قضايا معاصرة

المجتمعات الصغيرة وسيلة للنهوض بالأمة الإسلامية

المجتمعات الصغيرة وسيلة للنهوض بالأمة الإسلامية

بصيص الأمل يحفز للبحث عن المخرج، والإيمان بالسنن الإلهية يدفع إلى الاستمرار في العمل وبذل الجهد، ولسائل أن يسأل: من أين نبدأ؟ وإلى أين نتجه؟ ومهما تعددت الاجتهادات فهي تتفق على أن البداية تكون من بناء الفرد، لكن الفرد لا يقوم بدوره حق القيام إلا بجمع اللبنات ببعضها البعض لتتكون منها وحدات بناء صغيرة تؤدي دورها في تشييد الصروح الشاهقة، وفي هذا المقال أفكار ملهمة في طريق النهوض

تمهيد

عندما قام البروفيسور محمد يونس بتأسيس «بنك جرامين» للفقراء، كان التحدي الأكبر أمامه هو: هل سيتمكن الفقراء من سداد القروض التي تقدم لهم؟

هذا التحدي كان حاسمًا للمشروع بأكمله ولم يكن هناك مجال للخطأ في المخاطرة في تقديم القروض من أموال المستثمرين وعدم إعادتها، لأنَّ الفقير ليس لديه ما يخسره، فهو فقير أصلاً، قد لا يهتم إلا بالحصول على القرض لشراء بعض الضروريات والتغاضي عن السداد والاستمرار في حياته.

قام أساس التعامل مع الفقراء في «بنك جرامين» على تأسيس شراكة بين مجتمعات صغيرة مكونة من خمسة أفراد إلى عشرة، ويُعطى القرض للمجتمع القادر على إدارة ذاته وتنظيم العلاقة فيما بين أفراده، ولا يسمح بإعادة الإقراض إلا للمجتمعات التي يقوم جميع أفرادها -بلا استثناء- بإعادة القرض كاملاً للبنك، وقد أدت هذه الشروط إلى العديد من الفوائد، من أهمها:

تعاون المقترضين مع بعضهم لسدِّ ثغرة تعثُّر السداد من أحدهم، وتحقيق ضغطٍ على المهمِل والمقصر في السداد، وهو ضغط يقبله الفرد ولا يمانعه لأنه يأتي من مجتمعه، كما أن هذا المجتمع ساعد الفرد في تفريغ همومه والحصول على النصح والتوجيه والاستشارة وتبادل الخبرات، وأصبح الشركاء يحمون بعضهم البعض في السوق، وجميع ذلك ولَّد عند الفرد الإحساسَ بالثقة والأمان النفسي، ما جعله يُحسُّ بالشجاعة تجاه الدخول إلى السوق وتطوير نفسه.

هذا الأسلوب جعل من تجربة «بنك جرامين» للفقراء بنكًا ناجحًا كانت فيه نسبة السداد أكثر من ٩٨,٩٪، وهي نسبة تضاهي نسبة السداد في كبار البنوك في العالم التي تقوم بإقراض الأغنياء من الأفراد[1].

هذه التجربة الفريدة من نوعها تعطينا شاهدًا على أنَّ الاستثمار في المجتمعات وتنظيمها وضبطها لا يقُّل أهميةً عن بناء الأفراد، ويساعد كثيرًا في ازدهار المجتمع.

وهنا ترد مجموعة من الأسئلة المهمّة: ممّ يتكوّن المجتمع؟ ولم تحرص المجتمعات المتقدّمة على إنشاء النقابات ومنظّمات المجتمع المدني وغيرها؟ وما علاقة نهضة المجتمع بواقع الأمّة ونهضتها؟

مم يتكون المجتمع؟

يتكون المجتمع الصغير والمتوسط من جوهر، وثلاثة مكونات أساسية، تحيط بها.

  • فجوهر المجتمع هو المرجعية والرافعة: التي لا يمكن لفرد تجاوزها، والجميع يعلم أنه سيتعرض للمساءلة أو العقاب في حال خرقها أو تجاوزها، كالمرجعية الدينية، والعائلية، والقبلية، والسياسية، ونحو ذلك. هذه المرجعية هي مصدر القوانين والأنظمة التي ترتب حياة الأفراد وهي الأساس الذي يضمن استمرار واستقرار المجتمع. جوهر المجتمع هو الذي يربط جميع مكوناته وقد يكون ظاهرًا جليًا أو مخفيًا.
  • المصالح: فالمصالح المشتركة بين الأفراد توجد ترابطًا في المجتمع يتبادل أفراده المصالح فيما بينهم والتي قد تكون مصالح مالية أو سياسية أو مناصب أو إفادة على المدى الطويل.
  • التواصل: فلا وجود للمجتمع من دون تواصل فعال بين أفراده، سواء من خلال التقارب الجغرافي أو التواصل الإلكتروني أو وجود مكان يجمع الأفراد.
  • الثقافة: وهي ما يجمع عقول الناس من غير مصالحهم كاللغة أو الدين أو مكان المعيشة أو التخصص العلمي، وهذه الثقافة هي ما يجعل الأفكار تتكامل بين الأفراد وهي أساس إبداع الأفراد وتمكنهم من حل مشاكلهم ومشاكل غيرهم أيضًا.

تلك المكونات قد يكون أحدها أضعف من الآخر، ولهذا فالمجتمعات التي تكون مكوناتها قوية تستمر ويصعب على الفرد الخروج منها والعكس صحيح. ثم يحيط بذلك كله عنصران:

  1. شبكة من العلاقات ما بين الأفراد في مختلف المجتمعات وتتضح هذه الشبكة عندما تتغير العناصر الثلاث أعلاه وتعمل كرابط بين مجتمعات مختلفة ربط بينها بعض أفرادها.
  2. كما تحيط البيئة الحاضنة كل المجتمعات الصغيرة والمتوسطة وهي البيئة الحاضنة التي يمكن أن تكون دولةً ما أو نطاقًا جغرافيًا واضح المعالم والثقافة.

كلما كان التواصل بين أفراد مجتمعٍ ما أفضل وأكثر نضجًا وأكثر اعتمادًا على مرجعيات واضحة كان هناك تقارب أكثر وانسجام أعمق بين أعضائه، وكلما ازداد تنوع الثقافات بين أفراد المجتمع الواحد كانت الحاجة أكبر لمرجعية تضبط العلاقة وتنظمها

مثال ذلك:

السكن في حيٍّ أو منطقة أو مجمّع سكني له حدود واضحة (البيئة الحاضنة)، بمجرّد أن تقيم ضمن تلك الحدود فقد قبلتَ الخضوع للقوانين والأنظمة التي تحكمه واحترامها والالتزام بها بما يحقق المصالح المشتركة بين الساكنين، وكلما كان التواصل بين أفراد ذلك المجتمع أفضل وأكثر نضجًا وأكثر اعتمادًا على مرجعيات واضحة كان هناك تقارب أكثر ومزيد من الانسجام والطمأنينة بين السكان. وكلما ازداد تنوع الثقافة بين أفراد المجتمع كانت الحاجة أكبر لمرجعية تضبط العلاقة وتنظمها، كـ (وثيقة المدينة) بين الأوس والخزرج (ذوي التاريخ الدموي فيما بينهم) واليهود والمهاجرين أيضًا، وكل منهم له ثقافة مختلفة عن الآخر ولكن رسولنا أسس المرجعية المكتوبة فكانت عمود مجتمع إسلامي استمر إلى يومنا هذا.

وقد تميزت بلاد الشام بوجود الكثير من المجتمعات الصغيرة التي كانت كعوائل كبيرة تقدم للبلاد الاستقرار والقوة وتوحيد الرؤية، حيث إنها كانت تتشارك جميعها في حب بلادها والدفاع عنها واستقلالها، فقد كان مجتمع (الحارة) له تنظيمه الذي استمر لقرون خلال فترة حكم الدولة العثمانية وكان هناك زعامات لحارات المدن ومختار يعمل على تلبية احتياجات أهل الحارة والحرص على تحقيق الاستقرار الداخلي فيها، حتى إن تسليم الأمانات وحل الخلافات والذهاب إلى الخطبة والنكاح كانت من أولويات المختار أو العمدة، فتحقق استقرار مجتمعي كان أساسًا في طرد المحتل الفرنسي من بلاد الشام. لهذا عندما أتى نظام حافظ الأسد إلى السلطة، كان تفكيك هذا المجتمع أحد أهم أولوياته، فقام بإلغاء هذه المجتمعات من خلال إهانة رؤوسها وإزالة الهيبة التي كانوا يتمتعون بها، وحول سلطتهم في الحارة لشاب أرعن ينتسب إلى فرع مخابرات! فانفرط عقد المرجعية وانهار المجتمع خلال سنوات معدودة.

عملت بعض الحكومات المعاصرة على تفكيك بنية المجتمعات من خلال إهانة رؤوسها وإزالة الهيبة التي كانوا يتمتعون بها، ودفع السلطات التي كان يتمتع بها عمدة الحي إلى أفراد سفهاء ينتسبون لفروع المخابرات، فانفرط عقد المرجعية في سنوات معدودة

الاحتياج الذي يتعطش إليه الفرد تجاه المجتمع

يحتاج الفرد في مجتمعه إلى الإحساس بمجموعة من القيم المهمّة[2]:

أ. قيم بناء:

  1. صدق الانتماء: الذي يمنع الفرد من اتخاذ خيار ترك مجتمعه أو خيانته أو إيذائه لمصلحته الشخصية.
  2. ثقافة العمل المشترك: والتي تتضمن محبة العمل وإتقانه والإبداع وإيجاد مشاكل المجتمع لحلها والاستثمار في العنصر البشري.
  3. التلاحم المجتمعي وتعميق الوحدة: حيث يكون في المجتمع الحد الأدنى من النزاعات والخصومات.
  4. تحقيق التكافل الأخوي: حيث يدعم المجتمع (كله) الأفراد المتضررين بالأعمال الخيرية والوقفية.
  5. تحقيق الالتزام والإيجابية الفردية: احترام الأنظمة واللوائح والتفاعل مع قضايا المجتمع وانتشار العمل التطوعي وإنعاش الحياة في البيئة المحيطة.

ب. قيم وقائية:

  1. نبذ الأفكار الدخيلة: المناعة المنيعة تجاه الهجمات الثقافية والأخلاقية والدينية الدخيلة ونبذ الأفراد الذين يشذون عن ثوابت المجتمع ومرجعياته.
  2. تقويم الأخطاء الفردية: التعامل معها بحكمة من قبل المجتمع الحاضن هو مربط الفرس، والمجتمع الراسخ القوي يأخذ على يد المخطئ ويوجهه ويقومه، وإن احتاج الأمر: يعاقبه، وحديث السفينة يوضح هذه النقطة.
  3. حماية الإنجازات والمكتسبات المجتمعية: لأنها ملك للجميع، فتجد أن قاعة الاجتماعات الرئيسية تحتوي على الكؤوس والمكافآت التي تخلد ذكر إنجازات أفراد هم جزء من المجتمع.
  4. تحمل المسؤولية: تجاه المهنة والتكاليف الشرعية والقانونية والتربوية وحتى العائلية.

ج. قيم تطويرية:

  1. الارتقاء بالعمل المهني والحرفي والتخصصي: تنظيمات مجتمعية تراقب وتنقد وتشير إلى المسيء إن أساء وتكافئ المحسن إن أحسن.
  2. الابتكار: بيئة المجتمعات المستقرة تشجع الفرد على الابتكار والإبداع وإيجاد الحلول، لإحساسه بالأمان من المجتمع المحيط، فتتفجر الطاقات ولا يبقى من عائق تجاه إطلاق طاقة الفرد سوى كسله.
  3. ارتفاع مستوى الانتاج المحلي: من الناحية المالية (نتائج المبيعات) ومن ناحية الإتقان (جودة العمل).

مثال: صديق لي مغترب من جنسية أفريقية، كان جزء من مجتمع أصدقائه من نفس البلاد وكان من المقتدرين ماليًا. وحدث أن وقع حادث سير لابنه ونقل للمستشفى، وعند وصول الخبر إلى «مجتمعه» وجد في المستشفى أكثر من ٤٠ منهم قدموا له مساعدة مالية، فأخبرهم أن لا حاجة له به، فأجابوه: بل تأخذها كي تعطي عندما يحتاجك مجتمعك.

الاقتصار في الإصلاح على الفرد لا يكفي لتحقيق القيم المجتمعية من نزع حظوظ النفس والفردية التي تقتل الولاء والبراء وتحول دون استيعاب الأفراد لكون المجتمع يحقق مصالح الفرد ولكن الفرد لا يحقق مصالح المجتمع بالضرورة

ما أساس بناء المجمعات القوية؟

إنَّ تركيز المصلحين على إصلاحٍ يستهدف الفرد فقط لا يساعد على بناء المجتمع المتماسك المتكاتف الذي يحتوي أفرادًا يستوعبون قيمة مجتمعهم ويفهمون تركيبته ويسعون لحمايته بأرواحهم (ولاء للمجتمع). فالاقتصار على الأفراد هو استنزاف للوقت والجهد، ولا يؤدي للنتائج المرجوة منه، ولا يؤدي إلى حمايته من العداء الخارجي (البراء من العدو)؛ هذان المبدآن (الولاء والبراء) أساس أي مجتمع. فلا وجود لمجتمع أفراده لا ولاء لهم، ولا بقاء لمجتمع أفراده لا يدافعون عنه. والعمل على إصلاح الفرد فقط يفتقد إلى نزع حظوظ النفس والفردية التي تقتل الولاء والبراء في النفس وتمنع الفرد من استيعاب أن (المجتمع يحقق مصالح الفرد ولكن الفرد لا يحقق مصالح المجتمع) فتُفاجأ أن هناك من يرفض المشاركة في اعتصام أو التوقيع على اعتراض لأنه (لن يستفيد) مباشرة من ذلك النشاط، وفي العصر الحالي انتشرت النزعة الفردية الهادمة التي تسلخ الفرد عن مجتمعه لمصلحة فردية عاجلة صغيرة، مضحية بالمصلحة الدائمة الراسخة.

ولهذا فإن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام هي أحد أهم الأسس التي يقوم عليها المجتمع المسلم، فمظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين تنقض الإسلام من أساسه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: ٥١] والآية الأخرى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: ٧٣]، وتعني: (فالذين كفروا بالله يجمعهم الكفر فيناصر بعضهم بعضًا، فإن لم توالوا المؤمنين وتعادوا الكافرين -كما يعادونكم- تكن فتنة للمؤمنين وفساد في الأرض عظيم بالصد عن سبيل الله)[3].

وتعدُّ العقيدة الدينية إحدى أقوى الروابط التي تصنع المجتمعات القوية، فموالاة الناس لأقرانهم في العقيدة هي الركيزة الأساسية لقوته ومنعته، ويتقبل الأفراد في المجتمع فردًا جديدًا بسهولة إن كان ذا عقيدة مماثلة للمجتمع الذي يريد الانضمام له. لأجل ذلك، إن نزعت عقيدة الولاء والبراء في الإسلام من صدور الأفراد فسيصبح الإسلام عبارة عن أفراد متفرقين دون مجتمعات يتفاعل بعضها مع بعض، وهذا أحد أسباب عدم جواز البقاء في ديار الكفر من دون حاجة معتبرة مبررة.

لقد أصبحت الدولة الإسلامية دولة عظمى مهابة عندما ترسخت بها عقيدة الولاء والبراء وأصبحت أمرًا بديهيًا كالهواء الذي يتنفسه الإنسان ويصبح منبوذًا مرتدًا من يخرق هذا الأساس المتين من المجتمع كله، فتكاد لا تجد من يخون الأمة من أهلها المؤمنين حق الإيمان عبر التاريخ الإسلامي (إلا منافق معلوم النفاق)، ولهذا السبب أيضًا كانت عملية المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار هي أول خطوة قام بها الرسول r بعد الهجرة لوضع أساس قوي لمجتمعات صغيرة أساسها شخصان اثنان متآخيان في الله بمرجعية راقية محترمة، وبمجموعها تكوّن المجتمع المسلم الكبير في المدينة المنورة. وبذلك، لا يمكن بناء حضارة أو أمة أو دولة قوية على الصعيد الاستراتيجي المستدام دون مجتمع مؤسس وراسخ، له مرجعيته الواضحة وهيكليته المفهومة، ويتسم بالترابط الفعال وتبادل المصالح المشتركة.

وهذا أيضًا أحد أهم أسباب الضخ الإعلامي الهائل وغير المسبوق لانتزاع وسلخ هذه العقيدة من قلوب المسلمين، فالخطر الحقيقي الذي يهدد كل كيان معاد للإسلام هو ولاء المسلمين ومساندتهم ودعمهم لبعضهم البعض ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: ٧١].

مما تعانيه مجتمعاتنا: أنه لم يعد لها تأثير أو ضغط حقيقي على القرار السياسي لأنها مفكَّكة لا هيبة لها، وغالب المصلحين فيها هم أفراد مشتتون تأثيرهم لا يتعدى مسافة ما يصله صوت أحدهم مهما صرخ ونادى

المشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا:

إن اكتشاف المشكلة هو الخطوة الأولى لحلها، وفي هذا السياق فإن الأمة الإسلامية تعيش في مأساة اجتماعية واضحة الدلائل والظواهر، وإليكم بعض مؤشراتها:

  • انتشار الدكتاتوريات وأنظمة الحكم الاستبدادية والتي لا تأبه لمجتمع ولا لفرد ولا لمبدأ، جل ما يريدون هو تعزيز سلطتهم وتحكمهم بما لديهم من موارد ومقدرات بشرية ومالية تحقيقًا لمصلحتهم الفردية حصرًا، وتأثر العديد من المنظمات والمؤسسات بذلك، لقد كانت المجتمعات هي الأساس الذي يمنع الطغيان ولأن الطغاة يعلمون تأثير التنظيمات المجتمعية عليهم عملوا على تفتيتها ومنع استقلالها التعليمي والشرعي والمادي، مما أدى لانهيارها وبالتالي اشتداد قبضة المستبدين على أفرادها.
  • نتيجة للنقطة السابقة، لم يعد للمجتمعات المسلمة تأثير أو ضغط حقيقي على القرار السياسي لأنه مجتمع متفكك لا هيبة له، وغالب المصلحين فيه هم أفراد مشتتون تأثيرهم لا يتعدى مسافة ما يصله صوت أحدهم إن صرخ؛ فانحسر كثيرًا تأثير ما تقوم به بعض المجتمعات المسلمة من استنساخ للتجارب الغربية التي تسمى (منظمات المجتمع المدني) في محاولة لاستعادة حقوق المجتمع لكنها لم تستطع تقديم تأثير حقيقي في السياسة والمال والمجتمع.
  • تغييب المساجد عن دورها الحقيقي الذي لا يقتصر على إقامة الصلوات فحسب، بل هو مؤسسة اجتماعية ثقافية تعتبر ملاذًا لكل حائر يبحث عن إجابات لتساؤلاته، ومكانًا للعلم وتبادل الخبرات والمعارف والدعوة والكتابة والإنتاج العلمي، ومركزًا للإمام الذي يعتبر الناصح الأمين للمجتمع المحيط بالمسجد. فانحسار دور المساجد ليس سوى علامة أليمة أخرى على انهيار المجتمع المسلم الذي فقد المرجعية الصحيحة، فضاع الكثير من أفراده في ثنايا البحث عن مرجعية موثوقة لهم.
  • ضعف الأوقاف وانحسار دورها في المجتمع، نتيجة مصادرة الحكومات لها ورقابتهم عليها ومصادرتهم لقرارها، ومن ثم عزوف أصحاب الثروات عنها، وهو دليل مؤكد على ضعف التحرك المجتمعي في الأمة الإسلامية. والحديث هنا عن المشاريع الوقفية المؤثرة، كالمستشفيات والجامعات والمدارس ومراكز الأبحاث الوقفية وأمثالها.
  • انتشار الفقر واشتداده نتيجة الإفقار المتعمَّد من الأنظمة الحاكمة ووصوله إلى مستوى من القهر قد يضطر صاحبه للتخلي عن دينه أو ارتكاب الجرائم، هذا الفقر أحد مظاهر انهيار المجتمع، فالفقير الذي لم يعد يجد ملجأ أو سندًا له في مصيبته التي ابتلي بها ولا يكاد يجد من يقدِّم له حتى نصيحة أو توجيهًا تجعله يقف حائرًا أمام الجوع الذي يتزامن مع عفّة في النفس والجهل فيكون لذلك آثار مؤلمة.
  • غياب القدوات والرموز المؤثرة أو نقصها الحاد، فهذه القدوات لا تظهر وحدها، بل هي نتاج احترام المجتمعات لها وقبولهم واحتضانهم ومعرفة فضلهم ومكانتهم، فلما لم تعد المجتمعات المريضة مهتمة بهم لم يعد لهم تأثير واضح، بل أصبح أثرهم ضائعًا في محيط أفراد غير منظمين.
  • عدم ملاحظة الفرد لرأي المجتمع في تصرفاته وسلوكه، أو استيعاب شؤم معاصيه على المجتمع، فزاد الركض الحثيث وراء المتع والشهوات والنزوات دون رادع من خوف أو حرج أو خجل بما لم يكن في أقرانه من الأجيال السابقة.
  • انحسار المجتمعات المتخصصة التي تقوم على أسس علمية أو فكرية أو قضايا اجتماعية وحضارية ما (كجمعيات حقوق الإنسان، منظمات حماية البيئة، جمعيات البحث العلمي، حركات مناهضة ظاهرة ما في المجتمع وغيرها الكثير)، ويكاد الدعم المقدم لها من الدول ورجال الأعمال يكون معدومًا، هذه المجتمعات في البلاد الغربية تعتبر أحد أسس صناعة القرارات السياسية والتنموية، وأفرادها -وقادتها بالأخص- يتمتعون بنفوذ قوي في الدولة والإعلام ولهم كلمتهم المسموعة من عموم الناس وهذا بعض ما نفتقده بشكل حرج.
  • ظاهرة المجتمعات الافتراضية التي لجأ إليها الكثير من المراهقين والشباب والتي لا تقدم للفرد رعايةً ولا دعمًا ولا توجيهًا ولا مرجعيةً ولا رسالةً ولا قيمة نافعة، فأصبحت مكانًا لتبادل التفاهات، وتحولت إلى إحدى وسائل الدمار الاجتماعي التي لا تحقق انتماءً حقيقيًا ولا مرجعية محترمة ولا مبدأ يفتخر به. بل حتى المجتمعات الافتراضية المفيدة (العلمية والبحثية) لا تقدم القيمة الحقيقية التي يقدمها المجتمع المنظم بالشكل التام الذي يجب أن يكون من دعم ومساندة واستشارة (على المستوى العميق) وتحصين وتربية وخبرة في التواصل والتعامل البشري.
  • بحث الأفراد عن أي إنجاز يفتخر به مهما كان تافهًا، والمصيبة هي في وجود الكثير من التافهين أمثاله الذين يعبرون له عن إعجابهم بـ«إنجازه» ويطالبونه بالمزيد.

كانت المجتمعات هي الأساس الذي يمنع الطغيان ولعلم الطغاة بتأثير التنظيمات المجتمعية عليهم عملوا على تفتيتها ومنع استقلالها التعليمي والشرعي والمادي، مما أدى لانهيارها وبالتالي اشتداد قبضة المستبدين على أفرادها

لقد أصبح من الضروري بمكان (بعد الاطلاع على الظواهر السابقة) العمل على دعم المجتمعات التي تقدم لأفرادها الأمن والحماية والدعم والمساندة وتجعل الفرد المنتمي إلى أحدها فخورًا بالانتماء إليه ويضحي من أجله ويقدم الغالي والنفيس لأجله، يحرص على أن يكون فاعلاً في هذا المجتمع، ويحرص على أن يقدم لأفراده ما لديه من معلومات وخبرات ومعرفة في سبيل خدمة الغاية العليا والرسالة السامية والأهداف الراقية التي يتبناها المجتمع.

والعمل على تأسيس مجتمعات تقوم بهذه الأدوار في حال غيابها لسبب أو لآخر، كحال المغتربين في بلاد المهجر!

تضمن لنا منظومة العمل في الإسلام أن تكون المجتمعات مترابطة بروابط الأخوة كي يتكون منها المجتمع المسلم الكبير الذي يحقق عمارة الأرض وإرساء دين الله بها وتحقيق العبودية الحقيقية لله فيها

وصايا نأمل أن ترى النور…

تضمن لنا منظومة العمل في الإسلام أن تكون المجتمعات مترابطة بروابط الأخوة كي يتكون منها المجتمع المسلم الكبير الذي يحقق عمارة الأرض وإرساء دين الله بها وتحقيق العبودية الحقيقية لله فيها. ولكن… أين هي تلك المجتمعات الصغيرة؟

إن تكوين المجتمعات الصغيرة التي تقوم بهذه الأعمال الهامة لم يعد أمرًا صعبًا، فمجموعة على واتساب قد كونت مجتمعًا، شباب جلسوا في سيارة أصبحوا مجتمعًا، شركة تم توظيف كوادر بها أصبحت مجتمعًا، وهناك مجتمعات أخرى أكبر وأعقد وأصعب تكوينًا، ولكن تحقيق الانتماء الحقيقي لذلك المجتمع وحمايته وتفعيله من خلال تقديم الخدمات والرعاية والاستمرار في ذلك على المدى الطويل هو غاية في الصعوبة. وتمتد تلك الصعوبة إلى إدارة المجتمع واستمراريته لأجيال، وإن توفرت الإرادة لدى رؤوس المجتمع والأفراد على حد سواء على السعي لتحقيق غايات سامية، قد نرى من نتائجها وثائق سفر محترمة لدى المجتمعات المسلمة حول العالم.

إننا بحاجة إلى إعادة تفعيل الطبيعة البشرية مرة أخرى، الطبيعة البشرية التي تعتمد على التواصل وتبادل الخبرات والمعارف والبدء بإنشاء مجتمعات ناضجة يكون فيها التواصل المباشر بين أفرادها (وليس إلكترونيًا) بالتزامن مع تفعيل العمل الإلكتروني للدعم والمساندة، فيما يلي بعض الأفكار التي يسهل تنفيذها:

  1. إعادة تفعيل دور المسجد وإكثار اللقاءات المباشرة فيه.
  2. تكوين مجتمعات منظمة يكون أساسها الأخوة في الله، وهو المبدأ الذي يجب إعادة تنشيطه في هذا الزمن واستيعاب واجباته وحقوقه وتنظيم لقاءات مباشرة بين الأفراد بشكل مقنن.
  3. الإكثار من التوعية الاجتماعية في الأسرة والمجتمعات المحيطة.
  4. إنشاء مجتمعات تخصصية صغيرة (من ٥ إلى ١٥ شخصًا فقط)، يكون البحث والابتكار والإنتاج العلمي أساس قيامها، وتفادي الحاجة إلى الكثير من الدعم المالي في البداية.
  5. التأكد من التكامل مع قوانين الدولة الحاضنة للمجتمع الجديد.
  6. الحرص على إظهار الإنجازات في الإعلام البديل مهما كان الإنجاز صغيرًا، فكل صغير يكبر إن شاء الله.
  7. تفعيل العمل التقني في تمكين تحقيق جميع النقاط السابق ذكرها بشكل فعال.

نحتاج إلى بحث مطول ومخصص لبناء استراتيجية واضحة لتفعيل المجتمع المسلم الصغير والمتوسط بشكل يساعد على نهضة الأمة من جديد وفي ذلك العديد من المراجع التي يجب الرجوع إليها في هذا الصدد. ولكن هناك محاور أساسية على الفاعلين في المجتمع المسلم والعلماء والسياسيين والحكماء وأصحاب المناصب ورجال الأعمال وأصحاب المؤسسات والشركات لفت نظرهم إليها في الفترة القادمة التي لم يمر على تاريخ الأمة الإسلامية زمن أسوأ منه، نحن بحاجة إلى مبادرات هؤلاء الرموز كي يساعدوا في تنظيمنا فإن لم ننظم أنفسنا كأفراد في مجتمعات فلن نتمكن من تحقيق أي إنجاز على أرض الواقع إن كان كل فرد ينفخ في نار مختلفة عن نار أخيه.


[1] من كتاب: Banker to the Poor: Micro-Lending and the Battle Against World Poverty, by Muhammad Yunus

[2] اقتبستها بتصرف من مقال: «المجتمع المدني والقيم الوطنية» للدكتور حمزة الفتحي في موقع صيد الفوائد.

[3] المختصر في تفسير القرآن الكريم ص (١٨٦).


م. جهاد بوابيجي

خبير إدارة تقنية معلومات، استشاري تحليل أعمال وإدارة مشاريع.

X