يردِّد البعض مقولات يظنُّ فيها نصرةً للإسلام، أو دفاعًا عنه، أو التقاءً مع مشتركاتٍ إنسانية مع غير المسلمين، كمقولة: إنه ليس فيه نظامٌ للحكم، دون فحصٍ لهذه المقولة أو نظرٍ في مدى صحَّتها، أو الوعي بمآلاتها ونتائجها.
مدخل:
من العبارات التي يردّدها البعض في الحديث عن المسائل السياسية: أنّ الشريعة الإسلامية لم تأت بنظام محدد للحكم، وإنّما جاءت بمبادئ عامّة، وقواعد كلّية، وخطوط عريضة وقيم ذات صبغة إنسانية، والمسلمون طوال تاريخهم لم يهتدوا لنموذج محدّد للحكم الرشيد؛ مما يجعل الباب مفتوحًا للبحث عن نظام مناسب للحكم من الأنظمة التي تتوصّل لها البشرية، وأنَّ أيّ نظام يحقّق تلك المبادئ والقيم فهو نظام إسلامي شرعي.
ويستدلّون على ذلك: بأنّ العديد من المكونات التي تدخل في “نظام الحكم” -كالشورى وأهل الحلّ والعقد- بقي غامض المعنى والمدلول والتطبيق[1]؛ بسبب عدم وجود مؤسّسات خاصّة به، أو تفاصيل لعمله في النصوص الشرعية، بالإضافة لتوقّف العمل به أو عدم ظهور أثره في أزمنة كثيرة على مرّ التاريخ؛ مما يجعله ضمن نطاق المبادئ العامة والقيم والقواعد الكلّية، لا النظام.
والمقالة التي بين أيدينا لمناقشة هذه المقولة.
المقصود بالنظام في السياسة:
يُطلق مصطلح النظام السياسي ويقصد به أحد ثلاثة أمور[2]:
الأول: مجموعة الأحكام التي يتّفق شعب ما على الالتزام بها وتنفيذها لتنظيم حياتهم المشتركة.
الثاني: مجموعة المؤسّسات السياسية التي تترابط فيما بينها وتكوّن الجهاز التنفيذي في الدول بما يشمله من أجهزة تشريعية ورقابية وقضائية وتنظّم عملها.
والنظام السياسي بهذا يشمل جميع المسائل الدستورية والقانونية والمؤسساتية، بل والمبادئ والأعراف الاجتماعية والاقتصادية، فهو “مجموعة تفاعلات، وشبكة معقّدة من العلاقات الإنسانية تتضمّن عناصر القوّة أو السلطة أو الحكم”[3].
الثالث: حيث يَقصد به البعض القوانين والتشريعات التي تصدرها المؤسّسات الحكومية أو غير الحكومية وتطبّقها لضبط وتنظيم مختلف الأعمال والسلوكيات. وهي ما يُطلق عليها اسم الأنظمة أو التنظيمات، فيقال: نظام التأمين الصحي، ونظام العمل، ونظام الإقامة والجنسية، ونحو ذلك.
وقد امتدّت هذه التنظيمات لتشمل مختلف جوانب الحياة، فلا تكاد توجد مؤسّسة مهما صغرت أو كان نشاطها إلا وتحوي أنظمة ولوائح تنظّم أعمالها وأوضاعها. ولعل شيوع هذه التنظيمات من أوجه تميّز هذا العصر عما سبقه من العصور في أمور الإدارة.
من كمال الشريعة وجمال بنيانها؛ أنّ ما كان متغيرًا بتغيّر الزمان والمكان والأحوال فقد جاءت به الشريعة بإجمالٍ دون تفصيل، ووضعت له قواعدَ وأُطرًا عامّة، وتركت تفاصيله للناس، والتنظيماتُ والقوانينُ الإجرائية التفصيلية هي من هذا القبيل
ما نوع “النظام” الذي ينفونه عن الإسلام؟
مقولة: “إنّه ليس في الإسلام نظام حكم” تحتمل عدّة معانٍ:
المعنى الأول: أن يقصدوا بالنظام: القوانين والأنظمة الإجرائية والأمور الإدارية التي تُفصّل عمل المؤسّسات والوزارات ومختلف مفاصل الدولة، مثل: نظام التعليم، ونظام العمل، ونظام المرافعات القضائية، ونظام المرور، ونحو ذلك.
وبهذا المعنى: لا تُوجد قوانين إجرائية تفصيلية تنفيذية في الإسلام، بل ولا في غيره من أنظمة الحكم الوضعية كالأنظمة الديمقراطية أو الشمولية، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو القضاء وغيرها؛ لأنّ الأنظمة الإجرائية تتغيّر بتغيّر الظروف والأحوال وأوضاع الناس، فوضع قالب معيّن للناس في شؤون حياتهم لا يمكن أن يناسب إلا جيلاً أو جيلين، وفي أماكن محدودة، بينما يكفي وجود أسس وقواعد وتشريعات عامّة يتحقّق بها المقصود، وهو ما جاء به الإسلام.
وفي المناظرة الشهيرة بين ابن عقيل وأحد الفقهاء قال ابن عقيل: «إن أردت بقولك “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة»، ثم علَّق عليها ابن القيم رحمه الله تعليقًا مهمًّا مؤيدًا هذا المعنى وشارحًا له[4].
والشاهد: أنّ عبارة (لا سياسة فيما خالف الشرع) تترك مساحة واسعة للاجتهاد والتطوير في المستقبل عند تبدّل الظروف وتجدّد الأحداث، أمّا عبارة (لا سياسة إلا ما نطق به الشرع) فإنّها لا تراعي ذلك.
وهذا من كمال الشريعة وجمال بنيانها؛ فإنّ ما كان متغيرًا بتغيّر الزمان والمكان والأحوال جاءت به الشريعة بإجمال دون تفصيل، ووضعت له قواعدَ وأطرًا عامّة، وتركت تفاصيلها للناس، والتنظيماتُ والقوانينُ الإجرائية التفصيلية هي من هذا القبيل.
ومن أمثلة ما يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والأحوال: تنظيم عملية اختيار وتعيين الحاكم، وتنظيم عمل مؤسّسات الحكم، ونحوها.
المعنى الثاني: أن يقصدوا بالنظام: المرتكزات العامة، والتشريعات والقوانين الأساسية التي تسير عليها الدولة في كافّة مفاصلها، كالتشريعات الاقتصادية والقضائية والجنائية ونحوها، فمَن نفى وجود نظام في الإسلام بهذا المعنى فهو غير مدرك لحقيقة الشريعة الإسلامية ومضامينها!
فقد جاءت الشريعة بنظام متكامل للحياة الإنسانية، يشمل جميع الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها، ففي الشريعة نظام للعلاقة بين الناس على اختلاف أحوالهم، ونظام للأموال وتداولها، ونظام للجنايات والعقوبات…إلخ، وفيها نظام يحدّد الأُطر العامّة لإدارة ذلك كلّه من العدل والشورى وغيرهما، وتركت مجالاً للاجتهاد في تفاصيل هذه النُظُم بحسب تغير الزمان والمكان والحال.
على أنّ ما تركت الشريعة تفصيله فهو من الشريعة كذلك؛ إذ إنّ المسكوت عنه لم يتركه الله تعالى جهلاً به ولا نسيانًا، بل ترك تفصيل أحكامه رحمة بالناس ليجتهدوا فيها وفق الضوابط الشرعية العامة عند الحاجة إليها، (وسَكَتَ عن أشياءَ رحمةً لَكُم غيرَ نسيانٍ)، فحقيقة الاجتهاد في هذا المباح أنّه داخل في عبودية الله تعالى والعمل بشرعه إلى جانب العمل بالأوامر والامتناع عن النواهي؛ فهو الذي أتاح له حرّية الاختيار شرعًا وقدرًا.
وهذا لا يعني خلوّ الشريعة من تشريعات وقوانين جزئية تفصيلية ثابتة لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان والحال؛ لارتباطها المباشر بأصول الحكم في الإسلام والذي تتحقّق به العدالة ومقاصد التشريع الأخرى، ففي الإمامة وضعت شروطًا للإمام ومنعت تولّي غير المسلم للولايات العامة. وفي القضاء بيّنت وسائل الإثبات وصلاحيات القاضي وخصوصياته. وفي العلاقات الدولية أباحت المعاهدات وإعطاء الأمان والدخول بتحالفات بشروط. وفي الموارد المالية فرضت الزكاة على المسلمين والجزية على غيرهم، ونظّمت بيت المال، وموارده ومصادره. وفي باب الوظائف اشترطت تعيين الأكفأ، ومنعت قبول الموظف للهدايا. وفي باب الرقابة على السوق حرّمت الاحتكار ومنعت التسعير إلّا في نطاق معيّن. وفي باب العقوبة سنّت عقوبات مقدّرة كالحدود والقصاص، وتركت باب التعزير في غيرها لاجتهاد القاضي. وفي باب الجهاد نظّمت الغنائم وحدّدت موجبات الجهاد وأحكام التعامل مع الأسرى وأموال الحربيين. وفي المواطنة حدّدت علاقة المسلمين بغيرهم من أهل الذمّة، وحقوق وواجبات أهل الذمّة. هذه جملة من الأبواب، مثّلنا لكلّ باب برموزِ مسائلَ منها، وهذه المسائل موضَّحة مؤصَّلة في النصوص الشرعية، وقد عمد أهل العلم إلى ترتيبها وتقعيدها وشرحها في كتب السِّيَر وشروح الأحاديث والتفاسير والكتب الفقهية، ثم أُفردت بمؤلفاتٍ خاصّة بالسياسة. ثم يأتي من يقول: لا يوجد نظام سياسي في الإسلام!
تركت الشريعة للناس مجالاً للاجتهاد في تفاصيل الأنظمة وقوانينها الإجرائية بحسب تغيُّر الزمان والمكان والحال رحمةً بهم، وما تركت تفصيلَه فهو من الشريعة كذلك؛ فحقيقة الاجتهاد أنّه داخل في عبودية الله تعالى والعمل بشرعه؛ فهو الذي أتاح له حرّية الاختيار شرعًا وقدرًا
إنّ مجرّد القول بأنّ الشريعة الإسلامية لم تأت بنظام حكم واضح لا يعدو كونه شبهة لا أساس لها من الصحّة، أسهم في بثّها وترويجها المستشرقون الذين تجاهلوا الحضارة الإسلامية التي امتدت أربعة عشر قرنًا من الزمان، والدولَ القوية التي نشأت خلالها وسادت جزءًا كبيرًا من جغرافيا العالم، لدرجة أنّ الجامعات والمناهج التي تدرِّس النظريات والنظم السياسية اليوم تنتقل من النظريات السياسية التي كانت في حضارات الهند ومصر وفارس واليونان إلى النظرية السياسية في أوروبا متجاوزة النظرية السياسية في الإسلام؛ إمعانًا في تجاهلها والغضّ منها واستبعادها[5].
المعنى الثالث: أن يقصدوا بالنظام مؤسسات الدولة المختلفة، كمؤسسة الحكم، ومؤسسة الجيش، ومؤسسة الاقتصاد، ونحوها، ونفي وجودها غير صحيح أيضًا، فهذه المؤسسات موجودة منذ فجر الحضارة الإسلامية وإن لم تسمّ بالأسماء الجديدة المستخدمة اليوم.
على أنّ النظام بهذا المعنى هو في الحقيقة من “مسائل التدبير” كما كان يسمّيها الفقهاء، وهي خاضعة للأصول العامّة التي قام عليها نظام الحكم في الإسلام، ومتروكة في تفاصيلها لما يستجدّ للمسلمين ويحتاجونه؛ لذا فإنّ الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه والذي ابتدأ حكمه بعد وفاة النبي ﷺ بأقلّ من ثلاث سنوات يطوّر من النُظُم الإدارية والمالية والعسكرية للحكم وينشئ الدواوين، ويطوّر نظامه استجابة لتوسع الدولة وحجمها، مستفيدًا من تجارب الآخرين ومستندًا إلى أصول ومبادئ نظام الحكم في الإسلام.
مسألة آلية اختيار الحاكم، وتحديد مدّة حكمه، وأمثالها، هي من المسائل التنظيمية الإجرائية التي تركتها الشريعة لاختيار الناس، فلو قيل: لا يوجد في الشريعة آليةٌ معيّنةٌ واجبة الاتِّباع لاختيار الحاكم وتنصيبه لكان الكلام صحيحًا، أمّا قولهم: إنّه لا يوجد نظام للحكم في الإسلام فهو خطأ واضح
خطأ في تصور المسائل المتعلّقة بالحاكم:
كثير ممن يقولون: إنّه لا يوجد نظام حكم في الإسلام، يقصدون به مسائل تتعلق باختيار (أو انتخاب) الحاكم، وآليَّتها، ومدّة حكمه، وتسمية منصبه هل هو رئيس أو أمير أو غير ذلك؟ ويقصدون من هذا النفي: أنّه لم يأت في الإسلام توضيحٌ لهذه المسائل وتفصيلٌ لها.
والناظر في هذه المسائل يجد أنّها مسائلُ فرعيةٌ ترجع لأصولٍ أكبرَ وأعمّ منها؛ فالأصول الكبيرة التي تتفرّعُ عنها هذه المسائل هي ما يُعرف في الفقه باسم “أحكام الإمامة”، وهذه الأحكام تتعلّق بشروط الحاكم وطريقة اختياره ومسائل الشورى وغيرها. فنفيُ الأصل العام والنظام بأكمله والمسائل المتعلقة به بناء على حديث عن أجزاء فرعيّة حادثة يمكن للعلماء أن يجتهدوا في بيان الحكم فيها لا يخلو من خلطٍ وجهل كبيرين!
فلو قال هؤلاء: إنّه لا يوجد في الشريعة آليةٌ معيّنةٌ واجبة الاتِّباع لاختيار الحاكم وتنصيبه لكان كلامهم صحيحًا، أمّا قولهم: إنّه لا يوجد نظام للحكم في الإسلام فهو خطأ واضح.
ثمّ إنّ هذه المسائل: (آلية اختيار الحاكم، مدّة حكم، تسمية منصبه…إلخ) هي من المسائل التنظيمية الإجرائية التي سبق الحديث عنها بالمعنى الأول من معاني النظام، وقد تركتها الشريعة للناس لينظروا فيها ويختاروا الأنسب والأصلح لهم حسب أحوالهم وزمانهم، أمّا المسائل التشريعية التنظيمية العامّة؛ فقد وضعت أسسها الشريعة ولم تتركها لاجتهادات الناس ومرئياتهم، ومن هذه الأسس:
– الشروط التي ينبغي أن تتوفّر في الحاكم حتى تصحّ توليته.
– أن يكون اختيار الحاكم برغبة الأمّة وقرارها مع إعمال الشورى، وتحريم التغلّب على الحكم.
– حقوق وواجبات الحاكم والرعية.
– الأحكام المتعلّقة بتصرّفات الحاكم وانتقاله من العدل إلى الجَور، ومن الاستقامة إلى المعصية، ومن الإيمان إلى الكفر، وكيفية التعامل معه من: مناصحة واحتساب وعزل.
ونحو ذلك..
أما المسائل التفصيلية الإجرائية لكلٍّ منها فلم تنصّ الشريعة عليها، وإنّما تركتها لاجتهاد الناس واختيارهم واتفاقهم.
وليس هذا بدعًا في السياسة، وإنّما هو عامّ في جميع الأنظمة؛ ففي المعاملات المالية الاقتصادية -مثلاً- لم يُفصِّل الشرع في أنواع المعاملات المباحة لكثرة أنواعها وتجدُّدها عبر الأزمنة والأحوال، وإنّما اكتفى بوضع قواعد ناظمة لهذه المعاملات، ثم جعل القاعدة الشرعية العامّة فيما يَستجِدُّ منها: الحِل والإباحة، مما مكَّن المسلمين في العصور اللاحقة من إعمال الاجتهاد والقياس على آلاف المعاملات، وإصدار التنظيمات التفصيلية لها، ولا يمكن لأحد بناءً على ما سبق أن ينفي وجود نظام اقتصادي إسلامي! وعلى هذا يمكن القياس على بقية الأنظمة (الاجتماعية، والقضائية، وغيرها). فجعْلُهم عدمَ تشريعِ هذه الإجراءات التفصيلية والنصِّ عليها دليلاً على عدم وجود نظام في الإسلام خطأٌ بيّنٌ.
ليس الأمر بالنسبة للمسلمين في موافقة الأمم الأخرى بعموم مبادئ العدل أو الحرية أو غيرها، وإنّما في التشريعات والأحكام المفسّرة والمنظمة لهذ المبادئ، والتي تُميِّز الأمم عن بعضها، وترسم هوياتها الخاصة بها
مبادئ وكليات لا تشريعات!
يذكر بعض من يُردد مقولة: “أنّه لا نظام سياسي في الإسلام” أنّ غاية ما جاء به الإسلام إنّما هو مبادئ وقيمٌ عامّة وكلّيات، من غير تفصيلات أو تشريعات جزئية، ومن هذه المبادئ والقيم المشتركة إنسانيًا: العدالة، والحرية، ونحوها.
وهذا القول غير صحيح لأمور:
1- أنّ هذا الادّعاء قائم على تصوّر أنّ المبادئ مجرّد عناوين عامّة لا تحوي تشريعات تفصيلية، وهذا خطأ واضح؛ إذ لا يمكن أن يُوجد نظام -ولو كان من صنع البشر- يحتوي على مبادئ فقط دون تفاصيل تشريعية أو قانونية، فهذه المبادئ والقيم لها تفسير مختلف عند كلّ أمّة، ولها في كلّ نظام قوانين تفصلها وتوضحها، وبذلك تختلف من أمّة لأخرى.
لذا فليس الأمر بالنسبة للمسلمين في موافقة الأمم الأخرى بمبدأ العدل ولا بمبدأ الحرية ولا غيرها، وإنّما الأمر في القوانين والأحكام المفسّرة والمنظمة لهذ المبادئ، والتي تُميِّز الأمم عن بعضها، وترسم هوياتها الخاصة بها.
فمن المتفق عليه أنّ هناك أحكامًا شرعيةً في سياق العدل مرفوضةً في ثقافات أخرى جملة وتفصيلاً، ومثلها في ميدان الحرّيات والحقوق؛ فكيف السبيل إلى تطبيق المبادئ والقيم؟ فإن قلنا: بما ينتجه البشر في تجاربهم وبما يبدعونه في تشريعاتهم فهذا خروج عن الشريعة، وإن قلنا: بأنّه لا سبيل إلى ذلك إلا بما ورد في الشريعة فقد بطل الادعاء من أصله ولزم القول الذي لا محيد عنه وهو أنّ الإسلام لم يقف فقط عند حدود المبادئ العامة والقيم الكلية[6].
فضلاً عن أنّ العباد مخاطبون بفروع الشريعة ومُتَعبَّدُون بأحكامها لا بمبادئها العامة ومقاصدها.
2- أنّ هذا الادّعاء هو تصوّر مغلوط لا يدعمه الفهم الصحيح، فالشريعة الإسلامية جاءت بأنظمة في مختلف جوانب الحياة: القضائية والأسرية والمالية وغير ذلك، وهي في غاية التنظيم والتقسيم والتقعيد، وفتحت باب الاجتهاد في جوانب منها مراعاة للمستجدات والحوادث كما سبق بيانه، ولم تكتف بمبادئ أو قيم عامة خالية من التشريعات والأنظمة.
3- على فرض أنّ الإسلام جاء بمبادئ وقيم عامة، فإنّ هذا يقتضي أن يجتهد المسلمون في استنباط تشريعات وتنظيمات من عموم الأدلة والأحكام الإسلامية لتطبيقها، وحينها ستكون تلك التشريعات والأنظمة من الشريعة بطريق الاستنباط وإن لم تأت بطريق النص؛ وذلك أنّ لكلِّ نظام تشريعاته وتنظيماته الخاصّة به التي توضّحه وتبيّن كيفية تحقيقه وتطبيقه، والتي تؤخذ من منظومته الفكرية والأخلاقية، وتكون متممّة له شارحة موضّحة، منسجمة مع بقية الأحكام والتشريعات فيه.
فمبادئ الرأسمالية لها أنظمةٌ وتشريعاتٌ وقوانينُ مأخوذةٌ من النظام الرأسمالي، وكذلك الشيوعية وغيرها، ومبادئ الإسلام وقيمه لابدّ أن تكون تشريعاتُها وتنظيماتُها وقوانُينها مأخوذةً من ذات الشريعة، ولا يصحّ بحالٍ من الأحوال أن تُؤخذ من غيرها، وإلّا كانت منفصلة عنها، غير محقّقة لها.
4- بهذا الادعاء ستكون سائر الأنظمة الوضعية والعلمانية “شرعية” ومرضية عند الله تعالى! فالمناداة بالعدل والكرامة ومنع الظلم والحرية والمساواة وغيرها تقول بها مختلف الأنظمة السياسة وتدّعي تطبيقها، على ما بينها من تناقضات واختلافات، فما الفرق حينها بين النظام الإسلامي وسواه من الأنظمة العَلمانية كالشيوعية وغيرها؟
فما الذي يمنع المسلم من التسليم للشيوعية بشقّها الاقتصادي رغم تأكيدها على تحقيق العدل والمساواة والعدالة الاجتماعية؟ وما الذي يمنعه من تقبّل العلمانية -على الصعيد الأسري- رغم زعمها الحرية والمساواة؟
5- تؤدّي هذه المقولة إلى تعطيل النصوص الشرعية وما فيها من أحكام، وتفريغها من محتواها؛ لأنّه إن كان الهدف تحقيق هذه المبادئ والقيم ولم تأت الشريعة بتفاصيلها كما يُقال، فيحقّ لأيٍّ كان أن يحقّق هذه المبادئ بالأنظمة والتشريعات التي يراها، وحينها لن يكون ملزمًا بالأحكام الشرعية الواردة، وهذا عين قاعدة: (الغاية تبرر الوسيلة).
وستكون هذه الأنظمة الوضعية محقّقة لأعظم مقاصد الشريعة وغاياتها! وهذه دعوة لإلغاء الشريعة والخروج عنها باسم الشريعة!
وعلى سبيل المثال: فلو اغتصب شخص السلطة متغلبًا رغمًا عن إرادة الأمة ورضاها، ثم حكم بالعدل بين الناس، فينبغي أن يكون عمله بهذا المقياس شرعيًا صحيحًا لأنه حقق الهدف المطلوب ألا وهو إقامة العدل، بينما هو في الشرع آثم لتغلبه!
من أهم ما يُميِّز النظام السياسي الإسلامي الأساس الذي يقوم عليه: وهو العبودية لله تعالى، وإدراك غاية وجوده واستخلافه في الدنيا، فهو ليس جملةً من الأوامر والنواهي فحسب، بل رؤيةٌ شاملةٌ للوجود، ترسم للإنسان مكانته ودوره في الكون، وحدود علاقته بما حوله
القيم الجوهرية للنظام السياسي الإسلامي:
من أهم ما يُميِّز النظام السياسي الإسلامي هو الأساس الذي يقوم عليه: العبودية لله تعالى في هذه الحياة، وإدراك غاية وجوده واستخلافه في الدنيا، فهو ليس جملة من الأوامر والنواهي فحسب، بل هي رؤية شاملة للوجود، ترسم للإنسان مكانته ودوره في الكون واختصاصه فيه، وحدود علاقته بما حوله، مما ينعكس على تعامله مع التوجيهات الربانية التي تأتيه.
إن إدراك المسلم لهذا التصوّر هو الذي يهيئه لبناء الأمّة الربانية، ويعطيه القدرة على القيام برسالته إلى البشرية جمعاء.
ومن هذا التصوّر تنبثق بقية المبادئ والقيم الخاصّة التي تميّزه عن غيره من الأنظمة، والتي تعدّ جوهره والأساس الذي يقوم عليه، كسيادة الشريعة، ووحدة الأمّة، وعالمية الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد ونحوها.
وهذه القيم الجوهرية هي الحاكمة والشارحة والمفصّلة للمبادئ والقيم التي يشترك النظام السياسي الإسلامي مع غيره من الأنظمة شكليًا في خطوطها العامّة؛ ولكنه يختلف معها في الحقيقة والتفاصيل، ومن جهة المراد النهائي منها وهو تحقيق العبودية لله عز وجل وسعادة البشر في معاشهم ومعادهم، مما يوضّح الاختلاف الكبير بين هذه الأنظمة، وفي تطبيقات التشريعات والقوانين التي تندرج تحتها.
ولا يصح بحال من الأحوال إغفال هذا التصوّر أو تهميشه، فلا بد من اعتبار مرجعية الشريعة في كلّ شيء، قال ابن تيمية: «ما من أمّة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى، كسوالف البادية، وكأوامر المطاعين فيهم، ويرون أنّ هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة»[7].
وأما العبارة المنتشرة بقولهم: (متى وجدت المصلحة فثَمَّ شرع الله)، أو (إِذا ظهرت أماراتُ العَدلِ وأسفَرَ وجهُه بأي طريقٍ كان فثَمَّ شرعُ الله ودينُه)[8] فهي من العبارات المشكلة التي لا بدّ من ضبط معناها.
قال الشيخ القرضاوي: «إذا كان بعض الناس يقول: حيث توجد المصلحة فثَمَّ شرع الله، فهذا صحيح فيما سكت عنه الشارع، وتَرَكَه لاجتهادنا وعقولنا. أما فيما عدا ذلك فالصواب أن نقول: حيث يوجد شرع الله فَثَمَّ المصلحة»[9].
ما صحّة القول بأنّه لا يوجد برنامج سياسي لمن يقولون بوجود نظام سياسي في الإسلام؟
مما يستدلّ به مَن يطلق هذه المقولة عن نظام الحكم في الإسلام: أنّه لا يوجد برنامج سياسي واضح ومحدّد لمن يقولون بوجود نظام سياسي في الإسلام من الجماعات والأحزاب، وأنَّهم لا يملكون مشروعًا ولا خطّةً للاقتصاد والتعليم والخدمات وغيرها، وأنَّهم يختلفون بينهم في ذلك اختلافًا كثيرًا، وهذا يدلّ على أنّه لا يوجد نظام إسلامي للحكم متفق عليه!
ويجاب عن هذا: بأنّ البرنامج السياسي للحكم داخل ضمن المعنى الأول للنظام والذي سبق الحديث عنه، وهو ما تركته الشريعة لاجتهاد الناس، ثم إنّ عدم وجود برنامج سياسي محدّد عند حزب أو جماعة ما لا يعني عدم وجود نظام فيها؛ فالاختلافات بين برامج هذه الأحزاب والجماعات هي اختلافات إجرائية مما لا يخلو منه حزب ولا جماعة في أيّ مكان في العالم، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تتطابق أو تتماثل فيها.
فالأحزاب والجماعات وبرامجها السياسية هي من ضمن الأساليب والوسائل التي يدخلها الاجتهاد ويحكمها الوسع والاستطاعة، وهي مما يتنافس به الناس ويتباينون، ويلجؤون فيه لسلطان الأمة للحسم، وليست هي أحكام الشريعة نفسها، ولا هي نظامها الرباني.
ثم إنّ البرامج السياسية تكتب عادةً في سياقات محدّدة عند وجود دول مستقرّة وتداول للحكم -أي أنها وليدةٌ للحاجة الواقعية- وكتابتها خارج تلك الحاجة لا يخلو أن يكون ترفًا فكريًّا من جهة أو مثاليًّا غير واقعي من جهة أخرى.
بل إنّ البرامج السياسية في الدول المستقرّة تتجدّد عند الاستحقاقات الانتخابية بسبب تغيّر الظروف والأوضاع، بغضّ النظر عن مرجعيتها الفكرية والمبادئ الجوهرية التي تنبثق عنها.
دعوى عدم وجود نظام حكم في الإسلام تؤدي إلى نزع حق التشريع من الله وإسناده للبشر، والعودة على الأحكام الشرعية بالتغيير أو التعطيل، واستجلاب القوانين الوضعية بزعم تحقيق مقاصد الشريعة من مبادئه العامة، وهذا هو عين الرضوخ للهجمة العَلمانية على تشريعات الإسلام
خطورة دعوى أنّه ليس في الإسلام نظام حكم:
تتمثل خطورة هذه الدعوى في عدة أمور:
1- أنّها تنزع عن السياسة في الإسلام أهمّ خصائصها وهي حقّ التشريع لربّ العالمين، وتسنده إلى البشر، وتدعو إلى تأسيس الأحكام على الاختيارات البشرية زاعمة بأنّها أحكام شرعية لدخولها تحت مبادئ عامة وغايات شرعية، وهذا من تبديل شرع الله.
2- العودة على كثير من الأحكام الشرعية بالتغيير أو التعطيل بحجّة التجديد أو مسايرة العصر أو الاستفادة من الآخرين، ودعاوى الالتقاء مع المشتركات الإنسانية في المبادئ والقيم العامة، وتفريغ أدلة وجوب الرد لله ورسوله من حقيقها.
3- إحداث تغييرات في البنية التشريعية والقانونية للنظام السياسي وما يتفرّع عنه، وتغيير في البنية الثقافية للمجتمع وهويته بسبب تغيير هذه الأحكام والتشريعات، مما يؤدّي إلى إحداث تغييرات حضارية ورسالية.
4- أمّا أخطر ما في هذا الادّعاء فهو: الرضوخ للهجمة العَلمانية على الإسلام وتشريعاته[10]، أو الإعجاب بأنظمتها وقوانينها، مما يدفع عددًا من المسلمين لترديد هذه الدعوى، وجعل تشريعات الإسلام عناوين عامّة مع تفريغها من مضامينها التشريعية، لتلتقي مع العناوين العَلمانية، ثمّ تستجلب بعد ذلك القوانين والتشريعات الوضعية، بزعم أنّ المهمّ هو تحقيق مقاصد الشريعة في تلك المبادئ! وكفى بذلك تطويعًا للدين وتكييفًا للثقافة المعاصرة.
5- إنّ مسايرة الأنظمة الأخرى ومجاراتها في الأسس النظرية والتشريعات التطبيقية، والتحوّل من موقع التصدير والتأثير إلى الاستيراد والتأثّر لا يبني نموذجًا حضاريًا، ولا يسهم في تقديم حلول.
وختامًا:
فإن من مقتضيات الإيمان بكمال الإسلام، وشمول تشريعاته لكافة جوانب الحياة وما يحتاجه الإنسان في أمور الدين والدنيا على المستوى الفردي والأسري والمجتمعي، حتى في الأمور شديدة الخصوصية، من الطهارة، والنوم، وتناول الطعام، والمعاملات، والآداب العامة، والحياة الأسرية، والعسكرية، وغيرها، أن يكون لهم نظام سياسي يحكم جميع ذلك وينظمه، ويهيمن عليه ويضبطه.
ومن غير المقبول أن تكون رسالة الإسلام هداية العالم وإخراجه من ظلام التيه إلى نور الإسلام، وقيادته لتحقيق عبودية الله تعالى، والشهادة عليه، ألا يكون لهم نظام سياسي متميز عن تلك الأمم الخارجة عن عبودية الله تعالى وشرعه، وأن يتركهم عالة على هذه الأمة أو تلك لاقتباس نظام يحكمها ويضبط أمورها[11].
إنَّ جعلَ أمور الحكم من اختصاص الله تعالى والأمر بالرجوع إليه فيها كمثل قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40] وقوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ [الأنعام: 57]، وقوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يوسف: 67] ، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 26] وقوله تعالى: ﴿لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 70، 88] يقتضي ألا يترك دون نظام يوضحه ويبينه، وإلا كان ذلك نقصًا ينزَّه عنه الشرعُ الحكيم، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].
[1] من أشهر من تحدّث عن ذلك: علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) في العديد من المواضع، واصفًا ذلك بالغموض والإبهام، و(الفطرية). كما قرّر ذلك: محمد عابد الجابري في كتاب (الدين والدولة وتطبيق الشريعة)، ص (27)، مدّعيًا أنّ النموذج الذي أقامه هو (الأمير على الحرب)!
[2] ينظر: الأنظمة السياسية والدستورية المشتركة، د. حسان العناني، ص (12-14)، والنظم السياسية الحديثة والسياسات العامة، د. ثامر الخزرجي، ص (21-27)، ونظام الحكم في الإسلام، د. محمد العربي، ص (21).
[3] أصول النظم السياسية المقارنة، د. كمال المنوفي، ص (40).
[4] الطرق الحكمية، لابن القيم (1/29).
[5] حيث يذكر بعض من يقول بأنه لا نظام حكم في الإسلام بأن السياسة الشرعية ظلت في تاريخنا الإسلامي دون تطوير لاصطدامها برغبات الحكام، وعدم قدرة الفقهاء على تطوير الأساس النظري للنظام السياسي الإسلامي، ومع اختلاف أوضاع هذا الزمان وظروفه عن الأزمنة السابقة، وتوفر خبرات سياسية كثيفة وراقية لدى العالم؛ فإنه لا بد لأمتنا أن تستفيد من تلك الخبرة في تطوير حياتها السياسية عن طريق الاجتهاد والاقتباس!
[6] شبهات حول الدولة الإسلامية، د. عطية عدلان، تحت الإعداد.
[7] منهاج السنة النبوية (5/130).
[8] الطرق الحكمية لابن القيم (1/13).
[9] ينظر: دراسة في فقه مقاصد الشريعة، للقرضاوي، ص (115-116).
[10] تترافق هذه الهجمة مع تأثر بتفسيرات علمانية للنصوص الشرعية، يقودها الفهم المغلوط لحديث: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم)، مجاراة للمقولة الإنجيلية “دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر”.
[11] في مثل هذا المقال المختصر يتعذَّر استعراض الأسس والقواعد العامة لنظام الحكم في الإسلام، والتي يمكن الرجوع إليها في دراسات مفصلة عن ذلك، مثل: النظرية العامة لنظام الحكم في الإسلام، د. عطية عدلان.
د. عماد الدين خيتي
باحث ومتخصص في الدراسات الإسلامية، نائب رئيس مجلس الإفتاء في المجلس الإسلامي السوري.
لتحميل المقال اضغط [هنا]
1 تعليق
التعليقات مغلقة