بين نزوع السلطة إلى التمدّد والسيطرة، وحاجة المجتمع إلى قوة تصون حقوقه، يأتي دور المجتمع المدني كقوة ناعمة تقوم بهذا الدور.
يستعرض المقال نماذج من تونس وجنوب إفريقيا، ويتوقف عند التجربة السورية بعد الثورة، ليكشف كيف تحوّل العمل المدني من هامشٍ مقموع إلى طاقة فاعلة، ويخلص إلى أن المجتمعات القوية هي التي تمتلك مؤسسات مستقلة قادرة على المساءلة والمشاركة.
تمهيد:
لا تكاد تتوقف النقاشات حول شكل العلاقة الأنجع بين السلطة والمجتمع؛ ففي حين تميل أي سلطة تقريبًا بطبيعتها إلى التوسع والسيطرة، يسعى المجتمع إلى ضمان مصالحه المتنوعة وصون حقوقه الأساسية، ومن هنا برزت الحاجة إلى قوى وسيطة تُنظم المجال العام وتمنع اختزال الدولة في جهاز حاكم متفرّد بالقرار، ولذلك ظهر مفهوم المجتمع المدني باعتباره إطارًا جامعًا لمؤسسات وتنظيمات مستقلة تعكس تنوع المجتمع وتُعبر عن مصالحه وتفتح المجال أمام مشاركته المنظمة في الشأن العام.
فما هو المجتمع المدني؟ كيف يمكن أن يُفهم في سياقنا العربي والإسلامي؟ هل هو عنصر وافد من تجارب الغرب؟ أم إنه متجذر في تاريخنا وتجاربنا الاجتماعية؟
المجتمع المدني – تعريف:
لم يستقر الباحثون على تعريف موحَّد؛ إذ إن طبيعة كل مجتمع وخلفياته التاريخية والسياسية جعلت زاوية النظر إلى المفهوم تختلف من بلدٍ إلى آخر، ومن هنا كثرت الاجتهادات النظرية في تحديد حدوده ومجالاته، غير أن المشترك بينها جميعًا يمكن القول إنه يتمثل في النظر إلى المجتمع المدني باعتباره شبكة واسعة من الكيانات والفضاءات التي لا تنتمي مباشرة إلى أجهزة الدولة ولا تهدف إلى الربح، وتشمل الجمعيات الأهلية والخيرية، والاتحادات والنقابات المهنية، والروابط الثقافية والاجتماعية، إضافة إلى المنظمات غير الحكومية، والحركات التطوعية[1].
ويرى آخرون أن التباين في تحديد ماهية المجتمع المدني وفاعليته يرتبط في جزء كبير منه بالخلفيات الأيديولوجية والطبقية لأصحاب الرؤى، وكذلك بدرجة تقبُّلهم لوجود قوة مجتمعية قادرة على التأثير في المجال العام، أو بتقديرهم لطبيعة العلاقة المفترضة بين المجتمع والدولة[2].
لكن هذا الدور لتنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني ليس بالضرورة أن يكون إيجابيًا أو نزيهًا دائمًا؛ إذ شهدت بعض الدول العربية والإسلامية حضور منظمات تتغطّى برداء “المجتمع المدني” بينما تروّج لمشاريع أيديولوجية أو قيم مستوردة تسعى لتفكيك المجتمع وثقافته المحافظة، مثل الدفع باتجاه التطبيع مع المثلية الجنسية أو تبنّي رؤى علمانية، أو التأثُّر بالتمويل الخارجي الذي يوجّه الكيانات لخدمة مصالحه وليس بالضرورة لخدمة المجتمع[3]، وهذا ما يُثير جدلاً حول حدود المجتمع المدني، وأهمية التمييز بين ما يخدم المصلحة العامة حقًا وما يتعارض مع الهوية الجامعة أو يتحول إلى أداة نفوذ خارجي.
انطلاقًا من هذه الإشكاليات يسعى المقال إلى إبراز الدور الذي يمكن أن يؤديه المجتمع المدني كحاجز يحول دون تغوّل السلطة، ويُولي اهتمامًا خاصًا بالحالة السورية عبر ثلاث مراحل أساسية: ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة، ثم مرحلة حكم الأسد الأب والابن، وأخيرًا مرحلة ما بعد عام 2011م التي شهدت انطلاق الثورة وما تبعها من تحولات.
يبرز المجتمع المدني عادةً باعتباره قوة مضادّة ناعمة لا تملك سلطة قهرية لكنها قادرة على ممارسة ضغط مستمر يُذكّر السلطة بحدودها، فالمجتمع المدني عبر نقاباته واتحاداته ومنظماته الحقوقية والثقافية يُشكّل ما يمكن اعتباره شبكة مقاومة سلميّة تحول دون اختزال الدولة في جهاز حاكم متفرد بالقرار.
المجتمع المدني وحماية المجال العام.. دروس من تجربتَي تونس وجنوب إفريقيا:
يبرز المجتمع المدني عادةً باعتباره قوة مضادّة ناعمة لا تملك سلطة قهرية لكنها قادرة على ممارسة ضغط مستمر يُذكّر السلطة بحدودها، فالمجتمع المدني عبر نقاباته واتحاداته ومنظماته الحقوقية والثقافية يُشكّل ما يمكن اعتباره شبكة مقاومة سلميّة تحول دون اختزال الدولة في جهاز حاكم متفرد بالقرار.
وتتجلى أهمية هذا الدور في المجال الرقابي والحقوقي؛ إذ توفّر مؤسسات المجتمع المدني في البيئات الطبيعية آليات لمساءلة السلطة وكشف تجاوزاتها، كما تُسهم في ترسيخ قيم الشفافية والعدل والمحاسبة، فحين يتعرض المواطن لانتهاك أو ظلم يجد في هذه المؤسسات صوتًا يُعبِّر عنه، وفي كثير من الأحيان تفرض هذه المؤسسات على السلطة التراجع أو التعديل؛ إما عبر الضغط الإعلامي أو الحشد الشعبي أو عبر القنوات القانونية، وهذه القدرة على ضبط سلوك السلطة لا تقل أهمية عن دور السلطات الرسمية كالبرلمان أو القضاء؛ لأنها تنبع من المجتمع نفسه.
ولا يعني هذا أن وظيفة المجتمع المدني تنحصر في مواجهة التجاوزات، بل تمتد إلى بناء قنوات المشاركة وتنظيم مصالح المجتمع بشكل مؤسسي، فعندما يجد المواطن نفسه قادرًا على التعبير عن مطالبه والدفاع عن حقوقه عبر جمعيات مستقلة أو منظمات حقوقية أو هيئات ثقافية يَقِل شعوره بالاغتراب عن الدولة، وتتحول العلاقة مع السلطة إلى شراكة بدلاً من خصومة، وبذلك يصبح المجتمع المدني صمام أمان يحمي الدولة من السقوط في فخ التسلط، ويحمي المجتمع من التهميش والتفكك، ويؤسس لثقافة سياسية تقوم على التوازن والتفاعل الإيجابي.
شهد العالم نماذج متباينة لدور المجتمع المدني في مواجهة تغوّل السلطة، بين تجارب رسّخت التوازن وأخرى أخفقت في حماية المجتمع.
ففي تونس مثلاً شكّل المجتمع المدني نموذجًا بارزًا لدوره في حماية الانتقال السياسي، إذ لعب كل من الاتحاد العام للشغل والرابطة التونسية لحقوق الإنسان أدوار الوسيط بعد ثورة 2011م، وساهمت جهودهم في تجنيب البلاد منزلق الحرب الأهلية، وهو ما منحهم -مع منظمتين تونسيتين أخريين- جائزة نوبل للسلام عام 2015م[4]، غير أن هذا الدور أخذ يتراجع تدريجيًا مع اضطراب المشهد السياسي، ولا سيما بعد ما يُعرف بـ “إجراءات جويلية” عام 2021م التي اعتبرها كثيرٌ من التونسيين انقلابًا دستوريًا قاده الرئيس قيس سعيّد[5].
هذا التحول فتح الباب أمام تضييق متزايد على منظمات المجتمع المدني، وتراجع تأثيرها في ضبط التوازن بين السلطة والمجتمع، خاصة مع سعي الرئيس سعيّد إلى احتكار القرار السياسي وتقليص فضاءات المعارضة، وقد انعكس ذلك من جديد في الأزمة الحادة بين الاتحاد التونسي للشغل والرئيس سعيّد قبل أسابيع، على خلفية وقوف الاتحاد بجانب العمال والمعلمين الذين يطالبون بتحسين الأجور[6].
ورغم بقاء المشهد السياسي مضطربًا في تونس، ظل المجتمع المدني حاضرًا بصوته وفاعليته، ولم يرضخ بالكامل لضغوط السلطة، غير أن هذا الصمود الجزئي لا يُلغي حقيقة أن الضغط المستمر والقيود القانونية والسياسية قد تُضعف قدرته على التأثير الفعلي تدريجيًا، وتحدّ من فرصه في استعادة زمام المبادرة، فمثل هذه الضغوط على سبيل المثال جعلت المجتمع التونسي يتماهى مع اعتقال كبار قيادات المعارضة التونسية مثل الشيخ راشد الغنوشي.
تُعدّ جنوب أفريقيا مثالاً متكرر الاستدعاء في الأدبيات؛ لأنها أظهرت كيف يمكن للمجتمع المدني أن يتحول من قوة احتجاجية ضد الاستبداد إلى شريك فاعل في صياغة الانتقال السياسي والتشاركية، ثم إلى رقيب مستمر يحمي المجال العام من عودة السلطة إلى ممارساتها القمعية.
أما في جنوب أفريقيا فكثيرًا ما يستدل الباحثون بتجربتها كنموذج بارز في دراسة العلاقة بين المجتمع المدني والسلطة، نظرًا لكونها من التجارب القليلة التي تمكنت من الانتقال من نظام عنصري قهري إلى نظام تشاركي عبر عملية تفاوضية كان للمجتمع المدني فيها دور محوري، فقد ظهرت منذ الثمانينيات شبكات واسعة من المنظمات الأهلية والحقوقية والدينية[7]، مثل “الجبهة الديمقراطية المتحدة” التي ضمت أكثر من 400 منظمة شعبية، بينها نقابات عمالية وطلابية واتحادات نسائية، وأسهمت في تعبئة المجتمع ضد سياسات الفصل العنصري وحشد تضامن وطني واسع.
كما لعبت مؤسسات دينية وحقوقية مثل مجلس كنائس جنوب إفريقيا دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، وساهمت في صياغة اتفاقيات السلام الوطنية، والمشاركة في المفاوضات الدستورية التي أفضت إلى إنهاء الأبارتهايد[8] وبناء نظام سياسي جديد، وهو ما عزز الشرعية المحلية والدولية للعملية الانتقالية[9]، في حين استمر المجتمع المدني في ممارسة أدواره الرقابية والحقوقية؛ حيث طالبت منظمات مدنية بقدر أكبر من الشفافية في القضايا المتعلقة بالفساد والخدمات العامة، وبرزت حملات ضغط على الرئيس جاكوب زوما بسبب ملفات الفساد والسياسات الصحية، وهو ما دلّ على استمرار المجتمع المدني كقوة رقابية فاعلة حتى بعد انتهاء النضال التحرري[10].
ورغم تحديات التمويل المستقل وصعوبة التنسيق بين المنظمات الكبيرة والصغيرة، بقيت هذه المؤسسات محتفظة بجزء معتبر من استقلاليتها، قادرة على الدفاع عن الحقوق الاجتماعية والسياسية، وعلى حشد الرأي العام في قضايا العدالة والمساواة.
لذلك تُعدّ جنوب أفريقيا مثالاً متكرر الاستدعاء في الأدبيات؛ لأنها أظهرت كيف يمكن للمجتمع المدني أن يتحول من قوة احتجاجية ضد الاستبداد إلى شريك فاعل في صياغة الانتقال السياسي والتشاركية، ثم إلى رقيب مستمر يحمي المجال العام من عودة السلطة إلى ممارساتها القمعية.
المجتمع المدني السوري.. بين ذاكرة القمع وإرث الثورة:
عاش السوريون في 8 ديسمبر 2024م لحظة شعروا فيها أن صفحة جديدة قد فُتحت، وأن الفرصة باتت سانحة لبناء دولة مختلفة عن كل ما عرفوه في عقود القمع، بل مختلفة عن مرحلة الاضطرابات التي سبقت وصول البعث إلى السلطة، لذلك يثُار النقاش اليوم حول الشكل الأنسب للعلاقة بين السلطة والمجتمع، خاصة أن أي سلطة عمومًا قد تميل بطبيعتها إلى المركزية، وفي المقابل فإن المجتمع بطبيعته يسعى لأن يكون له صوت ورأي فيما يجري حوله لا سيما مع حرمان السوريين لعقود من المشاركة، ولهفتهم بأن يكون لهم دور في البناء، فضلاً عن أن التدافع الإيجابي بين الطرفين يقود إلى تعزيز صلابة الدولة، ومن هذا المنطلق يصبح استحضار المراحل التي مرّ بها المجتمع المدني في سوريا ضرورة لفهم حاضره واستشراف موقعه في مستقبل الدولة.
في الحالة السورية تحديدًا يمكن التمييز بين 3 مراحل:
1. مرحلة ما قبل وصول حزب البعث إلى السلطة:
شهدت سوريا بعد الاستقلال عام 1946م توسعًا في تأسيس الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية، مستندة إلى مناخ سياسي ودستوري سمح بالحريات العامة، فعلى سبيل المثال أُقرت في دستور 1950م نصوص ضمنت حرية تكوين الجمعيات والصحافة[11]؛ ما وفّر إطارًا قانونيًا واسعًا لتطور المجتمع المدني، وحينها برزت النقابات الطلابية والمهنية كأطر فاعلة في المجال العام، ولعبت دورًا سياسيًا وتنظيميًا ملحوظًا.
كما ازدهرت الصحافة المستقلة وتعددت المنابر الثقافية، وهو ما أسهم في تشكيل فضاء عام للنقاش الحر والتعبير عن الرأي، إضافة لذلك توسعت الجمعيات الخيرية المحلية في مجالات الصحة والتعليم والإغاثة.
لكن تلك الفترة عمومًا 1949–1958م ظلت هشّة أمام تقلبات الانقلابات العسكرية مثل انقلاب حسني الزعيم في آذار 1949م ثم انقلاب سامي الحناوي الذي أعاد الحياة الدستورية جزئيًا، ثم انقلاب أديب الشيشكلي في كانون الأول 1949م وإقامته حكمًا فرديًا استمر حتى 1954م قيّد فيه الأحزاب والنقابات وحرية الصحافة والجمعيات، وخلاله انحسر النشاط المدني لكن ظلت المقاومة حاضرة من النقابات والطلاب حتى سقوطه.
شهدت سوريا عودة برلمانية قصيرة بين (1954–1958م) ازدهرت فيها الأحزاب والصحافة والنقابات والجمعيات المدنية، وبذلك مثّلت تلك الحقبة لحظة تاريخية قصيرة في سوريا اتسمت بالتعددية المدنية والسياسية، قبل أن يبدأ التضييق الممنهج مع وصول البعث إلى السلطة عام 1963م.
2. مرحلة حكم نظام الأسد الأب والابن:
مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970م وتحوُّل النظام إلى دولة مركزية استبدادية، ضعفت استقلالية المجتمع المدني بشكل كبير؛ إذ وُضِعت معظم الجمعيات والمؤسسات تحت مراقبة صارمة من السلطة، وكان يُفرض عليها في كثير من الأحيان التبعية السياسية أو الإغلاق التام[12]، وحتى ما تأسّس من مؤسسات ثقافية ودينية وتعليمية غالبًا ما طغت عليها هيمنة السلطة بشكل واضح، حتى إن معاهد تحفيظ القرآن الكريم كانت تُنسب مباشرة إلى عائلة الأسد![13].
وفي السنوات الأولى من حكم الهارب بشار الأسد شهدت سوريا انفتاحًا نسبيًا في المجال العام وخاصة ما عُرف بـ”ربيع دمشق”، حيث نشطت بعض المنتديات السياسية والمدنية، وظهرت مبادرات فكرية واجتماعية عبّرت عن رغبة في الحريات، إلا أن هذا الحراك لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما أعاد النظام فرض سيطرته على الفضاء العام، وأغلق المنتديات، وضيّق على الجمعيات المستقلة، واعتقل عددًا من الناشطين والمثقفين، ليعود النشاط المجتمعي والسياسي إلى حالة من الانكماش تحت الرقابة الصارمة[14].
كما ساهم النظام في خلق مناخ من الشك وعدم الثقة بين أفراد المجتمع، وانتشرت ظاهرة “كتابة التقارير” والرقابة على الأنشطة، وهو ما قلَّل من قدرة هذه المؤسسات على أداء دورها الطبيعي كوسيط بين المجتمع والسلطة، ونتيجة لذلك أصبح المجتمع المدني أداة مساعدة للنظام بدلاً من أن يكون قوة مستقلة لضبط تغوّل الدولة أو الدفاع عن مصالح المواطنين.
وبهذا الشكل فقدَ المجتمع المدني السوري في عهد الأسد قوته ومصداقيته، وتحولت معظم مؤسساته إلى واجهات رمزية، ولم تعد تمثل صوت المواطنين أو قادرة على التأثير في صنع القرار؛ مما أدى إلى تراجع المشاركة الشعبية وتراكم شعور الإقصاء السياسي والاجتماعي لدى فئات واسعة من المجتمع[15].
3. مرحلة الثورة السورية:
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011م شهدت مناطق المعارضة والحواضن الثورية انفجارًا غير مسبوق في نشاط المجتمع المدني؛ حيث تأسّست عشرات المنظمات والمبادرات الأهلية التي انخرطت في مجالات التوثيق الحقوقي، والإغاثة الإنسانية، والتعليم، ودعم النازحين والمهجرين، كما لعبت هذه الكيانات دورًا رقابيًا نسبيًا في بعض المناطق، وأسهمت في تعزيز قدرة المجتمعات المحلية على إدارة شؤونها.
هذا الحراك أعاد تعريف المجتمع المدني السوري بعد عقود من تهميشه في عهد الأسد، حيث كان يُصوَّر كواجهة شكلية للسلطة، بينما برهنت المبادرات الجديدة أن السوريين قادرون على التنظيم الذاتي والمطالبة بحقوقهم والمساهمة في صياغة بدائل للحكم المحلي، وعلى الرغم من أن المناطق المحررة كانت مثقلة بالقصف والتهجير وأغرقت بموجات النزوح والمخدرات التي ضخّها النظام عمدًا لإضعافها؛ إلا أن المشهد المدني فيها ظل مختلفًا تمامًا عن مناطق سيطرته، إذ وفّرت المنظمات الناشئة شبكة دعم حيوية وملموسة للسكان، مع الإشارة هنا إلى الاختلاف عن شكل السلطات الذي كان قائمًا قياسًا مع كل منطقة، والذي يختلف عن السلطة المركزية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: تجدر هنا الإشارة إلى النشاط المجتمعي اللافت الذي برز عقب زلزال شباط 2023م في مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة آنذاك، حيث أظهرت المجتمعات المحلية قدرة عالية على التنظيم الذاتي والاستجابة السريعة رغم هشاشة البنية التحتية وقلة الموارد حينها، وحتى صعوبة الطقس والأجواء الباردة التي لا ينساها من عاش تلك اللحظات والتي لم تمنع من انطلاق عشرات المبادرات التطوعية من قِبل أفراد ومؤسسات محلية، شملت حملات لجمع التبرعات، وتأمين مراكز إيواء للنازحين، وتوفير المواد الإغاثية الأساسية كالطعام والدواء والبطانيات والإنترنت المجاني[16].
لكن هذا الانفتاح الكبير على العمل المدني لم يكن خاليًا من التحديات المرتبطة بالتمويل وضعف الأداء، كما استغلته بعض الجهات لتأسيس منظمات بواجهة مدنية بينما سعت في الواقع لاختراق المجتمع السوري أو تمرير أجندات فكرية وقيمية لا تنسجم مع طبيعة المجتمع السوري، مثل بعض المشاريع المرتبطة بالنسوية أو المثلية وما سواها[17].
ومع ذلك.. فإن تجربة المجتمع المدني السوري خلال الثورة وما تلاها من نشاط واسع خلّفت إرثًا غنيًا من الخبرات المؤسسية والمهارات التنظيمية التي تُعدّ رصيدًا مهمًا لأي عملية إعادة بناء مستقبلية، فقد أظهرت التجربة أن المبادرات المحلية -رغم محدودية الموارد وصعوبة الظروف المحيطة- قادرة على الاستمرار والتكيف وتطوير أشكال مبتكرة من التنظيم والخدمة؛ ما يجعل من الضروري اليوم إعادة التفكير في موقع المجتمع المدني داخل أي بنية سياسية مقبلة، بحيث لا يكون تابعًا للسلطة ولا واجهة شكلية لها، بل شريكًا أساسيًا في صنع القرار ورسم السياسات العامة.
وبذلك فإن تجربة العقد الماضي لا تمثل مرحلة طارئة ارتبطت بالثورة فحسب، بل هي نقطة تأسيس لمسار جديد يمكن البناء عليه في المستقبل إذا ما وُجِدت الإرادة السياسية لفتح المجال العام، وتوفرت الضمانات القانونية والمؤسساتية التي تكفل حرية التنظيم، واستقلالية المجتمع المدني، وتمنع تكرار أنماط التسلط التي قيّدته لعقود.
تجربة المجتمع المدني السوري خلال الثورة وما تلاها من نشاط واسع خلّفت إرثًا غنيًا من الخبرات المؤسسية والمهارات التنظيمية التي تُعدّ رصيدًا مهمًا لأي عملية إعادة بناء مستقبلية. ما يجعل من الضروري اليوم إعادة التفكير في موقع المجتمع المدني داخل أي بنية سياسية مقبلة، بحيث لا يكون تابعًا للسلطة ولا واجهة شكلية لها، بل شريكًا أساسيًا في صنع القرار ورسم السياسات العامة
كيف يكون المجتمع المدني قويًا وما أهم أدواته في مواجهة تغوّل السلطة؟
قبل الحديث عن السبل والأدوات التي تُمكّن المجتمع المدني من مواجهة تغوّل السلطة، لا بد من الحديث عن بعض الشروط التي تجعل المجتمع المدني قويًا للقيام بدوره في مواجهة تغول السلطة.
كيف يكون المجتمع المدني قويًا؟
على رأس تلك الشروط: أن يكون هذا المجتمع -قياسًا مع بعض التجارب الناجحة- بعيدًا عن وصاية السلطة التنفيذية وتدخلاتها المباشرة، فضلاً عن أهمية الاستقلال المالي الذي يظل شرطًا أساسيًا لبقاء المنظمات والنقابات بعيدة عن تبعية الدولة أو الارتهان للإملاءات الخارجية.
وتكمن القوة أيضًا في بناء شبكات وتحالفات بين مختلف المكونات المدنية، بحيث يشكل تضافر النقابات والجمعيات والهيئات الحقوقية والدينية جبهة واحدة أكثر قدرة على صد تغول السلطة.
ولا يمكن إغفال البعد الثقافي والهوية الوطنية في ترسيخ شرعية المجتمع المدني، من خلال استعادة تقاليد راسخة كالأوقاف والجمعيات الخيرية، ومواجهة ونبذ الأفكار الدخيلة على المجتمع بحيث يُكسبه نوعًا من الثقة المحلية بشكل يُعزّز صلابته في المواقف الطارئة.
أدوات المجتمع المدني في مواجهة تغوّل السلطة:
حتى لا تتحول الدولة إلى جهاز متفرد بالقرار؛ يحتاج المجتمع المدني إلى جملة من الأدوات التي تُمكّنه من كبح جماح السلطة والحد من نزعتها للتغوّل، ومن أبرز هذه الأدوات:
1. المساءلة والشفافية:
المساءلة هي السلاح الأول بيد المجتمع المدني لمنع السلطة من الاستبداد، فحين تفرض المنظمات والنقابات حق الاطلاع على الموازنات العامة والقرارات المصيرية، وتجعلها متاحة للرأي العام؛ يصبح من الصعب على السلطة أن تنفرد بالقرار أو تهدر المال العام.
2. التعبئة المجتمعية المنظمة:
حين يحتكر الحاكم القرار تصبح قدرة المجتمع المدني على تنظيم الاحتجاجات السلمية والإضرابات والتعبئة الجماهيرية أداة ضغط مباشرة، وهذا ما فعله “الاتحاد العام للشغل” في تونس عندما أجبر الحكومات المتعاقبة على مراجعة قراراتها، فالتعبئة المنظمة تمنع السلطة من فرض سياسات تمس المجتمع دون ردّ.
3. التحالفات العابرة للقطاعات:
كلما بقي المجتمع المدني مجزّأً كان أسهل للسلطة اختراقه أو قمعه، لكن عندما تتوحّد النقابات مع الجمعيات الحقوقية مع الروابط الدينية والثقافية يصبح ميزان القوة أكثر توازنًا؛ فالتحالفات تُصعّب على الحاكم الاستفراد بالقرار وتجعله مضطرًا للتفاوض.
4. استخدام المرجعيات الثقافية والدينية:
كثير من السلطات تسعى لنزع الشرعية الثقافية عن خصومها، لكن حين يستند المجتمع المدني إلى قيم متجذرة في المجتمع فإنه يكتسب مشروعية يصعب على السلطة إنكارها، ما يحد من قدرتها على تصوير المجتمع المدني كتهديد خارجي كما تحاول أن تفعل أغلب السلطات في العالم العربي التي تحاول شيطنة المجتمع المدني.
وفي هذا السياق أيضًا تجدر الإشارة إلى جملة من العوامل الداعمة التي تُسهم بشكل مباشر في تعزيز فاعلية المجتمع المدني، والتي تتقاطع مع ما سبق ذكره من أدوات، إذ تُعدّ هذه العوامل بمثابة ركائز تمكّن المجتمع المدني من أداء أدواره بكفاءة واستقلالية، ومن أبرزها:
5. القضاء المستقل والدعم القانوني:
من أبرز آليات منع التغوّل أن يتبنّى المجتمع المدني الدفاع عن استقلال القضاء، ويمدّ الأفراد بالدعم القانوني لمواجهة تعسف الدولة، ففي جنوب إفريقيا مثلاً لعبت المنظمات الحقوقية دورًا جوهريًا في ضمان محاسبة رجال السلطة أمام المحاكم؛ ما قطع الطريق على تجذر الاستبداد.
6. الإعلام الحر والرقابة الشعبية:
يُعد الإعلام المستقل أداة رئيسة لفضح التجاوزات وكشف الانتهاكات، والمجتمع المدني بدوره يستطيع أن يكون حاميًا للإعلام الحر، وأن يُفعّل منصات توثيق محلية ودولية، بحيث يجد المواطن منفذًا لتبليغ صوته ويجد المسؤول نفسه تحت عين الرقابة الدائمة.
حين يستند المجتمع المدني إلى قيم متجذرة في المجتمع فإنه يكتسب مشروعية يصعب على السلطة إنكارها؛ ما يحد من قدرتها على تصوير المجتمع المدني كتهديد خارجي كما تحاول أن تفعل أغلب السلطات في العالم العربي.
خاتمة:
يتضح من استعراض بعض التجارب المختلفة أن المجتمع المدني يمثل خط الدفاع الأول أمام نزعات السلطة للهيمنة، فهو الذي يوفّر للمجتمع أدوات الرقابة والضغط والتعبئة، ويضمن بقاء الدولة في حدود وظيفتها الأصلية كخادم للمجتمع لا كمتسلّط عليه.
وبعيدًا عن سوريا وتجربتَي تونس وجنوب إفريقيا، وبنظرة إجمالية على امتداد العالم العربي عمومًا، يمكن القول: إن المجتمع المدني ما يزال يعاني من ضعف الحضور وتقييد دوره، إذ تُحاصر منظماته بالقيود القانونية، وتُقصى عن دوائر صنع القرار، فلا يُنظر إليها غالبًا إلا بوصفها كيانات ثانوية أو تابعة، الأمر الذي يُضعِف من قدرتها على التأثير في السياسات العامة أو ممارسة الضغط على السلطة، بينما تتجلى الصورة في الغرب بشكل مغاير، حيث نجحت مؤسسات المجتمع المدني في التحول إلى قوة ضغط منظمة وفاعلة تفرض نفسها شريكًا لا يمكن تجاوزه في عملية التشريع وصنع السياسات.
أ. عامر المثقال
باحث مساعد في مركز الحوار السوري
[1] للتوسع ينظر: دور المجتمع المدني في مواجهة تغول الرأسمالية، مجلة المجتمع.
[2] للتوسع ينظر: مفهوم المجتمع المدني بين التأصيل النظري ومشكلة المرجعية، كلثوم زعطوط، رسالة دكتوراه، مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
[3] من الغيبوبة إلى المارثون.. تجربة العمل الجمعي في الكيانات والتجمعات السورية، لكندة حواصلي، ص (115).
[4] الرباعي الراعي للحوار الوطني بتونس.. نوبل للسلام، الجزيرة نت.
[5] رفض داخلي وضغط دولي.. هل يتراجع قيس سعيد عن “الانقلاب” ويعود إلى الدستور؟ trt عربي.
[6] حلّ الاتحاد العام للشغل أو تجميد دوره.. سيناريوهات الصدام غير المسبوق بين قيس سعيّد وأكبر منظمة نقابية في تونس، عربي بوست.
[7] United Democratic Front (South Africa)، Wikipedia.
[8] الأبارتهايد هو نظام فصل عنصري قائم على التمييز القانوني والمؤسسي بين الجماعات العرقية، حيث تُمنح فئة امتيازات كاملة وتُهمّش أخرى، كما حدث في جنوب أفريقيا بين البيض والسود.
[9] South Africa’s negotiated transition: Context, analysis and evaluation، c-r.org.
[10] How civil society has strengthened democracy in South Africa، africanngos.
[11] دستور سوريا 1950، ويكي مصدر.
[12] من الفعالية إلى الإقصاء.. مؤسسات المجتمع المدنيّ في سوريا (فترة حكم حافظ الأسد)، زمان الوصل.
[13] هنا أتحدث عن تجربتي الشخصية في مدينة دير الزور، حيث كانت تنتشر معاهد لتحفيظ القرآن تحت مُسمّى “معاهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم”، وهذا الحال كان واقعًا في بقية المحافظات في أنشطة تحفيظ القرآن، وأنشطة أخرى مثل الرياضة والثقافة.. إلخ.
[14] ربيع دمشق.. “العقد الضائع” الذي سبق الثورة السورية، الجزيرة نت.
[15] المنظمات والجمعيات السورية: بين تركة الاستبداد واستراتيجيات البناء الوطني، المركز العربي للدراسات.
[16] للتوسع ينظر: الكوارث ومرونة المجتمع؛ مدى حضور القِيَم والشبكات الاجتماعية شمال غرب سوريا في التفاعل مع كارثة زلزال 6 شباط 2023م، مركز الحوار السوري.
[17] لعل هذا ما يتمثل بكثرة نشاط المنظمات التي تتغطى برداء المجتمع المدني لتحاول اختراق المجتمعات المحافظة، وهذا ما نلحظه بارتفاع صوت مثل تلك الجهات وعملها على إصدار تقارير دورية عن الحالة النسوية في شمال غرب سوريا أو شمال شرقها، مع تقديم التوصيات اللازمة لـ “تحسين الواقع” من وجهة نظرها.



