سار جند سليمان عليه السلام من الجن والإنس والطير {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ 18 فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل: 18-19].
يخلّد الذكر الحكيم قصة الإيجابيين مهما كان شأنهم وحجمهم؛ تعليمًا لنا وتربية.
والحكمة المقصودة هنا في غاية الوضوح، فالنملة تخاطب النمل (يا أيها النمل)، وهذا درس لمن يتكلم أن يعرف مَن يخاطب، وألّا يخاطب إلا مَن يعرف حالَه وحاجته ولغته ومستوى فهمه، فيناديه نداءً يفتح قلبه ليتهيأ عقله للفهم والقبول.
كانت وصية النملة واضحة مباشرة مختصرة (ادخلوا مساكنكم). وكم من كلمة تدخُل القلب ثم تخرج بسبب التطويل والإسهاب الذي يُحاصَر به المخاطَب، فيحاول فكّ حصاره، ويبدأ الجدل فيرحل العمل.
ولئلّا يظن النمل استبداد النملة، فقد أوضحت لهم السبب والغاية والدافع الباعث لها على قولها، (لا يحطمنكم سليمان وجنوده). ومَن لا يعرف السبب لا يقبلُ الأمر، ومَن يتهّم الدوافع يرفُض الأوامر.
وكي لا يخطر في بال النمل ظلمُ سليمان عليه السلام لهم، فإنّ صاحبتهم قد أشعرت أهلها بعذر سليمان عليه السلام (وهم لا يشعرون)، فركّزت انتباه أخواتها نحو دخول المساكن، ورَعَت مشاعرهم ببيان السبب، وحمت خواطرهم بإعذار سليمان عليه السلام، فضبطت بوصلتهم نحو الهدف دون تراخٍ أو اتّهام يُضعف العزائم، ويحول الطاقة أداةً سلبية مدمّرة تقتل ذاتها ولا تضرّ خصمها.
غير أنّ الدرس الأبرز: كيف أنّ النملة لم تتردد في المبادرة الإيجابية بالنصح؛ فلم تمنعها هيبةُ نبي الله سليمان عليه السلام، ولا شعورها بأنّها أول مَن ينادي، من توجيه التحذير والتركيز على الهدف؛ حتى نالت استحسان النبي عليه السلام (فتبسم ضاحكًا من قولها). وهكذا تُصنع البيئة الإيجابية التي تشيع فيها النصيحة، ويكثر فيها الداعون إلى الخير.
ما صلح مجتمع إلّا بالنصيحة الصحيحة الصريحة، وما ساءت أحوال أمة إلا بفقدها جُبنًا أو عجزًا، وما قامت دولة إلا بشجاعة أدبية من المجتمع تجاه قادته، ولا بُني مجتمع إلا بتربية حرّة يُبدي فيها الصغير ما يجول في خاطره لوالده وأستاذه دون خوف أو خجل؛ حتى يتربى على نصح قادته، دون الخضوع لهم أو تصيّد لأخطائهم.
لن تجد تاركًا للنصح إلا وجدته سلبيًا باردًا، أو لائمًا لغيره، ولن تجد لائمًا إلا وجدته واقعًا فيما يُلام عليه أكثر من مَلومه، وفي الوقت الذي يُتهم فيه القادة المنجزون بالتفرّد -وهو معيب- فإنّ المعترضين عليهم من ذوي القرب منهم مشاركون لهم في الخطأ شاؤوا أم أبوا؛ لأنَّ الفعل لا ينشأ بعامل واحد، وإنما نتيجة عوامل متفاعلة، وقد قال العزيز جل جلاله عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]. والعامة تقول: مَن فرعنك يا فرعون؟ قال: ما وجدت من يردُّني.
ومبدأ الخطأ في النقد: التفات النفس عن مسؤوليتها، واشتغالها بنقد مسؤوليات الآخرين من العاملين الجادّين الذين لا وقت لديهم للدفاع عن أنفسهم، بل يتصدّقون بأعراضهم، أو يتجرّعون غُصصهم، أو ينسحبون من الميادين لنفاد طاقتهم تحت وطأة نقد يهدّ الجبال.
وأعجب ما فيه: العسر البالغ في إقناع جلّ الناقدين المتذمّرين المتنمّرين بأن يكتب أحدهم رسالة نصح خفية يؤازر بها أخاه، أو يدعو للمخطئ في سرّه، أو يطرق بزيارة أخوية باب قلب خصمه. ولسان حالهم: إنّه خصمٌ لا يستحقّ إلّا سهام الكلام، وصواريخ العبارات، وقذائف المنشورات، وقنابل الردود!
ألا ما أحوج هؤلاء -مهما علا شأنهم- إلى التعلّم من قول الله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ}.
د. خير الله طالب


