الورقة الأخيرة

أشعثَ أغبر

كان أسدًا في الحروب، ألقى بنفسه داخل حصن العدو يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب. وفي معركة تُسْتَر انكشفَ الناسُ، فقالوا له: يا بَرَاءُ، أَقسِم على ربك. فقال: أُقسمُ عليك أي رَبِّ، لَمَا مَنَحتَنا أكتافَهم، وألحقتني بنبيك صلى الله عليه وسلم. فاستُشهِد”[1]، وانتصروا.

(كم مِن أشعثَ أغبر ذي طِمرَين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرَّه، ‌منهم ‌البراء ‌بن ‌مالك)[2].

ومر رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما تقولون في هذا؟) قالوا: “حرِيٌ إن خَطَبَ أن يُنكَح، وإن شَفَعَ أن يُشَفَّع، وإن قال أن يُستمع”، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: (ما تقولون في هذا؟) قالوا: “حَرِيٌ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير مِن ملء الأرض مثل هذا)[3].

لم يؤثِّر على مكانته عند الله شعرُه الأجعد المتفرق الذي غيّر الغبارُ لونَه، ولا ثيابُه الرثة البالية التي لا تلفت نظر الناس، ولا رده عن الأبواب احتقارًا له، ولا تخلفه عن المناصب وصدور المجالس والمنصات والفضائيات.

ترى ما الذي بينه وبين الله حتى يرفعه عنده، ويبرّ بقسمه، ويجري الأقدار وفق طلبه؟

لقد أخرج حسابات المخلوقين من قلبه، فتعلق قلبه بالله، وتفرّغ لحب خالقه ورجائه وخشيته، فصار مشفقًا على نفسه، محافظًا على واجباته، قائمًا بمسؤولياته، مؤديًا للحقوق التي وجبت عليه، كافًّا يدَه ولسانَه، فنال مرتبة عالية عند الله، وفتحت له أبواب الإجابة والرحمة.

لن تجد أضيعَ لسلامة القلب وخشوعه ورقّته من ملاحقة المنزلة عند الناس، والبحث عن الصدارة والمكانة الاعتبارية، والمشاحّة في الحقوق، والمشاحنة في العلاقات. ولذا يتنازل هؤلاء عن حقوقهم حفظًا لصفاء قلوبهم، كما قيل: “العارف لا يرى له على أحد حقًا، ولا يشهد له على غيره فضلاً، ولذلك لا يعاتِب، ولا يطالِب، ولا يضارِب”[4].

والقلب يتطلب تعاهدًا دائمًا، ورقابة شديدة الحساسية، وعزمًا على التخلص من المشوشات، ومن خير ما يعين على ذلك: شهر التقوى (رمضان) الذي يربي ضميرَ الإنسان على التعلق بالآخرة التي لا يصلح القلب ما لم تكن غايته، كما يربيه على كثرة الضراعة، ولذلك يفرح الصالحون برمضان وينتظرونه.

ومن نافلة القول إن الأصل أن يعتني المسلم بهندامه ومظهره، فـ (إن الله جميلٌ يحب الجمال)[5]، وإن حالة “الشعث” ليست مقصودةً لشكلها ومظهرها، بل خاب وخسر من كان حظه من الحالة شكلها فحسب، (يُطيلُ السفرَ أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومَطعمُه حرام، ومَشربُه حرام، ومَلبسُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟)[6].

فالقلوب هي المعيار وعليها المدار: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)[7]، لكنه تنبيه لمن ابتُليَ بالمناصب، أو متّعه الله بالأموال، أو من أراد أن يَنتخب أعوانًا ومقربين، أن في أمثال هؤلاء الذين لا يُؤبه لهم مَن هم أهلٌ لأن يُتعلم منهم، أو يؤخذ عنهم، أو يُستعان بهم، فلا يكونوا أسرى للمتحذلقين والمتشدقين والمتفيهقين ومدّاحي أنفسهم وإنجازاتهم، والذين لا يرون إلا ذواتهم، فيَهلِكون ويُهلِكون.

وما أحوجنا في هذا الشهر الكريم إلى مراجعة قلوبنا وتعلقها، وإفراغها من الشواغل والشوارد، وملئها بالإيمان، وتعليقها بالخالق الكريم، فذلك رأس المال.


[1] معرفة الصحابة، لأبي نعيم (1/381).

[2] أخرجه الترمذي (3854)، وأخرجه مسلم (2622) دون تسمية البراء رضي الله عنه: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره). وفي رواية ضعيفة: (تَنْبُو عنه أعينُ الناس) أي: ترجع وتغض عَن النّظر إليه احتقارًا له.

[3] أخرجه البخاري (5091).

[4] مدارج السالكين، لابن القيم (1/523).

[5] أخرجه مسلم (147).

[6] أخرجه مسلم (1015).

[7] أخرجه مسلم (2564).

X