قضايا معاصرة

كيف أُنتج النظام السياسي في سوريا خلال قرن دروس وعِبر

تسعى المقالة إلى بيان كيفية تشكّل (النظام السياسي) في سوريا خلال قرنٍ كاملٍ، بوصفه نظامًا وظيفيًا مندمجًا في المنظومة الدولية أكثر من كونه تعبيرًا عن إرادة المجتمع السوري. وذلك عبر تتبّع الأرضيات التي وضعتها قوى الانتداب كي تفرز النظام لا سيما بعد الاستقلال، وطريقةَ إدارة المجتمع والحدودِ والموارد وفق متطلبات القوى الدولية، ما يشير إلى دروسٍ وقائيةٍ للأجيال القادمة.

مدخل:

كثرةٌ منّا يظن أنّ الغرب يقرُّ بسوريا أرضًا عربية مسلمة تاريخيًا، وأنّ السُنّة هم أصحابها أصلاً أو الأحقُ بها. والحقيقة أنهم لم يقبلوا بهذا يومًا منذ معركة اليرموك إلى عهد سايكس-بيكو ثم دول الطوائف في الساحل والجنوب والشرق؛ ولأجل ذلك كانت الحملات الصليبية وحملة نابليون ثم الاستعمار، ولم يرحلوا بجيوشهم إلا وقد فصلوا كيانًا لبنانيًا، ونصّبوا الطائفيين ولاةً على سوريا ولبنان، وانتزعوا فلسطين.

هذا التصور الغربي ما يزال هدفًا ماثلاً أمامهم، وإن تطور –بعد الاستقلال– إلى إنتاج نظامٍ بمواصفات دوليةٍ ليخدم المفهوم الذي يُبقي سيادة الشام الفعلية بيد الغرب، ولكن هذه المرة من خلال توكيل وصُنع دولةٍ بمواصفات “نظامٍ” له محددات ومدخلات ومخرجات وتفاهمات دولية، ولو كانت مشاكسة ظاهريًا. إنّ هذا النظام في خطوطه العريضة لم يكن يومًا محلّ خلافٍ حاسم بين الروس ورثة الصقالبة وبين باقي ورثة الإمبراطورية الرومانية، ولا مع فرنجة باريس؛ حيث نهلَ منظّروا القوميين الذين أتوا ببلاء البعث، ولا مع لندن حيث مكث حافظ أسد في ربيع 1965م شهرًا -بحجّة العلاج- كي يفاوض ويفهم الدور والحدود المطلوبة للزعامة وثمنها الذي تجلّى بتسليم الجولان، ليعود ويخطط لانقلابه على القيادة التاريخية للبعث عام 1966م ثم ينقلب لاحقًا على جماعة “صلاح جديد” أعوانه في الانقلاب، وينقل الدولة وبيئة النظام إلى حالة أكثر عمالة مما فعله من قبله الانقلابيون وبقايا جيش المشرق الفرنسي، كحسني الزعيم والحناوي وجديد، بعدما أدّوا الغرض في مرحلة ضعضعة الهوية الإسلامية، ومحاولة استبدال الشخصية البعثية بها والتي فتحت الباب للطوائف ليتسنَّموا الدولة والجيش على يد الأرسوزي وعفلق والبيطار وأكرم حوراني وبقية الانقلابيين.

نظر الغرب إلى الشام بوصفها إقليمًا تابعًا للإرث الروماني خرج عن السيطرة منذ اليرموك، فظلّ مشروع استعادته حاضرًا، وإن تبدلت وسائله من الاحتلال العسكري إلى إنتاج أنظمة محلية بالوكالة.

جيوش الروم في اليرموك: هل اصطفاف النظام الغربي صورةٌ أخرى له اليوم؟

تكوّن جيش الروم من (5) جيوش، حيث قاد (ماهان) الأرمن، و(قناطير) السلاف والصقالبة (الروس والصرب)، وعلى الغساسنة المسيحيين ملكهم جبلة بن الأيهم، والجيوش البيزنطية والكاثوليكية تحت قيادة غريغوري ودريجان وتيودوروس شقيق هرقل.

وحينها قُتل وأسر عشرات الألوف من الروم يوم “نهر الدم”. يقول ابن الأثير: “أدرب هرقل نحو القسطنطينية والتفت إلى الشام فقال: السلام عليك يا سورية، سلامٌ لا اجتماع بعده، ولا يعود إليك رومي أبدًا إلا خائفًا”[1]. وبقيت صورةٌ أخرى حاضرةً في عقول المستشرقين تنقم على خالد والمسلمين بسبب يوم نهر الدم[2].

الصورة التي اصطفت فيها جيوش أوروبا، وهزيمتهم وغرقهم في نهر اليرموك، عادت لثأرٍ جديد تسترد من خلاله أوروبا السيطرة على الشام تجلّى في دخول غورو دمشق ومقولته: “ها قد عدنا”[3]. لكنّ هذه الصورة تطورت إلى (نظامٍ) أعقد يدير البلاد تحت تصميم وظلال الغرب وبمواصفاتٍ عليا للنظام في دمشق. شيءٌ أعقد بكثير من نظام جبلة الغساني عامل الروم على الشام؛ لذا كان لا بدّ من تقصيه، واستقراء بنيانه وما يعني نمطه الدولي للجيل.

فكيف أُنتجت أرضيات “النظام السياسي” وبيئته دوليًا؟

جيش المشرق/ أرضية مستقبل النظام السياسي في سوريا:

أنشأت فرنسا ما عرف بـ “جيش المشرق” وهو القوات الفرنسية التي أرسلت إلى بلاد الشام عقب الحرب العالمية، وقد شكل العمود الفقري الذي اعتمدت عليه فرنسا في إدارة سوريا، وجندت فيه أعدادًا كبيرة من الأقليات السورية واللبنانية في مجموعتين رئيسيتين: “الجوقة السورية والقناصة اللبنانية”، و”الحرس الخاص”.

واتّبعت فرنسا سياسة “فرّق تسد” في تشكيل الفرق العسكرية، واستبعدت غالب العرب السُنّة في البداية من القوات الخاصة –الجزء الأهم من جيش المشرق– والتي تألفت من العلويين والدروز والمسيحيين فالكرد والشركس والأفارقة. و”أثبتت هذه الفرق الطائفية أنها أقدر من القوات الفرنسية على إخماد الثورات وقمع المظاهرات”[4]، وفي الفترة 1926-1939م، ضمّ جيش المشرق حوالي11 ألف جندي محلي.

وذهب لونغريغ وألبرت حوراني وفيليب خوري إلى أن فرنسا أنشأت جيشًا طائفيًا لضرب المقاومة السنّيّة، وذلك بتجنيد الأقليات من الأرمن والموارنة خلال الفترة 1916-1920م، وقد بدأ هذا الجيش عمله في فلسطين ولبنان، ثمّ جنّدت النصيريين والدروز والإسماعيليين والأكراد والشراكسة خلال 1921-1927م، واستخدمتهم في قمع الثورات في سورية.

في عام 1932م أُسست الأكاديمية العسكرية في حمص، وكان أكثر خريجيها من الضباط السنة والنصارى، مع المحافظة على نسبٍ محددة وزيادة عددية من أبناء الطوائف، أشار إلى هذا التغير الضابط أحمد عبد الكريم في مذكراته. تبنّت فرنسا في مرحلةٍ سياسةٍ مدروسةٍ تجنيدَ بعض السنّة لكسب الشرعية في محاولتها وضع أسس الجمهورية الحديثة بصورة تكفل المصالح الفرنسية عقب الاستقلال، ووجدت فرنسا في صفوف السنة من العوائل الأرستقراطية وأبناء الريف مَن يمكن أن يتعامل معها طمعًا في تحقيق المصالح وتحسين الدخل، وكان هؤلاء يتبوؤون المناصب ويضعهم الفرنسيون في واجهة المؤسسة العسكرية في مرحلة اتخاذ القرار. ولكن ولاء الضباط السنة لم يكن مضمونًا دومًا، وتم في فترة 1943-1944م تسريح أعدادٍ منهم بسبب تمردهم ورفضهم ضرب الثورة سنة 1944م.

فيما ذهب المؤرخ (بوناكلي) إلى أنّ سياسة فرنسا لم تكن طائفية بقدر ما أنها هدفت إلى تجنيد العناصر الموالية لفرنسا[5].

مصير قوات الشرق الخاصة/ بلاء الجيش والسياسة وانقلابات سوريا:

يقول مصطفى الشهابي في كتابه (محاضرات في الاستعمار): “بلغ قوام المجندين السوريين 25 ألفًا ضمن جيش المشرق الفرنسي بنهاية الانتداب؛ ما أثّر بعد الاستقلال في شكل الجيش السوري الوليد -الذي قام على ضم قوات جيش المشرق من السوريين إليه- ومسيرته وكثرة الانقلابات العسكرية، وما آل إليه من استيلاء آل الأسد على السلطة”[6].

وقد كان بالفعل بعض هؤلاء الضباط السنّة بالمواصفات الفرنسية أصل البلاء، وأداموا الانقلابات بعد الاستقلال، وأضعفوا البلاد لصالح الأقليات، كأمثال الزعيم والحناوي والشيشكلي وأمين الحافظ والشهابي.

“بعد الاستقلال دارت خلافاتٌ بين الكتل السياسية حول قبول العساكر الذين وصفوا بـ “الخونة”، ولكن في النهاية تم ضمهم للمؤسسة العسكرية الوليدة، وعلّق المؤرخ كمال ديب على مرحلة ما بعد الاستقلال: “لقد كانت غلطة تاريخية ارتكبتها العائلات السُنية المدنية والتجارية والملاكين في الأرياف؛ إذ إن تعاليهم عن دخول الجيش واحتقارهم لمهنة العسكرية جعلا أعداءهم أصحاب نفوذ وسلطة في القوات المسلحة”[7]. ونُقلت مقولة القوتلي: “عفا الله عما سلف” في شأن ضم الضابط الكبير في جيش المشرق حسني الزعيم ومن معه في الجيش السوري الوليد، والذي انقض على القوتلي والرئاسة.

تشكّل نواة (الجيش السوري) من القوات الخاصة للشرق أغسطس 1945م:

“أسست سلطة الانتداب الفرنسي كيانًا مدنيًا ضعيفًا في مواجهة مؤسسة عسكرية تخضع لقيادتها، ولما جَلَت القوات الفرنسية عن سورية بقي جهاز الحكم المدني ضعيفًا، ويمكن القول بأن ضباط الجيش السوري المنعتقين من القوات الخاصة للشرق لم يكونوا مستعدين للاستحقاقات الديمقراطية وتبعاتها، ولذلك فقد أزعجهم مناقشة البرلمان لقضايا الجيش، فبادروا بتوجيه خطاب إنذار لرئيس الجمهورية على النمط الفرنسي”[8].

وقد لخص (خالد العظم) الأمر بقوله: “أعتبر نفسي أحد المسؤولين عمّا جرى في سورية 1943-1958م، ولا أنكر تحملي قسمًا من الوزر فيما فقدته بلادي من السيادة والاستقلال، لكن المسؤول الأول هو الجيش الذي سيطر على سلطات البلاد”[9].

لم يكن جيش المشرق الفرنسي سوى البذرة الصلبة لدولة ما بعد الاستقلال؛ إذ حمل في بنيته تمييزًا طائفيًا وولاءً خارجيًا، فغدا أداةً حاسمة في مواجهة مجتمعٍ مدنيٍّ ضعيف، ومهّد بنيويًا لمسار الانقلابات وترسّخ القبضة الأمنية.

تطور الدور الدولي (الأمريكي– الروسي– الغربي) في تشكل النظام من 1945م وحتى الأسدين:

بداية الدور الأمريكي الفاعل:

“كانت الأوضاع السورية مهيأة لتقبل الوجود الأمريكي، ففي لقاء جمع الرئيس السوري شكري القوتلي بوفد من الكونجرس الأمريكي في أكتوبر 1945م أوضح القوتلي بأنه: لا توجد دولة ترغب سورية في الوصول إلى التعاون معها أكثر من أمريكا”[10].

“ومن طرفه بادر حسني الزعيم باستغلال هذه الفرصة لتوثيق علاقته بالضباط الأمريكيين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تورد الوثائق الأمريكية أسماء هؤلاء الضباط في مرحلة ما بعد الانقلاب بصورة متكررة، وخاصةً الميجور ميد الذي أصبح يتمتع بثقة الزعيم. لقد دفعت هذه المعطيات إلى الاعتقاد بأن الاستخبارات الأمريكية كانت وراء التخطيط لانقلاب الزعيم”[11]، حيث دعم هذه النظرية مايلز كوبلاند نائب القنصل الأمريكي في سورية 1949م في كتابه: (لعبة الأمم) والذي سرد فيه تفاصيل العلاقة[12].

السوفييت في سوريا في عهد الوحدة الناصرية:

ثم “تولّى وزير الدفاع خالد العظم المفاوضات مع السوفييت سنة 1957م، إذ قاموا بشحن كمية كبيرة من الأسلحة والطائرات، وأعلن السوفييت عن قرضٍ استثماري بقيمة 400 مليون ليرة”[13].

وننوّه إلى أنّ العلاقة مع السوفييت تأطّرت من خلال الناصريين، ونتيجة للخطاب البعثي الاشتراكي نمت العلاقات مع السوفييت رغم الخلفية الفرنسية لغالب الضباط؛ ما أسهم في إنتاج خطابٍ مناهض للإمبريالية -توكأ عليه الأسد- يوحي بالتخندق ضد أمريكا في حرب ال 67 كغطاءٍ شعبيٍ لتغطية الفساد.

صعود الوكيل الدولي الأعقد حافظ أسد:

لم يكن حافظ شخصًا عادي المهارات والتخطيط والمكائد مقارنةً بمن سبقوه منذ الاستقلال، بل كان أكثر جرأةً من غيره في المجازفة بالتصفيات والصفقات، كتسليم الجولان نظير استحقاق العرش ومعه الدعم الدولي غير العلني بكل الطرق ليصعد ويثبّت كرسيه.

وبعد عودته من لندن 1965م، وتولّيه وزارة الحربية صار أشدّ شراسةً، وراح يصفي منافسيه، واستبقى بعض رفاق البعث مثل خدّام والأحمر والكسم والزعبي والشرع من المدنيين كواجهة سنيةٍ ليواصلوا نغمة شعارات البعث وبرامجه، إلى جانب شركاء الانقلاب وعملاء الغرب كطلاس والشهابي، والزمرة العلوية كدوبا وعلي حيدر ورفعت وأصلان، واستبقى بعض مصطلحات الإمبريالية والتصدي والشبيبة وطلائع البعث للتغطية.

أمّا عموم السُنّة فبقي يفرِّقهم “بالمناطقية” والمصالح، وشجع على انتقال “الأقليات” للمدن، كما استهدف شيوخ السنّة الكرد، فنجح مع كفتارو والبوطي، وطارد أو استمال آخرين من شيوخ السنة، إلا أنّ قوته لم تكن مطلقةً، وكانت الثغرات والعداوات وسخط الناس يحيطه.

أدرك (حافظ) -وقد انعزل عن قيادة البعث التاريخية وجماعة جديد وحاطوم- أنّه لا يمكن أن يستغني عن دعم جزءٍ فاعل من السُنّة لا سيما بعض عوائل وكبار تجار دمشق وحلب، ولم تخْلُ سياسته من المصانعة وشراء الوقت كما فعل في (أحداث الدستور) مطلع 1973م التي قادها الشيوخ كحبنكة وحديد. وفي ظلّ ذلك صار يتحين الفرصة ليعلن عمليًا ديكتاتوريته المطلقة إثر حرب أكتوبر 1973م التي وُصفت بحرب التحريك -تبادل الأراضي وتثبيت خطوط النار- فقد استخدم دعايتها لردّ الاعتبار بتحرير القنيطرة، ليقدم نفسه قائدًا خالدًا، بينما خسرت سوريا قرى استراتيجية ومنابع مياه.

تمكُّن حافظ وبِدء مرحلة وأد المجتمع/ زيارة نيكسون والاعتماد الدولي:

أصبح حافظ بنهاية 1973م من القوة بحيث لم يعد محتاجًا لمهادنة المجتمع، ثم زار نيكسون وزوجه دمشق عام 1974م بعد تفاهمات كيسنجر مع حافظ والشهابي بخصوص العلاقة مع الكيان المحتل وغيرها، وكانت زيارته زيارةَ تنصيبٍ واعتمادٍ ورعايةٍ تخللتها جلسات بين العائلتين، وطاف الموكب شوارع دمشق، تبع ذلك تفاهمات ميرفي-الأسدين 1976، 1988، 2003م، ومثلّت الأولى صفقة احتلال لبنان وظيفيًا مقابل الجولان، واستمر التعاون كما يظهر في مكالمة ريغان-حافظ 1985م التي سربتها النيويورك بوست حول الوضع في لبنان[14].

دعم العالم للنظام ماليًا:

“تبنى حافظ سياسة تحجيم الفصائل الفلسطينية، والحد من النفوذ العراقي، وحظيت سياسته بدعمٍ غربي، فحصل عام 1976م على قروضٍ بقيمة 540 مليون دولار، وفي الوقت ذاته كانت المساعدات الأمريكية تتدفق بمعدل 60-100 مليون دولار سنويًا، كما قدّم الخليج500 مليون دولار لدعم قواته في لبنان، فيما أبقى الأسد على تعاونه مع السوفييت، وبلغت ديونه لموسكو في الثمانينيات 12 مليار دولار. كما أرسل حافظ فرقة من الجيش للمشاركة في التحالف الدولي في حرب الخليج 1991م، وتؤكد مصادر “الخارجية الأمريكية” أنّ هذا جلب لخزينته 500 مليون دولار سنويًا طوال التسعينيات، وتعهد الخليج بمنحه 2 مليار دولار في مارس 1991م”[15].

محطات علاقات سوريا بأمريكا والغرب والسوفييت منذ الاستقلال:

» دارت سوريا في فلك أمريكا أكثر من السوفييت، ولم تصطدم موسكو وواشنطن هناك، واكتفيا بالانقلابات بالوكالة، ثم استقرّا لاحقًا على التحاصص والمنافسة في عهد حافظ، في ظل خطورة تبعات الصدام على تل أبيب، ووجود ضمان للكيان من موسكو وواشنطن.

» التغلغل الأمريكي سابق على السوفييتي، وكان حسني الزعيم وآخرون غيره في شتى المفاصل، ناهيك عن بعض العوائل الثرية والسياسية التي فرّخت قيادات داخل البعثيين وخارجهم، فضلاً عن طبقة الماسونيين التجار الذين بقوا إلى يومنا هذا؛ فمن المؤطَرين بالماسونية رؤساء حكومات كأحمد نامي وحقّي العظم وفارس خوري ولطفي الحفار وعطا الأيوبي وسعيد الغزي والأُلشي والشيشكلي والزعيم[16].

» جاء انقلاب البعث 1963م بملامح سوفييتية ثم وقع انقلاب 1966م لجماعة صلاح جديد على أمين الحافظ والقيادة التاريخية للبعث، “دار صراعٌ بين فريقي جديد والأسد، وانحاز السفير السوفييتي موخيتدينوف لصلاح، فغضب الأسد وأرسل طلاس إلى الصين للحصول على الأسلحة”[17].

» تحرك جناح الأسد في البعث الأقرب للغرب ومعه الماسوني حكمت الشهابي وطلاس ودوبا وحيدر وأصلان وخدام، فتمّت الإطاحة بصلاح جديد ورفاقه عام 1970م.

» بدأت زيارات كيسنجر فنيكسون لدمشق عام 1974م لتثبيت أمن إسرائيل وترسيخ العلاقات، وبالتالي تنصيب واعتماد أسد دوليًا. وتبعتها جائزة تفاهمات حافظ-ميرفي 1976م الوظيفية لاحتلال لبنان بدعم أمريكي-عربي وضرب الحركات الفلسطينية وترتيب لبنان أمنيًا، وكان ذلك ضد مصالح السوفييت[18].

» استأنف الماسونيون تجارتهم وتأثيرهم بعد انقلاب حافظ وساعدوه في إنهاء إضرابات التجار والإسلاميين، ففي مطلع الثمانينات نزل بدر الشلاح شهبندر التجار إلى المتاجر وأمر أصحابها بفتحها وعدم مناصرة الإسلاميين، وتمكن من فك الإضراب، فرد حافظ الأسد الجميل بزيارته في الغرفة التجارية في سوق الحريقة، وبات الشلاح مقربًا، واللافت في عام 1994م أن كارتر زار مزرعة آل الشلاح في ريف دمشق[19].

» وفي خضم الصراع مع الإسلاميين وصدام حسين، أعاد حافظ التوازن مع السوفييت لحاجته للخبراء والأمنيين والتسليح، وتجلّى ذلك بعمليات تمشيط في صفوف الإسلاميين وبعثيي الجناح الآخر، لكن تبعتها عمليات هائلة ضد السوفييت على يد جماعة مروان حديد بدمشق أدّت إلى مغادرتهم العاصمة بعد مقتل ضباطهم في الآمرية الجوية، ومستوطنات السوفييت، وحافلاتهم، كما اعترف الروس وذكرها الشربجي في مذكراته.

» ثم أعاد حافظ أسد توزان الدفة باتجاه الأصل في حرب الخليج 1991م، فأرسل فرقةً بقيادة علي حيدر لمشاركة التحالف الدولي، وتلقى أسد المليارات من الخليح كما مرّ، فيما واصل الشهابي وخدام رَجُلا أمريكا وفرنسا ذات المهمة منذ 1971م، وهي إدارة ملفات الحدود والعلاقات مع الغرب والكيان. وشهد العام 1994م زيارةً حافلة لكلينتون إلى دمشق مرتين، ووصل عدد القمم الرئاسية بين حافظ ورؤساء أمريكا إلى 7 قمم.

» قبل وبعد وفاة حافظ تمّ إبعاد الشخصيات القوية كالشهابي ودوبا وطلاس وخدام كي يتفرد بشار، لكن الأهم حصل بحضور وزيرة خارجية أمريكا أولبرايت جنازة حافظ عام 2000م، ثم اختلت بـ بشار، ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عنها حينها: “إنها وجدت بشار جاهزًا لتولي مهامه”.

» عقب الثورة، تولى كيسنجر لسنوات “ملف التنسيق” بين روسيا وتل أبيب وواشنطن بخصوص سوريا، وكان يطير دوريًا ليجتمع مع بوتين على انفراد. وبتولي بشار الحكم كبر دور الابن راتب الشلاح الاقتصادي، فقام بافتتاح مصارف خاصة وجامعات، وسوق بورصة دمشق للأوراق المالية، وترأس بنك سوريا والمهجر[20].

لم يكن نظام الأسد مجرد نظامٍ استبداديٍّ محليٍّ يدير الدولة عبر منظومةٍ أمنيةٍ قائمة على المصالح وشبكات الولاء، بل كان بنيةً وظيفيةً دولية؛ جمعت بين خطابٍ ممانعٍ للاستهلاك الداخلي، وتفاهماتٍ عميقة تضمن أمن الحدود ومصالح الخارج.

شخصيات محورية ثبتت “نظام الحكم” وطبيعة ارتباطاتها ومهامها:

كان لا بد لحافظ أن يستعين بشخصيات يأمن توجهاتها وارتباطاتها ومصالحها، كان غالبهم -كما سيأتي- من الذين درسوا رفقةَ أسد على يد ضباطٍ خرّجهم جيش المشرق في الكلية الحربية التي أسستها فرنسا بحمص، أو من المدنيين البعثيين الطموحين السنّة ممن قاموا بأدوارٍ حكومية حساسة للنظام، وغالبهم له ارتباطات دولية.

» حكمت الشهابي: رجل أمريكا القوي، سُني تدرب في موسكو وأمريكا وشارك بانقلابات حافظ، وكان رئيسًا للاستخبارات العسكرية 1971م ثم الأركان، وعطفًا على تدربه في أمريكا مثّلَ أسد في الملفات في واشنطن 1973م إلى أن تمّ توقيع اتفاقية 1974م وزيارة نيكسون لدمشق. امتلك الشهابي وأولاده قصورًا في كاليفورنيا حيث توفي، كما تولى التفاهم مع العوائل الصناعية في حلب، وخلفه نائبه علي أصلان.

» مصطفى طلاس: صديق شخصي لحافظ، رافقه في مصر والكلية الحربية بحمص حيث جنّد له الضباط السنة، حتى وصفه مروان حديد بحمارٍ منصوب للسنّة، مقرب من فرنسا حيث أقام أولاده وتقاعد وتوفي. شارك بانقلابات حافظ، ولعب دورًا حاسمًا ضد رفعت، خَلَفَه مناف طلاس لكن سُحب إلى باريس لدورٍ ما.

» علي دوبا: العقل الاستراتيجي الأمني، شارك في الانقلابات، أسّس معظم الفروع الأمنية بعد ترأسه الاستخبارات عام 1974م عقب الشهابي، أقوى شخصية علوية أمنية علاقاتها متشعبة، وأدار الصراع ضد الإخوان المسلمين، استهدفته الطليعة المقاتلة أسوةً بحافظ ورفعت وناصيف، ويبدو أنّ علي مملوك رئيس “مجلس الأمن القومي” أخذ دوره، لكن مملوك كان غامض العلاقات والأدوار كمحمد الخولي قائد القوات الجوية والمخابرات الجوية والعقل الدولي خلف الستار.

» علي حيدر: رجل السوفييت العقائدي والأب الروحي للقوات الخاصة منذ 1968م، وشارك في الانقلابات، جزار حماة وجسر الشغور، أوقف انقلاب رفعت 1984م، شخصية قبلية علوية قوية، قاد القوات السورية في لبنان وحرب الخليج 1991م، ومناهض لمحادثات السلام والغرب، أبعده حافظ لقوته. خَلَفَه علي حبيب في الخاصة، عارض خلافة بشار لحافظ وكان يشتم بشار علنًا في المجالس ويتوقع سقوطه كما سيأتي!

» محمد ناصيف: الأقرب إلى عائلة حافظ، وأمينُ أسرارِه وعقلُه، علاقته وثيقة بالسوفييت وإيران شأن هشام بختيار الشيعي، كان يرشّح وزراء وسفراء وقادة عسكريين، أشرف على أولاده وتهيئتهم للحكم، وحماية النظام مع دوبا، حاول زوج بشرى الأسد (آصف شوكت) رئيس الاستخبارات العسكرية ذو العلاقات الدولية أن يلعب دوره العائلي.

» عبد الحليم خدام: نائب الرئيس، منظّرٌ ومخطط بعثي ووحشٌ سياسي، أسهم مع الأحمر في تماسك الحزب خلف حافظ، شارك في انقلاباته، واستلم محافظة حماة حينها ثم الخارجية، قاد ملفات لبنان ومفاوضات الكيان، حاول خلافة حافظ، ثم أقام في باريس حيث توفي، ارتبط بالحريري وفرنسا، حاول فاروق الشرع وزير الخارجية الأسبق لعب دوره لاحقًا.

» عبد الله الأحمر: نائب حافظ في أمانة الحزب، سني بعثي عتيد من ريف دمشق، ضَمِن ولاء السنة في البعث مع خدام، وهندَس الجبهة التقدمية، ولعب زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية الأطول مدةً دورًا مشابهًا.

» عبد الرؤوف الكسم: رئيس وزراء 3 مرات في الثمانينات، ابن مفتي الشام الأسبق، من عائلة دمشقية مؤثرة، أدار الجانب المدني من النظام في أشد المراحل، وعُرف بعلاقاته الدولية الأوروبية، واقترن اسمه بإعلان حافظ حملةً شرسة للقضاء على الإخوان.

لم تُبنَ إدارة الدولة والمجتمع في سوريا بعد الاستقلال على دمج المجتمع وتمكينه، بل على ضبطه وتفكيكه: تحييد السياسة، تحجيم الدين المستقل، تفويض الجيش والأمن، وتذويب التعددية داخل دولةٍ تمسك بالمجتمع من الأعلى بدل أن تنبثق منه.

 أُسس إدارة النظام والمجتمع حسب أهداف المنظومة الدولية ومتطلباتها منذ الاستقلال:

1. حماية الأقليات وتضخيمها، والسيطرة السياسية والمجتمعية على السُنة: هي أمّ المعادلات، وكل ما يلي من أسس جاءت لتكرّس هذا الهدف التأسيسي الوظيفي، ولخدمة هذه الحقيقة الجوهرية[21].

2. حماية الحدود مع المحتل، وحظر مؤسسات الوعي السياسي والوطني والدعاة لأجل ذلك: بقيت الحدود مع (الكيان المحتل) الأكثر هدوءًا بين دول المواجهة حسب (مناحيم بيغن). ولأجل ذلك كان أهم ما قام به العسكر منذ الاستقلال هو محاصرة (الإسلاميين) وكياناتهم، لتبلغ ذروتها بوصول (أسد). أدرك الغرب دور (الإسلاميين)، ولا أدلّ على ذلك من مساهمات (القسام) والقائد سعيد العاص وحملات السباعي ثم جماعة مروان حديد إلى فلسطين. والغرب يسعى اليوم إلى منع وجود كيانات سياسية وجمعيات إسلامية تبثّ الوعي والهوية الرافضة.

3. التحكم بجمعيات الفكر والتربية الإسلامية المستقلة وحصرها وتوجيهها تحت الدولة: تجلّى ذلك التقنين أو التوظيف والتوجيه أحيانًا بمجمع النور ومعهد الفتح مثالين واضحين وغيرهما، وشمل المناهج والتوجهات والأفراد، وطال دور القرآن والدعاة، فيما تم منع مؤسسات وجمعيات أخرى كثيرة.

4. تأميم مجلس الإفتاء والفتوى، ووضع يد الدولة على الأوقاف: قبل تولي آل الأسد الحكم كان منصب الإفتاء مستقلاً ويجري بالانتخاب والتزكية بين العلماء، ثم جاء تحجيم وتوجيه دور المفتي ومجلس الإفتاء وصلاحياته منذ حقبة (كفتارو)، وتحول إلى التعيين في عهد (بشار). هذا النهج في ضم (الإفتاء والأوقاف) يخالف ما كانت عليه الأمة وأئمتها و”ولاتها” منذ “الصدر الأول” إلى عهدٍ قريب، رغم تعدد وتعاقب الدول إلى عهد قريب. وقد شكّل (استقلال) العلم والفتيا والأوقاف قوةً للأمة وحفظ هويتها وعبّر عن كيانها في أصعب المراحل كما لاحظ المؤرخون.

“يُروى عن المفتي أبو اليسر عابدين رفضه إصدار فتوى تؤيد التأميم إثر الوحدة بين مصر وسوريا، وكان عبدالناصر طلب منه الإفتاء بذلك، لكن عابدين لم يجامله بذلك، فتم عزله عن المنصب حتى فرط عقد الوحدة، وعاد الشيخ إلى منصبه”[22].

5. تفويض الجيش السوفييتي دوليًا ضامنًا داخل سوريا لأمن الكيان وأداء الجيش: تجلى ذلك في مواجهات السبعينات والثمانينات ودور “الخبراء السوفييت” في دعم النظام في مواجهة (الإسلاميين). وقد تميزت علاقة (موسكو وتل أبيب) بالتفاهم والتنسيق دومًا عبر عقود منذ عهد الوحدة الناصرية فحرب ال 67 ثم الثورة السورية مؤخرًا عبر تفاهمات (بوتين-كيسنجر).

كانت (موسكو) من أول من اعترف (بدولة الكيان) ونظرت بتعاطفٍ ومصلحية إلى تأسيسها على يد (اليسار العمالي الصهيوني). ولكون تسليح سوريا روسيًا، ولأسباب التوازنات وإظهار أن نظام دمشق ثوري معارضٌ للإمبريالية، كان السوفييت الضامن الأنسب للأمن دوليًا في دمشق وحدود (الكيان)، مع دعم بقاء نظامها الديكتاتوري المزايد!

6. أداء أدوار وظيفية في المحيط العربي: تجلّى ذلك باحتلال لبنان، ومحاربة الفصائل الفلسطينية في المخيمات أو السيطرة عليها وتوظيفها، والوقوف مع إيران ضد العراق والمشاركة في حرب الخليج.

7. الاستحواذ على تعددية الرأي وتذويب الكيانات في الدولة/ نموذج “الجبهة التقدمية” والحزب القائد للدولة والمجتمع: فبالإضافة إلى الاستحواذ على الأحزاب أو حلها، تمّ سلب فاعلية مؤسسات “المجتمع المدني” و”النقابات المهنية” والمنتديات المستقلة المعبرة عن المجتمع، وكبّل النظام النقابات التي أضربت في احتجاجات الثمانينات، وقبل ذلك تقرر عام 1972م إذابة الأحزاب القومية والاشتراكية والشيوعية في سوريا في الدولة عبر (الجبهة الوطنية التقدمية) بقيادة حافظ أسد أمينها العام، لتصبح ديكورًا حسب شهادة عضوها (ميشيل كيلو)[23].

8. الدساتير الرئاسية الشمولية بصلاحيات مطلقة وملكية/ تعطيل فاعلية البرلمانات: اعتبرت “دساتير” البعث ثم (دستور حافظ) نموذجًا للقبض على السلطات الثلاث والصلاحيات بيد الرئيس، وسلب المجتمع والنواب والقضاء صلاحياتهم واستقلاليتهم وحق المحاسبة، ما رسّخ ومأسسَ الاستبداد والفساد ودولة البوليس، وطمسَ شخصية المجتمع والاقتصاد، وبالتالي كان الضعف والهزيمة، وأحادية وشللية القرارات.

9. العائلة والطائفة والحزب القائد للدولة والمجتمع/ الدولة المستحيلة: أمسكت العائلة ومن ورائها الطائفة والمحسوبيات بمراكز القوى، لا سيما الأمنية والمالية وسخرت أدواتها، وجعلت المرور لكل طامح من السنة وغيرهم فقط من تحت بوابتهم، وبرزت شبكاتٌ أهمها:

(آل الأسد): برز كمثال: “رفعت” ذو الميول الغربية، شارك في انقلاب 1970م وصار محوريًا فورًا، ونهب خزائن الدولة وأقام شبكات تجارية، وكذلك عميد الأسرة لاحقًا “عدنان الأسد” قائد سرايا الصراع، وله صلات مع تل أبيب، فضلاً عن أولاد حافظ وقائمة العائلة الطويلة.

(آل مخلوف): وصفت الإيكونوميست أنيسة مخلوف زوجة حافظ بأنها «شخصية هائلة» داخل عائلة أسد والحكومة.

وتعتبر عائلة مخلوف المستشار المالي لحافظ برئاسة محمد مخلوف المقرب من السوفييت، وأدارت الأسرة لآل الأسد إمبراطورية في قطاعات الاتصالات، الخدمات المصرفية، والنفط والغاز.

10. تَنَفُّذ العوائل الثرية “الماسونية”، والتحالف الخفي معها في التجارة الدولية: كما أسلفنا، بقيت طبقة الماسونيين التجار نافذة، وهم الذين بمقدورهم شلّ الاقتصاد في حلب ودمشق حتى اليوم، وقد استفاد النظام منهم في نسج علاقاته السياسية والتجارية دوليًا.

11. تدمير الأخلاق وتسخير الإعلام والتمجيد، وخلق الاستقطابات ومافيات التجار وشبكات المخدرات: وبالمحصلة تفتت المجتمع، وكان ذلك في البداية عن طريق إغراق الناس بالشعارات واستخدام طلائع البعث والاختلاط وتغيير الهوية، ودعاوى التقدم ومحاربة “الرجعية”، وحشد المدارس والعمال والناس.

تضافر الشرق والغرب على تأييد المجرم ودعمه:

من المحطات اللافتة في الصراع مع حافظ أسد ما حصل بعد عملية الأزبكية 1981م، التي استهدفت أحد فروع القمع والإجرام؛ وهو فرع الأزبكية التابع للشرطة العسكرية، فأصدرت السلطة المجرمة بيانًا كاذبًا أُرفق بصورٍ لمجرمي السلطة المستهدَفين مضرجين بدمائهم، مدعيةً أنهم أبرياء قتلوا في الانفجار.

وسرعان ما تصدرت أنباء العملية نشرات الأخبار، وأشارت إلى بطش وظلم النظام، فاضطره إلى الكشف عن بعض ما يجري، وأعيدت إلى الأذهان مجزرة تدمر الرهيبة، إلا إنّ الدول الاستعمارية تجاهلت حقيقة النظام المجرم، فأرسلت برقيات التعزية والتأييد للمجرم أسد الذي أصبح في وضع نفسي مهزوز؛ ما دعاهم إلى شدّ أزر “المجرم العميل” للحفاظ على مصالحهم، فأرسل ريغان برقية إلى حافظ! واستنكر فيها العملية، وتجاهل حقيقة هذا الفرع القمعية ونسي أن يستنكر مجزرة تدمر وغيرها. وعلى غراره أرسل المجرم ليونييد برجنيف برقيةً إلى المجرم متناسيًا جرائم السوفييت في القوقاز ووسط آسيا وأفغانستان وغيرها.

وتوالت البرقيات، وظهر بوضوح أن الشرق والغرب مصمم على دعم “نظام أسد”، وتأكدت حقيقة أنّ حكومات العالم تحارب قيام دولةٍ مسلمةٍ سنية قوية في سوريا، وأن الاستعمارين الشرقي والغربي يريدان إبادة المسلمين في سوريا وطمس معالمها الدينية والحضارية”[24].

تعفّن حلقة النظام وتخلي الدول عن صنيعتها: هل من عودةٍ إلى الرشد وهويتنا في ظل المكر الدولي؟

قام نظام الأسدين على شعار اشتراكية المجتمع، ورأسمالية أذرع النظام في ظل خطابٍ مضاد للإمبريالية وتماهٍ سياسي مع الغرب، لكن بفعل الثورة التراكمي: أضاع بشار بوصلة والده، وصار تدريجيًا رهينًا على الأرض لطرفٍ واحدٍ مرفوضٍ دوليًا أكثر وأكثر، وضاقت خياراته بعدما تعفّن رأس النظام وتعفّنت حاضنته التي استنفرت وتكبدت سنوات طويلة، وشحّت موارده وخطوط مدده من صناعة المخدرات، وآل الحكمُ إلى السقوط وبات مكلفًا وغير مجدٍ -حتى للروس- بعدما ترنّح سنواتٍ طوال تحت ثقل ضريبة استمرار الثورة 14 سنةً بما فرضته من مصاولته ومدافعته ومقاطعته بكل أشكال الفعل والضغط على خزانه البشري ماديًا ومعنويًا؛ ما جعل سقوطه مسألة وقتٍ كما توقع علي حيدر عام 2020م في مجالس العلويين، وكما سبقته مؤسسات دوليةٌ راصدةٌ متحفزةٌ، كمجموعة الأزمات الدولية التي راحت تفكِّر مبكرًا مع المجتمع الدولي في أفضل حلٍ لو سقط النظام الذي كاد أن يسقط عام 2013م لولا استقدام “داعش”، ثم ميليشيات إيران، ولحاق الروس، مع مكرٍ دولي سافرٍ وفي ظل ضرباتٍ كيمياوية.

لم تجعل الثورة سقوط النظام مسألة وقت فحسب، بل كشفت أن التحدي الحقيقي يبدأ بعده؛ إذ لم يعد السؤال متى يسقط، بل كيف يُستعاد المجتمع وتُكسر الوصايات التي صاغت الدولة من الأساس؟

ختامًا:

ها هي سوريا تقف اليوم أمام تحدياتٍ هائلةٍ تصوريةٍ وعمليةٍ، وأسئلةٍ كبرى تفوق في ثقلها منعرج الاستقلال ذاته؛ إذ لا يقتصر الأمر على سقوط شخوص وأدوات الحكم البائد، الذي لم يكن سوى جزءٍ من بيئة نظامٍ مركّب، بل يتعدّاه إلى عبء التفكك العميق، والتخلّص بعزمٍ من الفِخاخ القديمة وحبال منظومتها، ومن أوصيائه الخارجيين الذين ما يزالون حاضرين فوق ترابها، في قواعدهم، ومن خلال الطوائف المتربّصة، ومن خلفهم النظام الدولي بقوانينه وضغوطه وشبكات نفوذه.

لقد كان التهاون في مسألة الهوية، وعدم الحزم في دور المجتمع، ورفض الوصايات والفردانيات، أولَ الخلل عقيب الاستقلال، والشام مدعوةٌ اليوم برجالها وعقولها الجمعية لبث روح الوعي والعمل المجتمعي واستعادة شخصيتها المجتمعية المنتمية لحضارتها، وإكمال طريقها محتسبةً صابرةً نحو التحرر الكامل الذي أهدفت له مُهجها وأرواحها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بعودة الركائز التي سُلبت منها وبحثناها هنا، ولو طال الطريق بعدما دفعت الأجيال معظم الأثمان.


أ. محمد أحمد الخطيب

متخصص في الحضارات والعلاقات الدولية


[1] الكامل في التاريخ، لابن الأثير (2/324).

[2] ينظر: الصديق أبو بكر، لمحمد حسين هيكل، ص (213-214).

[3] خط الرمال، لجيمس بار، ص (123): بعنوان (الصليبي) نعتًا لـ(غورو).

[4] الجيش والسياسة في سورية (1918-2000م)، للدكتور بشير زين العابدين، ص (90).

[5] الجيش والسياسة في سورية، ص (97-100) باختصار.

[6] مقالة: “جيش المشرق، بذرة لهيمنة العلويين على سوريا”، محمد شعبان أيوب، موقع الجزيرة.

[7] مقالة: تطور المجتمع السوري بين 1830 و2011م، مصطفى عباس، موقع تلفزيون سوريا.

[8] الجيش والسياسة في سورية، ص (137).

[9] المرجع السابق، خاتمة الكتاب.

[10] المرجع السابق، ص (155).

[11] المرجع السابق، ص (159).

[12] لعبة الأمم، لمايلز كوبلاند، ص (73) وما بعدها.

[13] الجيش والسياسة، ص (277).

[14] المكالمة: https://www.youtube.com/watch?v=L3Q3MGCMGP8

[15] «مرتكزات نظام الحكم السوري (1970-2011م) وأثرها في بناء الثورة»، للدكتور بشير زين العابدين، مجلة المركز العربي للدراسات الإنسانية، العدد التاسع، مارس 2012م، ص (153-167).

[16] ينظر: شرق الجامع الأموي، الماسونية الدمشقية، 1868-1965م، لسامي مبيض.

[17] 1970 Robert Owen Freedman (1991). Moscow and the Middle East: page 40,

[18] ينظر: مأساة المخيمات الفلسطينية في لبنان، لمحمد سرور زين العابدين، ص (266) وما بعدها.

[19] رحيل راتب الشلاح… لماذا لقب بـ “شهبندر” تجار دمشق، سامي مبيض، مجلة المجلة، 07 نوفمبر 2024م.

[20] شرق الجامع الأموي.

[21] ينظر: الصراع العربي الإسرائيلي، مؤامرة الدويلات الطائفية، لمحمد سرور زين العابدين.

[22] مقال: تاريخ الإفتاء في سوريا، تمام أبو الخير: https://www.noonpost.com/42389/

[23] مداخلة ميشيل كيلو في اجتماع الجبهة التقدمية 1980م.https://www.youtube.com/watch?v=LPLy9-EPB4o

[24] على ثرى دمشق، لأيمن الشربجي، ص (377-378) (بتصرف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *