قراءات

قراءة في كتاب (محركات الأفكار.. تنقيب في الجذور ورصد للمنابع)

الفكرة أكبر مما تبدو عليه، فخلف الأفكار محرِّكات كثيرة، ودوافع متعددة، ترسم الطريق، وتحدِّد الوجهة، ودون معرفتها تظل الفكرة مجهولة السِّياق، ودون السياق لا سبيل إلى الفهم.

تعريف بالمؤلف:

المؤلف هو الدكتور عبد الرحمن بن ناصر الريّس، أستاذ بجامعة الملك فيصل في السعودية، متخصِّص في سيكولوجيا الأفكار ونشأتها لدى الأفراد والمجتمعات، والكتاب الذي بين أيدينا رسالته للدكتوراه بعنوان: (دوافع الأفكار وآثارها الثقافية) في قسم الثقافة الإسلامية، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويقع في 370 صفحة من طباعة مركز تكوين للدراسات والبحوث.

هدف الكتاب:

شهد الفضاء الفكري العربي انقسامات متعدّدة، وموجات من الصدام الثقافي والأدبي، نتج عنها أطروحات متباينة في العقيدة وأصول الدين، والتراث الإسلامي، وقد حفّز ذلك المؤلف إلى تتبع هذه الاتجاهات ومحاولة رسم خريطتها الفكرية والفلسفية، ثم تبيَّن له أثناء ذلك أنَّ بعض الأفكار التي شغلت الباحثين والمفكِّرين لم يكن باعثها والمحرِّك إليها هو الاجتهاد العلمي المحض، بل أمر آخر بعيد كل البعد عن الفكرة ذاتها، وإن تلبَّس صاحبها بالموضوعية وقدَّمها في صورة الرأي الفكري، ومِن ثَمَّ رأى المؤلف ضرورة البحث في محرِّكات الأفكار للمشتغل بالمذاهب العقدية والآراء الفكرية، وهو ما سعى لتفصيل الكلام فيه في هذا الكتاب.

محتوى الكتاب:

رصد المؤلف في كتابه أهم محرِّكات الأفكار، وهي الدوافع العميقة التي تقف خلف الفكرة، وتسبق ظهورها، من مؤثِّرات نفسية أو عقلية أو خارجية تُنشئ تلك الفكرة ابتداءً، أو توجِّه الذهن إليها وتدفعه إلى الانحياز لها. كما عُنِيَ المؤلف بإيراد الشواهد لتلك المحرِّكات، وبحث الاعتبار الشرعي لكل منها.

وقد قسَّم الكاتب محرِّكات الأفكار إلى:

1. محركات نفسية.

2. محركات عقلية.

3. محركات خارجية.

ثم ختم الكتاب بمقالين:

» محركات الأفكار والخطابات الحداثية المعاصرة.

» اعتبار المحركات في القراءة الفكرية.

بعض الأفكار التي شغلت الباحثين والمفكِّرين لم يكن باعثها والمحرِّك إليها هو الاجتهاد العلمي المحض، بل أمر آخر بعيد كل البعد عن الفكرة ذاتها، وإن تلبَّس صاحبها بالموضوعية وقدَّمها في صورة الرأي الفكري.

المحركات النفسية:

تناول المؤلف في هذا القسم خمسة محرِّكات، وهي: الهوى، والكبر والحسد، والعواطف والمشاعر، والفتور والكسل، والوازع الإيماني.

المحرك الأول/ الهوى:

بدأ به المؤلف لأنَّه الأصل الذي تعود إليه جميع المحرِّكات النفسية، فبيَّن أنَّ الإنسان قد يميل إلى فكرةٍ -حقًّا كانت أم باطلاً- لا لذاتها بل لأنَّها وافقت هوىً في نفسه، وأشبعت حاجة فيها.

وقد تردَّدت مفردة الهوى في النصوص الشرعية كثيرًا، بما يدل على اعتناء الشرع بهذا المحرّك والتنبيه على مآلاته الخطيرة؛ كتسمية ما خالف الحق بالهوى، والتحذير المتكرِّر من مطاوعة الهوى واتباعه، واعتباره وثنًا يُعبَد من دون الله تعالى.

وقد أورد الكاتب العديد من أقوال أهل العلم في بيان أثر الهوى في الجانب العلمي والفكري، مع أمثلة عليها.

المحرك الثاني/ الكبر والحسد:

فالكبر حالة تعتري الإنسان لتحول بينه وبين الأفكار والآراء والمعتقدات، وتكون هذه الحالة كذلك محرّكًا لنشوء الأفكار في عقلية المستكبر، وبدون هذه الحالة قد لا يكون لهذه الأفكار وجود وحضور في عقلية صاحبها فضلاً عن وجودها في الفضاء الفكري العام.

أمّا الحسد فهو يحرف الفكر عن الوجهة العلمية إلى شخص المحسود؛ فلا يقتصر ضرره على أعيان المسائل، بل على المنهج العلمي والفكري؛ لأنه ينقل محور البحث من الأفكار والآراء إلى الذوات والشخوص، كما يؤدي إلى انتزاع أخلاقيات المثاقفة والتعلم، وغياب أخلاق أهل العلم.

وكم أُلبِس الكبر والحسد لبوس العلم والنصح، وكم شُغِلَت الساحة العلمية بردود ومخاصمات ظاهرها الانتصار للحق، وباعثها الحقيقي هو الكبر والحسد!

هذا المحرِّك من أشد المحرِّكات خطرًا وأعمقها أثرًا؛ لأنَّه لا يقود إلى رفض فكرة معينة فحسب، بل إلى حرمان صاحبه النهج الصحيح للتفكير والبحث: إذ إنَّ الكِبر يدفع المتكبر إلى أن يتطبَّع على مدافعة الحقائق والانحياز لحظوظ النفس، فيؤثر ذلك في مزاجه وقدرته على النظر والموازنة بين الأفكار، ويغدو كثير من آرائه أشبه بالأمراض الفكرية والأدبية، وإن أخرجها في صورة الأطروحات العلمية. والحسد هو أساسُ كثير من المعارضات العقدية ودافعها الرئيس، وهو سبب الضلال اليهودي، ومكوِّن عميق في الهُوية النفسية للمنافقين.

ونظرًا لما لهذا المحرِّك من خطر عظيم فقد جاءت الشريعة الإسلامية بما يحذر منه ومن عواقبه؛ فجعلت الكِبر مقابلاً للإيمان؛ إذ لا يستقر الإيمان في قلب امتلأ كبرًا وعلوًّا، كما دلَّت النصوص الشرعية على أنَّ الكبر يحجب عن القلب نور الحق، ويحرمه أدلة اليقين، وبيَّن القرآن الكريم مرارًا أنَّ الكِبر إمامٌ يُورد صاحبه مهاوي الضلال.

قد ينحاز المرء إلى الفكرة لا لذاتها، بل لموافقتها هوىً في نفسه، كما يحجب الكِبر والحسد صاحبَهما عن النهج الصحيح للتفكير؛ إذ يدفعانه إلى مدافعة الحقائق والانحياز لحظوظ النفس، حتى تُخرِج هذه الدوافعُ الآراءَ في صورة علمية وهي أقرب إلى الأمراض الفكرية.

المحرك الثالث/ العواطف والمشاعر:

قد ينحاز المرء إلى الفكرة لاحتكامه لشعوره وإحساسه أن هذا ما يناسب الموقف، دون استناد إلى العقل والنظر، فتكون سجيَّته وطبعه هي التي تولِّد هذا الإحساس ومن ثم القبول أو الرفض للأفكار.

وإذا كانت العاطفة قد تُستَغل لإنشاء أفكارٍ منحرفة فإن الشريعة الإسلامية اعتبرت هذا المحرّك وضبطَتْه من جهة أخرى؛ فحثّت على الرفق والإحسان والتواضع وخفض الجناح، وجعلت للمشاعر دورًا في ترقيق القلوب وتوجيه الفطرة، وأكّدت مواساة المؤمنين وتثبيتهم وطمأنتهم بصدق موعود الله وحسن العاقبة.

المحرك الرابع/ الفتور والكسل:

إذا كان النظر والتفكير حالةً من النشاط العقلي؛ فلا شك أنَّ للكسل والفتور أثرًا كبيرًا فيها؛ فقد يُقعِد الكسلُ الإنسان عن إعادة النظر في قناعاته وأفكاره، فيُغلِق كل نوافذ الحوار إليها، ويتهرَّب من فتح أي مناقشة لها.

وقد يتشبَّث الرجل برأي ويتعصَّب له ليس لكسله عن البحث والنظر، بل لأنَّ الأخذ بخلافه يُلزِمه بما يستثقله، ويراه شاقًّا عليه.

وتُبيّن النصوص الشرعية خطورة هذا المحرّك؛ إذ أمرت بمجاهدة الكسل، والاستعاذة من العجز، ووصفت المنافقين به، ووجّهت المؤمن إلى عدم الاستسلام لما يطرأ منه عليه.

المحرك الخامس/ الوازع الإيماني:

ختم المؤلف المحرِّكات النفسية بالوازع الإيماني، فبيَّن أنَّ أصل هذا المحرِّك هو حاجة النفس للإيمان والتدين؛ إذ تلح على النفس البشرية أسئلة وجودية كبرى، وتتحرَّق الروح الإنسانية لمعرفة ما بعد الفناء، ومصيرها الأخير بعد الموت؛ فالنفس الإنسانية مجبولة على الإيمان والبحث عن حقيقة الوجود والحكمة من الخلق، وفي أعماقها مكنون يدفعها للميل إلى سلوك الظاهرة الدينية، والقناعة بعموم الأفكار الملبية لهذا المكنون.

ثم ساق المؤلف بعض الأدلة على اعتبار الشريعة الإسلامية لمحرِّك الوازع الإيماني، كلجوء الإنسان إلى الله في مواطن الشدة والخوف، وحكاية الصراع العقدي بين الكفر والإحساس الإيماني العميق، وانتهاء ذلك إلى الإقرار بحقيقة الألوهية، وكاستثارة العقل الإنساني لإعادة النظر في قناعاته العقدية وما ورثه عن الآباء من تصورات دينية، وإقامة الحجة على من حاوَلَ إشباع حاجته إلى التدين باتباع الأوهام، والتعبد لغير الله عزَّ وجلّ.

في النفس البشرية مكنون يدفعها للميل إلى سلوك الظاهرة الدينية، والقناعة بعموم الأفكار الملبية لهذا المكنون

المحركات العقلية:

وهي خمسة أيضًا: التصور المادي، والجهل المعرفي، وتحرر العقل والاعتداد به، والتباين والتفاوت المنهجي، والغموض في الأفكار وأساليب طرحها.

المحرك الأول/ التصور المادي:

يتمثل هذا المحرِّك في الانطلاق من معطيات الواقع وتغليبها على المعاني الروحية، وذلك بإعطاء المَدَنِية والعُمران والنهضة أولوية حيوية، والسعي الحثيث لتحقيق الرفاهية، وتقليل الأطروحات الروحية مقابل الميل إلى العقلنة والبراهين العلمية، وتجاوز حاكمية التراث، والتحرُّج من الأحكام الشرعية التي تغض من القيم المادية أو تنافيها.

والانطلاق من هذا المحرِّك يوصل إلى غايات بعيدة عن مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت الأولوية للدار الآخرة، وصرَّحت بأنَّ الإيمان هو المعيار الحقيقي عند الله وإنْ حرم صاحبه التفوق المادي والغلبة الحضارية، كما حرصت على تربية المسلم على القيم الروحية والمعنوية، ومجاهدة المغريات المادية والانتصار عليها.

المحرك الثاني/ الجهل المعرفي:

المعرفة عملية تراكمية لها أثر كبير في توجيه الفكر وتصحيح طرق النظر والاستدلال، وإذا كان الأمر كذلك فلا شكَّ أنَّ الجهل في جزئية معينة -سواء جهلاً في التصوُّر أو قصورًا في النَّظر العقلي والعلمي- يُؤثِّر في حركة الأفكار وتوجيهها.

وفي الشريعة الإسلامية ما يدل على خطر هذا المحرِّك وقوة تأثيره؛ كالأدلة الكثيرة في ذم الجهل، والتحذير من عواقبه، والحث على العلم، ورفع منزلة العلماء وطلاب العلم، والدعوة إلى السير في الأرض، والتفكر في خلق الله، وملكوت السماوات والأرض.

المحرك الثالث/ تحرر العقل والاعتداد به:

يُقصَد بهذا المحرِّك أن يكون منشأ الفكرة أو أساس قبولها هو تطبُّع العقل على تحرُّره غير المنضبط في المنهج والتفكير، والثقة المفرطة به وبأحكامه، ولا يتعلق ذلك بأيديولوجية محددة؛ فقد ينطلق من هذا المحرِّك مَن ليس عقلاني المنهج والفكر.

ومن أبرز أمثلة هذا المحرِّك: ما انتهى إليه المعتزلة من آراء عقدية بسبب تقديمهم لعقولهم على النقل والخبر النصي.

وقد عُنِيَت الشريعة الإسلامية بهذا المحرِّك؛ فدعت إلى إعمال العقل والتفكر في النفس والمظاهر الكونية في مساحات شرعية محددة منضبطة، محذرة من أن يقدَّس فيقدَّم على ما هو أولى منه، ونعت صنيع مَن عطَّلوا عقولهم للتقليد والإمَّعة، كما بيَّنت المنهج الصحيح للتعامل مع ما يطرأ على العقل من تساؤلات أو شبهات عقدية.

المحرك الرابع/ التباين والتفاوت المنهجي:

تناول المؤلف هنا أثر المناهج الفكرية في تحريك الأفكار وتوجيهها؛ إذ لا ينفك العقل عن الرجوع إلى أصوله المعرفية ومسلَّماته الأولى، ومن هنا ينشأ الانحياز الفكري إلى ما يوافق المنهج الكلي والأطر العامة؛ بحيث يميل المرء إلى بعض الأفكار لأنَّها تتوافق مع نموذجه المعرفي العام، ومنهجه الفكري الكلي، لا بالنظر لذات الفكرة.

وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية هذا المحرِّك؛ من خلال مراعاة استحضاره في الدعوة، وما يقتضيه ذلك من تنويع الخطاب، والتدرج فيه، وبما شرعته من مجاراة للمناهج المختلفة في مقام الحوار والجدل، وبما قدَّمته من حجاج يراعي الأصول المنهجية لغير المسلمين وغير ذلك.

المحرك الخامس/ الغموض في الأفكار وأساليب طرحها:

كثيرًا ما يكون سبب الاقتناع بالفكرة هو أسلوب تقديمها وليس الحجة التي قامت عليها، وكثيرًا ما تُطرَح الأفكار في أساليب غامضة لتهويلها في قلوب القراء، وإشعارهم بعُمق لا وجود له، وبذلك تجد طريقًا إلى التأثير فيهم.

وقد راعَت الشريعة أثر الأسلوب وطريقة العرض في بيان الأحكام والتعامل مع المخالفين، لما لهذا الأسلوب من دورٍ كبير في توجيه أفكار الناس ومعتقداتهم، كما نبَّه القرآن الكريم على الأثر العميق لزخرف القول وخطر الكلمة على الوعي، وسطوتها على القلب.

كثيرًا ما يكون سبب الاقتناع بالفكرة هو أسلوب تقديمها وليس الحجة التي قامت عليها، وكثيرًا ما تُطرَح الأفكار في أساليب غامضة لتهويلها في قلوب القراء، وإشعارهم بعُمق لا وجود له، وبذلك تجد طريقًا إلى التأثير فيهم

المحركات الخارجية لنشوء الأفكار:

ذكر منها المؤلف اثني عشر محرِّكًا، وقسمها إلى أربعة أقسام:

* الأول: المحرِّكات الكونية، وتشمل: سنة الابتلاء، وسنة التغيير والمداولة، وسنة التدافع.

* الثاني: المحرِّكات الاجتماعية، وتشمل: الظرف الاجتماعي، وسلطة الأقران، والعصبية للقبيلة والأشياخ.

* الثالث: المحرِّكات الاقتصادية، وتشمل: الفقر، والاسترزاق المعيشي، والجشع والطمع.

* الرابع: المحرِّكات السياسية، وتشمل: الغلبة الحضارية، والظلم والجور، والتغيرات السياسية.

المحرك الأول/ سنة الابتلاء:

بيَّن المؤلف في هذا المحرِّك أنَّ الخطوب الجسيمة والامتحانات الكونية قد تدفع البعض إلى التصريح أو القبول بأفكار ومعتقدات لم تكن لتخطر على بالهم لولا ذلك الابتلاء؛ إذ إنَّ المحن والفتن تزعزع كثيرًا من اليقينيات، وتدفع بردود فعل فكرية عنيفة، وتُحدِث انقلابات في الرُّؤى والتصورات، لا على أسس عقلية ومنطقية، بل استجابة لضغط الواقع وسطوة الأحداث.

ومن أبرز شواهد هذا المحرِّك: موجةُ الإلحاد إثر الأحداث التي عصفت ببعض الأقطار الإسلامية؛ إذ أثيرت التساؤلات عن الشر، والحكمة منه، وانتهت بكثير من الشباب إلى الإلحاد والأفكار العبثية والعدمية.

وفي نصوص الشريعة الإسلامية ما يدل على اعتبار هذا المحرِّك وأثره في الأفكار والمعتقدات؛ فقد حذَّرت المسلم من تمنِّي البلاء ليُثبِت صدق إيمانه فيكون منه العكس، كما بيَّنت الغاية من الابتلاء، وهو الاختبار والتمحيص، وحثّت المؤمنين على الصبر عند الفتن والشدائد، ضاربةً لهم الأمثال من صبر الأنبياء والمرسلين، ووعدت الصابرين منهم بالعوض والتمكين وحسن الثواب عند الله تعالى.

المحرك الثاني/ سُنّة التغيير والمداولة:

يُقصَد بهذا المحرِّك أن يكون سبب ظهور الفكرة أو الاقتناع بها ما يطرأ على المجتمعات من تغير الأحوال واختلاف الأطوار؛ إذ إن الحياة الفكرية تتفاعل مع الجوانب الأخرى للحياة العامة، ومن الطبيعي أن تمتد آثار التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها إلى التصورات والمفاهيم والنماذج الفكرية والمعرفية.

وقد تضمَّنت النصوص الشرعية ما يدل على اعتبارها هذا المحرِّك؛ كبيان تأثير تغير الحال العام بالتغيير الخاص أو الشخصي {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، وكتسلية المؤمنين وتثبيتهم بأنَّ المستقبل لهذا الدين، وكمراعاة علة تغير الحال في كثير من الأحكام والفتاوى الشرعية.

المحرك الثالث/ سنة التدافع:

قرَّر المؤلف أنَّ سُنّة التدافع تجعل الانقسام الفكري أمرًا حتميًّا، إذ تدفع الفردَ إلى تبنّي فكرةٍ ما، لكونها انحيازًا طبيعيًّا إلى أحد أطراف الصراع القائم، كما أن استحضار الخلاف والمعارضة يدفع الشخص للتصريح بأفكار أو تبنيها لا لذات الفكرة بل لمجرد المعارضة.

وقد شملت النصوص الشرعية ما يدل على اعتبارها هذا المحرِّك؛ فقد أكَّد القرآن الكريم حتمية التدافع، وأزلية الصراع بين الحق والباطل، وأنَّ الانقسام العقدي بين الناس سنةٌ إلهيةٌ باقيةٌ إلى يوم القيامة، مع التأكيد على المقتضيات الشرعية لذلك من مدافعة المرء لهواه ونفسه، ومجاهدة النفس الأمارة بالسوء، وضبط الانفعالات النفسية والسلوكية في أجواء المدافعة الفكرية.

سُنّة التدافع تجعل الانقسام الفكري أمرًا حتميًّا، إذ تدفع الفردَ إلى تبنّي فكرةٍ ما لكونها انحيازًا طبيعيًّا إلى أحد أطراف الصراع القائم، كما أن استحضار الخلاف والمعارضة يدفع الشخص للتصريح بأفكار أو تبنيها لا لذات الفكرة بل لمجرد المعارضة

المحرك الرابع/ الظرف الاجتماعي:

أوضح المؤلف في هذا المحرِّك ما للبيئة الاجتماعية من قوةٍ في توجيه الفرد إلى أنماط معينة من النظر، وأطر مخصوصة من التفكير، ورفض غير ذلك من الأنساق الفكرية والنماذج المعرفية.

والناظر في الشريعة الإسلامية يجد أنها قد اعتبرت هذا المحرِّك؛ إذ أقرَّت بأثره في تشكيل الهوية العقدية للإنسان، من غير إقرارٍ بقبوله بالضرورة، بل لبيان سبب الباطل منها، وقبول المحق منها ومراعاته، وقد فقه علماء الإسلام أثر هذا المحرِّك، فناقشوا الأحوال المتأثرة به، كأوضاع الأقليات الإسلامية في بلاد الكفر، وما تقتضيه البيئة الاجتماعية هناك من فتاوى خاصة، وتقديرات معيَّنة.

المحرك الخامس/ سلطة الأقران:

ضغط العلاقات الشخصية وما يمارسه المحيط الخاص من تأثيرٍ نفسي وفكري مِن أَعْمَلِ الأسباب في توجيه الفكر وتشكيل الرؤى والتصورات؛ فكثيرًا ما يخضع الفرد للسلطة الفكرية لدائرته الخاصة؛ تأثرًا، أو خشية الانعزال أو النبذ الاجتماعي ونحو ذلك، ومن شأن هذا أن يرسخ سلوكًا عقليًّا بعيدًا عن الإنصاف، والعدالة الفكرية.

وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتوجيهات وآداب تدل على اعتبار هذا المحرِّك فيها؛ فمن ذلك إقرار الحديث النبوي بأثر القرين، والنهي عن اتخاذ قرناء السوء ومخالطة أهل الشر والفجور، والحث على لزوم أهل العبادة ومجاهدة النفس على ذلك.

المحرك السادس/ العصبية للقبيلة أو الأشياخ:

عرض المؤلف في هذا المحرِّك لأثر العصبية القبَلية والتبعية المذهبية والانقياد للأشياخ والكبراء في تحريك الأفكار إلى وجهات معينة، وهو من أقوى المحرِّكات الفكرية وأكثرها شيوعًا في التاريخ الفكري والثقافي للبشرية جمعاء. والقارئ لقصص القرآن الكريم يرى كيف كذَّبت الأمم البائدة الرسل، وأنكرت النبوات تعصبًا للآباء وتعظيمًا لرفات الأسلاف، وقد نعى القرآن الكريم على المشركين ذلك في كثير من المواضع، كما تضافرت نصوص الوحيين على نبذ العصبية، والتحذير من دعوى الجاهلية، والتنفير منها.

وقد أدرك أئمة الإسلام خطر العصبية ومآلاتها على الدين والأمة؛ فنهوا عن تقليدهم بلا حُجَّة، وصرَّحوا أن معيار الحق والباطل هو الدليل، فالرجال يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال.

المحرك السابع/ الفقر:

فالفقر وضيق الحال يؤثر في الإنسان، وينهك قواه النفسية والبدنية والعقلية، ومن شأن ذلك أن يدفعه إلى اتجاهات فكرية معيَّنة، ويُؤثِّر في رؤاه وتصوراته الجزئية والكلية، ما كان ليعتنقها في حال غناه.

والتدليل على تأثير هذا المحرِّك ظاهر؛ فمحاربة الفقر، وسدِّ حاجة المعوزين، والمقاربة بين الطبقات؛ ظاهر في أحكام الشريعة الإسلامية ونصوص الكتاب والسنة.

المحرك الثامن/ الاسترزاق المعيشي:

فتحصيل الرزق والسعي في طلب المعاش قد يكون سببًا للانحياز الفكري لصاحب الفكر والرأي، والاصطفاف معه، وتغيير التموضع الثقافي.

وقد راعت الشريعة هذا المحرِّك، فحثَّت على طلب الرزق، والتماس وجوه الحلال، ودعا النبيُّ عليه الصلاة والسلام إلى العمل والاكتساب، والنَّهي عن سؤال الناس، وقد أدرك أهل النظر أثر هذا المحرِّك وتبعاته؛ فأوقفوا الأوقاف على العلماء وطلاب العلم؛ ليتفرغوا للتحصيل والبحث، ويتحرَّروا من قيود الحاجة، وتبعاتها على الحرية الفكرية، والقناعات العلمية.

المحرك التاسع/ الطمع والجشع المالي:

حيث كثيرًا ما يكون سبب القناعة بفكرة أو الدفاع عنها: الطمع في المال، والرغبة في الاستزادة منه، ممن يملكه.

والقارئ لنصوص الشريعة الإسلامية يجد فيها اعتبارًا لهذا المحرِّك؛ فقد جاءت بذم الطمع والهلع، وحذَّرت المسلم من عاقبته على دينه، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ فتنة هذه الأمة هي المال، كما نعى الحقُّ سبحانه وتعالى على من باع دينه بثمن قليل، وفي ذلك تقرير لآثار محرِّك الجشع والطمع في الدِّين والمعتقد.

المحرك العاشر/ الغلبة الحضارية:

للهزيمة الحضارية آثارٌ عميقةٌ في الساحة الفكرية والعقدية؛ تتمثل في تبعية المغلوب لثقافة الغالب، على ما قرَّره ابن خلدون من “أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”.

ومن أبرز شواهد هذا المحرِّك: الخطاب الانهزامي أمام الغرب في الفضاء الفكري العربي، بالدعوة إلى استنساخ النموذج الغربي، والانقلاب على القيم الإسلامية، والقطيعة مع الهوية التاريخية، والحط من التراث، وغير ذلك.

وقد جاءت النصوص الشرعية بما يدل على اعتبار هذا المحرِّك، لما له من أثر عظيم في تشكيل هوية الفرد والمجتمع؛ فأكَّدت أنَّ غاية الجهاد هو تمكين الشريعة الإسلامية والاحتكام إليها، كما حرصت على بثِّ روح العزة في نفوس المسلمين، وحذَّرتهم من الروح الانهزامية؛ لما لذلك من تأثير على أفكارهم وتصوراتهم، ونعى القرآن الكريم على المنافقين ابتغاء العزة عند المشركين، وفي ذلك تقرير لتأثير الغلبة الحضارية في الأفكار والمعتقدات.

 المحرك الحادي عشر/ الظلم والجور:

بَيَّن المؤلف في هذا المحرِّك أنَّ الفكرة قد تنشأ جراء الظلم والعدوان؛ فقد يضطهد المرء لأفكاره أو لأسباب أخرى؛ فتتولد لديه آراء جديدة جراء ذلك، وكثيرًا ما تبدو الأفكار مبنية على أساس علمي ثم يتبين أنها وليدةُ مظلوميةِ صاحبِها؛ للنيل ممن ظلمه أو التنفيس عن غضبه وسخطه، وغير ذلك.

وإذا كان الظلم سببًا لاضطراب الدول واختلالها فمن الطبيعي أن يكون سببًا للصدام الفكري والصراع الأيديولوجي.

ولعظيم أثر محرِّك الظلم والجور فقد نهت الشريعة الإسلامية عنه وحذَّرت مرتكبيه، وشرعت للمظلوم القصاص ممَّن ظلمه والهجرة حفاظًا على دينه، كما جاءت النصوص بمواساة المظلوم وتعزيته، وفي ذلك طمأنة لنفسه؛ لئلَّا تسخط أو تسيء الظنَّ بالله تعالى.

المحرك الثاني عشر/ التغيرات السياسية:

تناول المؤلف في هذا المحرِّك، أثر التغيرات السياسية وتبدل موازين القوى ونظام الحكم في نشوء الأفكار وانتشارها والعكس؛ وذلك لأنَّ الإنسان يتأثر بما حوله وإن لم يكن له سلطانٌ عليه فكيف إذا كان له ذلك.

وقد اعتبر الشرع هذا المحرِّك؛ فأوجب تطبيق أحكام الشريعة لما لها من أثر في تشكيل التصورات والآراء، وقرر تأثير الحكم والسلطان على الأفكار والآراء، وحمَّل الراعي مسؤولية أفكار ومعتقدات رعيته.

للهزيمة الحضارية آثارٌ عميقةٌ في الساحة الفكرية والعقدية؛ تتمثل في تبعية المغلوب لثقافة الغالب وهو ما يظهر في الخطاب الانهزامي أمام الغرب بالدعوة إلى استنساخ نموذجه، والقطيعة مع الهوية التاريخية، والحطّ من التراث والقيم الإسلامية.

محركات الأفكار والخطابات الحداثية المعاصرة:

عرَّج الكاتب على منهج الحداثيين في توظيف بعض المحرِّكات في تأويل التراث، وكأنه أراد بذلك التمثيل لـ (الخطأ في تشخيص المحرِّك الفكري)؛ فإذا أخطأ الناظر في التشخيص وادَّعى مُحرِّكًا آخر، فإن ذلك سيوصله إلى إخراج الفكرة عن سياقها الصحيح، ونسبتها إلى غير دوافعها الحقيقية.

وقد مثَّل لذلك بخطأ الحداثيين في قراءة الآراء والمعتقدات في التراث الإسلامي؛ حيث فسروها بالدوافع والأغراض السياسية، وجعلوها أصلاً وأساسًا في قراءتهم، حتى باتت الأفكار والعقائد متهمةً بالأغراض السياسية ما لم يثبت ضد ذلك، وفي ذلك شطط عن النهج المستقيم.

كما نبَّه بإجمال على أنَّ التوظيف الحداثي للمحرِّك السياسي لم يقتصر على استعماله أداةً للقراءة والتشخيص، بل اتخذه أيقونة أيديولوجية للخطاب الحداثي، أي إنَّ آلة النظر تحوَّلت شِعارًا دعائيًّا ولافتةً تسويقيةً لذلك المنهج.

اعتبار المحركات في القراءة الفكرية:

عرض الكاتب تحت هذا العنوان لأحوال الباحثين في محركات الأفكار، ودرجة اعتبارهم لها ضمن ثلاثة اتجاهات:

1. الاتجاه الأول: المبالغة في أثر المحرِّكات والدوافع، بادعاء أنَّ الفكرة لم تنشأ إلا لذلك المحرِّك؛ فالمحرِّك هو السبب المُوجِد، وليس بعامل مؤثِّر، أو بإعطاء المحرِّك الأولوية في تأويل الأفكار وتفسيرها.

كما أن أصحاب هذا الاتجاه قد تجاوزوا بالمحرِّكات وظيفتها التفسيرية إلى جعلها أداة تَبَاهٍ منهجي، ودعوى للنيل من الأفكار المخالفة.

2. الاتجاه الثاني: إهمال محرِّكات الأفكار، بالتقليل من شأنها، بل وتخطئة من يَعتدُّ بها، وهذا الاتجاه لا يقل خطورة عن الاتجاه الأول؛ لأنَّه قد يقود إلى الخطأ في فهم سياقات الأطاريح الفكرية، والحكم النهائي على الأفكار والمعتقدات.

3. الاتجاه الثالث: الاعتدال في اعتبار محركات الأفكار، باستصحاب هذه الأداة عند مناقشة الأفكار، مع الإقرار بقابلية نشوء الفكرة دون محرِّك خارج عن إطارها الموضوعي، والاستمداد المنهجي القائم على الأصول الشرعية والقواعد المعتبرة.

ختامًا:

البحث في محرِّكات الأفكار يحتاج إلى استفادةٍ أعمق من حصيلة الدراسات النفسية والاجتماعية، وتتبع آلية عمل كل محرِّك، واستكشاف الحيل والمغالطات النفسية في التعامل معه، وبحث الطرق الممكنة لتشخيصه وتوجيهه.

ومن المقترح في هذا المقام أن تُدرَس التحولات الفكرية لبعض الشخصيات المؤثِّرة في المشهد الثقافي؛ بحيث تكون دراسة تطبيقية، ترشد الباحثين إلى الطرق العملية لبحث منطلقات الأفكار، وتشخيص محرِّكاتها الخفية، ودوافعها غير المعلنة.


أ. محمد سعيد العامري

ماجستير في اللسانيات العربية


 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *