تأصيل

الفقه الإسلامي.. مفهومٌ وتاريخ وحضارة

الفقه الإسلامي هو أحد القلاع الحضارية العظيمة للدين الإسلامي، وفيه تتجلّى كثير من جوانب التميُّز والتفرّد بين علوم الأمم، كدقة الاستنباط، وتأصيل القواعد، والتحكيم بين الآراء، وإيجاد الحلول للنوازل والحوادث على مر العصور. وهذه المقالة تلقي الضوء على تاريخه وظروف نشأة المذاهب، ودوره في واقعنا الفردي والمجتمعي

مدخل:

كلمةُ الفقه تدلّ في اللغة العربية على الفهم، قال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨] أي: لا يفهمون المقصودَ مِن الخطاب، وقيل: هو فهم المعاني الدقيقة دون الجليلة الواضحة، وقيل: فهمُ مراد المتكلم من كلامه.

والفقه الإسلامي يعني فهمَ ومعرفةَ جميعِ مسائل الدّين أصولاً وفروعًا، عقائدَ وأحكامًا وأخلاقًا، وهذا هو معنى الفقه الذي جاءت نصوصُ الشريعة في بيان فضلِه ومكانتِه، والحثِّ على تحصيله وطلبه، كقوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢]، وقول النبي ﷺ: (مَن يرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين)[1].

ثَمّ استقر الأمرُ على إطلاق مصطلح الفقه على الأحكام العملية والتي تشمل العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والجنايات والقضاء وما إلى ذلك دون مسائل التوحيد والاعتقاد، ودون قضايا السلوك والتربية والأخلاق.

نشأة الفقه الإسلامي وتطوّره:

مرَّ الفقه الإسلامي منذ نشأته بعدّة مراحل يمكن إجمالها في التالي:

١- مرحلة النشأة والتكوين (عصر الرسالة):

وفي هذا العصر اكتمل نزول الدين وإرساء أسس الشريعة وقواعدها، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، فلم يُتوفَّ النبي ﷺ إلا بعد اكتمال الدين.

وكان الصحابةُ الكرام يتلقَّون علومَ الشريعة مِن المصطفى ﷺ مباشرة، وهو يبيّن لهم الأحكام بسنّته، ويقرأ عليهم القرآن الكريم فيفهمونه على الوجه الصحيح؛ لأنه نزل بلغتهم. وما أشكل عليهم والتبس عندهم مِن معانيه سألوه عنه.

تميّز عصر الصحابة بكثرة النوازل والأحداث، فاحتاجوا إلى الاجتهاد وإلحاق هذه الحوادث بما يماثلها مِن الأحكام الواردة في الكتاب والسنة، فظهر العملُ بالقياس الذي أشارت الأدلةُ لمشروعيته، وظهر إلى جانبه الاعتماد على الإجماع الذي دلت الأدلة على اعتباره

٢- عصر الصحابة:

وقد تميّز هذا العصر بكثرة النوازل والأحداث خاصة بعد الفتوحات، ودخول الكثير من الشعوب في الإسلام، فاحتاجوا إلى الاجتهاد وإلحاق هذه الحوادث بما يماثلها أو يشبهها مِن الأحكام الواردة في الكتاب والسنة، ومِن هنا ظهر العملُ بالقياس وطرق الاجتهاد التي أشارت الأدلةُ الشرعية إليها، ودلّت على اعتبارها.

كما ظهر في هذا العصر تقرير أحكام الشريعة اعتمادًا على مصدرٍ ثالثٍ دلّت على اعتباره الأدلّة الشرعية، وهو اتفاق أهل العلم في وقتٍ مِن الأوقات على حكمٍ شرعي، وهو ما عرف بـ (الإجماع).

وكان المسلمون يرجعون إلى مَن عُرف من الصحابة بمكانتهم العلمية واشتهروا بالاجتهاد والفتيا ليسألوهم، فيفتونهم بما يعرفون، ويجتهدون بآرائهم في الوقائع الجديدة، كالخلفاء الراشدين، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، وأبي بن كعب، وغيرهم. والمكثرون منهم سبعة فقط، وهم: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر رضي الله عنهما[2].

وكان هؤلاء الصحابة منتشرين في البلاد الإسلامية، وعنهم أخذ التابعون علمهم وطريقتهم في النظر في المسائل والاستدلال؛ فظهر ما يسمّى المدارس الفقهية[3]، فكان في المدينة النبوية مدرسة فقهية على رأسها زيد بن ثابت وعبدالله بن عمر، وفي مكّة مدرسة فقهية على رأسها عبدالله بن عباس، وفي العراق مدرسة على رأسها عبدالله بن مسعود، وفي الشام مدرسة على رأسها معاذ بن جبل وأبو الدرداء، وفي مصر مدرسة على رأسها عبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم أجمعين.

٣- عصر التابعين:

تتلمذ التابعون على الصحابة وأخذوا من علومهم، فكان عصرهم امتدادًا لهم، وقد ترسخ فيه ظهور المدارس الفقهية والتمايز بينها، وخاصة مدرسة الحجاز التي يكثر بها الأخذ بالأدلة الشرعية لكثرة المحدثين فيها، ومدرسة العراق التي يكثر فيها الأخذ بالرأي المعتمِد على القياس الأصولي، وبروز عدد من المشهورين بالفتيا كالفقهاء السبعة[4].

٤- عصر المذاهب الفقهية:

جاء عصر صغار التابعين وابتدأ فيه تدوين السُنة النبوية، وفتاوى الصحابة والتابعين، وتميز هذا العصر بتوسع الاجتهاد الفقهي، وتوسع تدوين الفقه، فظهرت المذاهب الفقهية المعروفة، وكانت في بدايتها تصل إلى أكثر من عشرة مذاهب، ثم انقرض العديد منها لعدم همّة أتباعها بخدمتها ونشرها، وبقيت المذاهب الأربعة المعروفة.

اختلافُ الهمم والتوجهات والرغبات طبيعةٌ بشرية، وما ينبني عليها مِن تعدّد الاهتمامات والتخصّصات حقيقة واقعية، وقد انعكس هذا التفاوت على العلوم الشرعية ابتداء بجيل الصحابة في عهد النبي r، فتميزت اختصاصاتهم

كيف نشأت المذاهب الفقهية؟

اختلافُ الهمم والتوجهات والرغبات طبيعةٌ بشرية، وما ينبني عليها مِن تعدّد الاهتمامات والتخصّصات حقيقة واقعية، وقد انعكس هذا التفاوت على العلوم الشرعية ابتداء بجيل الصحابة في عهد النبي ﷺ، فتميزت اختصاصاتهم، فـ(أقضاهم عليُّ بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيُّ بن كعب، وأعلمُهم بالحلال والحرام معاذُ بن جبل، وأفرضُهم زيدُ بن ثابت) رضي الله عنهم[5].

والذين تصدّروا للفتيا مِن الصحابة قلّة إذا ما قورنوا بالعدد الكلّي للصحابة رضي الله عنهم، حيث يبلغ عدد الذين نُقلت عنهم الفتيا منهم مئةً ونيفًا وثلاثين صحابيًا[6]. وهكذا الحالُ في كلّ زمان مِن قلة المؤهلين للفتيا، وندرة المتصدرين منهم.

وقد شكّل ظهورُ المدارس الفقهية المتقدم ذكرها النواة الأولى لتمايز الاتجاهات الفقهية، وصولاً إلى ظهور المذاهب الأربعة؛ ففقهُ الحنفية استند إلى ما تناقله أهلُ الكوفة عن تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه. وفقهُ المالكية وأهل المدينة يرجع إلى ما نُقل عن ابن عمر ومِن قبله زيد بن ثابت. وفقهُ الشافعي يعتمد على الجمع بين فقه أهل المدينة مِن خلال تتلمذ الشافعي على مالك، وفقه أهل مكة من خلال تتلمذه على سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزّنجي، وفقه أهل الكوفة من خلال المناقشة والمناظرة مع صاحب أبي حنيفة: محمد بن الحسن الشيباني. ثم جاء فقه الحنابلة معتمدًا على طريقة الشافعي في الجمع بين المدارس الفقهية السابقة مِن جهة، والتوسع في الرواية وتتبع آثار الصحابة والتابعين مِن جهة أخرى.

وقد وُجد في عصر الأئمة الأربعة مجتهدون آخرون لا يقلّون عنهم علمًا وفقهًا ومكانة في الأمة كالأوزاعي في الشام، والليث بن سعد في مصر، وسفيان الثوري في العراق وغيرهم، ولكن تهيّأ للأئمة الأربعة مِن المقومات الواقعية والأسباب الموضوعية ما أهّل مذاهبهم لتشق سبيلَ الاستمرار والبقاء عبر التاريخ، والمضي في طريق النضوج، وتعاقب العقول والأجيال على خدمتِها وتنقيحِها؛ مما بوّأها رتبةَ الاعتماد، ومنزلةَ القبول العام لدى جميع الأمّة؛ فغدت مدارسَ واضحةَ المعالم للراغبين في معرفة أحكام الشريعة، متكاملةَ الخِدْمات لطالبي التفقّه، أصولاً وفروعًا، تقعيدًا وتمثيلاً، دلائلَ ومسائل.

وُجد في عصر الأئمة الأربعة مجتهدون آخرون لا يقلّون عنهم علمًا وفقهًا ومكانة، ولكن تهيّأ للأئمة الأربعة مِن المقومات والأسباب ما أهّل مذاهبهم للاستمرار والبقاء، والمضي في طريق النضوج؛ مما بوّأها رتبةَ الاعتماد، ومنزلةَ القبول العام لدى جميع الأمّة

الحاجة الدائمة إلى الفقه الإسلامي:

حياةُ الإنسان في هذه الدنيا -التي هي دارُ التكليف- لا بدّ أن تقومَ على مبدأ العبودية لله عز وجل، فالإنسانُ كما أنه خاضعٌ لقدَر الله وتدبيره ومُلكِه، فإنّه لا بدّ أن يخضع لشرعِه وأمْره؛ ليكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ له اضطرارًا.

ومِن هنا تعظم حاجةُ الإنسان إلى معرفةِ الحكم الشرعي في كلِّ ما يعرِض له مِن حوادثَ ونوازل، ولأنّ مِن طبيعة الحياة البشرية التغيرَ والتجدّدَ مع مرور الزمان، والانتقالَ مِن السهولة والوضوح إلى التركيب والتعقيد، فإدراكُ الحكم الشرعي في كثير مِن الأحيان لا يتيسر لأكثر الناس بطريقة مباشرة مِن الأدلة الشرعية، بل يستند إلى مقدِّمات اجتهادية تفتقر إلى تحصيلِ علوم، وبناءِ مَلَكة لا تحصل إلا متدرّجةً بعد كثرةِ مطالعة، وطولِ ممارسة، وسعةِ خبرة في تنزيل الأحكام على الوقائع والنوازل.

والوصولُ إلى ذلك لا بدّ فيه مِن التخصص والتمكن العلمي والذهني، وقدْرٍ كبير مِن التفرغ والإقبال الذي يحول دونَه عند أكثر الناس أعباء الحياة، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك في قوله: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢].

لذا فإن العالم المتقدّم والفقيه المتميّز مُطالَب بالنظر في أقوال الفقهاء، والموازنة بينها، وتقديم أقواها دليلاً، وأوجهها تعليلاً، وأوفقها لقواعد الشريعة ومقاصدها.

وليس هذا خاصًا بعلوم الشريعة، بل هو جارٍ في سائر ما يحتاجه الناس مِن علومٍ ومهن كالطب والهندسة والاقتصاد وغيرها، فكلُّ علمٍ مِن العلوم له أهلُه المتخصصون فيه، المعتنون بحقائقه ودقائقه، وهم بمجموعهم المرجع وعليهم المعول في تقرير مسائله، وبيان قضاياه، وقولُهم مقبولٌ في صحةِ ما ينسب إلى هذا العلم دون غيرهم.

وطالب العلم له نصيبٌ مِن ذلك حسب ترقيه في درجات العلم، فيتفقّه على يد العالم على أحد المذاهب المعتبرة، ويتدرج في معارج التفقه حتى يشتدّ عُودُه، وتتكامل أهليتُه.

أما العامّي (وهو غير المتخصص) فيرجع إلى العالم فيسأله عن الحكم الشرعي، ويأخذ بفتياه، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣]، وقال: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]، فهو مقلد لأهل العلم والفتوى في هذه المسائل.

حياةُ الإنسان في الدنيا لا بدّ أن تقومَ على مبدأ العبودية لله عز وجل، فكما أنَّه خاضعٌ لقدَر الله وتدبيره ومُلكِه، فإنّه لا بدّ أن يخضع لشرعِه وأمْرِه؛ ليكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ له اضطرارًا؛ ومِن هنا تعظم حاجةُ الإنسان إلى معرفةِ الحكم الشرعي في كلِّ ما يعرِض له مِن حوادثَ ونوازل

فالفقهُ في الحقيقة هو الترجمة الواقعية التي لا بدّ منها للتطبيق العملي لأحكام الله تعالى؛ لأنّ تنزيلَ الأحكام التي تضمنتْها نصوصُ الشريعة على الواقع يتوقف على تحقّق الأوصاف والمعاني التي عُلّقت بها تلك الأحكام ورُبطت بها، وهذا يتطلّب قبل ذلك تخريجَ تلك الأوصاف والعلل مِن النّصوص وتنقيحَها لتكون صالحة لبناء الأحكام عليها، وهذه الأعمال يضطلع ويقوم بها المجتهد بحكم اختصاصه ودُربته في الاستنباط، وارتياضه للعلوم الشرعية.

فالفقهُ عبارةٌ عن حركة حية تفاعلية بين الواقع مِن جهة والنصوص الشرعية مِن جهة أخرى، تقوم على جهودٍ دائبةٍ للمجتهدين في تحقيق متطلَّبات الحياة المتجدّدة مِن الأحكام الشرعية؛ لأنّ النصوصَ الشرعية تتطلب واقعًا تُطبّق عليه، والواقع يتطلّب معرفةَ الحكم المناسب له مِن خلال النصوص، والوصول إلى هذه المواءمة وسدّ تلك الحاجة إنما يكون مِن خلال جهود الفقيه المتمرس على اقتناص الأحكام مِن النصوص، واستخراج المسائل مِن الأدلة.

وهكذا كان حال الفقهاء في كل عصر مع الحوادث والمستجدات: يبحثونها، ويوردون لها الحلول والتكييفات الشرعية، بل كانوا في الكثير من الأحيان يسبقونها؛ حتى استطاع الفقه استيعاب كل المنتجات الإنسانية الحضارية، والتكيف معها، بل واستخراج أفضل ما فيها وتطويرها، فشهد العالم الإسلامي وبلدانه ثورة علمية جارية على جميع المستويات المعرفية إلى جانب التطور الفقهي جنبًا إلى جنب، بتناغم وتكامل دون اصطدام أو اختلاف.

دور الفقيه في المواءمة بين الأدلة والوقائع:

ومع تنوّع مجالات الحياة وتعدّد اختصاصاتها في العصر الحالي تزيد مسؤولية الفقيه في إدراك واقع تلك المجالات، وتحرير ما يؤثر منها في الحكم الشرعي فـ «لا يتمكن المفتي ولا الحاكم مِن الفتوى والحكم بالحقّ إلا بنوعين مِن الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباطُ علمِ حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْمِ الله الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ في هذا الواقع، ثم يطبّقُ أحدَهما على الآخر»[7].

وكلما تطورت مناحي الحياة، وتجددت أساليبُ التعامل، وتغيرت أنماطُ التفاعل بين مكوناتها عظمت الحاجة إلى دور الفقيه والمجتهد الواقعي الذي يحافظ على أصالة الفقه، ويحرس قداسةَ النصوص مِن جهة، ويوائم الواقع، ويتفاعل بإيجابية مع التغيرات المتسارعة مِن جهة أخرى، ومِن هنا كانت الحركة الفقهية المستمرة ضرورةً واقعية، وحاجةً حضارية ملحّة، فالقولُ بإغلاق باب الاجتهاد يعني بالضرورة قطعَ الصلةِ بين الوحي والواقع، والمصير إلى الانفصال بين النصوص الشرعية وعملية الاستنباط التي لا بدّ منها في تنزيل ما تضمنته تلك النصوص مِن أحكام على وقائع الحياة، وأحوال الناس.

وإبقاء هذه الصلةِ حيةً قويةً لا بدّ منه في استمرار صلاحية أحكام الشريعة لكلِّ زمان ومكان، ولا يكفي لقطعِها التذرعُّ بضعف الأهلية، والخوف مِن الفوضى الدينية لتبرير الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد، وإنما يتطلب هذا الدعوةَ إلى الانضباط في ممارسة الاجتهاد، والاحتكام في تقويمِه واعتباره إلى القواعد المعتبرة والشروط المقررة، والمصير في القضايا الكبرى والشؤون العامة إلى الاجتهاد الجماعي عبر هيئات العلماء ومجالس الإفتاء الموثوقة تحقيقًا للمرجعية، وضبطًا لإيقاع الفتاوى الشرعية، وحمايةً لعموم الناس مِن أثر اضطراب الفتاوى الفردية.

الفقهُ حركة تفاعلية حية بين الواقع مِن جهة والنصوص الشرعية مِن جهة أخرى، تقوم على جهودٍ دائبةٍ للمجتهدين في تحقيق متطلبات الحياة المتجدّدة مِن الأحكام الشرعية

عصرنا ومدونات الفقه:

تضمنت مدوناتُ الفقهاء، وتآليفُ العلماءِ ثروةً علمية كبيرة، وحصيلةً معرفية ضخمة لجهود آلاف العلماء الذين بذلوا نفائسَ أوقاتهم، وزبدةَ أعمارهم في تحرير التراث الفقهي، وتتابعوا على تنقيح المسائل، ونقد الأدلّة، وتقليب الأقوال، ونقاش أوجه الاختلافات؛ فصارت تلك المدونات مراجعَ معتمدة، ومصادرَ معتبرة للباحثين والمتفقهين، وكثيرًا ما تستغلق بعض المسائل المعاصرة على المتفقهين والباحثين، ويعسُر تكييفُ بعض النوازل، ومِن خلال الغوص في أعماق تلك المدونات يُعثر على سوابق فقهية لمجتهدين سابقين، وفتاوى شرعية شبيهة يمكن البناء عليها، والاستناد إليها في التوصيف الشرعي لهذه الحوادث، والتخريج الفقهي على الاجتهادات السابقة، فتلك المؤلَّفات تقدم حلولاً كثيرة لمشاكل متنوعة، وبنكًا مِن الخبرات الاجتهادية المعتبرة في معالجة الحوادث المستجدة.

تشكل كتبُ الفقه مجموعَ جهودِ علماء الأمة الإسلامية عبر القرون في بيان أحكام الله مِن أصول الشريعة وفق مناهج اجتهادية معتبرة، ومسالك تفقُّهية منضبطة، وهي على مستوياتٍ متعددة، يناسبُ كلُّ مستوى منها رُتبةً مِن الطلاب والمستفيدين

تنوع مدونات الفقه واختلاف أغراضها:

تشكل كتبُ الفقه مجموعَ جهودِ علماء الأمة الإسلامية عبر القرون في بيان أحكام الله مِن أصول الشريعة وفق مناهج اجتهادية معتبرة، ومسالك تفقهية منضبطة، وهي على مستويات متعددة، يناسبُ كلُّ مستوى منها رتبةً مِن الطلاب والمستفيدين:

  • فمنها الكتب المختصرة التي تذكر في كلِّ مسألةٍ قولاً واحدًا في أحد المذاهب الفقهية، فتكون مناسبةً للمبتدئين في دراسة الفقه وطالبي معرفة الأحكام مِن عموم الناس (مثل متن أبي شجاع في الفقه الشافعي، وكتاب عمدة الفقه في المذهب الحنبلي).
  • ومنها الكتب التي تعتني بذكر مستند تلك الأقوال مِن الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فتفيد طالب العلم في فهم مسالك الفقهاء، وسبل العلماء في الاستنباط (وغالبًا ما تكون شروحًا وتوضيحًا لكتب المستوى السابق).
  • ومنها كتبٌ أوسع تتناول تحريرَ الأقوال والخلافات داخل المذهب الواحد ليتمرن الطالبُ على معرفة الخلاف، ومآخذ الأقوال، ومنهجية اختيار الأقوال للفتوى والعمل (مثل كتاب المهذب للشيرازي عند الشافعية، وكتاب الكافي عند الحنابلة).
  • ومنها كتب موسعة في عرض مذاهب الفقهاء، والاستدلال لها، والموازنة بينها (مثل: كتاب المجموع للنووي، وكتاب المغني لابن قدامة).
  • ومنها كتب الفتاوى التي تعتني بالإجابة عما يعرض للناس مِن مشكلات ومواقف يحتاجون فيها إلى معرفة الحكم الشرعي، وتورد ما يتكرر حصولُه، ويكثر السؤالُ عنه.
  • ومنها كتب القواعد والضوابط الفقهية التي تجمع الأحكام المتشابهة في قاعدة تضبطها وتسهّل حفظَها (مثل: كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي والقواعد لابن رجب الحنبلي).

فالمؤلفات الفقهية تلبي الاحتياجات المتنوعة للمسلمين، والمتطلبات المتجددة من النوازل والحوادث.

تميَّز الفقه الإسلامي بشموله واستيعابه لكل المجالات والحاجات البشرية مهما تنوَّعت وتطوَّرت، بثبات أصوله وقواعده، ومرونة جزئياته وفروعه، واحتفاظه بحيوية الاجتهاد والتجديد، وتجرُّده من الحظوظ والنزعات، مما يجعله صالحًا لجميع البشرية، وللبقاء في كل زمانٍ ومكان

الفقه الإسلامي قيمة حضارية:

للفقه الإسلامي مكانة شامخة في التراث الإنساني؛ فقد مثلت أحكامه وقواعده الضوابط والأنظمة الضرورية للمجتمع والأفراد سواء في علاقاتهم مع ربهم، أو علاقاتهم فيما بينهم، أو علاقاتهم مع الكون.

تلك القواعد والأنظمة التي لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها، ولا تستقيم حياتُه بدونها، ولم تخل جماعة بشرية على مر التاريخ من شكل مِن أشكالها؛ لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، والتحاكم إليها عند الخصومات ولفض النزاعات.

لكن ما ميز الفقه الإسلامي عن غيره من الأنظمة والقوانين: شمولُه واستيعابُه لكل المجالات والحاجات للجماعات البشرية مهما تعددت وتنوعت وتطورت، بثبات أصوله وقواعده، ومرونة جزئياته وفروعه، واحتفاظه بحيوية الاجتهاد والتجديد، وربانيته التي تجرده من الحظوظ الشخصية والنزعات القومية أو الضيقة، مما يجعله صالحًا لجميع البشرية، وللبقاء في كل زمانٍ وعصر، فوق أي بقعة ومصر، بخلاف الأنظمة والقوانين الوضعية التي تتسم بالنسبية والمرحلية، وتعاني من الانحياز والاضطراب الذي يصل في بعض الأحيان إلى التناقض، فما يكون بالأمس جريمة يعاقِب عليها القانون قد يصبح اليوم حقًا من الحقوق التي يجب الاعتراف بها، ويعاقَب بالقانون كلُّ مَن يصرح بانتقاده أو عدم القبول به، بل ربما تتكاتف الدول المتعددة لإلزام الدول الأخرى به والتلويح بالعقوبات في حال عدم الرضوخ لذلك كما يحصل هذه الأيام من الترويج للقوانين التي تخالف العقل وتخرج عن الفطرة!

كما أن الفقه الإسلامي متصالح بل ومنسجم مع سائر العلوم الإنسانية والطبيعية، ومتفاعل مع الإيقاع المتسارع لحركة التطور والتقدم البشري، بل لا يتمكن الفقيه من الوصول إلى الحكم الشرعي في كثير من النوازل إلا بالاطلاع على علوم أخرى، والرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص في كثير من النوازل والوقائع.

وختامًا:

فإن قواعد الفقه الإسلامي وأنظمته صالحة للتطبيق والاستفادة والاستنساخ حتى بين المسلمين ممن ينشدون الأنظمة المتكاملة المتوازنة. ينسب للمستشرق النمساوي ألفرد فون كريمر في فضل الفقه الإسلامي وخصائصه من الناحية القانونية قوله: «إنَّ الفقه الإسلامي هو أعظم عملٍ قانوني في تاريخ العالم يفوق القانون الروماني وقانون حمورابي؛ نظرًا لما فيه من حكمةٍ إلهيةٍ وبناءٍ منطقيٍّ هائل، لكنَّ الفقه لم يُسجِل الشريعة في مواد قانونيةٍ محدَّدة حتى لا يُصيبها الجمود وتحتاج إلى تغير، وإنما أبقى أحكامًا ومبادئ عامة، لذلك فهي صالحة لكل البشر في كل زمان ومكان».

ومن هنا اعتمدت كثير من الدول ورجع العديد من واضعي القوانين إلى مدونات الفقه، ومن الأمثلة على ذلك القانون الفرنسي (أبو القوانين الوضعية)، الذي تأثر بالفقه من خلال اطلاع (نابليون بونابرت) ومَن كان معه أثناء حملته على مصر، وظهر ذلك الأثر فيما وُضع بعد ذلك من قوانين.

الفقه الإسلامي متصالح ومنسجم مع سائر العلوم الإنسانية والطبيعية، ومتفاعل مع الإيقاع المتسارع لحركة التطور والتقدم البشري، بل لا يتمكن الفقيه من الوصول إلى الحكم الشرعي في كثير من النوازل إلا بالاطلاع على علوم أخرى، والرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص فيها


د.عمار العيسى

أكاديمي، ومتخصص في البحث والتعليم الشرعي.


 

[1] أخرجه البخاري (٧١)، ومسلم (١٠٣٧).

[2] الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (٥/٩٢)، وإعلام الموقعين، لابن القيم (١/١٠).

[3] يطلق مصطلح المدرسة الفقهية على الفقيه المجتهد، والمنهج الذي سلكه في الاجتهاد والتعليم والفتوى، وسار عليه طلابه من بعده.

[4] هم سبعة من فقهاء التابعين الذين كانوا متعاصرين في المدينة، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وعبيدالله بن عتبة بن مسعود، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار. واختلف في السابع: فقيل هو أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، وهو قول الأكثر، وقيل هو سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وقيل هو أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. ينظر: الموسوعة الفقهية (١/٣٦٤).

[5] أخرجه الترمذي (٣٧٩١) وابن ماجه (١٥٤) واللفظ له، وقال الترمذي: حسن صحيح.

[6] إعلام الموقعين، لابن القيم (٢/٢١-٢٢).

[7] إعلام الموقعين، لابن القيم (٢/١٦٥).

أكاديمي، ومتخصص في البحث والتعليم الشرعي.
X