قضايا معاصرة

كيف استثمرت إيران العلاقة مع الولايات المتحدة لضرب الحواضن السنية؟

العلاقة بين إيران وأمريكا معقدة، وقد استثمرت إيران هذه العلاقة لتحقيق أهدافها التوسعية، خاصةً في ضرب الحواضن السنية، واستفادت من التغاضي الأمريكي في سوريا والعراق ولبنان واليمن وأفغانستان، لتكريس نفوذها، ممارسةً التهجير، والتغيير الديموغرافي، في المقابل، اتسمت السياسة الأمريكية بالبراغماتية، مما ساهم في تقويض الاستقرار السني، ورغم ذلك، يظل المشروع الإيراني هشًا، كما أثبت نجاح الثورة السورية في إسقاط النظام الطائفي.

مقدمة:

تُعدّ العلاقة بين إيران وأمريكا من العلاقات التي يمكن أن تُوصَف بالمعقدة والمتشابكة؛ نظرًا لما شهدته من التفاعلات المتباينة منذ “ثورة الخميني” في العام 1979م، لا سيما مع حالة “العداء” المُعلن والاختلافات السياسية بين الجانبين، وما نجم عنها من تشابكات في كثير من الملفات الإقليمية والدولية.

ولكن رغم هذه العلاقة التي يطغى عليها كثيرًا “الاشتباك” السياسي، وبدرجة أقل كثيرًا “العسكري”[1]؛ فإن إيران تمكنت من استثمار بعض مراحل هذه العلاقة لصالح مشروعها الإقليمي التوسُّعي الذي يُشكل هدفًا استراتيجيًا قام عليه نظام الخميني فيما يُعرَف بـ “تصدير الثورة”، إذ عملت إيران على توجيه ضربات مُؤلمة تجاه الحواضن السنية في العديد من الدول العربية لم تكن لتقدر عليها لولا العلاقة والتنسيق مع أمريكا، وإن كان بشكل غير معلن.

يسعى هذا المقال إلى استكشاف بعض جوانب استثمار إيران علاقتها مع أمريكا في خدمة مشروعها الإقليمي التوسعي وضرب الحواضن السنية؛ وذلك من خلال تسليط الضوء على سلوك إيران في خمس دول وهي: سوريا، العراق، اليمن، لبنان، وأفغانستان.

وتأتي أهمية هذا المقال لكونه يُحاول تسليط الضوء على تفاعلات العلاقة بين إيران وأمريكا، خصوصًا في ظل استمرار محاولات النظام الإيراني لتصدير ثورته، بينما تُقدم أمريكا نفسها كخصم رئيسي للمشروع الإيراني، كما يتجنب المقال الوقوع في فخ نظريات العداء المطلق أو التحالف السري بين الطرفين، ليؤكد أن كل طرف يسعى لتحقيق مشروعه الاستراتيجي في المنطقة العربية والإقليم عمومًا، ما يُشير إلى أهمية فهم هذه الديناميكيات لتطوير أساليب مواجهة فعالة أمام الطموحات الإيرانية في تغيير هوية المنطقة العربية، والسنية الإسلامية عمومًا، وفرض “التشيع الفارسي” عليها[2].

إيران وأمريكا؛ استثمار الخصومة المعلنة في تحالف المصالح الاستراتيجية:

رغم الخطاب العدائي المعلن بين إيران وأمريكا، تحمل العلاقة بين الطرفين أبعادًا تتجاوز التصريحات الظاهرة، لتتسم بقدرٍ من التداخل في المصالح الاستراتيجية، فقد وظّف كل طرف هذه العلاقة في سياقات تخدم أهدافه، خاصة في ملفات الشرق الأوسط.

  • التغاضي الأمريكي عن تدخل إيران في سوريا لحماية نظام الأسد من السقوط:

عند الحديث عن التدخل الإيراني في سوريا بعد اندلاع الثورة فإنه لا يمكن التغافل عن الموقف الأمريكي الذي لعب دورًا في التغاضي عن التدخل رغم موقف أوباما الداعي لرحيل الأسد آنذاك[3]، فلم تكن هناك أدوات أمريكية فعالة لمواجهة النفوذ الإيراني، بل إن الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة السورية كان في سياقات مُعينة[4] وتوقف بشكل نهائي في العام 2017م، علمًا أن الفرصة كانت سانحة لضرب المشروع الإيراني في مقتل لو كانت أمريكا جادةً فعلاً في إنهائه، لا سيما مع وجود فصائل الثورة المُكتوية بنيران هذا المشروع الطائفي ورغبتها بمواصلة العمل ضد تلك المليشيات، لكن أمريكا وظّفت فيما يبدو التمدد الإيراني لإضعاف الثورة السورية وبقاء القوى المحلية في معادلة “لا غالب ولا مغلوب” لفترة طويلة من الوقت.

رغم التوسع الإيراني في سوريا بشكل تدريجي ركزت الجهود الأمريكية على محاربة “داعش” دون الاهتمام بمواجهة التمدد الإيراني أو حماية الحواضن السنية التي كانت تُمثل عمق الثورة[5]، وبالرغم من ذلك فقد تمكنت قوى الثورة والمعارضة من تكبيد مليشيات إيران خسائر فادحة وطردها من عشرات القرى والبلدات، إلا أن التدخل الروسي في 2015م قلب الموازين بسبب سياسة الأرض المحروقة ضد مناطق قوى الثورة والمعارضة، وهو ما شكل خدمةً مباشرة للمشروع الإيراني لكون إيران استفادت من التدخل الروسي لصالح تعزيز وجودها على الأرض في مراحل زمنية مختلفة قبل زوال النظام البائد.

فضّلت أمريكا التعامل مع الملف السوري ضمن إطار تفاوضي، بما في ذلك ربط بعض القضايا الإقليمية بالاتفاق النووي الإيراني، الأمر الذي سمح لطهران بالتحرك بحريةٍ في سوريا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية دون أن تخشى تداعيات كبيرة من الجانب الأمريكي، ولم تظهر التوترات بشكل متكرر بين الطرفين إلا بعد عملية “طوفان الأقصى” لكون إيران سعت لتوظيف المليشيات الموالية لها في ريف دير الزور للتحرش بقواعد القوات الأمريكية في شرق سوريا، وبالرغم من الهجمات المتكررة ضد قواعد التحالف الدولي بقي الرد الأمريكي في سياق منضبط وفي إطار ما تعتبره الولايات المتحدة حق “الدفاع عن النفس”.

واللافت أن أمريكا لم تمارس أدورًا حقيقية لإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا قبل زوال النظام البائد، بل استمر الملف السوري كأحد أدوات التفاوض بين إيران وأمريكا، ولذلك ينظر الكثيرون إلى توقيع إدارة أوباما للاتفاق النووي على أنه أدى إلى توفير بيئة مواتية لإيران لتعزيز تدخلها العسكري والطائفي في سوريا، وضرب الحواضن السنية، إذ أتاح الاتفاق لإيران رفع الحظر عن مليارات الدولارات من أصولها المجمّدة لزيادة دعم وكلائها بالمنطقة[6]، وممارسة العديد من الأساليب لتثبيت نفوذها في سوريا، وتهجير ملايين السوريين وفرض سياسات استيطانية لصالح المليشيات[7]، بتسهيل من نظام الأسد البائد الذي عمل بدوره على تجنيس آلاف من عناصر المليشيات[8]، وهذا ما شكل محل توافق مع المشروع الإيراني قبل أن يتمكن السوريون من إسقاط النظام البائد مستثمرين الظرف الإقليمي والدولي الذي بدت فيه إيران ومليشياتها شديدة الضعف وتبددت فيما يبدو المصالح المشتركة بينها وبين أمريكا في سوريا.

لم تظهر التوترات بين إيران وأمريكا بشكل متكرر إلا بعد عملية “طوفان الأقصى” لكون إيران سعت لتوظيف المليشيات الموالية لها في ريف دير الزور للتحرش بقواعد القوات الأمريكية في شرق سوريا، وبالرغم من الهجمات المتكررة ضد قواعد التحالف الدولي بقي الرد الأمريكي في سياق منضبط وفي إطار ما تعتبره الولايات المتحدة حق “الدفاع عن النفس”

  • هدم البوابة الشرقية للعرب.. تمكين مليشيات المشروع الإيراني وتفريغ الحواضن السنية في العراق:

يُشكل الغزو الأمريكي للعراق نقطة انطلاق لاستراتيجية إيرانية أمريكية أسهمت في ضرب المكونات السنية وتمكين المليشيات الطائفية الموالية لإيران؛ فمنذ احتلال بغداد عام 2003 كانت إيران اللاعب المستفيد الأكبر، إذ استثمرت علاقتها مع أمريكا لضرب خصومها الإقليميين وهدم البوابة الشرقية للمنطقة العربية، مستغلةً الحرب الأمريكية ضد نظام صدام حسين، رغم أنها عارضت الحرب نظريًا إلا أنها كانت داعمة لسياسة أمريكا في التخلص من النظام العراقي المعادي لها[9].

ويعود ذلك بطبيعة الحال إلى ما عانته إيران خلال مرحلة الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988م)، التي خاضها النظام العراقي بقيادة صدام حسين ضد إيران، ففي تلك الفترة دعمت واشنطن علنًا العراق كجزء من استراتيجيتها لاحتواء إيران، ووفرت دعمًا لوجستيًا ومخابراتيًا لدول الخليج الداعمة لصمود النظام العراقي، ومع ذلك كُشِف لاحقًا أن أمريكا كانت تُزود إيران بالسلاح في الخفاء في صفقةٍ عُرفت بـ”إيران-كونترا”[10]، حيث زودت واشنطن طهران بأسلحة عبر وسطاء مقابل تمويلها لقوات الكونترا في نيكاراغوا.

بعد الغزو الأمريكي للعراق استغلت إيران حالة الفراغ السياسي والأمني لتوسيع نفوذها، ومع صعود تنظيم داعش ظهر تعاون غير مباشر بين طهران وواشنطن، حيث قدمت أمريكا دعمًا جويًا لمليشيات “الحشد الشعبي” والميليشيات الطائفية الأخرى بحجة مواجهة داعش، على الرغم من توثيق انتهاكاتها الواسعة بحق السكان السنة، مثل القتل والخطف والتهجير القسري[11]، فكانت الحرب ضد داعش أحد أدوات تمكين المشروع الإيراني.

وبالرغم من إنهاء وجود التنظيم في آخر معاقله ببلدة الباغوز شرقي دير الزور السورية عام 2019م ظلت المعابر الشرعية وغير الشرعية بين سوريا والعراق تحت سيطرة المليشيات الإيرانية وتدخل منها أطنان من السلاح والذخيرة إلى القواعد والنقاط الإيرانية المطلة على مناطق نفوذ أمريكا شرق الفرات في سوريا، دون أن تقوم قوات التحالف الدولي حينها بالضغط العسكري المستمر لإنهاء عمل تلك المعابر[12].

إذًا: فإن تسليم أمريكا ما بقي من العراق لإيران لم يكن وليد الحرب ضد داعش، ولكن جاءت الحرب ضد داعش لتُعزّز المشروع الإيراني لكونه أتاح لإيران تدمير مناطق سنية وإفراغها من سكانها وجعلهم نازحين ولاجئين، وهذا يصب في صالح مشروعها خصوصًا بعدما استوطنت مليشيات موالية لها ضمن مناطق السنة في العراق، بينما كانت تكمن المصلحة الأمريكية بسياقات معينة أبرزها ملء الفراغ الناجم عن سقوط صدام وتقليل حجم الوجود الأمريكي بالعراق، والاستفادة من مليشيات إيران لمواجهة تنظيم داعش وضرب الطرفين ببعضهما، فضلاً عن جعل العراق بلدًا ممزقًا خاضعًا للهيمنة الإيرانية، ما يجعل نهوضه مرة أخرى أمرًا صعبًا، وفي ذات الوقت ربما يُجبر دول المنطقة على التماهي مع السياسات الأمريكية لمواجهة النفوذ الإيراني.

إن تسليم أمريكا ما بقي من العراق لإيران لم يكن وليد الحرب ضد داعش، ولكن جاءت الحرب ضد داعش لتُعزّز المشروع الإيراني لكونه أتاح لإيران تدمير مناطق سنية وإفراغها من سكانها وجعلهم نازحين ولاجئين، وهذا يصب في صالح مشروعها خصوصًا بعدما استوطنت مليشيات موالية لها ضمن مناطق السنة في العراق

الدور الأمريكي في تعزيز مشروع إيران السياسي والعسكري في لبنان:

أظهرت واشنطن مرارًا أنها غير جادة في مواجهة النفوذ الإيراني المتمثل بـ “حزب الله” في لبنان، بل تعاملت مع هذا النفوذ كعامل يمكن توظيفه ضمن ترتيباتها الإقليمية وفق ما سيأتي.

فمنذُ تأسيس مليشيا “حزب الله” في أوائل الثمانينيات غضّت أمريكا النظر عن دعم إيران ونظام الأسد البائد له، الأمر الذي أسهم في بناء قوته العسكرية وترسيخ مكانته كفاعل سياسي وعسكري رئيسي في لبنان، ورغم إدراج الحزب على قوائم الإرهاب الأمريكية منذ التسعينيات[13]، إلا أن الموقف الأمريكي عمومًا اتّسم بالبراغماتية، فعلى سبيل المثال خلال الاجتياح “الإسرائيلي” للبنان عام 2006م اكتفت واشنطن بدعم “تل أبيب” دبلوماسيًا وعسكريًا دون تشجيعها على إنهاء وجود الحزب تمامًا، وهو موقف فُسِّر على أنه تفضيل لاحتواء الحزب كجزء من المعادلة اللبنانية، ونفس الأمر يتكرر اليوم بعد عملية “طوفان الأقصى” إذ يُظهِر الحراك الأمريكي رغبة أمريكية بإضعاف الحزب لا إنهائه بشكل نهائي، وهذا ما قد يفتح الباب لإيران لتقوية نفوذ الحزب مستقبلاً بعد عودة الهدوء[14].

كما برزت توافقات ضمنية أمريكية إيرانية في التعامل مع “حزب الله”، منها على سبيل المثال ما حصل بعد الفراغ الرئاسي الذي استمر سنتين بين 2014 و2016م، إذ لعبت إيران دورًا محوريًا في انتخاب حليفها ميشال عون رئيسًا، وهو ما تم بموافقة أمريكية ضمنية تُرجِمت بعدم ممارسة أي ضغوط فعلية لمنع هذه الخطوة، فرغم معرفة واشنطن بأن وصول عون يُعزّز النفوذ الإيراني من خلال “حزب الله”[15]، إلا أنها تعاملت معه فيما يبدو كحلٍ مؤقت يضمن استقرار لبنان في ظل أزمات المنطقة.

استغل “حزب الله” حالة الانقسام السياسي اللبناني وضعف الدولة لترسيخ مشروع إيران الإقليمي، فمع تراجع القوى التقليدية في لبنان، أصبح الحزب يمتلك تأثيرًا مباشرًا على القرار السياسي والأمني للبلاد، ورغم فرض واشنطن عقوبات اقتصادية على الحزب وشبكاته المالية، لم تُظهر أي جدية في كبح تمدده على الأرض، بل على العكس، لعبت مواقفها المترددة في ملفات أساسية دورًا في تعزيز موقعه، خاصة في سوريا، إذ إنه نقل مليشياته عبر الحدود دون أي محاولةٍ أمريكيةٍ جادة لمنع ذلك، وهو ما مكن إيران بشكل عام من تحقيق مكاسب على الأرض بسوريا نظرًا لمشاركة الحزب بالقتال وتكريسه المشروع الإيراني من خلال قتل وتهجير السوريين.

ومن جانب آخر لا يمكن إغفال حقيقة أن أمريكا قدمت بشكل غير مباشر غطاءً لمليشيا “حزب الله” عبر دعمها للجيش اللبناني، فرغم أن الدعم كان يُقدّم تحت شعار “تقوية مؤسسات الدولة اللبنانية”، إلا أن واشنطن لم تمارس أي ضغط حقيقي لضمان فصل الجيش عن تأثير “حزب الله”، بل على العكس كان بعض المسؤولين الأمريكيين يشيرون لأهمية دور الجيش اللبناني في مواجهة “الجماعات الإرهابية السنية”[16]، وهو ما عزّز نفوذ الحزب داخليًا.

رغم فرض واشنطن عقوبات اقتصادية على حزب الله وشبكاته المالية، لم تُظهر أي جدية في كبح تمدده على الأرض، بل على العكس، لعبت مواقفها المترددة دورًا في تعزيز موقعه، خاصة في سوريا، وهو ما مكن إيران بشكل عام من تحقيق مكاسب على الأرض بسوريا نظرًا لمشاركة الحزب بالقتال وتكريسه المشروع الإيراني من خلال قتل وتهجير السوريين.

الازدواجية الأمريكية في اليمن؛ بين محاربة تنظيم “القاعدة” وتجاهل خطر الحوثيين:

تُظهِر السياسة الأمريكية في اليمن تناقضًا واضحًا بين ادعاءاتها محاربة “الإرهاب”، ومواقفها العملية على الأرض؛ إذ حصرت الإرهاب بـ “القاعدة” وتجاهلت مخاطر مليشيات الحوثي، وهذا ما مكن إيران من استغلال هذا التناقض لتعزيز نفوذها.

فعلى سبيل المثال: في العام 2018م مارست أمريكا ضغوطًا على قوات التحالف العربي بقيادة السعودية لوقف عملية تحرير ميناء ومدينة الحُديدة الاستراتيجية على الساحل اليمني[17] بحجة المخاوف الإنسانية، الأمر الذي سمح للحوثيين بالاحتفاظ بشريانهم الاقتصادي والعسكري، إذ بقي الميناء قناة رئيسية لتهريب الأسلحة الإيرانية، وهو ما مكنهم من تعزيز مواقعهم على الأرض، وحرمان التحالف العربي من فرصة لتقليص نفوذهم بشكل حاسم.

ومن جانب آخر، وبالرغم من الدعم العسكري واللوجستي الواضح الذي تُقدمه إيران للحوثيين إلا أن واشنطن ترددت لسنوات في إدراج المليشيات الحوثية على قوائم الإرهاب، إذ تم إدراجهم في فترة ترامب الأولى ثم رُفِع التصنيف مع قدوم بايدن[18]، ثم عادت واشنطن وأدرجتهم بعد تهديدهم للملاحة الدولية ومهاجمة أهداف “إسرائيلية” في البحر الأحمر عقب “طوفان الأقصى”، ولم يُخف المسؤولون الأمريكيون الرغبة برفع التصنيف فيما لو أوقف الحوثيون عملياتهم[19].

عمومًا تُظهِر السياسة الأمريكية في اليمن لجوءها إلى استراتيجية تهدف إلى إبقاء التهديد الحوثي قائمًا في مواجهة دول الخليج، فواشنطن قد تكون ترى في استمرار نفوذ الحوثيين وسيلة لإشعار دول الخليج بأهمية الدور الأمريكي كضامن وحامٍ لأمن المنطقة، الأمر الذي قد يُترجم إلى مكاسب اقتصادية وصفقات تسليح ضخمة، وهذا ما ظهر بشكل واضح في ولاية ترامب الأولى، بالإضافة إلى نفوذ سياسي دائم في الخليج والتعامل مع الحوثيين كورقة يمكن استثمارها لتحقيق مكاسب جيوسياسية طويلة الأمد، بدلاً من مواجهتهم بشكل مباشر.

هذه السياسة الأمريكية خلقت فراغًا استراتيجيًا استغلته إيران بشكل فعال لتعزيز نفوذها الإقليمي عبر دعم الحوثيين. فقد شهد اليمن توسعًا غير مسبوق في النفوذ الإيراني، خاصة على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية، لا سيما بعد وصول أسلحة متطورة وتقنيات عسكرية مكنت الحوثيين من استهداف العمق السعودي مثل مكة والرياض وشركة أرامكو[20]، فضلاً عن تحول الحوثيين إلى قوة تُهدد الممرات المائية الدولية، وهو ما يُقوي موقف إيران عند أي عملية تفاوضية سواء مع الدول العربية أو الغربية.

تُظهِر السياسة الأمريكية في اليمن لجوءها إلى استراتيجية تهدف إلى إبقاء التهديد الحوثي قائمًا في مواجهة دول الخليج، الأمر الذي قد يُترجم إلى مكاسب اقتصادية وصفقات تسليح ضخمة، وهذا ما ظهر بشكل واضح في ولاية ترامب الأولى، بالإضافة إلى نفوذ سياسي دائم في الخليج والتعامل مع الحوثيين كورقة يمكن استثمارها لتحقيق مكاسب جيوسياسية طويلة الأمد، بدلاً من مواجهتهم بشكل مباشر.

إيران وأفغانستان؛ من التعاون مع واشنطن إلى استثمار الفراغ الأمريكي:

في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م وجدت إيران نفسها على الجانب ذاته مع أمريكا في هدفها المُعلَن بالقضاء على حركة طالبان، حيث لعبت طهران دورًا مهمًا في دعم الحملة الأمريكية العسكرية التي أطاحت بحركة طالبان[21]، وجاء ذلك منسجمًا مع المصالح الإيرانية آنذاك واعتبارها أن طالبان تُشكل تهديدًا أيديولوجيًا وأمنيًا على حدودها الشرقية.

ووفق تقارير غربية أظهرت إيران مرونة في التعاون مع إدارة بوش الابن خلال المرحلة الأولى من الحرب، خاصة في مؤتمر بون عام 2001م، حيث أسهمت في دعم تشكيل حكومة انتقالية موالية للغرب في كابول[22]، ولكن مع تصاعد النفوذ الأمريكي واستمراره في المنطقة بدأت إيران تنتهج استراتيجية مزدوجة، حيث بدأت بدعم قوى محلية ونسج علاقات مع أطراف أفغانية متعددة، بما فيها حركة طالبان[23]، في محاولة لتعزيز نفوذها وموازنة النفوذ الأمريكي[24].

ومن يتتبع خريطة التشكيلة السياسية قبل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يلحظ حجم التغلغل الإيراني في الحكومة الأفغانية حينها، فعلى سبيل المثال في العام 2016م كانت هناك العديد من الأحزاب الشيعية التي على صلة وثيقة بالنظام الإيراني بالتزامن مع حضور ناعم عبر افتتاح مراكز طبية بالمناطق الفقيرة وجامعات إيرانية ومدراس تعليمية وحوزات تنشر المذهب الشيعي[25]، وتغلغل في مؤسسات سياسية مثل البرلمان الذي وصل فيه عدد الأعضاء الشيعة في 2016م إلى ما يعادل ربع الأعضاء لأول مرة بتاريخ البلاد مع حصول الشيعة على مقاعد وزارية[26] فضلاً عن الاعتراف بـ “المذهب الشيعي الجعفري” في الدستور الأفغاني[27] جنب المذهب السني الحنفي لأول مرة في تاريخ البلاد رغم أن الشيعة لا يُشكّلون سوى نحو 10% من عموم الشعب الأفغاني.

ومع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان عام 2021م وجدت إيران الفرصة سانحة لتوسيع نفوذها بشكل أكبر، مستغلةً الفراغ الذي تركه الانسحاب لتعمل على تعزيز وجودها الناعم في البلاد، عبر محاولة التقرب من طالبان من خلال تقديمها مشاريع لتطوير وترميم المطارات والطرقات وبناء المشافي وتوسيع الاستثمارات الإيرانية في أفغانستان[28]، وهو ما قد ينظر له البعض على أنه محاولةٌ منها للقبول بالحكومة الجديدة كأمر واقع من باب ضرورات الجيرة وتأمين الحدود لا سيما مع توقعاتها بتراجع نفوذها السياسي والمذهبي بعد سيطرة طالبان على الحكم[29].

الأدوات الناعمة في التغلغل الإيراني بأفغانستان تبدو مشابهة للحالة السورية واليمنية والعراقية واللبنانية، لكن الفارق الوحيد أنه لا يوجد ذراع عسكري واضح لها، لكن هذا غير مستبعد لا سيما أن إيران استثمرت باللاجئين الأفغان إليها بما فيهم الأطفال عبر تشجيعهم وتقديم المحفزات لهم من أجل التجنيد للقتال في سوريا سابقًا[30]، حتى بات هناك فصيل أفغاني كامل ممول من قبل إيران يُدعى “لواء فاطميون” قوامه من الأفغان شارك في قتل السوريين قبل أن يُطرد من سوريا مع زوال النظام البائد[31].

ورغم أن “فاطميون” فصيلٌ مارَسَ الكثير من الانتهاكات إلا أنه وخلال نحو عقد من الحرب في سوريا كان يندر أن تُوجّهَ أمريكا لعناصره ضربات جوية إلا ما كان في إطار الرد على هجمات المليشيات الإيرانية عمومًا، وبعد زوال النظام البائد في سوريا وعودة هذا الفصيل لإيران فإنه من غير المستبعد أن يعود عناصره لأفغانستان ليكونوا أداة بيد إيران تطوعهم في خدمة مشروعها التوسعي بأفغانستان، وهو أمر ينظر له البعض بأنه وارد الحدوث خاصة في إقليم هرات الشيعي الذي يعد أحد مناطق اهتمام إيران بشكل أساسي في أفغانستان.

الأدوات الناعمة في التغلغل الإيراني بأفغانستان تبدو مشابهة للحالة السورية واليمنية والعراقية واللبنانية، لكن الفارق الوحيد أنه لا يوجد ذراع عسكري واضح لها، لكن هذا غير مستبعد لا سيما أن إيران استثمرت باللاجئين الأفغان إليها بما فيهم الأطفال عبر تشجيعهم وتقديم المحفزات لهم من أجل التجنيد للقتال في سوريا سابقًا

خاتمة:

يتضح من استعراض علاقة إيران مع أمريكا في سياقاتها الإقليمية أن هذه العلاقة، ورغم ظاهرها “العدائي” المعلن، إلا أنها اتسمت بالتشابك واستثمار الفرص المشتركة بينهما، وقد أدى ذلك إلى تكريس النفوذ الإيراني في عدة دول عربية وإسلامية على حساب استقرار الحواضن السنية، ما ساهم في تشكيل واقع جديد للمنطقة وإدخالها في دوامة من الفوضى والفقر والتجهيل والتطرف.

استثمرت إيران التغاضي الأمريكي عن تمددها لتحقق أهدافها الاستراتيجية المتمثلة في تصدير الثورة، فأطلقت العنان لمليشياتها لممارسة شتى صنوف الانتهاكات والتهجير والتغيير الديموغرافي في قلب الحواضن السنية بسوريا والعراق ولبنان واليمن، بينما أظهرت السياسة الأمريكية “براغماتية عالية” تهدف إلى تحقيق مصالحها حتى وإن كان ذلك يعني تدمير الحواضن السنية.

لكن ورغم كل محاولات التغلغل الإيراني والسعي لإضعاف الحواضن السنية واستنزافها فإن نجاح الثورة السورية في إسقاط النظام البائد، رغم الدعم الكبير الذي تلقاه من حليفيه الروسي والإيراني على مدى أكثر من عقد، يؤكد هشاشة المشروع الإيراني الذي لا يعدو كونه أوهى من بيت العنكبوت، ويأتي خلاص السوريين من هذا النظام الطائفي كتجربة ملهِمة للشعوب التي اكتوت بنيران المشروع الإيراني حافزًا لكسره والتخلص منه بلا رجعة.


عامر المثقال

باحث مساعد في مركز الحوار السوري


[1] كانت هناك بعض الجوانب التي كان فيها صدام عسكري غير مباشر بين الطرفين، منها مثلاً في يناير عام 2020م اغتالت أمريكا قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بضربة على مطار بغداد، ومن قبل أيضًا كانت هناك عملية الإنزال على السفارة الأمريكية في إيران (1980م) وهي العملية المعروفة باسم “عملية الطائرة الصاعقة” وكانت محاولة أمريكية فاشلة لإنقاذ 52 رهينة أمريكيًا تم احتجازهم في السفارة الأمريكية في طهران بعد أن اقتحمها مجموعة من الطلاب الإيرانيين في نوفمبر 1979م، كما توجد مواضع أخرى لاحتكاك عسكري غير مباشر بين الطرفين، لكن يمكن القول بالمجمل إنه لم يحصل اشتباك مفتوح ومستمر بين قوات البلدين رغم تضارب المشروعين في الكثير من الملفات.

[2] التشيّع الفارسي تشيّع سياسي يجمع مع عناصر المذهب دخائل كثيرة يمتزج فيها الانتماء الديني مع الانتماء القومي والتعصب للحضارة الفارسية، واكتملت خصائص هذا “التشيُّع الفارسيّ” بما فرضَه الخميني من مبدأ “ولاية الفقيه” الذي هو جزء أساس في هوية إيران اليوم، يُنظر: حتى لا تكونَ الشام إيرانية! د. ياسين جمول، مجلة رواء، العدد الثامن.

[3] أوباما: نظام الأسد يجب أن ينتهي، الجزيرة نت، 25 / 9 / 2012م.

[4] على سبيل المثال فإن أمريكا منعت فصائل المعارضة من مهاجمة مواقع نظام الأسد واشترطت أن يكون الدعم مرتبطًا بالحرب ضد داعش، وهذا ما دفع واشنطن لدعم تشكيل ما تُعرف بـ “قوات سوريا الديمقراطية – قسد” شمال شرقي سوريا التي تتهم بأنها الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف على لوائح الإرهاب في أمريكا نفسها وفي الاتحاد الأوروبي وتركيا، كما يجب التمييز بين الدعم في المجال الإنساني والعسكري، فالنشاط الأمريكي بالأول يختلف عن الثاني المحدود والمؤطر بسياقات محدودة.

[5] لا يعني ذلك أن الثورة حينما قامت كانت تنتظر الدعم أو الحماية الأمريكية، لكن على سبيل المثال لا الحصر فإن الإدارة الأمريكية نفسها حذّرت مرارًا نظام الأسد من ارتكاب مجازر بالسلاح الكيماوي وأنها سترد على تجاوز ما اعتبرته “خطًا أحمر”، لكن على أرض الواقع لم يكن هناك أي ردة فعل وقتل آلاف السوريين بنيران نظام الأسد والمليشيات الإيرانية المساندة له دون أي تطبيق فعلي للتهديدات الأمريكية.

[6] إضاءات على العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة و”إسرائيل” وتأثيراتها في الملف السوري، محمد سالم وعلي فياض، مركز الحوار السوري، ص (133).

[7] التغلغل الإيراني في سوريا، اغتيال المستقبل السوري، مركز الحوار السوري، ص (382، 388).

[8] الأسد… “سوريا لمن يدافع عنها أيًا كانت جنسيته”، سبوتنيك، 26 / 7 / 2015م.

[9] إضاءات على العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ص (106).

[10] المرجع السابق، ص (66).

[11] ديالى.. قلق من التغيير الديمغرافي بالقوة، الجزيرة نت، 12 / 1 / 2015م.

[12] ولا يعني ذلك التزام إيران بالمطلق بالتفاهمات مع أمريكا في هذا الإطار، فهي صاحبة مشروع يحاول الهيمنة على كل الجغرافيا السورية، لذلك فإنها سعت إلى التحرش كثيرًا بقواعد التحالف خاصة بعد طوفان الأقصى، ومن قبل حاولت أيضًا توظيف بعض عشائر شرق الفرات للخدمة في مشروعها، ولذلك كانت هناك محاولات توسُع متكررة في شرق الفرات عبر دعم بعض مليشيات العشائر لمهاجمة مليشيات “قسد”، خاصة أن منطقة شرق الفرات غنية بالنفط والثروات الزراعية، ما يجعل السيطرة عليها أمرًا بالغ الأهمية في سياق تمكين المشروع الإيراني في سوريا.

[13] حزب الله، rewardsforjustice، موقع رسمي تابع للولايات المتحدة الأمريكية.

[14] أشار تقرير لمركز الحوار السوري إلى أن الموقف الأمريكي لا يبدو مندفعًا تجاه الرغبة “الإسرائيلية” في إنهاء نفوذ “حزب الله” بشكل كامل في لبنان، بل إضعافه وإجباره على قبول شروط “إسرائيل” لوقف الحرب، يُنظر: تداعيات الحرب في لبنان على سوريا.. “سيناريوهات إعادة تموضع حزب الله وآثاره الأمنية والعسكرية والديمغرافية”، مركز الحوار السوري، 7 / 10 / 2024م.

[15] ميشال عون رئيسًا للبنان بتسوية وافقت عليها غالبية الأطراف السياسية، فرانس برس، 31 / 10 / 2016م.

[16] على سبيل المثال صرح مساعد وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر عام 2019م “للولايات المتحدة ثقة كبيرة في الجيش اللبناني، وتعتقد أنه شريك ممتاز في محاربة الإرهابيين الجهاديين السنّة، وأنّ هذا الترتيب الأمني الثنائي ذو قيمة، ونعتزم الاستمرار فيه”، ينظر: شينكر: دعم الجيش اللبناني هو “استثمار جيد”، لبنان 24، 15 / 11 / 2019م.

[17] مصادر: التحالف يوقف الهجوم على الحديدة بعد دعوات متزايدة من الغرب، رويترز، 15 / 11 / 2018م.

[18] إلغاء تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية: إنقاذ للسعودية أم قرار أمريكي بحاجة لإعادة نظر؟، بي بي سي، 14 / 2 / 2021م.

[19] واشنطن تعيد إدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب، الجزيرة نت، 17 / 1 / 2024م.

[20] الحوثيون يعلنون قصف أرامكو وأهداف سعودية حساسة والرياض تعلن إحباط الهجمات، الجزيرة نت، 29 / 1 / 2020م.

[21] إضاءات على العلاقات الإيرانية مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ص (103).

[22] المرجع السابق نفسه.

[23] المرجع السابق، ص (104).

[24] كما يقول “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية”: إن إيران تُعد العميل المفضَّل لطالبان في ما يتعلَّق بأنظمة الأسلحة التي استولت عليها والمسروقة والمعطَّلة، وغالبًا ما تكون إيران في حاجة ماسة إلى الأنظمة الفرعية المتطوّرة، والتي يمكن استخدام بعضها في الصواريخ والطائرات المسيّرة والقنابل، بينما يتم استخدامُ البعض الآخر منها لأغراضِ الهندسة العكسية، وإنتاج الأسلحة بكمِّيات كبيرة، يُنظر:

إيران بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان: تحويل التهديد إلى فرصة، القدس العربي، 14 / 8 / 2021م.

[25] التغلغل الإيراني في أفغانستان يهدد الأقاليم، الشرق الأوسط، 10 / 6 / 2016م.

[26] على سبيل المثال في العام 2016م كان النائب الثاني لرئيس الجمهورية عبد الكريم خليلي ووزير العدل ووزير الصناعة ووزير النقل ووزير الأشغال العامة وعدد من نواب الوزراء وحكام بعض الولايات المهمة مثل هرات وباميان وسمنجان ودايكوندي من الشيعة، ينظر:

التغلغل الإيراني في أفغانستان يهدد الأقاليم.

[27] النفوذ الشيعي المتنامي في أفغانستان.. إلى أين؟ الراصد، 16 / 1 / 2010م.

[28] إيران تضفي الطابع الرسمي على علاقاتها مع حركة “طالبان”، معهد واشنطن، 3 / 3 / 2023م.

[29] أفغانستان وإيران.. إكراهات السياسة وضرورات الجيرة، الجزيرة نت، 27 / 12 / 2022م.

[30] إيران: تجنيد أطفال أفغان للقتال في سوريا، هيومين رايتس ووتش، 1 / 10 / 2017م.

[31] لواء فاطميون بأفغانستان.. مقاتلون ولاؤهم لإيران ويثيرون حفيظة طالبان، الجزيرة نت، 28 / 4 / 2024م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

X