على الوالدين مسؤولية كبيرة في رعاية الأبناء وتعليمهم وتربيتهم، ولكل منهما مهمة لا تكتمل التربية إلا بها، فكما تختصُّ الأم بالحضانة والرضاعة والتنشئة المبكرة مع الرعاية المستمرة، يقع على عاتق الأب مسؤولية كبرى في التعليم والتربية وصقل الشخصية بطريق القدوة بالأبوة السليمة السوية، التي ثبت وجود علاقة بينها وبين سلامة شخصية الأبناء، وصحتهم النفسية والعقلية.. ومن ثم الإيمان، وفي هذا المقال تسليط للضوء على مسؤولية الأب في حماية إيمان الأبناء، ووقايتهم من الوقوع في براثن الإلحاد.
من الأمور المسلّم بصحتها، مدى تأثير الوالدين في تكوين شخصية أبنائهما، وأن الوالدين يقومان بنقل معتقداتهما وأفكارهما إلى الأبناء، لكنّنا لن نناقش هذه الفكرة المعروفة بل سيكون الحديث عن طبيعة علاقة الأب خصوصًا مع أبنائه، هل تؤثر هذه العلاقة على إيمان الأبناء؟[1]
بتعبير أكثر وضوحًا:
هل العلاقة القوية السليمة بين الابن وأبيه، تساعد في بقاء أو جعل الابن مؤمنًا؟
وهل العلاقة السيئة بينهما قد تؤثر على إيمانه وتدفعه إلى انحرافات قد تصل إلى الإلحاد؟ وماذا نقصد بالعلاقة السيئة بين الابن وأبيه؟
لنصل بعد هذا التطواف إلى معرفة حجم مسؤولية الأب تجاه أبنائه، وكيف يحميهم من الانحرافات العقدية.
سبب الإلحاد: قناعة أم علاقة؟
يقصد بالإلحاد اليوم: إنكار وجود خالق لهذا الوجود.
فهو ضرب من ضروب الكفر والعياذ بالله، يتعدى فكرة إنكار الدين أو النبوة بل يزعم أن هذا الكون ليس له خالق موجد، وهو قناعة مقابل القناعات الدينية التي يؤمن بها المؤمنون.
فما السبب الرئيس في هذه القناعة؟
معظم قناعاتنا لها بعدان: بعد عقلي منطقي، وبعد نفسي. أي إننا نتبنى قناعةً جديدةً، إما لأننا اقتنعنا بها فعلًا، أو لأننا نحب أن نقتنع بها.
وفي غالب أمورنا نجد أن البُعدين حاضران معًا، فعندما نحب أن نقتنع بأمرٍ ما، فلا نحتاج حينها إلى منطق قوي بل يمكن أن نقتنع بأقل وأضعف البراهين، فهل الإلحاد كذلك؟
هل يتحول المؤمن – بوجود إله – إلى قناعة الإلحاد، بسبب أدلةٍ تثبت ذلك، أم لأنه يريد ذلك؟
يبدو للباحث في قضايا الإلحاد أن للبعد النفسي طغيانًا كبيرًا في المسألة، بل نستطيع أن نقول إنها إرادة الإلحاد وليست عقيدة الإلحاد.
ومن الأدلة على ذلك: أن عبارات كره الإله تطل برأسها مرارًا من الملاحدة البارزين، وهذه مفارقة عجيبة! فإن من ينكر وجود شيء لا يمكن أن يكرهه! أما عندما نكره شيئًا فإننا نشعر بوجوده عميقًا فينا ولذلك نتخذ هذا الموقف النفسي تجاهه.
والأمثلة على عبارات كره الإله في كلام الملاحدة أكثر من أن تحصى، ربما من أشهرها ما ورد في كتاب «وهم الإله» للملحد الشهير ريتشارد دوكنز، والذي يحاول أن يثبت فيه أن فكرة الإله إنما هي وهمٌ فقط لشيءٍ لا وجود له في الحقيقة، لكن الكتاب مليءٌ بالسباب والشتائم للإله! فلماذا يشتم الكاتب شيئًا يراه غير موجود، ولماذا تراه متوترًا وحانقًا لهذا الحد!؟
لقد كان الأمر غريبًا حتى إن فيلسوفًا ملحدًا شهيرًا يدعى مايكل روس علق على هذا الكتاب قائلًا: «لقد جعلني كتاب (وهم الإله) أشعر بتوتر وارتباك لكوني ملحدًا!»، ثم يتساءل: «إذا كان الإله غير موجود فلم هذا التطرف الشديد ضد الدين؟».
أما المفكر الأمريكي سكوت هان فيعلق على الكتاب قائلًا: «إنك تشعر وأنت تقرؤه أنك أمام محاولةٍ يائسة من شخصٍ يعصف به الضيق، لأنه لم يستطع التخلص من معارضيه الذين لا يزالون يملؤون الساحة».
إن من أهم أسباب الإلحاد الرئيسة:
العلاقة السيئة بين العبد وربه تعالى بسبب بعد العبد عن ربه، مما يولد انعدام العلاقة أو ضعفها، مما يجعل الشخص مستعدًا لقطع تلك العلاقة عند أصغر شبهة تمر به، أما من كانت علاقته بربه قوية فهو غير مستعد للتخلي عنها، حتى لو عصفت به أكبر الشبهات، فهو وإن لم يجد لها جوابًا سيقول: لا شك أن لهذه الشبهات ردًا ولو لم أعرفه.
من مخاطر انعدام العلاقة أو ضعفها مع الله عدم فهم أقدار الله تعالى وأقواله وأفعاله، وبالتالي إلقاء اللوم عليه فيما يُشاهد المرء من شرّ، وما يظنُّه من طريقة في تحقيق العدل بين البشر، مما يؤدّي لكُرهه، وصولً إلى إنكاره للتخلص من هذه الأفكار والمشاعر
وبسبب انعدام العلاقة أو ضعفها فإنَّ ذلك يؤثِّر على عدم فهمه لأقدار الله تعالى وأقواله وأفعاله، وبالتالي إلقاء اللوم عليه فيما يُشاهده من شر، وما يظنُّه من طريقة في التعامل مع المظلومين ونصرتهم، وتحقيق العدل بين البشر، مما يؤدي لكرهه، وصولًا إلى إنكاره للتخلص من هذه الأفكار والمشاعر.
وجميع ذلك يؤدي إلى الجهل بالله تعالى وقَدره، سواء كان ذلك بسبب التربية في بيئة لا تعبأ بمفهوم الإله كما هو الحال في العديد من الأسر في البلاد الغربية أو الشرقية، أو أنها تُقدِّمه بطريقة مشوَّهة تتناقض مع العقل والفطرة، ومع ضعف تربية الأبناء على ضبط وتهذيب الدوافع يصبح لديهم إسراف في المعاصي والشهوات وغيرها، مما يؤدي إلى إحداث صراع داخلي لديهم بين القيم والدوافع فيتخذ أحدهم قرار الإلحاد هروبًا من تأنيب الضمير.
ما علاقة كل هذا بعلاقة الابن مع أبيه وما وجه الارتباط بين العلاقة السيئة مع الأب والإلحاد؟
الأب والرب:
العلاقة بين الأب وابنه تؤثِّر على العلاقة بين الابن وربِّه؛ فبقدر ما تكون العلاقة مستقرّة وهادئة وطبيعية بين الأب وابنه تكون كذلك بين الابن وربه في الغالب.
فالأب هو سبب وجود الأبناء، وهو مُربيهم، ومصدر رزقهم وأمنهم وطمأنينتهم، فهو سيّد في بيته؛ لذا كان تطلُّع الأبناء إليه وتعلُّقهم به لعددٍ من الحاجات النفسية والبدنية، محبّة مع حاجة الضعيف إلى القوي، حاجة العائل إلى المغني، حاجة الضال إلى الهادي، حاجة الخائف إلى المؤمِّن، حاجة الصغير إلى الكبير، حاجة الجاهل إلى العالم، حاجة التائه إلى مَن يرشده.
وكذلك الربُّ تعالى شأنه: فهو الخالق وسبب وجود المخلوقات، وهو الرازق والمنعم، والقائم بشؤون عباده، يهديهم إذا ضلوا، وينصرهم إذا ظُلموا، ويشفيهم إذا مرضوا، مما يجعل وجه الشبه بين العلاقتين فوق ما يظهر للوهلة الأولى.
فرِضا الابن عن والده والعلاقة معه يعطيه رضا وطمأنينة للعلاقة مع ربه، وكثيرًا ما يقع العكس.
العلاقة بين الأب وابنه تؤثِّر على العلاقة بين الابن وربِّه؛ فبقدر ما تكون العلاقة مستقرّة طبيعية بين الأب وابنه تكون كذلك بين الابن وربه في الغالب؛ فرِضا الابن عن والده والعلاقة معه يعطيه رضا وطمأنينة للعلاقة مع ربه، وقد يقع العكس
ومن أشهر الكتب التي تناولت أثر علاقة الابن بأبيه على إيمانه، كتاب: نفسية الإلحاد.. إيمان فاقد الأب، لعالم النفس الدكتور بول سي فيتز.
وقد قدَّم الكتاب فرضية مختصرها: إن الإلحاد -خاصةً الحادّ منه- له منشأ نفسي هو الأب المعيب، الذي يؤثر نفسيًا على الابن فيجعله أقل قدرةً من غيره على بناء علاقةٍ مع الرب، فيدفعه هذا إلى إنكار وجوده، والحقيقة أنَّه يكرهُ وجودَه فينكره.
ويَقصد به الأبَ الذي يفقد سلطته أو يخيِّب أمل ولده فيه بشكلٍ كبير، فالأب المعيب يجعل ابنه يَشعرُ بأنه فاقد له حتى لو كان حاضرًا، فلا تنمو علاقة الابن بأبيه بشكل جيد مما يجعله بعد ذلك يرفض أي علاقة من هذا النوع، سواءً كانت هذه العلاقة مع سلطة الدولة أو سلطة الإله والدين.
هنالك ثلاثة أنواع من الأب المعيب:
- الأب الغائب: سواءً كان سبب غيابه الهجرة أو الموت؛ فالطفل الصغير يحمل أباه مسؤولية موته.
- الأب الضعيف: الجبان شديد الضعف لا يستحق الاحترام.
- الأب المؤذي: أي لأبنائه، سواء كان الأذى جسديًا أو جنسيًا أو نفسيًا.
يُفرد الكاتب جزءًا كبيرًا من كتابه في استقراءٍ لمجموعة من أشهر الملحدين البارزين من فلاسفة وعلماء، ويرصد شيئًا من سيرتهم الذاتية المتعلق بعلاقتهم في طفولتهم مع آبائهم، فترى عجبًا من هذه القصص، لقد كان آباؤهم نماذج للأب المعيب!
ثم يفرد جزءًا كبيرًا آخر من كتابه في استقراء شخصيات شهيرة من فلاسفة ومفكرين عرفوا بإيمانهم بالله ودفاعهم عنه ليجعل هذه الشريحة بمثابة الشريحة المقارنة، ويرصد أيضًا شيئًا من سيرهم الذاتية المتعلق بعلاقتهم مع آبائهم لترى أن العلاقة هنا كانت قويةً.
فمن أشهر الملاحدة الفاقدين للأب:
– فريدريك نيتشه (١٨٤٤-١٩٠٠م):
وهو الفيلسوف الألماني الذي يُعدُّ من أشهر وأشرس الملاحدة وأكثرهم تأثيرًا في الفكر الغربي إلى يومنا هذا، وهو صاحب العبارة الشهيرة: لقد مات الإله!
كان أبوه قسًّا وتوفي عندما كان عمر فريدريك أقل من خمس سنوات، لم يحظ نيتشه بأبٍ بديل، بل كان يعيش في بيت تملؤه النساء: والدته وشقيقته وجدته واثنتان من عماته، لذلك كان لدى نيتشه كرهٌ شديد للنساء ظهر جليًا في فلسفته وكتبه، كما يظهر أثر فقده لوالده، وكان يعتبره إنسانًا ضعيفًا واهنًا يفتقر إلى (قوة الحياة).
يصف أحد كتّاب السيرة الذاتية لنيتشه، بأنه يمكن أن ينظر إلى معظم حياته على أنها: السعي الدائم للأب!
– سيجموند فرويد (١٨٥٦-١٩٣٩م):
اتفق كتّاب السيرة الذاتية لفرويد بشكل عام على أن يعقوب والد سيجموند شكل خيبة أمل أو أسوأ من ذلك بالنسبة لابنه، إذ كان يعقوب رجلًا ضعيفًا غير قادر على إعالة أسرته، ولا يقف عند هذا الحد، فقد كتب فرويد في اثنتين من رسائله عندما أصبح شخصًا بالغًا أن والده كان منحرفًا جنسيًا، وأن أطفاله قد عانوا من ذلك!
والد فرويد إذًا هو أب معيب لأنه كان ضعيفًا جبانًا، ومؤذيًا جنسيًا لأبنائه.
– ريتشارد دوكنز (١٩٤١- …):
أشهر الملاحدة المعاصرين على الإطلاق، حتى أن البعض يسميه بنبي الإلحاد! وقد أمضى طفولته في مدرسة داخلية أي إنَّ أباه كان غائبًا جزئيًا عنه، وقد كانت هذه المدرسة مسيحية متشدِّدة، ويذكر ريتشارد أنه في عمر تسع سنوات تعرض لحادثة اعتداء جنسي من قبل أحد الأساتذة الشواذ المرتبطين بالكنيسة!
أبٌ غائبٌ، وأستاذٌ كان من المفترض أن يساهم في أن يكون أبًا بديلًا لكنه اعتدى جنسيًا عليه، وهذا الأستاذ ممثل للكنيسة!
– كريستوفر هتشنز (١٩٤٩ – ٢٠١١م):
صحفي إنجليزي من أشهر الملاحدة المعاصرين، ويلقب مع دوكنز –آنف الذكر- وملحدَين آخرَين بارزين بالفرسان الأربعة، أي أنهم الشخصيات الأربعة الأهم في الإلحاد الجديد.
كان والد كريستوفر غائبًا جزئيًا عن حياة ابنه لأنَّ الولد درس في مدرسة داخلية من عمر الثامنة إلى الثامنة عشرة.
كانت أم كريستوفر تخون زوجها مع قسيس! وبينما كانت تخطط لترك بيتها انتشرت الفضيحة، فانتحرت والدته مع عشيقها.
لقد كان والد كريستوفر معيبًا بغيابه، كما كان كريستوفر يرى أنَّ والده سببُ انتحار أمه التي كان متعلقًا جدًا بها، كما كان يرى أباه ضعيفًا لم يستطع أن يحافظ على زوجته التي خانته مع قسيس!
سياسيون ملاحدة:
لا تقتصر القائمة على الفلاسفة والعلماء بل تتضمن السياسيين الملاحدة الأشهر!
فجوزيف ستالين الجزار الروسي الذي قتل عشرات الملايين من شعبه، كان أبوه سكيرًا، شديد القسوة يضربه ويضرب أمه كثيرًا ضربًا مبرحًا وغير مبرر، مما جعله -على حد تعبير أحد أصدقائه- يظهر لديه شعور بالانتقام ضد جميع أولئك الناس الذين يقفون فوقه.
كما أن والد ستالين لم يكن دائم الإقامة في المنزل بل كان يمضي بعض السنين يعمل في مدن قريبة.
أما هتلر فقد كانت لديه حصة يومية من الضرب المبرح من أبيه.
وماو تسي تونغ الطاغية الصيني الملحد يصف والده بأنه كان مستبدًا أسريًا، وأنه كان يكرهه، ويتضامن مع أمه وباقي أفراد الأسرة في التمرد عليه.
لم يكن هؤلاء الملاحدة السياسيون يتمردون ضد الدولة من أجل إقامة دولة عادلة، بل كانوا شديدي الكراهية لأي سلطة كانت بسبب كرههم لسلطة آبائهم، ولذلك كانوا حينما يمتلكون السلطة ينكِّلون بشعوبهم ولا يُعيدون إليهم حقوقهم، كما كان هنالك تنكيل خاص منهم تجاه السلطة الدينية في بلادهم، وذلك بسبب إلحادهم وموقفهم الشرس تجاه أي سلطة[2].
فهل هي جبرية إذًا؟!
ربَّما يقول البعض بعد هذا الاستعراض: يبدو أنَّ الأمر حتمي، فمن كان لديه أبٌ غائب أو معيب، سيكون ملحدًا، ومن كانت لديه علاقة طيبة مع أبيه فإنه سيبقى على إيمانه.
الأمر ليس كذلك طبعًا، بل تتداخل العديد من العوامل الاجتماعية والنفسية والشخصية في الموضوع.
ففي الغرب: يجتمع ضعف الدين المحرَّف، ومناقضتُه للعقل والمنطق، وسوءُ سلوكِ كثير من رجاله، مع ضعف الحياة الاجتماعية والتفكك الأسري المريع، وسيادة الكثير من الأخلاق السيئة، والمادية، وانتشار المذاهب والأفكار الضالة، وقيام مؤسسات المجتمع عليها، بالإضافة إلى تقبُّل فكرة الإلحاد وانتشارها كما لم يكن في السابق، مما جعله خيارًا ممكنًا أكثر من أي وقتٍ مضى، ثم يأتي ضعف الأب أو غيابه فيكون مكملًا لهذه العوامل مما يؤدي لنتائج مدمرة من أخطرها الإلحاد.
أما في مجتمعاتنا المسلمة:
فالأصل أن الوضع مختلف؛ فالدين حاضر في المجتمع وفي سلوك الناس وتعاملاتهم، وهو موافق للفطرة والعقل، بالإضافة إلى قوة الترابط الاجتماعي؛ لذا فإن غياب الأب عن حياة أبنائه ليس له ذلك الأثر الخطير كما هو الحال في المجتمع الغربي، فالعديد من العائلات فقدت معيلها بسبب الموت، كما شهدت البلاد الإسلامية ابتعاد العديد من الآباء عن أُسَرهم بسبب الرحلة للعلم أو طلب الرزق وغير ذلك، ومع ذلك نشأ الأبناء في كنف أمهاتهم نشأةً سليمة، وحظوا برعاية أسرهم وأقربائهم، فكانوا أعضاء صالحين في مجتمعاتهم، وكان كثير منهم من كبار العلماء والمشاهير.
بل إنَّ العديد من العوائل كان آباؤهم فاسدين ومفسدين، ومع ذلك تخطت العوائل هذه العقبة وربّت أبناءها بطريقة سليمة.
لكن!
ما يشهده العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة في المشابهة الكبيرة للحياة الغربية، من التفكُّك الأسريٍّ، والابتعادِ عن الدين والأخلاق، وظهور نماذج من الآباء القساة، وانتشار ظواهر الإلحاد، والانفتاح على المجتمعات الغربية وأحوالها وغيرها، كل ذلك يدقُّ ناقوس الخطر بشدّة، ويوجب علينا أن نتنبّه لهذه المسألة وأن نوليها العناية المناسبة؛ فآثار غياب الأب أو الأب المعيب في مجتمعاتنا الحالية قد لا تكون كما كانت في السابق.
ومن أهم المستجدات التي ينبغي التصدي لها اليوم: غياب الآباء الوجودي بسبب الموت أو الإصابات أو الاعتقال في أحداث الربيع العربي؛ فنحن أمام حالة استثنائية من غياب الأب اليوم من جهة كثرتها العددية، وكذلك موجات الهجرة والشتات التي مزقت العائلات وأبعدت الآباء عن الأبناء، وهذا الوضع برمته صعّب كثيرًا إيجاد الأب البديل عند الحاجة إليه.
فينبغي للمهتمين والمختصين العناية بالحالات والمجتمعات التي تكثر فيها هذه الحالات؛ لاحتواء الإشكالات في مهدها وقبل تفاقمها.
مسؤولية الأب تجاه أبنائه:
ليست الغاية هنا تعداد مسؤوليات الأب تجاه أبنائه التي نعلمها بالعموم، لكن المقصود التشديد على مسؤولية الأب في بناء علاقة صحيةٍ مع أبنائه.
على الأب أن يعلم أن حضوره القوي وتواصله الجيد مع أبنائه يسهم في سلامة تنشئتهم الفكرية واستقرارهم النفسي، مما يسهم في بناء إيمان ابنه بالله تعالى وقوته.
وعلى الأب أن يعلم أنَّ من أولوياته ألا يغيب عن أبنائه قدر المستطاع، فالغياب الجزئيُّ مؤثر، بل إنَّ الكثير من الآباء -للأسف- حاضرون بأجسادهم لكنهم غائبون بأرواحهم، فلا يقيمون علاقات جيدة مع أبنائهم.
وعلى الأب أن يعلم أنَّ ضعفه وجُبنه لن يتوقَّف أثره السيء عليه بل سيمتد عميقًا جدًا في نفوس أبنائه فوق ما يتصور.
على الأب أن يعلم أن اعتداءاته على أبنائه وقسوته عليهم لن تكون مجرد لحظات عابرة بل إن هذا الأذى سيشوه نفوس أبنائه من الداخل، وسيعوق هؤلاء الأبناء عن بناء علاقات مع خالقهم سبحانه وتعالى.
أما في حال غياب الأب أو كونه (معيبًا) فعلى المجتمع أن يسدد ويقارب في سد هذه الثغرة، سواء من الأقارب أو المربين، أفرادًا ومؤسسات.
اليتم الحقيقي:
قد يصل الحنق الشديد من الابن الذي يعاني من الأب المعيب لدرجة أنه يكره كل سلطة، ويتمرد عليها بأشكال متعددة، المصيبة أنه حين يفعل ذلك فإنما ينتقم من نفسه!
يستطيع هذا الابن أن يأوي إلى ربه تعالى، أن يضع همَّه بين يديه، أن يشكو إليه حاله بصدق، وسيرى حينَها كيف يتحول يتمه إلى قوة، وكيف تتحول حاجته إلى غنى، وكيف يتحول تيهه وضياعه إلى هدى وبصيرة، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ٦ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ ٧ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ﴾ [الضحى: ٦-٨]، وتستطيع الأم أو من يقوم على تربية هذا الابن أن يأخذ بيده إلى هذا الطريق.
أما إن اتَّخذ الابن خيار الانتقام من أبيه، ليقع أثرُ الانتقام في نفسه وذلك بأن يَكفر بربه، فحينها فقط سيعيش اليتم الحقيقي، والمعاناة الحقيقية، هنا فقط سيصل إلى العطش الذي لا يروى، وإلى التيه الذي ليس له نهاية، وإلى البحث بلا جدوى.
إنَّ القرار النهائي في اختيارات الإنسان يبقى دائمًا ملكًا حصريًا لإرادته الحرة، وكل ما سوى ذلك إنما هي ضغوطات تجاه خيارٍ معين.
سيبقى الإنسان حرًا في قراره، وسيُسأل!
د. وائل الشيخ أمين
باحث وكاتب في قضايا الشباب والتغيير، المدير التنفيذي لأكاديمية نهر لبناء الشباب
[1] لا شك أن للأم أثرًا كبيرًا في حياة أبنائها، لكن المقال يركز على دور الأب لأنه فيما يتعلق بالأثر النفسي على الإيمان والإلحاد فإن طبيعة العلاقة مع الأب هي الأهم.
[2] في الكتاب المشار له تفاصيل أخرى لم يتطرق لها المقال تستحق النظر والعناية، كأثر العلاقة بين الأب والرب، وهي وإن كانت مختصة بالمجتمعات غير المسلمة، لكون الكاتب نصرانيًا، وجميع أمثلة الكتاب كانت لملحدين كانوا على غير ملة الإسلام. ومع أن هذا الكلام صحيح، إلا أنه يمكننا على ضوئه الاستفادة من دراسته في بعض ما يهمنا، والنظر لحال بقية المجتمعات وبخاصة مجتمعاتنا الإسلامية من خلال المقارنة بين المجتمعات، وهو ما يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على بعض جوانبه.
1 تعليق
التعليقات مغلقة