يذكرنا أسطول الصمود بقصة النفر الساعين في نقض الصحيفة التي وثق فيها أهل مكة تعاهدهم على حصار النبي صلى الله عليه وسلم مع صحبه وآله في شعب أبي طالب، وكيف أن تعاونهم بدأ بحديث أحدهم مع صاحبه، ثم طلبوا ثالثًا ورابعًا وخامسًا، وأحكموا خطتهم فنفذوا مشروعهم، وانفك الحصار الجائر الذي دام ثلاث سنين.
قديمًا شكى عمر رضي الله عنه إلى الله تعالى (جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة)، ومؤخرًا أضاف إليها أحد الحكماء: (وانفراد الذكي) الذي قد يحجبه غروره أو حسن ظنّه بعقله عن الشعور بالنقص البشري والتكامل الجماعي؛ فيزهد في الشركاء.
تطلّعات الشعوب الناهضة والبلدان المتحرّرة اليوم تفرض (واجبات كفائية) يعجز عنها الفرد مهما تألّق، بل تنكسر دونها المجموعات والجماعات الضيقة مهما كبرت، وليس لها إلا الانفتاح الـمُنصف الجالب للخبرات المحفّز للطاقات؛ حتى تكون كالجسد الواحد في التوادّ والتراحم والتعاطف والتعاون.
ومع تشظّيات المجتمع المسلم وانقساماته المذهبية والعرقية والجغرافية، وما تورثه من انكفاء منغلق وتناكف مدمّر وترهّل ضارب، فإنّ بداية التعاون الحقيقي تتمثّل في (مشروع بناء الثقة) العامل على تكسير جُدُر الانغلاق، وتحطيم أسوار القطيعة، وتبريد الأرض، وتهيئة البيئة، مرورًا بأربع مراحل تنقلنا من الانكسار إلى الانتصار بإذن العزيز الجبار.
تبدأ المرحلة الأولى: في (التعارف الجالب للتآلف)، كما يشير إليه أحد معاني حديث: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف). والله تعالى جعلنا شعوبًا وقبائل لا لنتفاخر، وإنما لنتعارف؛ لأنّه لو استقل كلّ أحد بنفسه لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التعاون والتناصر والتكامل.
يتضمن التعارف الجيد ويتطلّب مرحلة (الإصغاء المثمر للتفاكر)، حينما يستمع الشخص لمحدّثه يتفكّر في حديثه ومعلوماته وأفكاره، ويتعرف على مشاعره ودوافعه، ويتأكد من دقة فهمه لكلامه، ويتأمل في استفادته منه وشكره عليه، قبل اشتغاله بالنقد والرد، فضلاً عن الجدل والاتهام المدمّر للثقة.
بعد التفكير يأتي (الحوار الجالب للتوافق) حينما يضيء كل متحدّث لصاحبه إضاءة تساعدهما على اكتمال الصورة، وصولاً إلى الاتفاق على أهداف تعالج مشكلات عامة وتلبي احتياجات مشتركة، مع كلّ أحد بحسبه.
ثم نبلغ المرحلة الرابعة المتمثلة في (التخصص المحقق للتكامل)، حينما ننتقل من (دوائر التزاحم والتكرار والترهل والتنافس والتضارب والتقاتل) إلى (دوائر التخصص ضمن الواجبات والاحتياجات)، فتُسدّ الثغور، وترتسم مصفوفة التكامل، ويتأهل المجتمع لقيادة نفسه بنفسه حين يستقرّ الميزان، ويعترف الجميع للجميع بحسناتهم وإنجازاتهم، رغم اختلافاتهم وتنوع مدارسهم وجماعاتهم.
(رباعية بناء الثقة) تمثل محفظة مشاريع وبنك أهداف لمؤسسات تخصصية مبتكرة عديدة، لا يبصرها إلا مَن يفقه التعاون بصورته الكاملة، فيرى من بعيد صورة الإنجازات التاريخية القادمة التي يحسبها الغافلون ضربًا من الخيال، أو خرقًا للعادات، أو خطة محكمة للأعداء!
لكن بناء الثقة يبدأ بضبط المشاعر بالوحي الطاهر.
وهكذا تأتي الآية الكريمة الآمرة بالتعاون على البر والتقوى في سياق حرمة التحامل على الخصوم، ومنع العصبية على الخطأ، ونكارة التضافر على الظلم انتقامًا من الخصوم: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]. فهي دعوة إلى لزوم إنصاف الأعداء مهما فعلوا، ومنع ظلمهم مهما أبغضناهم؛ لأجل أن يستقيم ميزان العدل فيما بيننا، وتنشأ نفسية (المعاونة) محل (نفسية المناكفة).
د. خير الله طالب


