لا تزال مسألة التعريفات والاصطلاحات من أكثر القضايا جدلاً وإثارة للخلاف لا سيما في العلوم الإنسانية، ويَقوى الخلاف في طور النشوء، ثم يمر المصطلح بأطوار تتضح معها دلالات المفهوم وحدود الاختصاص؛ إذ يبدأ التوافق على القضايا الأساسية وتضيق مساحات الخلاف، ولا شك أنَّ للزمن دورًا مؤثرًا في ذلك. ومن تلك العلوم التي ثار الجدل حولها: علم السياسة بالرغم من أن الكلام في موضوعاتها بدأ مبكرًا جدًا؛ إذ تكلم أفلاطون قديمًا عن المدينة الفاضلة، وشكل الدولة، وقِيم الحرية والعدالة، وتكلم سقراط عن الدولة وعلاقتها بالشعب، وأرسطو عن أنواع أنظمة الحكم ووظائف الدولة.
ثم دخل علم السياسة طورًا جديدًا مع الحضارة الإسلامية، حيث تكلم الفقهاء والفلاسفة وأهل الكلام في وظائف الحاكم، وطرق توليته، وموارد الدولة المالية، وعلاقتها في الحرب والسلم، وغير ذلك، فمن الفقهاء: أبو يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني صاحبا أبي حنيفة، وابن عقيل الحنبلي، والماوردي، والجويني، ومن الفلاسفة: الكندي والفارابي وابن رشد.
ثم شهد هذا العلم تطورًا كبيرًا عند الغرب كأحد فروع علم الاجتماع منذ عصر النهضة حتى اليوم، حيث مر بعدة مراحل، واشتهرت فيه عدة مدارس حتى نضج بالشكل الذي نراه اليوم؛ وأخذ شكلاً مستقلاً كأحد فروع علم الاجتماع.
وحديثنا في هذا المقال ليس عن السياسة بمعناها العام، بل عن السياسة الشرعية في الفقه السياسي الإٍسلامي.
دخل علم السياسة في الحضارة الإسلامية طورًا جديدًا؛ فأصبح من مفرداته: الحديث عن وظائف الحاكم، وطرق توليته، وموارد الدولة المالية، وعلاقتها في الحرب والسلم.
السياسة في أصلها اللغوي:
استعملت في اللغة مصدرًا لِسَاس يسوسُ، وهي تطلق بإطلاقات كثيرة، تدور حول معنى: القيام على الشيء وتدبيره والتصرف فيه بما يصلحه، يقال: ساس الأمر سياسةً إذا عالجه وبذل جهده في إصلاحه، وساس الرعية إذا وَلي حكمها وتصرف في شؤونها بما يصلحها[1].
وفي الحديث: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم)[2]، أي يتولون أمورهم بالرعاية والتدبير؛ كما ورد في شعر العرب، ومنه قول حُرُقة بنت النعمان بن المنذر:
فبينا نسوسُ الناسَ والأمرُ أمرُنا
إذا نحن فيهم سُوقةٌ نُتَنَصَّفُ
فأفٍّ لدنيا لا يدومُ نعيمُها
تَقَـــــــلَّبُ تاراتٍ بنــــــا وتَصَــــرَّفُ[3]
السياسة الشرعية والسياسة المدنية:
تقدم أن السياسة بُحثت عند المسلمين من قبل الفلاسفة والحكماء، ومن عباراتهم في ذلك ما حرره المقريزي (845ه) في خططه حيث قال: «القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال». وهذا ما دندن حوله الفارابي في كتابيه» آراء أهل المدينة الفاضلة» و«السياسة المدنية» وكذلك ابن رشد في «تلخيص السياسة».
وواضح في هذا تأثُّرُهم الكبير بفلاسفة اليونان حيث يدور كلامهم حول كيفية تحصيل السعادة للجمهور بحسن السياسة وإدارة شؤونهم، وإن كان لديهم توسعٌ في معنى السياسة لتشمل مجالات أوسع من هذا.
أما ابن خلدون فقد جعل السياسة نمطًا من أنماط الحكم القائم على جلب المصالح الدنيوية، فقال: «الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسةُ حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها».
وأما الفقهاء فلربما استخدموا مصطلح «السياسة» لفشوِّه وشيوعه منذ عصور متقدمة في القرنين الثالث والرابع، وفي ذلك يقول ابن عقيل كما ينقل عنه ابن القيم: «ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم». لكنهم تحدثوا عنها في سياق شرعي، فجاء كلامهم فيها مختلفًا اختلافًا كبيرًا عما يقرره الأولون. فالسياسة لا يجوز أن تصادم الشرع، وإلا كانت سياسة ظالمة، يقول المقريزي: «والسياسة نوعان سياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الأحكام الشرعية، عَلِمَها من عَلِمَها، وجَهِلَها من جَهِلَها، وقد صنّف الناس في السياسة الشرعية كتبًا متعدّدة، والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها».
وهو يقصد هنا بقوله «الخلافة» ماهو أعم، أي مايقابل السياسة المدنية.
بداية استخدام مصطلح «السياسة الشرعية»:
لم يُستعمل مصطلح «السياسة الشرعية» عند الفقهاء المتقدمين، وإنما كان يعبّر عنه ﺑ «السياسة» دون إضافة «الشرعية»، وكَتب الفقهاء المتقدمون أحكام الفقه السياسي بجانب الأحكام الفقهية دون تمييز بينهما، ولم يظهر هذا التمايز إلا عند المتأخرين، والحنفية هم أكثر من استعمل مصطلح «السياسة»، والشافعية يعبِّرون عن مصطلح «السياسة الشرعية» بمصطلح «المصلحة» ويجعلونها مرادفة لها، ويخصُّون ذلك فيما ترك الشارع تقديره إلى الإمام، والإمام الماوردي في الأحكام السلطانية استعمل مصطلح «السياسة»، كما أن الجويني في كتابه «غياث الأمم» استعمل مصطلحين قريبين: «الإيالة الشرعية» و«السياسة الدينية»[4].
استخدم المسلمون لفظ «السياسة» مجردًا، ثم أضافوا لها مصطلح «الشرعية» عندما ظهر الفساد والانحراف والسياسات الجائرة والمنحرفة من قبل الحكام؛ لتفريق السياسة المشروعة عن السياسة بالرأي والتَّحكم.
ولعل السبب في ذلك أنه لم تظهر الحاجة لتقييد السياسة بالشرعية؛ إذ لم يكن يتصور سياسة أولي الأمر إلا بالشريعة، ولكن لما ظهر الفساد والانحراف والسياسات الجائرة والمنحرفة اضطر العلماء إلى تقييدها ﺑ «الشرعية» لتفريقها عن السياسة بالرأي والتَّحكم، يقول ابن القيم: «السياسة العادلة جزء من الشريعة، ومن له ذوق في الشريعة واطِّلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، وأنَّ الخلق لا صلاح لهم بدونها ألبتة؛ عَلِمَ أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علمًا بمقاصدها ووضعها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة»[5].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن بداية ذلك الانحراف: «فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلَّد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوَّغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصَّروا في معرفة السنّة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح الحرمات؛ والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرُهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل؛ وكثيرٌ منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك»[6].
يتضح من هذا التقرير أن كثيرًا من التعريفات للسياسة كانت تقتصر على جزء من مفهوم السياسة الشرعية، ولم يكن المراد من استعمالاتهم بيان مفهوم السياسة الشرعية بالشمول المقصود في اصطلاح المتأخرين.
ويبدو مِن تتبع الكتابات في «السياسة الشرعية» أن أول من استخدم هذا المصطلح ابن عقيل الحنبلي (513ه)؛ حيث وضع في كتابه» الفنون» فصلاً بعنوان: في العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية، وذلك كما نقل ذلك عنه ابن القيم في «الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»[7].
ثم كتب بعده ابن تيمية (728ه) كتابه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» وبينهما أكثر من قرنين، ولا نقف على كتاب بين ابن عقيل وابن تيمية في السياسة الشرعية بهذا المفهوم!
وإن كانت كُتبت كتبٌ في أدب الملوك، مثل: سراج الملوك للطرطوشي، لكنها ليست على ذلك النسق والمفهوم.
أول من استخدم مصطلح “السياسة الشريعة” ابن عقيل الحنبلي، ثم ابن تيمية
مراحل الكتابة في السياسة الشرعية:
ولعله من الجيد أن نلقي نظرة شاملة على مراحل الكتابة في السياسة الشرعية لنلحظ تطورَ المصطلح وسياقات استخدامه، وكما يقال: من لم يُحط بأصول الأشياء يبقى في قلبه حسكة.
بما أن الأحكام التي تندرج تحت علم السياسة الشرعية هي أحكام فقهية، سواء ما يتعلق بتولية الحاكم، وأحكام تولية القضاة وأحكام القضاء، أو ما يتعلق بالسير والجهاد والهُدَن والحروب والأسرى وغير ذلك، لذا فإن الكتابة فيها كانت مبكرًا مع نشوء علم الفقه، ويمكن تلخيص مراحلها بما يلي:
المرحلة الأولى: الكتابة ضمن أبواب الفقه: حيث كان الفقهاء يتعرضون لبيان أحكام هذه المسائل ضمن كتب الفقه في أبواب خاصة، فلا يوجد كتاب فقهي خلا عن ذكر أحكام هذه المسائل.
المرحلة الثانية: المؤلفات المستقلة في موضوعات مخصوصة: حيث ظهرت كتب في موضوعات مخصوصة، من ذلك مثلاً: كتاب «الخراج»، لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة (180ه)، وكتاب «السير الكبير» لمحمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة (189ه)، وكتاب «الأموال» للقاسم بن سلام (224ه).
المرحلة الثالثة: المؤلفات الشاملة: حيث ظهرت كتب تبحث في موضوعات السياسة الشرعية بشمول، ومن ذلك: كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي (450ه)، و«الأحكام السلطانية» لأبي يعلى الفراء (458ه)، و«غياث الأمم في التياث الظلم» للإمام الجويني (478ه)، وكذلك هناك نوع من الكتب انتشر هذه المرحلة وهي كتب نصائح الملوك، مثل: «التِّبر المسبوك في نصيحة الملوك» للإمام الغزالي (505ه)، و«سراج الملوك» للطرطوشي (520ه).
المرحلة الرابعة: مرحلة التأصيل والتقعيد والتحرير: حيث تميَّزت بمزيد من التحرير لمباحث السياسة الشرعية، وتفصيل موضوعاتها وتأصيل قواعدها، من ذلك: «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام» لابن جماعة (733ه)، و«السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» لابن تيمية (728ه)، و«الطرق الحكمية في السياسة الشرعية» لابن قيم الجوزية (757ه).
المرحلة الخامسة: المؤلفات المعاصرة: حيث اعتمدت مصطلح «السياسة الشرعية» كعَلَمٍ على هذا العلم، وحاول أصحابها تحرير تعريف السياسة الشرعية، وتحرير مجالاتها واختصاصاتها، وبيان أصولها وضوابطها، ومن ذلك: «السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية» لعبد الوهاب خلاف (1956م)، و«السياسة الشرعية في الفقه الإسلامي» لشيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن تاج (1975م)، و«المدخل إلى السياسة الشرعية» د.عبد العال عطوة (1994م)[8].
مرَّ التأليف في السياسة الشرعية بعدة مراحل:
– الكتابة ضمن أبواب الفقه
– المؤلفات المستقلة ضمن موضوعات متخصصة في السياسة الشرعية
– المؤلفات الشاملة في عموم أبواب السياسة الشرعية
– مرحلة التأصيل والتقعيد والتحرير
– المؤلفات المعاصرة التي اعتمدت «السياسة الشرعية» عَلَمًا على هذا العلم
تعريف السياسة الشرعية:
هناك تعريفات كثيرة للسياسة الشرعية، لكن يمكن أن نجملها في ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول: تعريفها بما يرادف التعزير، ومنه قول الطرابلسي (844ه): «السياسة شرعٌ مغلّظٌ»[9].
وقريبٌ منه ما نقله ابن عابدين ( 1252ه): «تغليظُ جنايةٍ لها حكمٌ شرعيٌ حسماً لمادة الفساد»[10]، وإن كان الأول يختلف عن الثاني في كون الأول أطلق العقوبة في الجرئم المقدرة وغير المقدرة، وفي الثاني قصرها على الجرائم المقدرة، أي في الحدود والقصاص[11].
فيظهر من ذلك أن السياسة والتعزير تستعملان بمعنى واحد، وهو ما صرح به ابن عابدين: «قلت: والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما، بل اقتصر في الجوهرة على تسميته تعزيراً[12].
الاتجاه الثاني: تعريفها بما يرادف المصلحة، ومنه قول زين الدين بن نجيم المصري: «وظاهر كلامهم أن السياسة فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا الفعل دليل جزئي»[13].
ومنه تعريف ابن عقيل المشهور الذي نقله عنه ابن القيم في الطرق الحكمية: «ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي»[14].
فكلا التعريفين متقاربان، إن لم يكونا بمعنى واحد؛ لأن السياسة فعل السائس وهو الحاكم، فكان كل منهما دالاً على أن السياسة فعل مصلحة من الحاكم تعود على الأمة بالنفع العام، وإن لم يَرِد بها دليل تفصيلي جزئي[15].
ومن هذا الاتجاه تعريف د.عبد العال عطوة: «فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، فيما لم يرد فيه نص خاص، وفي الأمور التي من شأنها ألا تبقى على وجه واحد، بل تتغير وتتبدل تبعًا لتغير الظروف والأحوال والأزمنة والأمكنة والمصالح»[16].
الاتجاه الثالث: يتميز بنوع من الشمول والتجريد، إذ يعرّف السياسة الشرعية كوظيفة دون قصر ذلك على الحاكم، وكذلك لم يقيد السياسة الشرعية بما لم يرد فيه نص، بل جعله محتملاً لما ورد فيه نص ومالم يرد فيه.
ومن هذا القبيل تعريف عبد الوهاب خلاف: «تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين»[17].
نقد التعريفات السابقة:
على ضوء ما شاع واستقر عليه المفهوم في الاستعمال المعاصر، يمكن أن نشير إلى الملحوظات التالية على التعريفات السابقة وتطورها:
أولاً: قصر نطاق السياسة الشرعية على التعزير، كما في الاتجاه الأول، بينما السياسة الشرعية في حقيقتها كما في استعمال الفقهاء تشمل ما هو أوسع من العقوبات، كالنظر في: النظم المالية، والأحوال الشخصية، والقضاء والتنفيذ، والإدارة، ونظام الحكم، وغير ذلك مما لم يرد فيه دليل تفصيلي خاص، ويكون في تطبيقه والعمل به مصلحة عامة للأمة[18]
ثانياً: اقتصار بعض التعريفات على مالم يرد فيه نص، كما في تعريف ابن عقيل، وابن نجيم المصري، وهو قصور عن مشمولات التعريف، حيث إن السياسة الشرعية تشمل كذلك ما ورد فيه نص، لكن من جهة أنه من الأحكام التي لا تبقى على شكل واحد لكون الحكم مبني من أول الأمر على المصلحة، والثابت بنص مرتبط بمصلحة معينة، وهي قد تتبدل باختلاف العصور والمصالح فتتبدل الأحكام بناء عليها، ومثاله: اجتهاد عمر رضي الله عنه في حرمان المؤلفة قلوبهم من سهمهم، حيث فهم رضي الله عنه أنه حكمٌ مرتبط بسبب ضعف المسلمين أول نشأة الإسلام وحاجتهم إلى من يعضدهم وينصرهم، فإذا قوي أمر المسلمين وأصبحوا في عزة ومنعة زال المعنى الذي من أجله وجب السهم، وأصبح للإمام الحق في صرفه إلى ماهو أجدى للمسلمين[19].
ثالثاً: تقييد التعريفات بفعل السطان، وهذا يلاحظ في الاتجاهين الأول والثاني، وهذا مبني على الواقع الذي كان سائدًا في تلك العصور التي كتب فيها الفقهاء في السياسة الشرعية، حيث كانت صلاحيات السطان واسعة، وميادين مختلفة عما هي عليه اليوم، بينما تغير الواقع ومناط الحكم اليوم، حيث أصبحت هذه الوظائف هي وظائف الدولة، وللدولة مؤسساتها، والسلطات والصلاحيات موزعة بينها يحكمها القانون الذي يحكم الجميع بما فيهم الحاكم.
التعريف المختار:
يبدو من خلال ما سبق أن أحسن التعريفات هو تعريف الشيخ عبد الوهاب خلاف: «تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين».
وذلك لتميزه بما يلي:
أولاً: عرّف السياسة الشرعية كوظيفة عامة دون اختزالها بفعل الحاكم، وهو أليق حيث هي صلاحيات موزعة بين الحاكم وسلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وأجهزتها ومؤسساتها، وبهذا يخرج عن إطار الواقع القديم الذي ألقى بظلاله على التعريفات جميعا، ويقترب من وظيفة علم السياسة بواقعه الحديث.
ثانيًا: جعلها شاملة محتملة لما ورد فيه نص وما لم يرد فيه نص، وهو حقيقة السياسة الشرعية، حيث ترتبط بالمصلحة المعتبرة شرعاً بشروطها، وإن لم يكن هناك نص، ولم تخالف القواعد الكلية والمقاصد الشرعية؛ وكذلك ما ورد فيه نص لكنه مرتبط بعلة تتغير حسب الظروف فتيتغير الحكم تبعًا لها، كما في اجتهاد عمر رضي الله عنه في سهم المؤلفة قلوبهم، كذا مافعله عثمان رضي الله عنه بضوال الإبل حين أمر بإمساكها وتعريفها وإلا بيعت وحفظ ثمنها ببيت المال إلى أن يخرج صاحبها، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع إمساكها، حيث قال لمن سأله عن ضالة الإبل: (مالك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها ترد المال وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)[20] لأن منع الرسول صلى الله عليه وسلم إمساكها لعدم الخشية من الضياع، وأمر عثمان بالإمساك خشية الضياع لتبدل الحال الذي ارتبط به الحكم، ويكون بذلك موافَقَةً لروح النص، وليس مخالفة في الحقيقة[21].
وأخيرًا:
فهذه جولة وتطواف مع مصطلح «السياسة الشرعية» لبيان مراحل تطوره وتحرير مفهومه، ونقد التعريفات ووضعها في سياقها الطبيعي واستعمالاتها المناسبة، وبإدراك هذا التطور التاريخي نقف على فهم أصح وأدق لكلام أهل العلم في تصانيفهم المختلفة.
ولتحقيق ذلك على أكمل وجه فإننا نحتاج إلى جمع المتفرق في أبواب الفقه وسائر العلوم في باب السياسة الشرعية، وإعادة نظمها وترتيبها، مع النظر فيما حصل لهذه التدوينات أثناء تطور المصطلح وتغيره، وكيفية تعامل أهل العلم مع التغيرات التي طرأت على الدول وممارسات الحكام؛ مما يعني فهمًا أكبر لتكوّن هذا العلم وتطوره، وتصورًا أوضح للجهود الكبيرة التي بذلها أهل العلم في تحريره، وتطويره، وتحقيق مناطاته مع تغير الأزمنة والأحوال، وبالتالي الاستفادة من ذلك في تحرير نظرية سياسيةٍ حديثة، تنطلق من مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، مع مراعاة التغيرات الحاصلة في الواقع وشكل الدولة، وتطور النظريات السياسة المعاصرة، وهي مسؤولية كبيرة على عاتق المختصين والباحثين في هذا العلم الشريف.
التعريف المختار لعلم السياسة الشرعية: “تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين”.
الشيخ عبد الوهاب خلاف
[1] ينظر: معجم العين، للخليل لفراهيدي (7/336)، ولسان العرب، لابن منظور، (3/366)، ومعجم مقاييس اللغة، لا بن فارس، (3/119)، وتهذيب اللغة، للأزهري (13/96).
[2] أخرجه البخاري (3268)، ومسلم ( 1842).
[3] لسان العرب (3/ 366).
[4] للتوسع ينظر: فقه السياسة الشرعية الجويني أنموذجًا، د. عمر أنور الزبداني، ضمن منشورات كتاب الأمة الصادر عن إدارة البحوث والدراسات الإسلامية، ص (19-21).
[5] بدائع الفوائد، لابن القيم، (3/ 1036-1037).
[6] مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (20/ 391-392).
[7] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، ص (41).
[8] مما وقفت عليه في مراحل الكتابة في السياسة الشرعية رسالة ماجستير بعنوان” تنظيم السياسة للدولة الإسلامية عند إمام الحرمين من خلال كتابه غياث الأمم” للباحث محمد العطاس، جامعة شريف هدية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا، لكنه ذكر أربع مراحل، وبشكل يختلف عما أثبتّه هنا، ينظر للاطلاع ص (81).
[9] معين الحكام، وينظر: “المدخل إلى السياسة الشرعية” د. عبد العال عطوة، ص (23)، وما بعدها.
[10] رد المحتار، (6/19-20)، وينظر: السياسة الشرعية، لإبراهيم خليفة (دده أفندي)، ص (74).
[11] ينظر لمزيد من النقاش: المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، ص (29)، وإن كان فصل بين التعريفين لهذا التباين الذي ذكرتُه في تعلقهما، لكني أردت أن أجمعهما تحت باب التعزير.
[12] رد المحتار، (6/20)، وينظر في ذلك: المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، ص (30) فمابعدها، ومقال للدكتور يوسف القرضاوي بعنوان: السياسة عند الفقهاء.
[13] البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم المصري، (5/11).
[14] الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، (1/29).
[15] المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة: ص (41).
[16] المصدر السابق ص (52-52).
[17] السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية، عبد الوهاب خلاف، ص (20).
[18] ينظر: المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، ص (3233).
[19] المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، ص (55و86).
[20] أخرجه البخاري (2295)، ومسلم (1722).
[21] ينظر: المدخل إلى السياسة الشرعية، عبد العال عطوة، ص (55و86).