سيُختبرون به بقوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٥٥]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أخبر الله المؤمنين أنَّ الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: ﴿مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾»[1].

لكنّ حقيقةَ ما ظاهرُهُ النعمة، كحقيقة ما ظاهرهُ القِلَّة والفقر، ولا يعني إكرام الله لك بعَرَض دنيوي أنه رضي عنك بالضرورة، ولا يعني إنزاله مصيبة عليك أنه غاضب منك بالضرورة، فما نخاله شرًا قد يتحول لخير كبير، وما نخاله خيرًا قد ينضوي تحته شر عظيم.

وهذا الابتلاء نفسه قد يكون بالشر وقد يكون بالخير؛ قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥].

وقال رسول الله ﷺ: (عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له)[2].

ولابد من التمييز بين أسباب نزول البلاء وكثير منها غيبي، وطرق دفع هذا البلاء، والدروس المستفادة منه، وما الواجب علينا بعد نزول البلاء. والشريعة قد فرقت بين ذلك كله، مما لا مجال لاستيعابه، وسنكتفي بجماليات ما وجهتنا إليه الشريعة عند نزول البلاء، وكيف استطاعت هذه التوجيهات أن ترتقي بالعبد المسلم من فظاعة وبشاعة ما يراه من بلاء، إلى عالم جميلةٍ طبيعَتُه جميلةٍ مآلاتُه؟ فيحقق سعادة الدارين.

لا يعني إكرامُ الله لك بعَرَض دنيوي أنه رضي عنك بالضرورة، ولا يعني إنزاله مصيبة عليك أنه غاضبٌ منك بالضرورة، فما نخاله شرًا قد يتحوَّل لخيرٍ كبير، وما نخاله خيرًا قد ينضوي تحته شرٌّ عظيم

أولاً: الابتلاء لا يستهدفك وحدك بل هو سنة تشمل جميع البشر من بدء الخلق:

فالبلاء يشمل كل من سكن هذه الحياة الدنيا، فهو سُنة كونية تشمل المؤمن والكافر قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان: ٢]، منذ عهد آدم عليه السلام ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ [الأنعام: ٤٢] وعلى المؤمن استشعار أن الأيام دول بين الناس جميعًا ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١٤٠].

وهذا البلاء قد يتشابه في ظاهره، لكنه يختلف في أسبابه ونتائجه، فهو لا يكون إلا خيرًا على المؤمن، أما الكافرون المعرضون، إن أصابتهم السراء بطروا، وإن أصابتهم الضراء أشروا، فخابوا وخسروا.

ثانيًا: الاقتداء بالأنبياء فهم الأشدُّ بلاء:

وكون الأنبياء أشدَّ الناس بلاءً له وجهان، الأول: لأنَّهم قدوةٌ للبشر في كلِّ شيء، ومنه الصبر والشكر والرضا بأقدار الله، والثاني: كون البلاء يتحوَّل بالإيمان إلى خيرٍ ورفعة، وهم صلوات ربي عليهم أجدرُ الناس بهذا الفضل، فعن سعد بن أبي وقاص t، سألتُ رَسولَ اللهِ ﷺ: أيُّ النَّاسِ أشَدُّ بَلاءً؟ فقال: (الأنبياءُ، ثم الأمثَلُ فالأمثَلُ، فيُبتَلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِهِ، فإنْ كان رَقيقَ الدِّينِ ابتُلِيَ على حَسَبِ ذاك، وإنْ كان صُلبَ الدِّينِ ابتُلِيَ على حَسَبِ ذاك، قال: فما تَزالُ البلايا بالرَّجُلِ حتى يَمشيَ في الأرضِ وما عليه خَطيئةٌ)[3].

وقد يقرأ إنسان قول الله لنبيه موسى عليه السلام: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: ٤١] فيظن أن موسى عليه السلام سيصبح ملكًا ناعم الملبس ناعم العيش، دون كللٍ أو تعب، ثم لو تتبَّع حياته منذ الطفولة فسيجد الخوف والحزن والترقُّب والهرب والرهق والتعب والتيه، فالابتلاء طريق الاصطفاء.

ويكمُنُ جمالُ هذا التوجيه في لجوء الناس إلى الأنبياء؛ ليثبِّتوهم بحالهم ومقالهم عند البلاء، ولتبقى سيرتهم نبراسًا تتَّبعه الأجيال المؤمنة، وتهتدي بها قلوب العباد في كل بلاء ينزل. قال ابن القيم رحمه الله: «فإنه سبحانه كما يحميهم -يعني الأنبياء- ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم، فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم: ليستوجبوا كمالَ كرامته، وليتسلَّى بهم مَن بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أُوذوا من الناس، فرأَوْا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضُوا وتأسَّوْا بهم. ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة، فيمحَقهم بسبب بَغْيهم وعداوتهم، فيعجل تطهير الأرض منهم»[4].

ومن ذلك جمال التوجيه إلى النظر لمن هم أشد منا بلاء، ففيه فائدة قبل وقوع البلاء بالتهيؤ له، وتوطين النفس لاستقباله، ودفع الجزع من البلاء، وحمد الله على السلامة منه، فإذا وقع البلاء وأنت تستذكر من هو أشد منك بلاء ثبتك الله وحلاك بالصبر.

البلاءُ سُنّة كونية تشمل المؤمن والكافر، وهذا البلاء قد يتشابه في ظاهره، لكنه يختلف في أسبابه ونتائجه، فهو لا يكون إلا خيرًا على المؤمن، أما الكافرون المعرضون، إن أصابتهم السراء بطروا، وإن أصابتهم الضراء أشروا، فخابوا وخسروا

ثالثًا: ثبات المسلم على الحق في كلِّ الظروف:

أنت أيها المؤمن عبدُ الله، ماضٍ فيك قضاؤه، عدلٌ فيك حُكمُه، لستَ من الذين يعودون إلى الله في البلوى، ثم يبغون وينكصون في السراء ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ٢٢ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [يونس: ٢٢-٢٣] وجمال هذه الاستقامة أنها تورث مرضاة الرب الجليل في كل حال، وتجعلك متأقلمًا راضيًا في المنشط والمكره.

والمؤمن في عسره وبلواه، يتذكّر النعم والعافية، وتبدّل العسر إلى اليسر، ويتيقّن أن الفرج قريب ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ٥ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥-٦] وتلك بشرى المؤمن وأمله الذي يثبته، وهو ما يذهب عنه الفزع والخوف، ويجعله يفرح بفضل الله ورحمته: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: ٥٨].

رابعًا: الدعاء والذكر:

ومثله الإكثار من العبادة بشتى أنواعها، والتضرع إلى الله لرفع البلاء، فالبلاء يجلب تعلق العبد بربه ولين قلبه على الخلق، فلا يقسو عند البأس إلا قلوب الضالين قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣].

وجمال الإقامة على ذكر الله ودعائه: أن العبد يعلم أن دعاءه مستجاب لا ريب، فعَن أَبِي سَعِيدٍ t أَنَّ النبيَّ ﷺ قال: (ما مِن مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيها إِثْمٌ ولا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَها لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟ قالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ)[5].

ومعرفة أن الدعاء من قدر الله تعالى، فيدعو لرفع عنه البلاء وصرف شر ما يخشاه. قال النبي ﷺ: (لا يُرد القدرُ إلا بالدعاء)[6].

والاشتغال بالدعاء والذكر، قبل وقوع البلاء وعنده وبعده من أشرف الأعمال، فقبل وقوع البلاء يُحصِّن المسلم نفسه، فيستشعر حفظ الله ورعايته له في كل وقت، وعند وقوع البلاء يكون ذكره ودعاؤه حفظًا له ومُصَبِّرًا له عند الصدمة الأولى، وبعد وقوع البلاء يحصنه ذكره ودعاؤه واسترجاعه وحوقلته، من الهموم واستجلاب دواعيها وتعظم له الأجر، وتعينه على الاستشفاء والعلاج الروحي والبدني.

المسلم يُحسنُ ظنّه بربِّه في الابتلاءات، ويكونُ على يقينٍ بجلاء الهموم ورفع البلاء، اعتقادَ محقٍّ موقنٍ لا اعتقاد توهُّمٍ وظنٍّ، وبهذا يخفّف من وَقْعِ البلاء وأثره على نفسه

خامسًا: حسن الظن بالله:

وهو توقُّع الجميل من الرب الجليل، ففي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَقُولُ الله: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)[7]، فكيف يخسر من كان الله نصيره ومولاه في بلواه، يذكره ويتقرب منه ويأتيه بالخير والرحمة؟

والمطلوب من المسلم في الابتلاءات أن يحسن ظنّه بربه، وأن يكون على يقين بجلاء الهموم ورفع البلاء، اعتقاد محقٍّ موقنٍ لا اعتقاد توهُّمٍ وظنٍّ، وبهذا يخفّف من وَقْعِ البلاء وأثره على نفسه، لذلك قصّ علينا القرآن الكريم قول نبي الله يعقوب عليه السلام، عندما وقع عليه مصاب فقد ولدين من ولده ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: ٨٣].

ويتأكَّد حسنُ الظن بالله عند الشدائد والكرب، فإنَّ الثلاثة الذين تخلَّفوا عن رسول الله ﷺ في تبوك، لم يُكشف عنهم ما بهم من كرب وضيق؛ إلا عندما أحسنوا الظنَّ بربِّهم، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [التوبة: ١١٨].

ومن البلاءات التي وجه الإسلام إلى حسن الظن في التعامل معها، بلاء ضيق العيش؛ قال رسول الله ﷺ: (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقتُه، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشِكُ الله له برزق عاجل أو آجل)[8]. وإنزالها بالله: أن توقن وتظن أن الله تعالى يفرِّجُ عنك ويزيلها.

سادسًا: الصبر عند الصدمة الأولى:

ما سيق سابقًا يصب في خانة الصبر، لكن التوجيه هنا على الصبر عند أول الصدمة، لأن من صبر فيها ثبت، قالَ النبيُّ ﷺ: (إنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أوَّلِ صَدْمَةٍ)[9]. فالصبر في أول الابتلاء؛ يستدعي استمرار هذا الصبر وتحصيل عظيم الأجر.

وأول ما يحصِّله الصابر في بلواه هو البُشرى، وأي شيء يهوّن على المبتلى كالبشرى ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ١٥٥ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ١٥٦ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧]، وبمعرفة ثواب الصبر العظيم يهون عليك كل بلاء، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: ١٠].

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا همٍ ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)[10].

وكان شُريح يقول: «إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني»[11] فالحمد لله الذي هدى عباده إلى هذا الخلق الجميل.

سابعًا: جمالية مقام الرضا بأمر الله وقدره:

الرضا هو انشراح القلبِ بقدر الله وقضائه، وسكونه تحت مجاري الأحكام، والفرق بين الرضا والصبر: أنَّ الصبر هو حبس النفس عن التَّسخُّط، وأمَّا الرضا فهو انشراح الصدر بالقضاء. وقد وصف الله عباده بصفة الرضا، فقال تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [المائدة: ١١٩] فقابل الرضا بالرضا، وهو غاية الجزاء ونهاية العطاء، كما رفع الله مكانة الرضا إلى أعلى درجات الجنة، فقال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ٧٢] وقال النبي ﷺ: (ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً)[12].

والرضا يكون عند العطاء والمنع، فالرب حكيم جليل، حينما يحرمنا فلحكمة، وعندما يعطينا فلحكمة، ومن أجمل الأذكار التي علمنا إياها النبي ﷺ: (مَن قال حِينَ يَسمَعُ المُؤَذِّنَ: رَضِيتُ باللهِ رَبًّا، وبمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وبالإسلامِ دِينًا؛ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ)[13].

ومن جمال الإسلام وواقعيته، أنه لا يترك الإنسان حتى ينفجر بحبسِ ما في نفسه، فيسمح له أن يحدِّث ببلواه، ويظهرها للناس، لكن يتحدث بكلام الراضي لا الساخط «فأمّا إظهار البلوى على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في قصة أيوب عليه السلام: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ [ص: ٤٤]، مع ما أخبر عنه أنه قال: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: ٨٣]»[14].

ومقتضى الرضا والإيمان بالقضاء والقدر، أنْ يطبق حديث النبي ﷺ: (إنَّك لن تَجِدَ طَعمَ حقيقةِ الإيمانِ حتى تعلَمَ أنَّ ما أصابَك لم يكُنْ لِيُخْطِئَك، وما أخطَأَك لم يكُنْ لِيُصيبَك)[15].

الفرق بين الرضا والصبر: أنَّ الصبر حبس النفس عن التَّسخُّط، وأمَّا الرضا فهو انشراح الصدر بالقضاء. وقد وصف الله عباده بصفة الرضا، وقابلهم بالرضا، وهو غاية الجزاء ونهاية العطاء

ثامنًا: جماليات معرفة الحكمة من البلاء:

لله تعالى في ابتلاء عباده حكم عديدة، علينا أن نتذوق جماليات هذه الهدايات.

– فابتلاء المؤمن قد يكون كفارة له عن ذنب أو معصية، ورفعة في الدرجات. فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله ﷺ: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)[16].

– وقد يكون البلاء دليلاً على حب الله للعبد، قال رسول الله ﷺ: (مَنْ يُرِد الله به خيرًا يُصِبْ منه)[17]، وقال ﷺ: (إذا أحب الله قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)[18].

– وقد يكون الابتلاء تمكينًا وتثبيتًا قال رسول الله ﷺ: (مَثَلُ المؤمن كمَثَلِ الخَامَةِ من الزرع، من حيث أتتها الريحُ كفأتها، فإذا اعتدلَت تَكَفَّأُ بالبلاء، والفاجرُ كالأرزة صمّاءَ معتدلةً حتى يَقْصِمَها الله إذا شاء)[19].

– وقد يكون البلاء عقوبة على المعاصي والذنوب، لما جاءت به النصوص الشرعية، ودل عليه النظر في أحوال الأمم والعباد في القديم والحديث.

وهكذا يكون حال المؤمن، ما بين الابتلاءات والدعوات والرحمات حتى يرد الجنة طاهرًا من ذنوبه، أما الكافر فيهوي في جهنم بأوزاره وآثامه.

تاسعًا: ابتغاء ما عند الله من الأجر:

وهذا مما يعين المؤمن على تحمل بلاء منقطع مؤقت؛ رغبة في جنة دائمة باقية، تنال بالصبر والتقوى، قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧]، فالإنسان متى علم أنه مجزيّ على صبره، مُثاب عليه؛ عمل بما يرضي الله عز وجل لتحصيل الأجر، فيستمر على الطريق، يحدوه الأمل على الاستقامة والبعد عما يغضب الله عز وجل.

هذا ما يكون للصابرين من أجر في الآخرة، وحتى في الدنيا؛ فقد رفع الله مكانة كثير من المبتلَين، حتى جعل الله لهم مكانة الشهداء؛ نظير قساوة ما مر بهم من ابتلاء، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: (الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله)[20]. قال ابن حجر: «وقد اجتمع لنا من الطرق الجيدة أكثر من عشرين خصلة.. وذكر منهم: اللديغ، والشريق، والذي يفترسه السبع، والخارُّ عن دابته، والمائد في البحر والذي يصيبه القيء، ومن تردى من رؤوس الجبال»[21]، قال بعض العلماء: وإنما كانت هذه الموتات شهادة يتفضل الله تعالى بسبب شدتها وكثرة ألمها.

لكلِّ مقامٍ مقال، ولكل وقتٍ عبادتُه التي تقُدَّم على غيرها، وقد لا ينُاسب الوعظُ المنمَّق عند وقوع البلاء، ولا الدروس المطولة التي تلقى على المشرَّدين والمشتَّتين، وقد يكون أبلغ منها مسحةٌ على رأس يتيم، وضمّةٌ لمكلوم، وقُبلةٌ على جبين محروم

عاشرًا: التعاضد ومواساة الغير:

ولذلك توجيهات كثيرة كفيلة بتحقيق المواساة والتكاتف، لعل من أهمها: ترك فسحة للناس وهامش ليخرجوا زفرات قلوبهم فيفضفضوا ويرتاحوا، ويلملموا جراحاتهم، والتخفيف عنهم في الوعظ والنصح، إشفاقًا عليهم، وتحسينًا للظن بهم؛ فمن قلة الحكمة حصر الناس والضغط عليهم، ولسعُهُم بسياط كلامٍ طيبٍ لا يجدون طاقةً لسماعه، فلكلِّ مقام مقال، ولكل وقت عبادته التي تقدم على غيرها، وقد لا يناسب الوعظ المنمق عند وقوع البلاء، ولا الدروس المطولة التي تلقى على المشردين والمشتتين، وقد يكون أبلغ منها مسحة على رأس يتيم، وضمة لمكلوم، وقبلة على جبين محروم.

وقد مرَّ النبي ﷺ بامرأة تبكي عِندَ قبرٍ، فقال: (اتَّقِي اللَّهَ واصْبِرِي)، فقالت: إليك عنِّي، فإنَّك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرِفه، فقيل لها: إنَّه النبيُّ ﷺ، فأتَتْ باب النبي ﷺ، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعْرِفْك، فقال: (إنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى)[22]. والحديث يدلُّ على أنَّ المصيبة بلغت من المرأة مبلغًا عظيمًا، فكان من حسن خلق النبي ﷺ ودعوته إلى الحق وإلى الخير، أنه لما رأى هذه المرأة تبكي أمرَها بتقوى الله والصبر، فلما سمع جوابها، وعلم حالها، انصرف عنها حتى رجعت هي إليه، لأنه عرف أنه أصابها من الحزن ما لا تستطيع أن تملِك نفسها؛ فانسحب إشفاقًا عليها، وخوفًا من أن تقول ما لا يرضي الله عز وجل، ولم ينتقم لنفسه، ولا بين لها من هو بأبي هو وأمي.

ومن صور التعاون وتقديم المواساة الكثيرة التي تكون عند نزول البلاء:

مواساة من ابتلي بفقد قريب أو عزيز بالدعاء والترحم، وتلبية احتياجاتهم وقت انشغالهم بفقيدهم، فلَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ t قال ﷺ: (اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعامًا فقد أَتاهُم أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ)[23].

مواساة المريض بالدعاء، والرقية، ومحاولة الخدمة وتوفير الاحتياجات قدر المستطاع.

المواساة عند الفقر والقلة بالإغاثة وتقديم الإعانة بأنواعها المادية، والعينية، والنفسية، سواء من النفس أو الآخرين. عن أبي موسى t قال: قال النبي ﷺ: (إنَّ الأشعريين إذا أَرْمَلُوا في الغزو، أو قلَّ طعام عِيَالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسويّة، فهم مني وأنا منهم)[24] وهذا فضل المواساة والسماحة والإيثار، وأنها كانت خلق نبينا ﷺ، وخلق صدر هذه الأمة، وأشراف الناس.

مواساة المهموم: فالنبي ﷺ كان يتفقَّد أصحابه كما روي عن سؤاله لأبي أمامة وقد وجده جالسًا مهمومًا في المسجد فعلَّمه: (قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهُم إني أعوذُ بكَ مِن الهَم والحَزَن، وأعوذُ بكَ مِن العَجزِ والكسَل، وأعوذُ بك مِن الجُبن والبُخلِ، وأعوذُ بكَ مِن غلَبةِ الدين وقهْر الرجال)[25].

صلاح الفرد في نفسه لا يمنع من نزول البلاء بالجماعة؛ وهذا يحتِّم على الفرد أن يسعى لصلاح مجتمعه، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لدفع ما نخافه من الابتلاءات التي تصيب الجميع

الحادي عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

لأنَّ صلاح الفرد في نفسه لا يمنع من نزول البلاء بالجماعة؛ وهذا يحتِّم على الفرد أن يسعى لصلاح مجتمعه، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: ٢٥]، لذلك من الواجب علينا إصلاح المجتمع؛ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لدفع ما نخافه من الابتلاءات التي تصيب الجميع، واحتساب الأجر على ذلك عند الله، فالقيام بهذا الواجب يرجى منه دفع البلاء عن العباد، واجتناب أسباب الهلاك، ونشر الطمأنينة والسلام، وهذا كله في أوقات الرخاء وقبل وقوع المصائب، فإذا وقعت المصائب يكون هذا الأمر في تذكير الناس بالصبر على الأقدار المؤلمة، ونهيهم عن الجزع والتسخُّط، وبيان حِكَمِ الله في ما يجريه من تصاريف الأمور.

الثاني عشر: المسارعة في التوبة وتزكية النفس:

الابتلاء يُذكِّر المبتلى بالرجوع إلى الله تعالى: ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: ١٦٨]. فهو يهذِّب النفوس ويعيد لها التوازن بين اليأس والفرح ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ٢٢ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: ٢٢-٢٣].

وفي الختام:

إنَّ من أجلِّ واجبات طلبة العلم والدعاة عند وقوع البلايا، أن يبادروا بالمسح على رؤوس المصابين، وأن يشدُّوا عزم ضعيفهم، ويُطعموا جائعهم، ويؤووا شريدهم، ما استطاعوا، وأن يُبشِّروا وينشروا الفأل والأمل ما استطاعوا، وأن يبينوا لهم الحقيقة الشرعية والكونية لما يجري لهم، وأن يصبروهم ويدلوهم على ما ينفعهم من تقوى الله وطاعته؛ فهذا مما يعين على تثبيت الناس على دينها، وسرعة تعافيها مما هي فيه.


د. مضر محب الدين

دكتوراه في العقيدة، مدير إقليمي في جمعية تاج لتعليم القرآن الكريم.


[1] تفسير الطبري (٢/٤٨-٤٩) و(٣/٧).

[2] أخرجه مسلم (٢٩٩٩).

[3] أخرجه الترمذي (٢٣٩٨)، والنسائي في (السنن الكبرى) (٧٤٨١)، وأحمد (١٤٩٤) واللفظ له.

[4] بدائع الفوائد، لابن قيم الجوزية (٢/٤٥٢).

[5] أخرجه أحمد (١١١٣٣).

[6] أخرجه ابن ماجه (٩٠).

[7] أخرجه البخاري (٧٤٠٥) ومسلم (٢٦٧٥).

[8] أخرجه أبو داود (١٦٤٥)، والترمذي (٢٣٢٦) واللفظ له، وأحمد (٣٦٩٦).

[9] أخرجه البخاري (٧١٥٤)، ومسلم (٩٢٦).

[10] أخرجه البخاري (٥٦٤١).

[11] سير أعلام النبلاء، للذهبي (٤/١٠٥).

[12] أخرجه مسلم (٣٤).

[13] أخرجه مسلم (٣٨٦).

[14] تفسير القرطبي (٢/١٧٤).

[15] أخرجه أبو داوود (٤٧٠٠) وهو وصية الصحابي عبادة بن الصامت t لولده، ثم قال له: يا بني إني سمعت رسول الله r يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).

[16] أخرجه الترمذي (٢٣٩٩).

[17] أخرجه البخاري (٥٦٤٥).

[18] أخرجه الترمذي (٢٣٩٦).

[19] أخرجه البخاري (٥٦٤٤).

[20] أخرجه البخاري (٦٥٢)، ومسلم (١٩١٤).

[21] فتح الباري، لابن حجر (٦/٤٣-٤٤).

[22] أخرجه البخاري (١٢٨٣).

[23] أخرجه أبو داوود (٣١٣٢) والترمذي (٩٩٨) وأحمد (١٧٥١).

[24] أخرجه البخاري (٢٤٨٦) ومسلم (٢٥٠٠).

[25] أخرجه أبو داوود (١٥٥٥).

X