بين الحين والحين تطالعنا أصوات نشاز تتطاول على قامات ملأت الأرض عدلاً ورحمة، بالتنقص من ديانتهم وأمانتهم تارة، وبالتشكيك في عدالتهم وصدقهم تارة أخرى، بادَّعاء الحرص على الدين، وتنقيته وتصفيته من الدخيل عليه، وحقيقة فعلهم تشكيك الناس في أسس الدين وأصوله، مما يؤدي لهدمه وتضييعه، لكن الدين محفوظ بحفظ الله له، ومن وسائل ذلك أن هيّأ له حَمَلةً كرامًا أمناء، شهد لهم رب العالمين ورسوله الأمين، لا يضرهم شنآن جاهل ولا طعن حقود.
الصحابة الكرامُ هم التلاميذ النجباء للنبي ﷺ، تربوا على يده، ونهلوا من مورده، وأحبوه حبًا فاق حبهم لأنفسهم وأولادهم وأموالهم، فأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، لا يُحِدُّون إليه النظر، ولا يرفعون عنده الصوت، ويكفيه أن يشير إلى أمرٍ فيُفعل، إذا استنفرهم للقتال نفروا، وإذا تحركت شفتاه أصغَوا، فكانوا خير ورثةٍ لخير مُعلم، وحملوا رسالة الإسلام إلى شعوب الأرض، بعد أن شهدوا التنزيل وفهموا الشريعة، وعرفوا مراد الله من خلقه.
ولا ريب أن الفضل -بعد الله- ينسب إليهم في وصول السنة النبوية إلينا، فهم الذين سخَّروا جهدهم ووقتهم لصحبة النبي ﷺ، فحفظوا سُنته، ونقلوها إلى الأجيال التالية غضَّةً طرية، وربوا مِن بعدِهم رجالاً تأسَّوا بهم، واهتدوا بهديهم ولا زال علمهم يُتوارث عصرًا بعد عصر وجيلاً بعد جيل.
وهذا الفضل لا يجاريه ولا يوازيه فضل، ولا يمكن لأي إنسان أتى بعدهم أن يفوقهم في الفضل؛ فكلُّ حسنة يعمل بها من بعدهم فلهم منها نصيب، بل هو نوع اصطفاءٍ لهم، حتى على من سبقهم من الأمم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ الله نَظَر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نَبيِّه، يُقاتلون على دينه)[1].
الطعن في المكثرين من الصحابة:
للشيطان جنود آلوا على أنفسهم أن يحاربوا هذا الدين كما أقسم الشيطان بعزة الله ليغوينَّ بني آدم أجمعين، فلم يألوا جهدًا في حرب دعوة الإسلام بشتى الوسائل والسبل، وبكل ما أوتوا من قوة، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم على هذه الدعوة، فلما عجزوا عن الطعن في كتاب الله وفي شخص النبي ﷺ، انتقلوا إلى الطعن في عدالة الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقصدهم في ذلك هدم بنيان الشريعة بإسقاط حملتها ورواتها.
من أشهر الطعونات التي تعرَّض لها الصحابة الكرام: تلك التي تناولت رُواة الحديث منهم، وعلى رأسها طرح التساؤلات عن تصدُّر أبي هريرة رضي الله عنه للصحابة في كثرة ما روى، مع أنَّه قَدِم المدينة عام خيبر أي (٧ هجرية)، ومثل هذه الطعون تنالُ من صحابة آخرين من المكثرين من الرواية، مثل عائشة وابن عباس رضي الله عنه، وهم ليسوا في مرتبة كبار الصحابة كأبي بكر وعمر! وتفترض هذه الطعون أنَّ المدَّة التي قضاها هؤلاء الرواة مع النبي ﷺ لا تكفي لسماع القدر الذي رووه من جهة، ومن جهةٍ أخرى تُقارن هذه الطعون بين مرويات المكثرين ومرويات السابقين من الصحابة، وتتساءل: كيف فاق هؤلاء في الرواية أبا بكرٍ وعمر وعثمان وعليًا والزبير وطلحة وابن مسعود وهم الذي سبقوا في الإسلام والصحبة والسماع من النبي ﷺ؟
ومن المهم ذكر أن بعض هذه الطعون بدأ في عهد الصحابة الكرام، ثم تولى كبرها المنافقون والفرق المنحرفة كالخوارج والمعتزلة والرافضة والزنادقة وغيرهم، حتى جاء المستشرقون في العصر الحالي ونبشوها وأعادوا إنتاجها[2]، فتلقَّفها عدد من «العقلانيين» والعلمانيين، وقد نشط مؤخرًا فريقٌ جديدٌ مراهنين على ابتعاد الأجيال الناشئة عن معين الوحي ومنهل العلم، ولذلك وجب تكرار الردِّ عليهم وبيان الحق الذي تتابع أهل السنة منذ القدم على توضيحه جيلاً بعد جيل، وعصرًا بعد عصر.
لما عجز أهل الباطل عن الطعن في كتاب الله وفي شخص النبي صلى الله عليه وسلم، انتقلوا إلى الطعن في عدالة الصحابة الكرام، وقصدهم في ذلك هدم بنيان الشريعة بإسقاط حملتها ورواتها
دراسة موجزة للمكثرين السبعة:
في الجدول أعلاه دراسة موجزة لعدد روايات المكثرين السبعة من الصحابة، حيث اصطلحَ العلماءُ على وصف من روى أكثرَ من ألف حديثٍ من الصحابة بأنه: من المكثرين[3]، قال الناظم:
سَبْعٌ مِنَ الصَّحْبِ فوقَ الألفِ قد نقَلُوا *** مِنَ الحديثِ عَنِ المُختارِ خَيرِ مُضَر
أبو هـريـرةَ، سـعدٌ، جـابرٌ، أنـسٌ *** صدِّيقةٌ وابن عباسٍ كذا ابن عُمَر
قراءة جدول المقارنة بين المكثرين من الصحابة:
- بين المكثرين أربعة من المهاجرين: أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس.
- وثلاثة من الأنصار: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري.
- خمسة منهم صحبوا الرسول: ٩-١٠ سنوات، هم: عبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري.
- أبو هريرة صحبَ النبي ٤ سنوات، وابن عباس صحبه ٣ سنوات تقريبًا (٣٠) شهرًا.
- ثلاثة منهم كانت بداية أعمارهم حين صحبوا الرسول (١٠) سنوات، هم: عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري.
- عائشة كان عمرها حين صحبت الرسول (٩) سنوات، وابن عباس (١١) سنة، وجابر (١٩) سنة تقريبًا، وأبو هريرة (٢٨) سنة.
- مدة حياتهم بعد رسول الله ﷺ: عائشة أم المؤمنين: (٤٨) سنة، أبو هريرة (٤٩) سنة، ابن عباس (٥٨) سنة، ابن عمر (٦٣) سنة، أبو سعيد الخدري (٦٤) سنة، جابر بن عبد الله (٦٤) سنة، أنس بن مالك (٨٣) سنة.
معظم المكثرين من رواية الحديث هم من صغار الصحابة، وهذا هو سنُّ التعلم ووقدة الذهن وسرعة الحفظ، ولكل منهم مزية إضافية أتاحت له خصوصية من خصوصيات التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم
تعليقات وإيضاحات:
حداثة السن:
عندما نتأمل في هذه المعلومات: نجد معظم المكثرين من رواية الحديث هم من صغار الصحابة، وهذا هو سنُّ التعلم ووقدة الذهن وسرعة الحفظ، وكما قيل: (العلم في الصغر كالنقش على الحجر)، ولكل من هؤلاء الصحابة مزية إضافية أتاحت له خصوصية من خصوصيات التلقي عن النبي ﷺ كما سيأتي معنا.
يلاحظ أن أكبرهم سنًا وقت إسلامه هو أبو هريرة (٢٨) سنة، ويليه جابر بن عبد الله الأنصاري (١٩) سنة، أما البقية فقد أسلموا صغارًا بل إنَّ بعضهم لم يُجَزْ في الغزوات الأولى لصغر سنه، كابن عمر وأبي سعيد الخدري وأنس رضي الله عنهم أجمعين.
الصحبة في المدينة:
نفهم من حال المكثرين جميعًا أن تلقيهم من رسول الله ﷺ كان في المدينة، حيث استقرار الدولة، ونزول الشرائع وتفرَّغ النبيُّ ﷺ لتعليم أصحابه القرآن الكريم والتشريعات التي كانت تنزل متتالية، وبعد صلح الحديبية وفتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا؛ فكان المسلمون الجدد يأتون وفودًا إلى الرسول ﷺ في مسجده فيعلمهم الإسلام، ويسألونه فيجيبهم، على مرأى ومسمع من الصحابة الكرام.
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
حالة أم المؤمنين عائشة لافتة للنظر، فقد تزوجها النبي ﷺ في السنة الثانية للهجرة، بعد خديجة وسودة رضي الله عنهما. ولم يروِ أيٌّ من زوجاته قدر ما روت من الأحاديث، وأقرب أمهات المؤمنين في عدد المرويات هي أم سلمة؛ حيث روت (٣٨٧) حديثًا، فما الذي جعل عائشة تروي كل هذا القدر من الأحاديث؟
لا شك أن حداثة سنها هو الجواب المتبادر، لكن هذه الصفة تشاركها فيها نسبيًا صفية التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها يوم زواجها بالنبي ﷺ عام ٧ه، وكذلك حفصة وجويرية اللتين كانتا في العشرين من عمرهما يوم زواجهما، لكن مع ذلك يبقى فارق العمر في صالح عائشة فقد كان عمرها وقت زواجها (٩) سنين.
ولأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ميزات أخرى تتعلّق بالفروق الفردية والبيئية؛ فقد كانت البكر الوحيدة بين أمهات المؤمنين، وهذا يعني زيادة الودّ بينها وبين النبي ﷺ، وقد كانت بالفعل أحبَّ أمهات المؤمنين إلى قلبه، وهذا الودُّ يولِّد من الحوارات والأحاديث ما يزيد عن القدر المعتاد بين الأزواج، وعلاوة على ذلك فقد نشأت في بيت علم وأدب، فأبو بكر رضي الله عنه كان أقدم الصحابة وأكثرهم صحبة للنبي ﷺ وسماعًا منه، وكان إضافةً إلى ذلك عالمًا بالأنساب، وبالشعر، فورثت عائشة من أبيها موهبة العلم.
القرب من النبي ﷺ:
معظم هؤلاء الصحابة y لديهم سببٌ للقرب من النبي ﷺ، وخصوصيةٌ لا تكاد توجد في غيره، فعائشة زوجته، وأنس خادمه في المدينة، وابن عمر هو أكبر أبناء الفاروق وأخٌ لأم المؤمنين حفصة، وأبو هريرة كان شديد الملازمة للنبي ﷺ حيث كان من أهل الصُفّة مقيمًا في المسجد، وابن عباس ابن عم النبي ﷺ فلمكانته منه كان يشهد معه ما لا يشهد غيره، كما صرح هو بهذا[4]، وكان يبيت أحيانًا عند خالته أم المؤمنين ميمونة، وجابر وأبو سعيد الخدري شهدا مع النبي ﷺ جميع المشاهد بعد وفاة والد كل منهما، ولجابر قرب خاص من النبي ﷺ، فقد كان أبوه قتل يوم أحد وترك له أخوات، فكان جابر يعولهن، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِن، وكان النبيُّ ﷺ يبرُّ جابرًا، ويَرحمه، وله معه مواقف متعدِّدة.
دعاء النبي ﷺ بالحفظ والفهم:
اثنان من هؤلاء الرواة دعا لهما الرسول ﷺ دعاءً خاصًا بحفظ العلم والفهم والفقه، وهما: أبو هريرة، وعبد الله بن عباس. فعن أبي هريرة t قال: قلت: يا رسول الله، إني سمعت منك حديثًا كثيرًا فأنساه، قال: (ابْسُط رِداءَك، فَبَسَطتُ، فَغَرَفَ بيده فيه، ثم قال: ضُمَّه فَضَمَمتُهُ، فما نسيتُ حديثًا بَعدُ)[5]. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (ضمَّني رسول الله ﷺ إليه وقال: اللهم علِّمهُ الحكمة)، وفي رواية: (علِّمهُ الكتاب)[6]. وحديث ابن عباس: (أنَّ النبيَّ ﷺ دخل الخَلاء، فَوَضَعتُ له وَضُوءًا. قال: مَن وضَعَ هذا؟ فَأُخبِرَ فقال: اللَّهمَّ فَقِّههُ في الدِّينِ)[7]. فأبو هريرة وابن عباس تميزا بخصوصية دعاء الرسول لهما بالحفظ والعلم، فكل اعتراض على أبي هريرة ينسحب على ابن عباس أيضًا. ولكن هيهات هيهات!
المكثرون من رواية الحديث لم يصلوا إلى هذه المنزلة إلا بسبب حرصهم على العلم؛ وكلٌّ منهم له في سيرته شواهد تُظهر حرصه على التلقي والتشرب من معين النبوة الغزير
العناية بطلب العلم:
العلم يرفع أهله حتى يبلغ بهم الثريا، وهؤلاء المكثرون لم يصلوا إلى هذه المنزلة إلا بسبب حرصهم على العلم؛ وكلٌّ منهم له في سيرته شواهد تُظهر حرصه على التلقي والتشرُّب من معين النبوة الغزير، وهذه السِّمة أوضح ما تكون في أبي هريرة؛ فقد قال حين استغرب البعض كثرة تحديثه عن النبي ﷺ: «إنَّ إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صَفقٌ بالأسواق، وكنتُ ألزم رسولَ الله ﷺ على مِلء بطني، فأشهدُ إذا غابوا، وأحفظ إذا نسَوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عملُ أموالِهم، وكنتُ امرًا مسكينًا من مساكين الصُّفَّة أعي حين ينسون»[8]، ويقصد بذلك اكتفاءه بما يسدُّ حاجته من الطعام والشراب، وعدم انشغاله بطلب الرزق، وفي حرص كل منهم على العلم روايات لا يتسع لها المقام، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
بل بقي حرصهم على تعلم العلم مستمرًا حتى بعد وفاة النبي ﷺ وحتى آخر يوم من أعمارهم؛ فقد جاء أن جابر بن عبد الله رحل في آخر عمره إلى مكة في أحاديث سمعها، ثم انصرف إلى المدينة[9]. ويروى أنه رحل في حديث القصاص إلى الشام ليسمعه من عبد الله بن أنيس[10].
الجلوس للفتيا والتعليم بعد وفاة النبي ﷺ:
من المهم عند تناول سير المكثرين الإشارة إلى أنهم تصدَّوا لتعليم الناس ورواية حديث رسول الله ﷺ، وأنهم جنَّدوا أوقاتهم لتعليم الناس وتحديثهم، بينما انشغل غيرهم بأمور الدولة والجهاد والتجارة، ولهم مزية إضافية في كونهم عُمِّروا بعد موت النبي ﷺ سنين طويلة في هذا الشأن حتى سمع منهم الخلق الكثير، فقد روى ابن سعد عن زياد بن مينا، قال: «كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر، مع أشباه لهم، يفتون بالمدينة ويحدثون عن رسول الله ﷺ من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا. قال: وهؤلاء الخمسة، إليهم صارت الفتوى»[11].
«والذين حُفِظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيِّف وثلاثون نفْسًا ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعةً»، وعد منهم: «عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر»[12].
ولما مات أنس بن مالك قال مُوَرِّق العجلي: «ذهب اليوم نصف العلم» فقيل: وكيف ذاك يا أبا المعتمر؟ فقال: «كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث عن رسول الله ﷺ، قلنا له: تعال إلى من سمعه منه»[13].
فقيام هؤلاء المكثرين بالتعليم وتفرغهم له ميَّزهم عن غيرهم من الصحابة الذين ربما سمعوا مثلما سمعوا أو أكثر.
من المسائل المهمة التي يتجاهلها الطاعنون أنَّ مجتمع الصحابة كان مجتمعًا متعلِّمًا، يجلسون للعلم ويتذاكرون أحاديث النبي ﷺ، ويتدارسون القرآن، بل كانوا يتعاهدون مجالس النبوة بالحضور، فإذا تغيبوا عنها سأل بعضهم بعضًا عما جاء فيها من العلم
رواية الصحابة بعضهم عن بعض:
من المسائل المهمة التي يتجاهلها الطاعنون -خصوصًا في أبي هريرة الذي أسلم متأخرًا وروى أكثر من السابقين للإسلام- أنَّ مجتمع الصحابة كان مجتمعًا متعلِّمًا يجلسون للعلم ويتذاكرون أحاديث النبي ﷺ، ويتدارسون القرآن، بل كانوا يتعاهدون مجالس النبوة بالحضور، فإذا تغيبوا عنها سأل بعضهم بعضًا عما جاء فيها من العلم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كنت أنا وجار لي من الأنصار… نتناوب النزول على رسول الله ﷺ، ينزل يومًا وأنزل يومًا، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك»[14].
فأبو هريرة وابن عباس اللذان جاءا المدينة في العام السابع والثامن على التوالي، وغيرهم ممن تأخر إسلامهم، رَووا عن رسول الله ﷺ مباشرة، ورَووا عن الصحابة الآخرين عنه، ومعظم روايات ابن عباس هي عن الصحابة.
وهذه المسألة معروفة عند المحدثين باسم (مراسيل الصحابة) وهي مقبولة باتِّفاق لاختلافها عن مراسيل التابعين؛ فما يرسله الصحابي هو عن صحابي آخر بلا شك، والصحابة كلهم عدول، فعدم ذكر اسم الصحابي الواسطة لا يضر، بخلاف ما يرسله التابعي فقد يكون عن صحابي، وقد يكون عن تابعي آخر. قال ابن قدامة: «فإنَّ الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم، وأكثر روايتهم عن النبي ﷺ مراسيل»[15]. قال البراء بن عازب رضي الله عنهما: «ما كلُّ ما حدثْنا به عن رسول الله ﷺ سمعناه منه، غير أننا لا نكذب»[16].
وعندما روى أنس رضي الله عنه حديث الشفاعة العظمى قال له رجل: «يا أبا حمزة! فسمعت هذا من رسول الله ﷺ؟ فتغيَّر وجهه واشتد عليه، فقال: ما كلُّ ما نُحدِّثكموه سمعناه من رسول الله ﷺ ولكن لم يكن يَكْذبُ بعضنا بعضًا»[17].
ماذا تعني كثرة الرواية (أبو هريرة مثالاً)؟
مسألة كثرة الرواية ينظر إليها من جانبين: الأول: عدد ما وُجد في كتب الحديث من روايات الصحابي عن النبي ﷺ والتي تشمل المكرر نظرًا لتعدد الطرق عن كل منهم، والثاني: عدد ما سمع هذا الصحابي من النبي ﷺ، وهذا الثاني هو الذي يدندن حوله المشككون في السنة، ويقولون: يستحيل أن يسمع أبو هريرة مثلاً في أقل من أربع سنوات (٥٣٧٤) حديثًا، ويقسمون عدد الأحاديث على الأيام وهكذا. وهذا خلط ربما يكون مُتعمدًا منهم، -مع أنه لا إشكال فيه أيضًا- فحاصل قسمة (٥٣٧٤) على (٤) سنوات يعني: (٤) أحاديث في اليوم وهو عدد عادي ليس فيه أي مبالغة!
ومن المهم التنبيه على أمر آخر؛ وهو أنَّ عدد الأحاديث التي تُنسب إلى الصحابي لا يعني عدد الأحاديث التي سمعها من النبي ﷺ، بل يعني عدد الطرق التي وردت إلينا مع التكرار الذي يجعله مضاعفًا مراتٍ كثيرة، فالرقم المذكور في روايات أبي هريرة (٥٣٧٤) يشمل -كما هو معلوم- الروايات المتعدِّدة للمتن الواحد، فإذا روى المتنَ الواحد عن أبي هريرة مئةُ راوٍ فيعدُّ مئةَ حديث، والمتن واحد فقط[18]. ولكثرة الرواة عن أبي هريرة (٨٠٠) يمكن لنا أن نفسِّر هذا العدد الكبير من الأحاديث، ومن الجدول السابق يتَّضح لنا وجود تناسُب بين عدد رواة كل صحابي وعدد الأحاديث التي رواها، وهذه النتيجة تكشف جانبًا مهمًا في إيضاح كثرة روايات أبي هريرة رضي الله عنه.
وينجلي الأمر تمامًا إذا تأملنا قول أبي هريرة رضي الله عنه: «ما من أصحاب النبي ﷺ أحدٌ أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب»[19]، فعبد الله بن عمرو رضي الله عنه كان يكتب، وأبو هريرة يراه أكثر حديثًا منه، لكنه لم يأخذ مكانه بين المكثرين، حيث تقدَّر عدد الأحاديث التي رواها بـ (٧٠٠) حديث، ومعظم أسباب الإكثار التي تقدمت معنا متوافرة فيه، لكن عدد رواته ليس بتلك الكثرة.
عدد الأحاديث التي تُنسب إلى الصحابي لا يعني عدد الأحاديث التي سمعها من النبي r، بل يعني عدد الطرق التي وردت إلينا مع التكرار الذي يجعله مضاعفًا مراتٍ كثيرة
أمرٌ آخر مهم؛ وهو التفرّغ للتحديث بعد وفاة النبي ﷺ، فمما لا شكّ فيه أنّ أكثر من سمع من النبي ﷺ هو أبو بكر رضي الله عنه، لأنَّه صحبه في الإسلام كله في حلِّه وترحاله، وكان نادرًا ما يفارقه، فلماذا كانت روايات أبي بكر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أقل من مئة (٨١ حديثًا في مسند الإمام أحمد)، وروايات أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أضعاف ما روى أبو بكر (٣٨٦٥ في مسند الإمام أحمد)؟! السبب هنا ليس كثرة محفوظ أبي هريرة وقلة محفوظ أبي بكر، بل السبب كثرة تحديث أبي هريرة وتفرُّغه للتحديث، وتصدُّره لنشر العلم، مع طول مدة بقائه بعد النبي ﷺ (٤٨سنة)، أما قلّة تحديث أبي بكر؛ فهي بسبب انشغاله بأمور الأمة والخلافة، وقِصَرِ مدَّة بقائه بعد النبي ﷺ (سنتان وبضعة أشهر).
من طبيعة البشر اشتغال كل امرئ بما يجيد من الأعمال، فهؤلاء المكثرون لما رأوا من أنفسهم الرغبة والتميز في التعليم اشتغلوا فيه، فبرزوا وتألقوا. أما الخلفاء الراشدون فقد اشتغلوا بأمر إقامة الدولة وهو من أعظم الأمور، وقدّموه على المهمّ وهو التعليم لاسيما مع وجود من يسدّ مكانهم فيه
أوهام إضافية في الأرقام الكبيرة:
الروايات التي وردت عن الصحابة المكثرين ليست كلها من الصحيح، وعليه فالروايات الضعيفة وشديدة الضعف ينبغي ألا تدخل في الحساب!
وثمة مسألة تضيفها هالة الأرقام الكبيرة، ففي حالة أبي هريرة تفوق مروياته خمسة آلاف حديث، فمن يسمع الرقم قد يخطر بباله أنَّ هذه الأحاديث لم يروها غير أبي هريرة، والواقع أنَّ الغالبية العظمى من هذه الأحاديث يشاركه فيها غيره. وأنَّ ما انفرد بروايته عن النبي ﷺ لا يكاد يساوي شيئًا بالنسبة إلى كل مروياته.
فقد وجدت مجموعة من الباحثين[20] أنّ مرويات أبي هريرة في الكتب التسعة (ومنها مسند الإمام أحمد، أكبر كتاب حديثي وصل إلينا) التي انفرد بها بدون تكرار، ولم يروها أحد غيره من الصحابة هي (٤٢ حديثًا) فقط[21].
وقد قال الدكتور محمد طاهر البرزنجي (محقق تاريخ الطبري): إنه وجد أنَّ ما انفرد به أبو هريرة عن غيره من الصحابة هو ثمانية أحاديث فقط[22]، فكم هي نسبة (٨) إلى (٥٣٧٤)؟! إنها لا تشكِّل شيئًا، أقل من ١.٥ بالألف!! فيا سبحان الله كم يخوض الخائضون بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين؟!
الخلاصة:
بعد هذه المناقشة يتبين لنا بوضوح أنَّ هؤلاء المكثرين توفر لهم عاملان رئيسان أسهما في رفع أعداد مروياتهم، وهما:
- قوة الاستيعاب المبنية على ثلاثة أمور، وهي:
- الملازمة والسماع الكثير: وهذا متحقِّق فيهم جميعًا، سماعًا من النبي ﷺ، وسماعًا من الصحابة الآخرين.
- جودة الحفظ: وهذا متحقق فيهم جميعًا، إما بدعاء النبي ﷺ لهم، أو لحداثة أسنانهم ووقدة أذهانهم.
- العناية بطلب العلم: وهذا شأنهم جميعًا كما مر معنا.
- كثرة الرواية عنهم المبنية على ثلاثة أمور، وهي:
- إكثارهم من تعليم الناس: وهذا متحقق فيهم جميعًا، فكانوا أعمدة العلم وأساطينه.
- كثرة الرواة عنهم: وهذا مبني على النقطة السابقة.
- طول أعمارهم: وهذا متحقق فيهم جميعًا، فأقلهم مدَّة بعد النبي ﷺ عائشة رضي الله عنها؛ ماتت بعد النبي بـ (٤٨) عامًا، وأكثرهم أنس رضي الله عنه؛ عاش بعد النبي ﷺ (٨٣) عامًا فتأمل!
ومما لا يُغفل هنا أنَّ من طبيعة البشر اشتغال كل امرئ بما يجيد من الأعمال، فهؤلاء الصحابة لما رأوا من أنفسهم الرغبة والتميز في التعليم اشتغلوا فيه، فبرزوا وتألقوا.
أما الخلفاء الراشدون فقد اشتغلوا بأمر إقامة الدولة وهو من أعظم الأمور، وقدّموه على المهمّ وهو التعليم لاسيما مع وجود من يسدّ مكانهم فيه، وعلى رأسهم هؤلاء المكثرون.
وبعد، فهذا اجتهاد مني في توضيح بعض الجوانب في كثرة رواية الأحاديث عن صحابة معيَّنين دون غيرهم، فإذا أصبتُ في ذلك فبتوفيقٍ من الله، وإن أخطأتُ فمن نفسي أُتيت. والحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه أحمد (٣٦٠٠).
[2] على رأسهم المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر.
[3] قال الشيخ أحمد شاكر: «وقد ذكر العلماء عدد أحاديث كل واحد منهم، واتَّبعوا في العد ما ذكره ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر،.. وقد اعتمد في عده على ما وقع لكل صحابي في مسند أبي عبد الرحمن بقي بن مَخلد، لأنه أجمع الكتب». الباعث الحثيث، ص (٣٧٤).
[4] ينظر: البخاري (٧٣٢٥).
[5] أخرجه البخاري (٣٦٤٨).
[6] أخرجه البخاري (٣٧٥٦).
[7] أخرجه البخاري (١٤٣).
[8] أخرجه البخاري (٢٠٤٧).
[9] سير أعلام النبلاء، للذهبي (٣/١٩١).
[10] أخرج البخاري تعليقًا قبل حديث (٧٨): «ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهرٍ إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد». ووصله ابن حجر بإسناده في تغليق التعليق (٥/ ٣٥٥).
[11] سير أعلام النبلاء، للذهبي (٢/٦٠٦-٦٠٧).
[12] أعلام الموقعين لابن القيم (١/١٩-٢٠).
[13] أخرجه الطبراني، المعجم الكبير (١/٢٥٠) برقم (٧١٩).
[14] أخرجه البخاري (٨٩).
[15] روضة الناظر وجنة المناظر، لابن قدامة (١/٣٦٤).
[16] المرجع السابق نفسه.
[17] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (٨١٥) وقال: إسناده صحيح، والطبراني في الكبير برقم (٦٩٩).
[18] ذكر الدكتور محمد عبده يماني أن أحاديث أبي هريرة في الكتب التسعة (٨٩٦٠) حديثًا، وبعد حذف المكرر تبلغ (١٤٧٥) حديثًا فقط، ينظر: مقالة اتقوا الله في أبي هريرة في موقع الدكتور.
[19] أخرجه البخاري (١١٣).
[20] بإشراف الدكتور محمد عبده يماني رحمه الله.
[21] مقالة اتقوا الله في أبي هريرة في موقع الدكتور محمد عبده يماني.
[22] قال الأستاذ عبد الملك الصالح، في مقالته: قراءة في كتاب: (الجناية على البخاري) للأستاذ مروان الكردي في العدد السادس من مجلة رواء: «أخبرني شيخنا المحقق محمد طاهر البرزنجي حفظه الله أن عدد ما انفرد به أبو هريرة من الصحيح هو ثمانية أحاديث فقط، حسب إحصاء قام به».
أ. شمس الدين درمش
أمين سر رابطة الأدب الإسلامي العالمية، كاتب وأديب، له عدة كتابات نقدية وأدبية.