تأصيل

توجيه الشريعة الإسلامية لدافع حب الاستطلاع

حب الاستطلاع دافع جُبلت عليه النفس البشرية، وحُبب لها إشباعه بطرق مختلفة، فجاءت الشريعة الإسلامية لضبطه مِن خلال توضيح مجالات الاستطلاع المشروعة والممنوعة، بحيث يكون إشباعه مشروعًا إذا وُظِّفت نتائجه للخير ووافق المنهج الأخلاقي للتربية الإسلامية، ويكون ممنوعًا إذا وُظِّفت نتائجه للشر، أو خالف الشريعة الإسلامية؛ وهذا المقال لبيان هذه التوجيهات.

مدخل:

أبدع الخالق سبحانه وتعالى في خلق الإنسان في أحسن تقويم، وبما أودع فيه من دوافع متعددة، وبما جعل فيه لتلك الدوافع من أوقات محددة للظهور بما يتناسب مع الحاجة إليها؛ فدافع الخوف مثلاً يظهر إذا تعرض الإنسان للخطر، ويغيب في حال شعوره بالأمان، كما جعل سبحانه لهذه الدوافع مدة معينة لشدتها وعوامل لاستمراريتها، وإذا أمعنا النظر لوجدنا أن دافع حب الاستطلاع لدى الإنسان هو من أسبق الدوافع ظهورًا وأدومه مدة؛ فدافع حبّ الاستطلاع يظهر منذ بداية عهد المولود في هذه الحياة ويستمر معه عبر مراحل النمو كافة، فيحاول أن يعرف أمه ثم أباه ثم المحيطين به، ثم يتفحص كل ما تقع عليه يداه، فيمسك بها يتذوقها؛ لأنَّ التذوق أول وسيلة لمعرفة الأشياء، يتأملها يرميها أرضًا ليكتشف تأثير ذلك فيها، فإذا انكسرت أو أحدثت صوتًا بدا عليه السرور لأنَّه اكتشف حالة جديدة، فإذا كبر ومشى امتدت آفاق حب الاستطلاع لديه إلى عالم أوسع، وكلما ارتقى الفرد في العمر طوّر أساليب بحثه واتجه نحو غايته([1]).

هذا هو دافع حُبِّ الاستطلاع الذي دفع بالإنسان عبر مراحل حياته المختلفة إلى الاستزادة من العلم، وهو الذي حفَّزه للاكتشاف والاختراع، وبناء على ذلك يكون هذا الدافع من الدوافع البنّاءة والمطوّرة للإنسان إذا ما تم إشباعه بالطرق والمجالات المشروعة، التي تعود بالخير والفائدة على الإنسان والمجتمع، وهو أيضًا كالدوافع الأخرى؛ قد يخرج عن المسار وينحرف عن الطريق المستقيم الذي أنعم الله به على عباده المهتدين غير الضالين، فقد يكون هدّامًا عندما يوجّه هذا الدافع في بحثه إلى الشر والإضرار والأذى الذي يصيب الإنسان والمجتمعات.

المطلب الأول: مفهوم حب الاستطلاع ودلالاته:

  1. مفهوم حب الاستطلاع لغةً واصطلاحًا:

الاستطلاع لغةً هو: التطلُّع إلى ما حول الإنسان والتفكير فيه، وأصل الاستطلاع: النظر والتطلُّع إلى الشيء، والطلعة: الرؤية، ويقال: اطّلَعتُ الفجرَ اطّلاعًا أي نظرت إليه حين طلع، والاستطلاع: الفكر، ولكن الفكر يطلق على الاستطلاع مجازًا، تقول: استطلع فلان الأمر واستطلع رأيَ فلانٍ إذا نظر ما عنده وما الذي يظهر إليه من أمره([2]).

أما اصطلاحًا: فيعرّف دافع حب الاستطلاع بأنه: مفهوم فرضي، يدل على حالة نفسية داخلية، تدفع الشخص إلى اكتشاف البيئة، وجمع المعلومات، وتحصيل المعرفة، ويعدّ إشباعها ضرورة للصحة النفسية في جميع مراحل العمر([3]).

وتعتبر الحاجة إلى الاكتشاف والاستطلاع من الحاجات التي تدفع الفرد للسلوك من أجل النمو، وهي من قبيل حاجات تحقيق الذات، وليست من الحاجات التي تدفعه للسلوك بسبب وجود نقص أو عوز، وعادة ما يتشابه الناس في دافعية النقص والحرمان، وسلوك الفرد يكون مدفوعًا وموجهًا من أجل خفض التوتر وإنهاء حالة الحرمان الآنية، أما الحاجة إلى الاكتشاف والاستطلاع فإنه من الحاجات المهمة لنمو وتطور الفرد من الناحية النفسية والاجتماعية والعقلية([4]).

  1. دلالات مفهوم حب الاستطلاع في القرآن الكريم:

إذا نظرنا في آيات القرآن الكريم نظرةً تحليليةً نجد أنَّ القرآن ذكر بعض المفاهيم التي تشترك في المعنى أحيانًا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق أحيانًا أخرى، ومما ورد فيه مصطلحات: النظر والتفكّر والتذكُّر والعلم والعقل، وكل هذه الملَكَات الذهنية عدّها بعض الباحثين متَّفقةً في المدلول مع مفهوم غريزة حب الاستطلاع عند الإنسان، فيرون أن “النظر القاصد في مجالات المعرفة يحرّك العقل لاستكشاف المجهول، وهذه الحركة هي التي يسميها القرآن (تعقلاً)، وإذا عقل الإنسان الأمور حصل له العلم، وهذا العلم لا بدَّ له من وسائل لحفظه، فكان لا بدَّ من التذكر”([5]).

 

تُعتبر الحاجة إلى الاكتشاف والاستطلاع من الحاجات التي تدفع الفرد للسلوك من أجل النمو، وهي من قبيل حاجات تحقيق الذات، والحاجات المهمة لنمو وتطور الفرد من الناحية النفسية والاجتماعية والعقلية

 

المطلب الثاني: أشكال الاستطلاع في القرآن:

حدَّد القرآن الكريم مجالات التفكُّر -الذي يدفع إلى الاستطلاع- بين المشروع والممنوع، فيكون هذا الدافع مشروعًا إذا وُظِّفت نتائجه للخير، ووافق المنهج الأخلاقي للتربية الإسلامية، ويكون ممنوعًا إذا وُظِّفت نتائجه للشر، أو تجاوز حُدوده، أو خالف الشريعة الإسلامية.

أولاً: الاستطلاع المشروع:

للاستطلاع المشروع مجالات متعددة تناولها القرآن الكريم، من أبرزها:

1- المظاهر الكونية المحيطة بالإنسان:

في هذا المجال نرى كثيرًا من آيات القرآن تدعو الإنسان ليتفكر في آيات الكون، والنظر في أسبابها، وتأمل الغاية منها، ومن الآيات الدالة على ذلك:

قوله سبحانه وتعالى: ﴿‌إِنَّ ‌فِي ‌خَلْقِ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضِ ‌وَاخْتِلَافِ ‌اللَّيْلِ ‌وَالنَّهَارِ ‌وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 164].

إنَّ دافع حبِّ الاستطلاع يدفع الإنسان للبحث عن السر في نشأة هذا الكون، وحتى لا يُتعب الإنسان عقلَه في ذلك التفكير، ويبقى الأمر كذلك سرًا؛ فإننا نجد القرآنَ قد أشبع لهذا الإنسان دافعه عندما بيّن ووضّح قصة الخلق الأول، فقال تعالى: ﴿‌أَوَلَمْ ‌يَرَ ‌الَّذِينَ ‌كَفَرُوا ‌أَنَّ ‌السَّمَاوَاتِ ‌وَالْأَرْضَ ‌كَانَتَا ‌رَتْقًا ‌فَفَتَقْنَاهُمَا ‌وَجَعَلْنَا ‌مِنَ ‌الْمَاءِ ‌كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ٣٠ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٣١ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ٣٢ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [الأنبياء: 30-33]([6]).

ودعا الإنسانَ للاعتبار من آيات الآفاق وتبين الحق من خلالها، قال تعالى: ﴿‌سَنُرِيهِمْ ‌آيَاتِنَا ‌فِي ‌الْآفَاقِ ‌وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، يقول عز الدين توفيق: إن صيغة الاستقبال في الآية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا﴾ تفيد “أن الله تعالى يُري الناسَ آيات جديدة في آيات معروفة، فكل آية معروفة تنطوي على آيات أخرى مجهولة، تنكشف للناس شيئًا فشيئًا، فالأرض آية معروفة، ولكن الآيات المتجددة فيها تنكشف شيئًا فشيئًا، وكذا الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس”([7])، وهذه المعجزات والاكتشافات الكونية المودَعة في آيات القرآن الكريم لا تنقطع ولا تنفد، فهو عز وجل القائل: ﴿‌لِكُلِّ ‌نَبَإٍ ‌مُسْتَقَرٌّ ‌وَسَوْفَ ‌تَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 67]، أي أن ما ورد في القرآن من معلومات علميّة سوف يُكتشف مع مرور الزمن([8])، وقال أيضًا: ﴿قُلْ ‌لَوْ ‌كَانَ ‌الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: 109].

2- عالم النبات والحيوان:

اهتمَّ القرآن الكريم بتنمية ملكة التفّكر عند الإنسان، فلفت نظره إلى ملاحظة الكائنات حوله والتعرف إليها والتفكر فيها، ليكتشف روعة نظامها ودقة إحكامها التي تدل على الخالق العظيم، فنرى آيات القرآن تعرضُ مسألة خلق النباتات، وأشكالها ومزاياها المختلفة، وأيضًا عالم الحيوانات وتركيباتها المختلفة، وأشكالها المتنوعة، ومنافعها وعجائبها، والآيات في هذا المجال كثيرة، سنذكر منها:

قوله سبحانه وتعالى: ﴿‌وَآيَةٌ ‌لَهُمُ ‌الْأَرْضُ ‌الْمَيْتَةُ ‌أَحْيَيْنَاهَا ‌وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ٣٣ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ٣٤ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ٣٥ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 33-36].

قوله سبحانه وتعالى: ﴿‌وَإِنَّ ‌لَكُمْ ‌فِي ‌الْأَنْعَامِ ‌لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ٦٦ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: 66-67]. فهذه الآيات وغيرها كثير تدفع الإنسان وتحثه للاستطلاع والبحث عن خفايا وأسرار هذه المخلوقات العظيمة التي لا تنفد عجائبها، ومن جهة أخرى توجّه عقل الإنسان إلى استخلاص ما أودع الله في الكون من أسرار وطاقات، غير مفتون بها ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة وجوهرها الأوحد، فينتفع بثمارها، وهو مالك لأمره منها، غير مستعبد لها ولا منحرف في طريقها([9]).

3- تجارب الأمم السابقة:

فتح القرآن الكريم الباب واسعًا أمام الإنسان ليستطلع أحوال الأمم السابقة عبر ماضيها، وليستنتج من تجاربها أسباب نهضتها أو انهيارها، والمصير الذي آلت إليه، فقد “عرض القرآن الكريم قصصًا كثيرة من الأمم السابقة مثل: عاد، وفرعون، قارون، قوم صالح، قوم لوط… إلخ ليوجه العقل للبحث في الأسباب التي أدت إلى محق هذه الأمم وهلاكها”([10])، والآيات التي تدعو الإنسان للتفكّر والتبصّر من تجارب الأمم السابقة عديدة، منها:

قوله سبحانه وتعالى: ﴿‌أَوَلَمْ ‌يَسِيرُوا ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌فَيَنْظُرُوا ‌كَيْفَ ‌كَانَ ‌عَاقِبَةُ ‌الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِهِمْ ‌كَانُوا ‌أَشَدَّ ‌مِنْهُمْ ‌قُوَّةً ‌وَأَثَارُوا ‌الْأَرْضَ ‌وَعَمَرُوهَا ‌أَكْثَرَ ‌مِمَّا ‌عَمَرُوهَا ‌وَجَاءَتْهُمْ ‌رُسُلُهُمْ ‌بِالْبَيِّنَاتِ ‌فَمَا ‌كَانَ ‌اللَّهُ ‌لِيَظْلِمَهُمْ ‌وَلَكِنْ ‌كَانُوا ‌أَنْفُسَهُمْ ‌يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: 9].

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿‌وَمَا ‌أَرْسَلْنَا ‌مِنْ ‌قَبْلِكَ ‌إِلَّا ‌رِجَالًا ‌نُوحِي ‌إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 109].

ولا شك أنَّ استطلاع الإنسان لتاريخ وتجارب الأمم السابقة، وبيان أحوالها، ومعرفة عواقبهم؛ يفتّح فكر الإنسان ويبصّره بحاضره ومستقبله، إذ إنّ تجاربهم قابلة لأن تتكرر -بحكم تشابه الطبائع البشرية- حين تتشابه الظروف.

4- النفس الإنسانية:

خاطب القرآن الكريم الإنسان بخطاب خاص يدعوه فيه للنظر والتفكر في نفسه فردًا ونوعًا؛ في قوله تعالى: ﴿‌وَفِي ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَفَلَا ‌تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: 21]، ففي هذه الآية دعوة لكل إنسان أن يتفكر في نفسه فردًا، ويتفكّر في نفسه مقرونًا إلى جيله، ثم يتفكر في نفسه مقرونًا إلى النوع الإنساني كله([11])، وخطابات القرآن الكريم للإنسان بالتفكر في نفسه جاءت على ثلاث مستويات:

المستوى الأول: التفكّر في بدء الإنسان ومنتهاه، وهذا يشمل البشرية كلها منذ وجودها في هذه الأرض وإلى أن ينتهي مصيرها في الآخرة([12])، فآيات القرآن الكريم فصّلت في أطوار تخليق الإنسان ليطّلع الإنسان على عظمة خلق الله القدير، قال تعالى: ﴿‌وَلَقَدْ ‌خَلَقْنَا ‌الْإِنْسَانَ ‌مِنْ ‌سُلَالَةٍ ‌مِنْ ‌طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ١٤ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: 12-16].

 المستوى الثاني: التفكّر في البشرية الحية التي يعيش المتفكر فيها، وينتسب إلى جيلها([13]): ومن ذلك أن جعل القرآن مبدأ الزوجية في خلق الإنسان مجالاً لاستطلاعه وتفكيره، فقال تعالى: ﴿‌وَمِنْ ‌آيَاتِهِ ‌أَنْ ‌خَلَقَ ‌لَكُمْ ‌مِنْ ‌أَنْفُسِكُمْ ‌أَزْوَاجًا ‌لِتَسْكُنُوا ‌إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21] “وقوله: (إن في ذلك) يحتمل أن يقال: المراد إن ‌في ‌خلق ‌الأزواج ‌لآيات، ويحتمل أن يقال: في جعل المودة بينهم آيات.

أما الأول: فلا بد له من فكر؛ لأن خلق الإنسان من الوالدين يدل على كمال القدرة ونفوذ الإرادة وشمول العلم لمن يتفكر ولو في خروج الولد من بطن الأم، فإن دون ذلك لو كان من غير الله لأفضى إلى هلاك الأم وهلاك الولد أيضًا؛ لأن الولد لو سُلَّ من موضع ضيق بغير إعانة الله لمات. وأما الثاني: فكذلك؛ لأن الإنسان يجد بين القرينين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام، وليس ذلك بمجرد الشهوة فإنها قد تنتفي وتبقى الرحمة”([14]). وأيضًا لفت القرآن نظر الإنسان إلى أوجه الاختلاف بين البشر في ألسنتهم وألوانهم وجعل ذلك مادة للدراسة والتأمل، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم: 22].

المستوى الثالث: التفكر في نفسه خاصة، والتركيز على أعضاء معينة منه([15])، وهذا واضح من الآيات التي فيها الكلمات الآتية: ﴿خَلَقَكُمُ﴾ و﴿خَلَقَ لَكُم﴾ و﴿جَعَلَكُمُ﴾ و﴿جَعَلَ لَكُمُ﴾ ومثال ذلك في قوله تعالى: ﴿‌قُلْ ‌هُوَ ‌الَّذِي ‌أَنْشَأَكُمْ ‌وَجَعَلَ ‌لَكُمُ ‌السَّمْعَ ‌وَالْأَبْصَارَ ‌وَالْأَفْئِدَةَ﴾ [الملك: 23]. يقول سيد قطب -رحمه الله- في الظلال عن آية ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾: “وهذه العجائب لا يحصرها كتاب، فالمعلوم المكشوف منها يحتاج تفصيله إلى مجلدات، والمجهول منها ما يزال أكثر من المعلوم والقرآن لا يحصيها ولا يحصرها، ولكن يلمس القلب هذه اللمسة ليستيقظ لهذا المتحف الإلهي المعروض للأبصار والبصائر، وليقضي رحلته على هذا الكوكب في ملاحظة وتدبُّر”([16]). كما فصّل القرآن أيضًا في آياته صفات الإنسان النفسية وأنماط سلوكه، وجعلها مادة للتفكّر والاستطلاع، قال تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌الْإِنْسَانَ ‌خُلِقَ هَلُوعًا ١٩ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ٢٠ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ٢١ إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 19-22]، وقال تعالى: ﴿لَهُ ‌مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].

والآيات في مجملها وهي تتحدث عن خلق الإنسان وأنماط سلوكه وخصائصه تدعوه إلى التدبر في كل ذلك، والنظر المتفحص المتأني الذي يؤدي إلى قيام الإنسان بواجبه في الحياة، ليصل إلى مبتغاه في الآخرة، وهو ما بين البداية والنهاية مستخلف في الأرض([17]).

 

صيغة الاستقبال في الآية ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَاتفيد أن الله تعالى يُري الناسَ آيات جديدة في آيات معروفة، فكل آية معروفة تنطوي على آيات أخرى مجهولة، تنكشف للناس شيئًا فشيئًا، فالأرض آية معروفة، ولكن الآيات المتجددة فيها تنكشف شيئًا فشيئًا، وكذا الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس
كتاب دليل الأنفس، محمد عز الدين توفيق

 

ثانيًا: الاستطلاع الممنوع:

دافع حب الاستطلاع له حدود يجب أن يقف الإنسان عندها، ولا يجوز له تخطيها، “وحين يمنعُ الشَّرعُ الخوض في بعض المسائلِ؛ فليس ذلك خوفَ أن يكتشف الناظرُ فيه ما يدلُّ على بطلانه، فذلك محالٌ غيرُ كائنٍ، وإنَّما كان النهيُ عن ذلك لأنَّ حكمة الله عز وجل أنَّه فوق كلِّ ذي علمٍ عليمٌ، فعقولنا لها حدٌّ تنتهي إليه لا تجاوزه قِيدَ شَعرةٍ، ومِنَ الظُلم البيِّنِ أن تُكلِّفَ عقلكَ فوق طاقته، ففيه إهدارٌ لطاقته”([18]).

ولضبط وتهذيب دافع حب الاستطلاع أوضح القرآن الكريم الجوانب التي ينبغي للمسلم أن يطلق لعقله العنان للتفكر والبحث فيها وهي كثيرة كما مر معنا، في حين نهاه عن الخوض في أمور أخرى، كما سيأتي:

1- التفكير بالغيبيات:

فلا يجوز للإنسان أن يعمل عقله في الغيبيات التي لم يجعل الله له سبيلاً للاطلاع عليها، ولو حاول الإنسان التعمق فيها أكثر مما أخبر الله عنها لقاده عقله للحيرة والشك، قال تعالى: ﴿‌وَعِنْدَهُ ‌مَفَاتِحُ ‌الْغَيْبِ ‌لَا ‌يَعْلَمُهَا ‌إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59] ” يبدأ الإسلام التربية العقلية بتحديد مجال النظر العقلي”([19]).

وكذلك نهى الإسلام عن التعامل مع النجوم (التنجيم) بدعوى معرفة مستقبل الناس عبر علاقتهم بالنجوم؛ فمعرفة الأمور المستقبلية من اختصاص الله استأثر به وتفرّد بعلمه، وحجب أسراره عن الخلائق، وهذا ما تقرّره الكثير من الآيات، حتى إن الله تعالى أمر الأنبياء عليهم السلام أن ينفوا ذلك عن أنفسهم، وقال تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام: ﴿‌وَلَا ‌أَقُولُ ‌لَكُمْ ‌عِنْدِي ‌خَزَائِنُ ‌اللَّهِ ‌وَلَا ‌أَعْلَمُ ‌الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 31]([20]).

2- التفكير بالذات الإلهية:

إن أعظم أنواع الغيب وأبعدها عن إدراك الإنسان العلم بحقيقة الذات الإلهية المقدسة وكنهها، فإذا كان الإنسان لا يعرف إلا القليل القليل عن دماغه وجهازه العصبي الذي صار به إنسانًا، ولم يتوصل إلى حقيقة عقله وروحه ونفسه فهي أسرار مغلقة وكنوز مخفية، فإن كانت هذه حدود الإنسان في دنياه فكيف يجرؤ على التفكير فيمن ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، ومن لا يحده الزمان وهو الذي خلق الزمان([21])، قال الله تعالى: ﴿يَعلَمُ ما بَينَ أَيديهِم وَما خَلفَهُم وَلا يُحيطونَ بِهِ عِلمًا﴾ [طه: 110].

لذا عندما خرج ابن عباس رضي الله عنهما على أصحابه ووجدهم يتفكرون في الله تعالى، قال لهم: “تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله”([22])، يقول محمد قطب -رحمه الله- تحت عنوان “لا تفكّروا في ذات الله”: “لا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.. إنَّ الله لم يكلّف الناس أن يبحثوا في ذاته سبحانه، ولم يكلفهم الجهد الذي يعلم سبحانه أنهم لن يقدروا عليه قط، وأن قصارى ما يحدث لهم حين يحاولون أن تنفجر طاقتهم وتتبدد، كما تنفجر طاقة الذرة التي انحرفت عن مسارها، فتتحطم وتحطم ما تلقاه في الطريق! وحين نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أتباعه عن أن يفكروا في ذات الله كيلا يهلكوا، لم يكن صلى الله عليه وسلم يحجر على تفكيرهم أو يضع عليهم القيود، كلا! إنما كان يوفر جهدهم للنافع من الأعمال، كان يصون هذا الجهد من أن يتبدَّد سُدى، ويؤدِّي إلى الضلال”([23]).

3- التفكّر في حقيقة الروح:

ومن الأمور التي لا تندرج في مجال حُب الاستطلاع المرغوب: الروح، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي من ربه عندما سأله اليهود عن الروح، امتنع عن الإجابة إلى أن نزل قول الله تعالى: ﴿‌وَيَسْأَلُونَكَ ‌عَنِ ‌الرُّوحِ ‌قُلِ ‌الرُّوحُ ‌مِنْ ‌أَمْرِ ‌رَبِّي ‌وَمَا ‌أُوتِيتُمْ ‌مِنَ ‌الْعِلْمِ ‌إِلَّا ‌قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]([24]) فالروح شأن من شؤون الله، استأثر الله بعلمها، وقد بيّن تعالى في الآيات أن نفخ الروح وقع على البشر بعد الخلق، ولكنه لم يعطِ تفاصيل هذه الروح، وذلك أنَّ أدوات الوصول للمعرفة عند الإنسان الحس والعقل والتجريب، ولهذا فلن يتسنى للإنسان إدراك ما هو غير مادي كالروح، ومن ثم يؤكد الله في قوله: ﴿وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا﴾ عدم علم أحد بها أي: أنَّ علم الإنسان سيظلُّ قاصرًا عن إدراك هذه الحقيقة وسيظل بينهما مسافات طويلة([25]).

4- استطلاع أخبار وعورات الآخرين:

قد يدفع دافع حب الاستطلاع صاحبه لاستجلاب أخبار الآخرين وتتبعها بما لا تدعو إليه حاجة، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌اجْتَنِبُوا ‌كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].

ولم يقتصر الأمر على تتبع أخبار وعورات الآخرين دون علمهم، بل قد شمل حتى سؤالهم عنها بما يسبب لهم الحرج والضيق، وقد أشار الرسول إلى ذلك المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: (مِن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه)([26])، قال الإمام النووي رحمه الله: “وكان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكلف المنهي عنه..، وقيل: يحتمل أن المراد كثرة سؤال الإنسان عن حاله وتفاصيل أمره، فيدخل ذلك في سؤاله عما لا يعنيه، ويتضمن ذلك حصول الحرج في حق المسؤول، فإنه قد لا يُؤْثر إخباره بأحواله، فإن أخبره شق عليه، وإن كذبه في الإخبار أو تكلف التعريض لَحِقَتْهُ المشقة، وإن أهمل جوابه ارتكب سوء الأدب”([27]).

ومن الاستطلاع المذموم أيضًا النظر والتطلع إلى عورات الآخرين، وفي هذا الشأن فصّل القرآن الكريم تفصيلاً واسعًا ووضع حدودًا للحِفاظِ على حقوق الغير، فأوجب الاستئذان لدخول بيوت الآخرين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا ‌غَيْرَ ‌بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النور: 27]، وأشد ذلك الخوض في الأعراض حديثًا وتتبعًا.

 

من أشكال الاستطلاع العبثي: ما عمت به البلوى من متابعة التوافه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتضييع الأوقات في تتبع الماجريات، فالتمادي في ذلك يؤدي إلى سطحية التفكير والهبوط بالفكر وتضييع الأوقات وإضعاف الهمة، ثم الاستهانة بحرمات الله وتدنيس القلب بالمعاصي

 

5- استطلاع ما لا ينفع (الاستطلاع العبثي):

إنَّ عناية الإسلام بدافع الاستطلاع إنما يعود إلى اهتمامه بثمرة هذا الاستطلاع، لذا فالاستطلاع ليس غاية بحد ذاته بل هو وسيلة لدفع الإنسان لتحصيل المعارف النافعة التي تسهم في تقدمه وتطوره، وتتناسب مع دوره خليفة لله تعالى في هذه الأرض، ومن هنا حرص الإسلام على أن يوجه المسلمُ تفكيرَه لما ينفعه ويعود عليه بالخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك)([28])، ونهى عن الخوض فيما لا يعود على الإنسان بالنفع حتى وإن لم يلحق به ضرر لأنَّ هذا ضرب من العبث واللهو، قال تعالى: ﴿‌قَدْ ‌أَفْلَحَ ‌الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 1-3] “وبذلك يكون الإنسان منذ نشأته إلى رجعته إلى توفيته الجزاء يوم الجزاء قائمًا بالحق في كل مرحلة، محاطًا بالحق في كل خطوة، لا باطل في خلقته، ولا عبث ولا لهو ولا انحراف”([29]).

وأيضًا من أشكال هذا النوع من الاستطلاع ما عمت به البلوى من متابعة التوافه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتضييع الأوقات في تتبع الماجريات، فالتمادي في ذلك يؤدي إلى سطحية التفكير والهبوط بالفكر وتضيع الأوقات وإضعاف الهمة، ثم الاستهانة بحرمات الله وتدنيس القلب بالمعاصي.

6- استطلاع ما يبعث على التشويش الفكري واضطراب المفاهيم:

تحرص فلسفة التربية الإسلامية على معرفة كل ما من شأنه أن يعود على الفرد –والناشئ بوجه أخص- بالنفع والثمرة المعرفية أو الروحية أو الجسمية أو الاجتماعية… إلخ، وفي مقابل ذلك نهاه عن استطلاع ما قد يقود إلى التشويش الفكري أو التلوث المعرفي حين يسعى لمعرفة ما لا قدرة له على استيعابه، فيرتد عليه سلبًا من حيث التشويش الفكري واضطراب المفاهيم، وذلك على خلاف من يأنس القدرة على مطالعة ذلك بعد تأهيله ومعرفة أسس ما يطالعه وحيثياته، حتى إذا اطلع عليه لم يقع في ذلك المنزلق المحظور، ومن هذا القبيل ما ثبت في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن معرفة ما ورد في كتب اليهود والنصارى (التوراة والإنجيل) -على سبيل المثال- ومثلها كل ما يعرّض المسلم للتشوش (الاضطراب الفكري للمفاهيم) وهو جميعه من قبيل الأمن الفكري الذي تحرص فلسفة التربية الإسلامية على حمايته، ولكنها في الوقت ذاته لا تمانع –بل تدفع- المؤهلين لمطالعة تلك الكتب ونقدها والرد عليها إن استلزم الأمر ذلك، وثمة تخصص اليوم يعرف بمقارنة الأديان وأنّى للمتخصص فيه من النأي بنفسه عن مطالعة مثل تلك المصادر وما في حكمها؟!

ولذا ذهب العلماء إلى أن على المسلم أن يُعرض عن مطالعة كتب اليهود والنصارى حتى لا يُفتن بما أدخل فيهما من الباطل، وحتى لا يشغل نفسه بما لا ينفعه، مع جواز مطالعتهما للراسخين في العلم لمن يستعملون هذه الكتب في مجادلة اليهود والنصارى وإقامة الحجة عليهم([30])، ومثل ذلك التعرض للشبهات عمومًا لمن لا يُحسن التعامل معها والرد عليها، لاسيما في هذا العصر حيث كثرت الشبهات وكثرت وسائل نشرها؛ فإنها إن تمكنت من القلب أفسدته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبها نُكِتَ فيه نكتةٌ سوداء، وأي قلب أَنْكَرها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيضَ مثلِ الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرب مِن هواه)([31]).

 

“حين يمنعُ الشَّرعُ الخوض في بعض المسائلِ؛ فليس ذلك خوفَ أن يكتشف الناظرُ فيه ما يدلُّ على بطلانه، فذلك محالٌ غيرُ كائنٍ، وإنَّما كان النهيُ عن ذلك لأنَّ حكمة الله عز وجل أنَّه فوق كلِّ ذي علمٍ عليمٌ، فعقولنا لها حدٌّ تنتهي إليه لا تجاوزه قِيدَ شَعرةٍ، ومِنَ الظُلم البيِّنِ أن تُكلِّفَ عقلكَ فوق طاقته، ففيه إهدارٌ لطاقته”
كتاب ممنوع التفكير، لمحمود عبد الجليل روزن

 

خاتمة:

نستخلص مما سبق عرضه من أنواع الاستطلاع (المشروع والممنوع) أن الله سبحانه وتعالى فتح لنا من خلال كتابه العظيم، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أبواب الاستطلاع في الأمور التي تعود علينا وعلى مجتمعاتنا بالخير بما يساهم في أداء الأدوار المطلوبة لعبادته سبحانه وتعالى، بمفهوم العبادة الشامل المتضمن إعمار أرضه والقيام بدور الاستخلاف عليها من قبل الإنسان، وفي المقابل أغلق عنا أبواب الاستطلاع في الأمور التي تجلب الشر والفساد والهلاك للإنسان ومجتمعه.


دانية نديم محمد صفو
ماجستير في التربية الإسلامية – بكالوريوس علم نفس.


([1]) علم نفس الطفولة والمراهقة، لأسماء الحسين، ص (138)، والمدخل إلى علم النفس، لعبد الرحمن عدس ومحيي الدين توق، ص (198).

([2]) لسان العرب، لابن منظور، (8/236)، وتاج العروس، للزبيدي (5/442).

([3]) استجابة الوالدين والمشرفين لأسئلة أطفال ما قبل المدرسة، للدكتور حسام هبة، ص (46). وينظر: دافعية حب الاستطلاع، لخيري المغازي عجاج، ص (13).

([4]) علم نفس الطفولة والمراهقة، ص (130).

([5]) منهج القرآن في تهذيب غرائز الإنسان (غريزة حب الاستطلاع)، لأبي بكر علي الصديق، ص (38).

([6]) منهج القرآن في تهذيب غرائز الإنسان، ص (49).

([7]) دليل الأنفس، لمحمد عز الدين توفيق، ص (51).

([8]) سلسلة محاضرات في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، للدكتور زغلول النجار، موقع مكنون، منشور بتاريخ: 30 يونيو2012م.

([9]) ينظر: الأدلة العقلية في القرآن ومكانتها في تقرير مسائل العقيدة، للدكتور عبدالكريم نوفان عبيدات، ص (92).

([10]) العقل العربي وإعادة التشكيل، سلسلة كتاب الأمة، لعبد الرحمن الطريري، ص (86-87).

([11]) دليل الأنفس، لمحمد عز الدين توفيق، ص (57).

( ([12]المرجع السابق، ص (58).

([13]) المرجع السابق نفسه.

([14]) منهج القرآن في تهذيب الغرائز، ص (57).

([15]) دليل الأنفس، ص (57).

([16]) ينظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/3380).

([17]) ينظر: التفكير وتنميته في ضوء القرآن الكريم، لعبد الوهاب حنايشة، ص (27).

([18]) ممنوع التفكير، لمحمود عبدالجليل روزن، موقع الألوكة، https://www.alukah.net/culture/0/64547/.

([19]) ينظر: منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب (1/77).

([20]) هذا لا يتنافى مع توقع ما سوف يحصل في المستقبل القريب تماشيًا مع السنن الكونية والكشوفات العلمية المبنية على الأدلة، مثل توقع حالة الطقس أو اقتراب حصول بعض الظواهر الكونية كالأعاصير والزلازل.

([21]) التفكر من المشاهدة إلى الشهود، لمالك البدري، ص (76).

([22]) أخرجه البيهقي الأسماء والصفات (618).

([23]) قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد قطب، ص (38).

([24]) أخرجه البخاري (7297).

([25]) تفسير الشعراوي (الخواطر) (14/8723).

([26]) أخرجه الترمذي (2471) وقال: غريب. وابن ماجه (3976).

([27]) شرح صحيح مسلم للنووي (11/11).

([28]) أخرجه مسلم (2664).

([29]) منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب، ص (81).

([30]) حكم مطالعة كتب أهل الكتاب من أجل الدعوة، محمد صالح المنجد، موقع الإسلام سؤال وجواب، تاريخ النشر 30/6/2014م.

([31]) أخرجه مسلم (144).

X