الافتتاحية

الحج .. بين المعاني التربوية والمناكفات السياسية

تجتمع في الحج أمهات العبادات في الإسلام، من شدّ للرحال إلى الأماكن المقدّسة، والمناسك، والصلاة والإنفاق والصوم والذكر والنحر، وهو مدرسة تربوية متكاملة أوجبه الله مرة في العمر على المكلف القادر؛ وما ذاك إلا لأنّه يقدّم للمسلم زادًا روحيًا خاصًا لا يحصل عليه من عبادة أخرى. وقد حجّ إلى البيت العتيق آدمُ عليه السلام ومَن بعده من الأنبياء، حتى جاء إبراهيم فرفع قواعدَه مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، ثمّ أذّن في الناس بالحج؛ فأجابه مَن آمن ممن سبق في علم الله أن يحجّ إلى يوم القيامة، {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]؛ فحجّ موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء، وسيُهِلّ عيسى عليه السلام بالحج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.

هفو القلوب وسعي الأبدان:

مما يخلب الألباب هفو النفوس نحو بيت الله الحرام، فالمسلم أينما كان في أقاصي البلاد أو خلف المحيطات وشواهق الجبال وأعماق الأودية متعلّق القلب بهذه الفريضة العظيمة، يسعى جاهدًا لأدائها، ويبذل الغالي والنفيس في سبيلها، استجابة لأمر الله تعالى الذي أمر خليله إبراهيم عليه السلام أن يؤذن بالحج بقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، فأطاع عليه السلام أمر ربه وأذن بالحج، ولعل ما نراه من لهفة القلوب نحو البيت العتيق هو من آثار ذلك النداء، وهذه اللهفة تترجمها الألسن بترديد عبارة واحدة يقولها الجميع: “لبيك اللهم لبيك” وهم يغذون السير ويشدون الرحال، حتى إذا عادوا من ضيافة الرحمن أشعلوا أشواق ذويهم نحو بيت الله الحرام بما عاشوا من أحاسيس ومشاعر، تضاهي في تأثيرها أجواء شهر رمضان المبارك.

المؤتمر السنوي لوحدة المسلمين:

لا تتجسد وحدة المسلمين في شيء كما تتجسد في الحج، بل يمكننا اعتباره “مؤتمر الوحدة الإسلامية السنوي”، الذي يعبر فيه المسلمون -بأفرادهم لا بكياناتهم السياسية- عن وحدة حالهم ومقصدهم؛ فالربُّ واحد، والقبلة واحدة والتلبية واحدة، والزي واحد، والجميع يقصد المناسك ذاتها، يدفعهم إلى ذلك استجابتهم لشرع ربّهم واقتداؤهم بنبيّهم صلى الله عليه وسلم، كما تضفي عليهم المشاعر المقدّسة وحركة الحجّاج فيها أجواءً ترتقي بأنفسهم فوق نزعات التفرد وصراعات الدنيا، وتزيل ما بينهم من حواجز تؤجج الفروقات أو العداوات، فيعود كل منهم بعد أن خالط إخوة له من شتى الألوان والأعراق واللغات في موسم لا يوجد له مثيل عند أي أمة من الأمم.

في مختلف أعمال الحج من تلبية، والتزام بمواقيت وخطوات المناسك، ونحر الهدي، والحرص على عدم خدش الإحرام بمخالفة؛ إعادة ضبط وجهة المؤمن بإخلاص العبادة نحو ربه وخالقه العظيم، وعلى طريقة نبيه صلى الله عليه وسلم

إعادة ضبط البوصلة:

التلبية التي يرددها الحاج آلاف المرات خلال حجِّه في سعيه وخطواته: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) تجسِّد أمرين عظيمين هما: توحيد الله، والتسليم له بالطاعة والانقياد؛ فلفظة “لبيك” تعني: “استجابةً لك”، وتجمع إلى الاستجابة الحب، وتأكيدُ انعدام الشريك مكررٌ في عبارة التلبية؛ للدلالة على نفي الشريك لله، وفيها حصر ما يرفع إلى الله من الحمد والشكر والعبادة له وحده، وحصر ما يحصل عليه العبد من النعمة والعطاء والمواهب المادية والمعنوية من الله وحده، وكلها تجمع معاني التوحيد والتسليم والانقياد له.

وفي الالتزام بمواقيت وخطوات المناسك وتتابعها الدقيق والمنظم، والحرص على عدم خدش الإحرام بمخالفة، والتأسي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال: (لتأخذوا مناسككم)[1] درسٌ مهمٌّ في التسليم لله والاتباع لرسوله، ويكتمل ذلك عند إراقة الدماء ونحر الهدي، متذكرين رؤيا إبراهيم وتسليمه وابنه إسماعيل عليهما السلام لأمر الله عز وجل.

وفي جميع ذلك إعادة ضبط وجهة المؤمن بإخلاص العبادة نحو ربه وخالقه العظيم، وعلى طريقة نبيه صلى الله عليه وسلم.

العدو المشترك:

منذ أن خلق الله آدم أعلن إبليس عداوته له ولذريته، فأبى أن يسجد له مع الملائكة، واستكبر واستعلى بأصل خلقته ظانًا أنه خير منه، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12]، ثم لما طرده الله من رحمته طلب إمهال أجَله إلى يوم الدين، فأذن الله له بذلك لحكمة يريدها جل وعلا، فأقسم إبليس قسمًا عظيمًا وحدّد غايته ومشروعه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ 16 ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16-17]، ومنذ ذلك الحين اشتعلت العداوة بين حزب الصالحين من بني آدم وحزب الشيطان وأوليائه، هذه العداوة تظهر آثارها في مجاهدة المؤمن نفسه لأَطْرِها على الحق، وتظهر في المجتمعات في مقاومة مشروعات الضلال والغواية والإفساد التي يحاول إبليس وأولياؤه نشرها بين الناس، وتتمثل بأجلى صورها في مشاهد الحج: بتجريد المتابعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أعمال الحج مع الحرص على عدم المخالفة، وتتأكد رمزية هذه العداوة والمدافعة في رمي الجمرات بحصوات تؤكّد مفارقة المسلم لطريق إبليس، والرغبة في دحره والانتصار عليه، فتكون النتيجة: (ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أدحرُ، ولا أحقرُ، ‌ولا ‌أغيظُ ‌منه ‌في ‌يوم ‌عرفة)[2].

جوائز الحج كثيرة؛ من الثواب العظيم، والميلاد الجديد، وجنة رب العالمين، مع أجر الجهاد في سبيل الله تعالى، ونظرة الرضا من رب العالمين، وهو سبب من أسباب الغنى ومضاعفة النفقة في الدنيا

جوائز الطهر وقلائد الغفران:

أما الجوائز: فحدّث ولا حرج عن الثواب الذي ينتظر الحاج إذا أدّى مناسكه وتجنّب ما يفسده من اللغو والجدل، إنّها لحظة ميلاد جديدة، وغسل لما مضى من صفحات العمر، وتجديد للعهد مع الرحمن الرحيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من حجَّ فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع كما ولدته أمه)[3]، أما إذا كان الحج مبرورًا أي: موافقًا للشرع عملاً واعتقادًا، ولم يخالطه شيء من الشرك والإثم والرفث والفسوق فله شأن آخر، فقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ: (الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)[4].

وجوائز الحج كثيرة، فهو من الجهاد، وكان عمر رضي الله عنه يسمّيه أحد الجهادين[5]، وهو من أسباب الغنى ومضاعفة النفقة، كما في حديث (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)[6]، و(النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف)[7]، والحاج أحد ثلاثة في ضمان الله[8]، وإذا أتت منيّته وهو في الحج فإنّه (يبعث يوم القيامة ملبيًا)[9].

وليس أجمل من نظر الرحمن إلى أهل الموقف يوم عرفة نظرة الرضا، فيغدق عليهم من عطاياه، كما جاء في الحديث: (ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينـزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شُعثًا غُبرًا ضاحِين، جاؤوا من كلّ فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُرَ يومٌ أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة)[10].

الحج عبادة لا مساومات سياسية!

شرع الله الحج لإقامة ذكره والتقرب إليه بالعبادة والطاعة، وتحقيق التوحيد ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذا أمر بتعظيمه وتعظيم شعائره ومناسكه فقال: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وجعل من تعظيم الشعائر: الهدوء والطمأنينة حتى لا يشوش على الناس عبادتهم ويشغلهم عن مقصودهم الأعظم في التفرغ للعبادة، وتوعّد مَن رام فيها الفساد بوعيد عظيم، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

ومن أعظم اللغو والفساد المعاصر: تحويل الحج إلى مناكفات أو مساومات سياسية، بجعله منبرًا أو مسرحًا للصراع السياسي، أو فرصة لتحقيق مكاسب سياسية، وإشغال الناس بذلك، وتهديد أمنهم وراحتهم فيه، ومن أبرز ما ظهر من ذلك خلال العقود الماضية:

ما يسمّى (البراءة من المشركين): حيث زعمت الرافضة أنّها من أهم أعمال الحج، ودعا لها الهالك الخميني ضمن مشروعه في تصدير الثورة وترسيخ فكرة الولي الفقيه؛ فخرجت مظاهرات في مواسم الحج في عدد من السنوات تنادي بالعداء لأمريكا وإسرائيل! وأدّت إلى إثارة القلاقل وزعزعة الأمن في مواسم الحج، كان أعظمها في حج عام 1407هـ (1987م) حيث أدّت أعمال الشغب التي نتجت عن هذه المظاهرات إلى مقتل المئات من الحجاج ورجال الأمن[11].

المناداة بتدويل الإشراف على الحرمين، وقد كان الهالك القذافي أوّل من نادى بتدويل الحجّ ونقل إدارة المناسك والمشاعر المقدسة إلى لجان دولية مكوّنة من عدّة دول إسلامية وفق نظام معين، ثم انتقلت الفكرة لعدد من الشخصيات التي أصبحت تنشُرها وتتحدّث بها لأهداف شتّى، وتطوّرت عند البعض للمناداة بإشراف أممي[12]!!

إنّ عاقبة هذه الدعوات هي تسليط أهل الكفر والفجور على أقدس مقدسات المسلمين، أو جعلها ميدانًا للصراع الذي يصرف الناس عن مقاصد الحج، وعن استغلال هذا الموسم الديني العظيم الذي يتفرّغ فيه الناس للعبادة والدعوة، ويستفيدون مما فيه مِن فُرص علمية ودعوية واجتماعية، وهذا يوجب مقاومة هذه الدعوات والحذر منها، وكشف مخاطرها، وتجنيب مقدّسات المسلمين الصراعات السياسية ومعاركها.

من أعظم اللغو والفساد المعاصر في الحج: تحويلُ الحج إلى مناكفات أو مساومات سياسية، بجعله منبرًا أو مسرحًا للصراع والتكسُّب السياسي، وإشغالُ الناس بذلك، وتهديدُ أمنهم وراحتهم فيه بزعم إقامة مظاهر “البراءة من المشركين”، أو الدعواتُ إلى ما يسمى بتدويل الإشراف على الحرمين، مما يؤدي إلى صرف الناس وإشغالهم عن مناسكهم، وتسليط أهل الكفر والفجور على أقدس مقدسات المسلمين

التزهيد بالحج والعمرة:

كثرت جراحات المسلمين في العصر الحالي حتى إنّ المسلم لا يكاد يفرغ من متابعة مصيبة حتى تفجأه أخرى، ولا يكاد يدعو للإسهام بالتخفيف عن المسلمين في بلد حتى تزاحمها دعوات لا تقل ضرورة عنها في بلد آخر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رَماني الدَهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى *** فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ

فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ *** تَكَسَّرَتِ النِصالُ على النِصالِ

وفي خضمّ هذه الجراحات تظهر في المواسم دعوات لعدم التوجه للعمرة أو الحج بحجّة تحويل الإنفاق لحاجات المسلمين الأهمّ، أو عدم دعم الكفار؛ بدعوى أنّ أموال عمرتهم وحجّهم تجد طريقها -في نهاية المطاف- إلى الكفار الذين يحاربون المسلمين! وغير ذلك من الحجج الشبيهة.

إنّ هذه الدعوات -وإن صحّت نيّة بعض القائلين بها- بعيدةٌ كلّ البعد عن الواقع والشرع؛ فواقع المسلمين يقول إنّ الصراع بين الحقّ والباطل لا يتوقّف، ومآسي المسلمين ومصائبهم وحاجاتهم متكررة، ولكلٍّ سهمه ونصيبه من الدعم والإعانة، لكن لا يعني هذا توقُّف الحياة والعبادات لأجلها، كما أنّ وجود الأتراح والأحزان لا يعني توقُّف الأفراح ومنعها، ثم إنَّ هذه الدعوات لا تخلو من مناكفاتٍ سياسية وإن خفيت على بعض القائلين بها.

والزعمُ أنّ أموال الحجّاج تذهب لدعم الكفار ثم ترتد إلى صدور المسلمين؛ فيه جهلٌ بحقيقة تكاليف الحج، وبحقيقة الأموال المبذولة في عمارة وتشغيل الحرمين، وبحقيقة أن معظم المصاريف تذهب للقائمين على خدمة الحجاج من عموم المسلمين، وأن كثيرًا من القائمين على خدمة ضيوف الرحمن في هذه المواسم متطوعون من أهل الخير من أهل الحرمين وغيرهم، كما أن فيه جهلاً بالعلاقات بين الدول واتفاقياتها.

الزعمُ أنّ أموال الحجّاج تذهب لدعم الكفار ثم ترتد إلى صدور المسلمين؛ فيه جهلٌ بحقيقة تكاليف الحج، وبحقيقة ما يبذل في عمارة وتشغيل الحرمين، وبحقيقة أن معظم المصاريف تذهب للقائمين على خدمة الحجاج من عموم المسلمين، وأن كثيرًا من القائمين على خدمة ضيوف الرحمن متطوعون محتسبون من أهل الحرمين وغيرهم، كما أن فيه جهلاً بالعلاقات بين الدول واتفاقياتها

هل العواقب مدروسة؟

إنّ هذه الدعوات قد تُستغل من أطراف لا تريد الخير بالمسلمين، ويُخشى أن يكون فيها صدّ عن سبيل الله الذي حذّر الله منه أشد التحذير، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].

ومع شدة التحذير في الآيات السابقة فقد أمر تعالى بالعدل والإنصاف حتى مع من يصد عن المسجد الحرام من المشركين! فقال: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2].

قال ابن عاشور في تفسير هذه الآية {ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ}: “كان مقتضى ‌الظاهر ‌أن ‌تكون ‌الجملة ‌مفصولة، ‌ولكنها ‌عطفت ‌ترجيحًا ‌لما ‌تضمنته من التشريع على ما اقتضته من التعليل، يعني: أن واجبكم أن تتعاونوا بينكم على فعل البر والتقوى، وإذا كان هذا واجبهم فيما بينهم؛ كان الشأن أن يعينوا على البر والتقوى، لأن التعاون عليها يكسب محبة تحصيلها، فيصير تحصيلها رغبة لهم، فلا جرم أن يعينوا عليها كل ساع إليها، ولو كان عدوًا، والحج بِرٌّ فأعينوا عليه وعلى التقوى، فهم وإن كانوا كفارًا يعاونون على ما هو بِرّ؛ لأن البر يهدي للتقوى، فلعل تكرر فعله يقربهم من الإسلام. ولما كان الاعتداء على العدو إنما يكون بتعاونهم عليه نبهوا على أن التعاون لا ينبغي أن يكون صدًّا عن المسجد الحرام، وقد أشرنا إلى ذلك آنفًا؛ فالضمير والمفاعلة في (تعاونوا) للمسلمين؛ أي: ليُعِنْ بعضُكم بعضًا على البر والتقوى. وفائدة التعاون تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتناصر، حتى يصبح ذلك خُلقًا للأمة”[13].

خاتمة:

التعامل الحكيم مع فريضة الحج، يكون بتيسيرها على الحجاج بتعليمهم مناسك الحج، وتيسير السبل التي يصلون بها إلى مبتغاهم ومقصدهم، أما التكلف في تبني دعوات لا تعلم مآلاتها، ولا يملك أحد ضمان نتائجها فليس من الحكمة في شيء.

إنّ أي تصريح أو تصرف يتعلّق بالحج ينبغي أن يوزن بميزان الشرع قبل إطلاقه؛ حتى لا يحمل في طياته الدعوة إلى تعطيل شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، أو يدعو الحجاج إلى الشعور بالحرج والشعور بالإثم وكأنّهم ارتكبوا معصية من المعاصي!

فرَّج الله عن الأمة كربها ومآسيها، ووحَّد صوفها، ومكَّن لدينه في مشارق الأرض ومغاربها.

التعامل الحكيم مع فريضة الحج، يكون بتيسيرها على الحجاج بتعليمهم مناسك الحج، وتيسير السبل التي يصلون بها إلى مبتغاهم ومقصدهم، أما التكلف في تبني دعوات لا تعلم مآلاتها، ولا يملك أحد ضمان نتائجها فليس من الحكمة في شيء


أسرة التحرير


[1] أخرجه مسلم (1297).

[2] أخرجه مالك في الموطأ (1597) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلاً.

[3] متفق عليه: أخرجه البخاري (1819) ومسلم (1350).

[4] متفق عليه: أخرجه البخاري (1773) ومسلم (1349).

[5] أخرجه عبد الرزاق (8808).

[6] أخرجه الترمذي (810) وأحمد (3669).

[7] أخرجه أحمد (23000).

[8] أخرج الحميدي (1121) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (‌ثلاثة في ‌ضمان الله عز وجل: رجل خرج من بيته إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيًا في سبيل الله عز وجل، ورجل خرج حاجًا).

[9] متفق عليه: أخرجه البخاري (1265) ومسلم (1206).

[10] أخرجه ابن خزيمة (2840)، ومعنى ضاحين: أي بارزين للشمس غير مستترين منها.

[11] وفي توثيق هذه الحادثة عدّة مواد مصورة ومكتوبة يمكن الرجوع إليها، وقد كشفت التحقيقات قيام الرافضة بتهريب الأسلحة والمتفجرات إلى داخل المشاعر المقدّسة لاستخدامها في إثارة الفوضى وضد رجال الأمن وعموم المسلمين.

[12] هذه الدعوة ساقطة واقعًا؛ فالإشراف على أي محفل دولي مشابه وإدارته لا يمكن أن تقوم به إلا جهة واحدة، وإلا كان مصيره الفشل والفوضى، وما المناسبات السياسية والرياضية العالمية -مثلاً- التي تنظمها الدول المضيفة إلا أصدق دليل على هذا الأمر.

[13] التحرير والتنوير (6/87-88).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *