الإحسان قيمة عليا وفلسفة حياة تعني سموّ الروح، وإخلاص النيّة، وإتقان العمل، وبذل الوسع في الرحمة بالخَلق. وتشتدّ الحاجة إلى هذه القيمة في هذا العصر الذي تزداد فيه غربة الدين، واضطراب العلاقات الإنسانية، وتفكّك المجتمعات، وغلبة الجانب المادّي وطغيانه. وفي هذا المقال توضيح لمفهوم الإحسان، وبيان جوانب تطبيقه، وخطوات نشره في المجتمع.
يُعتبر خُلق الإحسان في الإسلام قيمة عليا تُعبّر عن صفاء القلوب وإخلاص العمل، فالإحسان ليس مُجرّد إتقان لما يقوم به الإنسان، بل هو سلوك روحاني يعكس ارتباطًا عميقًا بين العبد وربه، حيث يراقب الله في كلّ خطوة من خطوات حياته. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم موضّحًا معنى الإحسان في حديث جبريل عليه السلام: (أن تَعبدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)[1]، فهذا هو جوهر الإحسان الذي يتجاوز حدود العمل المادي ليشمل القلب والفكر والنيّة.
وفي العصر الحالي الذي تزايدت فيه التحدّيات الاجتماعية والنفسية أصبح مفهوم الإحسان أداة ضرورية لتعزيز العلاقات الإنسانية وتحقيق الإصلاح المجتمعي، فلا يقتصر الإحسان على الجوانب الفردية أو التعبّدية؛ بل يتعدّاها ليكون أسلوب حياة يجمع بين العمل الفردي والمصلحة الجماعية؛ لذا يجب تسليط الضوء على هذا المفهوم وبيان كيف يمكن تطبيقه في مختلف مناحِي الحياة؟
أولاً- خُلق الإحسان في دين الإسلام:
لا يقتصر الإحسان في الإسلام على العمل الظاهر فقط، بل يمتد ليشمل نيّة القلب وإخلاصه وسعيه لتحقيق الكمال في كلّ أعماله، سواء كانت ظاهرة أو باطنة؛ ففي الحديث النبوي الشريف وضع النبي صلى الله عليه وسلم معيارًا شاملاً للإحسان، حيث قال: (الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك)، فوضعَ هذا التعريف العميق للإحسان الأساسَ الذي يجب أن يتحرك عليه المسلم في كلّ جوانب حياته، كما أنّ الإحسان ليس مجرّد شعور بل هو دافع يفرض على الإنسان تحسين كلّ أفعاله وجعلها في أعلى درجات الإتقان، سواء في العبادات كالصلاة والصيام أو في التعاملات مع الناس في الحياة اليومية. فعلى سبيل المثال: الإحسان في المعاملة يشمل كلّ شيء، حتى في الأعمال التي قد تبدو صغيرة مثل إطعام الجار أو مساعدة المحتاج، بل يصل الإحسان إلى حدّ أنّه يشمل حتى الأعداء أو مَن قد يسيء للإنسان، كما يظهر في مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: ما حصل في معركة بدر عندما أسر المسلمون سبعين رجلاً من المشركين، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (استوصوا بالأسارى خيرًا) فأمر بمعاملتهم معاملة حسنة، مع أنّهم أعداء محاربون قد تمكّن المسلمون منهم، وهذا يُظهر معنى الإحسان الحقيقي الذي يتجاوز المشاعر السلبية ويعزّز من القيم الإنسانية العليا. ومن أنواع الإحسان:
» الإحسان في العبادة: يتجلّى الإحسان في العبادة عندما يؤدّي الإنسان عباداته بإتقان وخشوع، وهو يشعر بأنّه واقف بين يدي الله عز وجل، مدركًا عظمة المقام الذي يقف فيه. هذا النوع من الإحسان يتجاوز الطقوس الظاهرية ليصل إلى أعماق الروح والقلب، فالإحسان في العبادة يعني الإخلاص التام لله، والحرص على أداء العبادات بمستوى عالٍ من التفاني والتفكّر، بما يجعل كلّ عبادة فرصة لتطهير النفس وتزكيتها.
مثال على ذلك: الصلاة، فهي ليست مجرّد أفعال حركية، بل هي وقوف أمام الله بقلب حاضر وعقل متدبّر، كذلك الصيام، الذي يُعَزِّز من صلة الإنسان بربّه من خلال الامتناع عن شهوات الدنيا تقربًا لله وطلبًا لمرضاته، فالإحسان في العبادة ليس مقصورًا على الفرائض فقط، بل يمتدّ إلى النوافل وكلّ ما يزيد عن الحدّ الأدنى الواجب، مثل قيام الليل أو قراءة القرآن بخشوع وتدبّر، فهذا النوع من الإحسان يرفع مستوى العبادة من مجرّد أداء واجب إلى تحقيق حالة من الرضا والطمأنينة الروحية.
» الإحسان في المعاملة: لا يقتصر الإحسان على العبادة فقط، بل يظهر أيضًا في كيفية تعامل الإنسان مع الآخرين في حياته اليومية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله كتبَ الإحسان َعلى كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح)[2]، هذا الحديث يوضح أنّ الإحسان ليس محصورًا في العبادات، بل هو سلوك يجب أن يمتدّ إلى كلّ جوانب الحياة، فمن صور الإحسان في المعاملة أن يكون الإنسان عادلاً ورحيمًا، لا يتسبّب بالأذى لغيره، ويحرص على تقديم العون والمساعدة للمحتاجين. فالإحسان إلى الوالدين برعاية حقوقهم والاعتراف بفضلهم، وكذلك الإحسان إلى الجار بمعاملته بالحسنى وتجنّب إيذائه.
ومن أسمى درجات الإحسان أن يعامل الإنسان مَن يسيءُ إليه بالحسنى، مستوحيًا هذا السلوك من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، كما يشمل الإحسان أيضًا: التعامل مع الحيوانات والنباتات وحتى البيئة المحيطة؛ بحيث يكون سلوك الإنسان مبنيًا على الرحمة والتقدير لكلّ ما خلق الله.
الإحسان ليس محصورًا في العبادات، بل هو سلوك يجب أن يمتدّ إلى كل جوانب الحياة
ثانيًا- الإحسان في الأسرة:
خُلُقُ الإحسان في الأسرة هو حجر الأساس لبناء علاقات أسرية قوية ومتينة، فالإسلام شدَّد على قيمة الأسرة وبنائها بشكل سليم وعلى أسس مستقيمة، فالأسرة السليمة هي نواة بناء المجتمع المتوازن؛ لذا تتجلّى معاني الإحسان في الأسرة من خلال مظاهر عدّة مثل:
» برّ الوالدين: شَدَّد دين الإسلام على برّ الوالدين والإحسان إليهما، واعتبر ذلك من أعظم القربات التي يتقرّب بها الإنسان إلى الله تعالى، فقال الله عز وجل في مُحكم كتابه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فالإحسان إلى الوالدين ليس فقط في حدود الطاعة العمياء، بل يتطلّب توفير الرعاية الجسدية والنفسية، والاهتمام بكلّ ما يحقّق راحتهم ويخفّف عنهم مشاقّ الحياة. كما يُعتبر برّ الوالدين من أعظم مظاهر الإحسان التي أكّد عليها الإسلام، وذلك من خلال النصوص الشرعية التي رفعت من شأن الوالدين وجعلت رعاية حقوقهم وبرّهم من أسمى الأعمال التي يمكن أن يقدّمها المسلم. وبرّ الوالدين لا يعني فقط تقديم المساعدة المادية أو المعنوية، بل يمتدّ ليشمل الاستماع إليهم، ومعاملتهم باللين، وتقديم كلّ ما يحتاجونه من دعم.
الإحسان إلى الوالدين ليس فقط في حدود الطاعة العمياء، بل يتطلّب توفير الرعاية الجسدية والنفسية، والاهتمام بكلّ ما يحقق راحتهم ويخفف عنهم مشاقّ الحياة
» تربية الأبناء: يُعد الإحسان في تربية الأبناء من الركائز التي لا غنى عنها في بناء أسرة قوية ومن ثَمَّ مجتمع قوي، فيجب على الآباء أن يكونوا قدوة حسنة في كلّ تصرفاتهم، ليس فقط من خلال توجيه أبنائهم بالكلام، بل من خلال أفعالهم التي تعكس القيم الأخلاقية والدينية، فالإحسان في التربية يعني غرس القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي تُعِد الأبناء لمواجهة تحدّيات الحياة بصلابة وحكمة، وتوجيههم نحو الطريق القويم الذي يقودهم إلى النجاح في الدنيا والآخرة. يتطلّب الإحسان أيضًا تفهّم مشاعر الأبناء ودعمهم نفسيًا، وتعليمهم كيفية التعامل مع ضغوط الحياة بشكل سليم.
ثالثًا- الإحسان في العمل:
لا ينظر الإسلام إلى العمل كوسيلة لكسب الرزق فقط، بل هو عبادة إنْ صاحبَه إخلاص وإتقان، لذا يجب ألّا ينفصل الإحسان عن العمل الذي يؤدّيه المسلم أيًا كانت طبيعته أو طريقة تأديته، وكذلك حتى لو كان الشخص هو مَن يؤدّي العمل أو يؤدَّى العمل له، ومن بعض أوجه الإحسان في العمل:
» إتقان العمل: الإحسان في العمل هو إتقانه بأفضل صورة ممكنة، سواء كان هذا العمل كبيرًا أو صغيرًا، فعلى العامل أن يؤدّي وظيفته بإخلاص وحرص دون تقصير أو تأجيل، وذلك عملاً بتعليمات الإسلام في كلّ الجوانب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللهَ يُحبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملاً أن يُتقِنه)[3]، هذا الحديث يشير إلى أهمية الإحسان في أداء العمل، مهما كان نوعه.
» العدالة في المعاملة: لا يشمل الإحسان تأدية العمل فقط، بل يجب أن يظهر في التعامل مع الزملاء والرؤساء والمرؤوسين، فيجب أن تكون العلاقة بين العاملين قائمة على الاحترام المتبادل، والتقدير المناسب للمجهود الذي يؤدّيه العامل لصاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأَجيرَ أجرَه قبل أن يَجفَّ عَرقُه)[4]، يُعدّ هذا الحديث من الأحاديث التي توضّح مبدأ العدالة الاجتماعية في الإسلام، وهو يعكس الالتزام الديني والأخلاقي تجاه العاملين، فيبرز الحديث مسؤولية صاحب العمل في تلبية حقوق الأجير بشكل فوري، وهو تأكيد على أنّ تأخير الأجور يُعد خرقًا لقيم العدل والإحسان في الشريعة الإسلامية. وهذا الحديث يرتبط بنظرية العمل في الفقه الإسلامي التي تعتمد على معايير الإنصاف والرحمة في التعامل مع الأجير، ووفقًا لهذا الحديث فإنّ تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية تشمل ليس فقط تأمين الحقوق المالية، بل أيضًا تعزيز بيئة العمل التي تضمن كرامة الإنسان واحترام جهده، وبالتالي يتجاوز الإحسان في التعامل مع الأجير الحدود المادية ليشمل توفير مناخ من التقدير والاعتراف بجهوده ودوره في بناء المجتمع.
تحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية تشمل ليس فقط تأمين الحقوق المالية، بل أيضًا تعزيز بيئة العمل التي تضمن كرامة الإنسان واحترام جهده، وبالتالي يتجاوز الإحسان في التعامل مع الأجير الحدود المادية ليشمل توفير مناخ من التقدير والاعتراف بجهوده ودوره في بناء المجتمع
رابعًا- الإحسان في العلاقات الاجتماعية:
يُعد خلق الإحسان الأساسَ المتينَ لبناء مجتمع متماسك، حيث يكون كلّ فرد في المجتمع مسؤولاً عن الآخرين، فالمظاهر والعلاقات الاجتماعية التي تقوم على الإحسان تعزِّزُ الثقة المتبادلة، وتوجدُ بيئةً من التعاون والتعاضد، ومن تلك المظاهر:
» صلة الرحم: وهي من أعظم صور الإحسان في العلاقات الاجتماعية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانَ يؤمن باللهِ واليومِ الآخر فليَصِل رَحمه)[5]، فيحثّ هذا الحديث على الإحسان إلى الأقارب، وعدم قطع التواصل معهم مهما بلغت الخلافات، كما ورد في الحديث الشريف أنّ صلة الرحم مرتبطة بعقيدة الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وهي دلالة على أهمية صلة الرحم في الإسلام.
» إكرام الضيف: الإحسان إلى الضيف من أهمّ سمات المجتمع الإسلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كان َيؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرِم ضيفه)[6]، فإكرام الضيف هو تعبير عن الكرم والإحسان، وهو واجب اجتماعي يحافظ على العلاقات الطيبة بين الناس، ومثله مثل صلة الرحم قد وردا في الحديث الشريف نفسه والذي يربطهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، في إشارة إلى أنّ المسلمَ سليمَ العقيدة يصل الرحم ويحسنُ إلى الجار والضيف.
خامسًا- خطوات عملية لنشر ثقافة الإحسان في المجتمع:
يبدأ نشر ثقافة الإحسان في المجتمع من التعليم والتوعية، حيث يجب أن تكون قيم الإحسان جزءًا أساسيًا من المناهج التعليمية ووسائل التربية الدينية والتوعية الأخلاقية، وذلك من أجل تربية الأجيال القادمة على هذه القيمة الإسلامية العظيمة، ومن الخطوات العملية في ذلك السياق ما يلي:
» إدراج قيم الإحسان في المناهج التعليمية: يجب أن تكون المناهج الدراسية حافلةً بقيم الإحسان والرحمة، وكذلك النماذجَ العملية على خلق الإحسان وجزاءه في الدنيا والترغيب في ثوابه في الآخرة، بحيث يتعلّم الأطفال والشباب أهمية هذه القيم منذ الصغر.
» تنظيم ورش عمل ومحاضرات حول الإحسان: من المهمّ تنظيم فعاليات توعوية تستهدف مختلف فئات المجتمع لنشر ثقافة الإحسان بين فئات المجتمع، وذلك من شأنه أن ينشر السلم والأمن في المجتمع بشكل واسع.
» تشجيع الأعمال الخيرية والتطوّعية: يمكن أن تلعب المبادرات الخيرية دورًا مهمًا في تعزيز ثقافة الإحسان في المجتمع، فيصبح الإحسان واقعًا بين الناس يؤدّي من خلاله القادرون دورهم في العطاء تجاه المحتاجين.
» إنشاء منصات للتواصل الاجتماعي تروّج لقيم الإحسان: يمكن استغلال وسائل التواصل الاجتماعي لنشر قصص النجاح التي تعكس قيم الإحسان في المجتمع.
يجب أن تكون قيم الإحسان جزءًا أساسيًا من المناهج التعليمية ووسائل التربية الدينية والتوعية الأخلاقية، وذلك من أجل تربية الأجيال القادمة على هذه القيمة الإسلامية العظيمة
وأخيرًا؛
فالإحسان رتبة عالية في دين الله تعالى، كما دلّت عليه النصوص في الكتاب والسنة، “وقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان: (أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه… إلخ) يشير إلى أنَّ العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة وهو استحضار قربه وأنّه بين يديه كأنه يراه؛ وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن تخشى الله كأنك تراه، ويوجب أيضًا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها”[7].
وهذا يرفع الإحسان فوق كونه قيمة دينية نظرية، بل هو ركيزة أساسية في بناء الحضارات المتقدمة، فغرسه في النفوس يسهم في خلق مجتمع أكثر عدلاً وتعاونًا وانضباطًا، حيث تتلاقى القيم الروحية والأخلاقية مع متطلّبات الحياة اليومية، إذا التزم الأفراد والمؤسسات بنشر وتعزيز ثقافة الإحسان المفضية إلى بلوغ الغاية في الخوف من الله وتعظيمه والرقابة الذاتية وإتقان الأعمال؛ فإنّ النتيجة ستكون مجتمعات تتمتّع بإيمان قوي وروابط اجتماعية قوية، وتفاهم متبادل، وبيئة يسودها السلام والأمن الاجتماعي. لذا يبقى الإحسان هو المفتاح نحو تحقيق إصلاحات مجتمعية جذرية تمتدّ من الأسرة إلى الدولة، مما يجعل من هذه القيمة ضرورة لا غنى عنها في أيّ مسعى لتحقيق النهضة التي سعى الإسلام لتطبيقها في المجتمع المسلم.
د. محمود حلمي
كاتب وباحث أكاديمي، أخصائي إرشاد أسري وتربوي
[1] أخرجه البخاري (50) ومسلم (8).
[2] أخرجه مسلم (1955).
[3] أخرجه أبو يعلى (4386).
[4] أخرجه ابن ماجه (2443).
[5] أخرجه البخاري (6138).
[6] أخرجه البخاري (6138)، ومسلم (47).
[7] جامع العلوم والحكم، شرح الحديث الثاني، ص (103).