انهزم المسلمون -مع أنّهم صاروا لأوّل مرّة ثلاثة أضعاف جيش عدوهم- حين قال بعضهم: لن نُغلب اليوم من قلّة؛ فأدبروا إلا مائة! {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ 25 ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 25-26].
التفاتة قلبٍ لدى بعض خيار المجاهدين إلى الأمور المادّية أنزلت بهم فاجعة؛ لأنَّ الله تعالى يُريد للقلب أن يكون سليمًا له وحده، لا يتعلّق ولا يثق إلّا به، ولا يعتمد ولا يتوكل إلّا عليه، يقوم بأمر الله في إعداد العدّة على أكمل وجه، ثم يُفلس من نفسه وسلاحه، ولا يرى شيئًا من جهده ولا عمله؛ لأنّه كلّه عطاء ربه ونعمته وفضله وتوفيقه. فإذا غفل قلبُ وليِّ الله عاجَلَه مولاهُ -بقدر مكانته عنده- بما يوقظه، وأشهده بؤسَ الأسباب دون مسبّبها، وعجْزَ القوّات دون مُوجدها، فأعاده إلى كمال عبوديته بصفاء تفويضه وكمال توكّله.
حالةٌ مخصوصةٌ للأصفياء المتلذِّذين بما كتب الله لهم من تأديباتٍ تُزكي قلوبهم فتوقظ عقولهم، حتى يلمحوا نعمةَ الله في كلّ ما ينزل بهم، فيشكروه على منعه كعطائه. وكلّما ارتقوا في درجات الولاية ومراتب الأعمال، واجتازوا عقبات الامتحان؛ حلّت بهم ابتلاءات أشد تمحيصًا وأكثر تطهيرًا، فمن ازداد لها شكرًا زاده بها رفعة، على خطى الأنبياء الأشدّ بلاءً عليهم صلوات الله وسلامه.
هيهات للغافلين أن يتصوّروا ذلك الحال، فضلاً عن أن يشهدوه في واقعهم. وما أكثر الناس ولو حرصت بشاكرين، لكنّها (قلةٌ تنقذ الموقف)[1]، يشكّلون النواة الصامدة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، يستعيد بها الجيشُ اجتماعه وقوّته وانتصاره. أفرادٌ يتوقف عليهم مصير أمة، ويتحوَّل بهم التاريخ من بعد الغربلة.
هل يا ترى أعجبتنا كثرتنا بما أسسنا من كيانات وجماعات وأحزاب، وبما أتيح لبعضها من وزارات وحكومات، وبما حقّقنا من منجزات وانتصارات، وبما اخترعنا من تحالفات، وما أثمرته من خبرات وصناعات، وبأموال قامت عليها مشروعات، أو ملايين تتابع المؤثّرين وتبدي إعجابها في القنوات والحسابات، وجموع عالمية من شتّى الأديان تقف مع قضايانا وتؤازرها؟ كلّها لن تغني عنّا من الله شيئًا إذا خالفنا سننه، وخلطنا الحقّ بالباطل.
أحاطت بكثيرين -من بعد الربيع- حالةٌ من الصدمة والإحباط، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأخذت ببعضهم نحو اليأس والانقطاع فولّوا مدبرين، وآخرين أورثتهم الشكوك، ومخذولون يخاتلون خفية إلى العدو الباطن؛ جاهلين أنّ الغلبة بالإيمان، وأنّ التفات قلوب أهله مدد للطغيان، “{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا 22 سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 22-23]، حينها يمكن لمريد الفهم أن يدرك معنى (سنن التأييد) ومغزى ارتكازها على سبعةٍ من أعمال القلوب، لا نصر إلا بها: التوبة، والنيّة، والشكر، والدعاء، والتوكّل، والذكر، والمصابرة”[2].
أنصارُ الله وأولياؤه أوّل أسبابهم تصديقٌ بالوعد ويقينٌ بالحق وإرادةٌ للآخرة، وبذلٌ للمستطاع مهما ضعُف. ثم تتنزل عليهم السكينة بما يجدون من حلاوة الإيمان، فلا يحبّون إلّا لله، لا تعرف قلوبهم التعصّب، ولا عقولهم تأطير الحدود، ولا سلوكهم الفردية والاستئثار، تتكوّن منهم النواة الحامية للأمّة، المحتمية بالشورى، دون خضوع لتأثير الجماهير، يخشون ربّهم في الغيب والشهادة، يقولون الحقّ في الغضب والرضا، لا يبالون بفتح الأبواب وإغلاقها، ولا يختلف حالهم في فقر ولا غنى، ولا يلتفتون إلى قلّة ولا كثرة.
د. خير الله طالب
[1] عنوان فصل في كتاب: (المسوؤلية)، للمربي محمد أمين المصري رحمه الله.
[2] ينظر: د. الطيب برغوث https://sunaniya.net