تمثّلت عمليات الفصائل المقاتلة في تحرير سوريا من النظام البائد استراتيجيات متميزة كتأمين الحدود، وإدارة الخسائر، واختيار اللحظات المناسبة للهجوم، وتحييد الخصوم وتعزيز الوحدة، مع تحقيق الانتصار الأخلاقي عبر التسامح والعفو، مستلهمةً في تلك العمليات قيمًا إسلامية في السلم والأمان، مشددة على بناء مجتمع جديدٍ؛ قائم على العدالة والحرية، في تماهٍ مع النموذج النبوي.
تمهيد:
في يوم 27 تشرين الثاني / نوفمبر 2024م أطلقت فصائل الثورة السورية عملية عسكرية شاملة على ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي والجنوبي، انتهت بالسيطرة على محافظة حلب، ثم أدت إلى انهيار دراماتيكي في النظام، وحررت حلب وحماة وحمص ودمشق، وسقط النظام السوري حيث هرب بشار الأسد يوم 8 كانون الأول / ديسمبر 2024م إلى موسكو، بعد انهيار الروح المعنوية لجيشه وأمنه وتخلي حلفائه عنه في هذا الحدث التاريخي الذي سيغير وجه المنطقة وهذا الزلزال الجوسياسي الكبير، سنحاول قراءة المشهد من منظور السيرة النبوية بكل دروسها وعبرها وإرشاداتها في سلوك الثوار السوريين.
العقيدة القتالية أولاً:
إن العقيدة القتالية لجيش ما هي الفكرة المحورية التي تحدد أهدافه وغاياته وأدواته وتوضح رسالته الأخلاقية، فكل الجيوش تخوض حروبها لأجل الاستعلاء في الأرض أو في سبيل الجاه والسمعة أو كنوع من السادية (القتال لأجل القتل)، وهنا لا بد أن نتذكر أن الثورة السورية دخلتها الكثير من الأفكار التي شوهت رؤيتها للعقيدة القتالية من أخطرها الغلاة الذين رفعوا راية للقتال من أجل إقامة الخلافة، وقتلوا المسلمين بعد اتهامهم بالردة، واعتدوا على الطوائف الموادعين الذين لم يعتدوا علينا فشتتوا الغاية وفوتوا على الثورة انتصارها وكثروا عليها أعداءها وبرروا الذرائع لحربها.
لكن عملية التحرير الأخيرة وضحت هذه المسألة بغاية الوضوح، وبينت الهدف بطريقة لا لبس فيها، وجعلت عنوان المعركة “ردعًا للعدوان وطلبًا للحرية” في إشارة واضحة لرد صيال النظام والميليشيات الإيرانية الذين دمروا المدن وهجروا المدنيين واستحوذوا على السكن والديار والمساجد، ولم يتوقفوا يومًا عن قصف المدنيين في المناطق المحررة، فجاءت المعركة تعبيرًا عن صميم قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ 39 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39-40].
وفي ذلك طمأنة للدول المجاورة لسورية بأن هذه المعركة حدودها في سورية وهدفها هو النظام السوري فقط وليس لها مشكلة مع الشيعة والعلويين والدروز والكرد بالعموم وهو ما أكسب المعركة تعاطفًا إعلاميًا وسياسيًا ساعد في انتصارها.
من التهجير إلى التحرير:
منذ سقوط مدينة حمص في شهر أيار/ مايو 2014م بيد قوات النظام والميليشيات الإيرانية، مرورًا بسقوط حلب والغوطة ودخول درعا في اتفاق المصالحات، رفض الكثير من الثوار المصالحة مع نظام الأسد نظير البقاء في ديارهم وأموالهم واختاروا الهجرة إلى الشمال السوري فرارًا بدينهم ومبادئهم، مفضلين قسوة الغربة ومرارة الهجرة على وداعة الأوطان في ظل حكم الجور والفساد، معتقدين أن تهجيرهم هو هجرة في سبيل الله ومحاولة لاستعادة بناء القوة في الشمال السوري لأجل العودة والتحرير، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرتهم من مكة إلى المدينة، حيث كانت قريش تظن أنها تخلصت من خطر دعوتهم إلى الأبد وأنه تم تأمين مكة من اجتياح هذا الدين الجديد، لكنها لم تدرك بأنها تصنع منهم جيشًا عرمرمًا قوامه عشرة آلاف مقاتل سيدخل مكة فاتحًا بعد 8 سنوات[1]. وكذلك كان النظام السوري عندما يهجر الثوار بالباصات الخضراء يتخيل نفسه منتصرًا يذل الأحرار، ولم يكن يدري أن هؤلاء سيشكلون برميل البارود الذي سينفجر في وجهه بعد سنوات من أوهام الانتصار ليسقطوا حكمه إلى الأبد.
شراء الزمن مقابل المكان وإدارة الخسائر:
لقد شكل مسار أستانا -رغم كل سلبياته- والذي امتد من عام 2017م وحتى قبل بدأ المعركة بشهر فرصة مناسبة للثوار وخطوة تكتيكية مهمة للبقاء خصوصًا بعد عام 2020م باتفاق خفض التصعيد بين تركيا وروسيا وما حمل من فرصة مهمة للثورة كي تأخذ نفسًا، استغل الثوار السوريون فترة الهدنة بالإعداد العسكري والتدريب والتنظيم والتخطيط؛ يتجهزون للحظة الحاسمة والفرصة السانحة لكيلا يفوتوها، لقد كانت استراتيجية الثوار هي شراء الزمان مقابل المكان؛ فخسارة الجغرافيا رغم مرارتها لكنها كانت خطوة تكتيكية لكسب المزيد من الزمن في عمر الثورة بانتظار الفرصة السانحة لتغيير المعادلة وتهيئة الفرصة لإعادة الكرة، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم كما استغل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية للدعوة ومراسلة ملوك العالم وتجهيز جيش المسلمين حتى جاءت سنة الفتح فكان فتحًا بدون كلفة عالية من الدماء والأموال، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا مهابًا متواضعًا بعد ما خرج منها متخفيًا خائفًا[2].
لقد كانت استراتيجية الثوار هي شراء الزمان مقابل المكان؛ فخسارة الجغرافيا رغم مرارتها لكنها كانت خطوة تكتيكية لكسب المزيد من الزمن في عمر الثورة بانتظار الفرصة السانحة لتغيير المعادلة وتهيئة الفرصة لإعادة الكرة، والانتقال من الدفاع إلى الهجوم
اختيار اللحظة الفارقة لاتخاذ القرار:
لقد هيأ الله عز وجل اللحظة التاريخية المناسبة لاتخاذ القرار في وقته المناسب وفي ظروف جيواستراتيجية قل أن تتكرر وذلك على المستوى المحلي والإقليمي والدولي؛ فقد جاءت معركة التحرير بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي بحادث طائرة يوم 22 أيار / مايو 2024م، وبعد أن استنزفت إيران في سورية وهي تتعرض للضربات الإسرائيلية المؤلمة على مراكزها الأمنية واللوجستية، وكذلك خسرت فاعلية ذراعها في لبنان بعد أن خسر حزب الله اللبناني كل قياداته العسكرية والأمنية وزعميهم حسن نصر الله، ورفض العراق مؤازرة النظام السوري خوفًا من التعرض للاستهداف من قبل الولايات المتحدة. وعلى الصعيد الدولي فقد انشغلت روسيا التي كانت تؤمن الغطاء الجوي للميليشيات الإيرانية بحرب استنزاف طويلة في المستنقع الأوكراني بدأت في شهر شباط/ فبراير 2023م حتى الآن، وهو ما دفعها لسحب جزء كبير من قوتها من سورية حيث لم تعد سورية تشكل لها أولوية أمام التحديات التي تواجهها في شرق أوروبا، أما على الصعيد المحلي فقد غرق جيش النظام بالفساد والفقر والجوع والمؤامرات وتجارة المخدرات وسرقة أموال الشعب “التعفيش” وقيام رأس النظام وحاشيته بسحب أموال كثيرة إلى روسيا استشعارًا لخطر الهزيمة والانهيار، وهنا تجمعت كل الظروف المناسبة لقرار الحرب فكان هذا النصر المبين.
وهو ما يشبه تمامًا الظروف الإقليمية والدولية لبعثة الإسلام؛ فقد كانت الجزيرة العربية تعيش في حالة من الفوضى العارمة وقريش فقدت قدرتها القيادية في الجزيرة العربية، وعلى الصعيد الدولي كانت فارس والروم تخوضان حرب استنزاف امتدت قرابة ألفي عام حتى أنهكتهم الحرب وهو ما حدثنا عنه القرآن الكريم في سورة الروم: {غُلِبَتِ الرُّومُ 2 فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ 3 فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ 4 بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 2-5]، وكأن الله تعالى ربط نصر المسلمين بهذه الحرب التي أنهكت هاتين القوتين العظيمتين، فخرجت قوة المسلمين في حالة من الفتوة والبداوة فسحقت الإمبراطوريتين الشائختين في غضون أربعين سنة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
تحييد الخصوم والاستفراد بالنظام:
في إدارة الصراع الاستراتيجية؛ لا ينبغي فتْحُ المعارك في كل الجبهات ومع كل الأعداء دفعة واحدة، لأن ذلك من شأنه أن يجمع الأعداء ضدك، ومن الأفضل دائمًا أن تهزمهم بالمفرَّق وتحيِّد الخصوم ما أمكن حتى تقتصد في القوة، لذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل على جبهتين معًا في وقت واحد، وكان يحرص دائمًا على تجنب الحرب ما أمكن، ويسعى لتحييد الخصوم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهو ما حرصت عليه إدارة العمليات العسكرية في حربها مع النظام السوري؛ حيث أرسلت الرسائل المطمئنة لدول الجوار بأن هذه المعركة لن تمتد خارج الحدود، كما طمأنت روسيا على مصالحها في سورية رغم الجرائم الروسية التي ارتكبتها في سورية ضد الشعب السوري ومناصرتها للنظام طول السنوات الماضية، وهو ما جعل روسيا تأخذ موقفًا متراخيًا في دعم النظام وشجع المجتمع الدولي لرفع الغطاء عن النظام والتسليم بسقوطه بدون أي محاولة لإنقاذه.
يتمثل هذا الموقف في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما عَرَض ثُلثَ ثمار المدينة على غَطَفَان مقابل أنْ تسحبَ جيوشها وترجعَ إلى بلادها، وتُخَذِّلَ بين الأحزاب المتحالفة ضد المسلمين.
إنَّ دفعَ المالِ للعدو مَفسدةٌ تلحق بالمسلمين، وهو مصلحةٌ للعدو يتقوى بها عليهم، ولكنَّه لا بد منه إنْ حَقَّقَ مصلحةً كبرى، أو أزاحَ عن المسلمين مفسدةً كبرى. وهذا ما ارتآه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأى أنَّ دفْعَ ثُلثِ ثمار المدينة لغَطَفَان سيؤدي إلى مصلحةٍ كبيرةٍ تتمثل في فكّ حصارهم عن المدينة، وتخذيلهم للأحزاب المتحالفة، خاصةً أنه ليس باستطاعة المسلمين التصدي لهذه الأحزاب مجتمعةً، وقد طال أَمَدُ الحصار، وقد تجلى هذا المقصدُ في قوله صلى الله عليه وسلم لكل من قائِدَيْ غَطَفَان: أرأيتَ إنْ جعلتُ لكم ثُلثَ تمر المدينة، ترجعان بمَن معكم وتخذِّلان بين الأعراب؟[3].
لا ينبغي فتْحُ المعارك في كل الجبهات ومع كل الأعداء دفعة واحدة، لأن ذلك من شأنه أن يجمع الأعداء، ومن الأفضل هزيمتهم بالمفرَّق وتحيّد الخصوم ما أمكن، لذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل على جبهتين معًا في وقت واحد، وكان يحرص دائمًا على تجنب الحرب ما أمكن، ويسعى لتحييد الخصوم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
عنصر المفاجأة والمباغتة كان حاسمًا:
لقد كانت كل مراكز الدراسات والمتابعين ومراكز صنع القرار في الغرب والإقليم تستبعد تمامًا أن يقوم الثوار السوريون بمثل هذه العملية الجريئة وبفتح معركة على النظام بهذا الحجم والقوة؛ فبعد التدمير الإسرائيلي الساحق لغزة وارتكاب الفظاعات التي صمت عليها العالم، كان المجتمع الدولي والإقليمي يروج لرواية انتصار نظام الأسد وهزيمة الثورة، وبدأت الدول تطبع مع النظام وتفتتح سفاراتها في دمشق، حتى تركيا بدأت تنخرط بهذا المسار ويوشك أن يسدل الستار عن المشهد السوري بإعلان انتصار النظام، وهنا كانت عملية التحرير المفاجأة التي فاجأت ليس المحيط الإقليمي والدولي فحسب لكنها فاجأت الثوار أنفسهم بمدى هشاشة النظام وسرعة انهياره، بل فاجأت النظام نفسه الذي لم يكن يظن لوهلة أن الثوار يمكن أن يقدموا على مثل هذه الخطوة بسبب السرية التي أحاطت العمل وتضليل العدو بالمعلومات المتناقضة والتعمية على الهدف الحقيقي للعملية، وهو ما يعيدنا إلى تحوط النبي صلى الله عليه وسلم بالسرية التامة في فتح مكة؛ فعندما نقضت قريشٌ الصلحَ الذي أبرمته مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية عزم صلى الله عليه وسلم على معاقبتها، وأمر أصحابه بالتجهّز للغزو، وأخفى وجهته حتى يفاجئ قريشًا، فيتحقق له النصر بأقل الخسائر، ودعا الله تعالى قائلاً: (اللهمَّ عمِّ عَليهم خَبَرَنا حتى نأخُذَهم بغتةً)[4]. فلم تستطع قريش تجميع قوتها للمقاومة وهو ما سهل الفتح وحقن الدماء وحفظ الأرحام من التقطيع وأدركت قريش عبثية القتال فرضيت بأخذ الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الانتصار الأخلاقي بعد الانتصار العسكري:
لقد ضربت إدارة العمليات العسكرية أروع الأمثلة في التسامح والعفو عمن لم تتلطخ أيديهم بالدماء ولم يرتكبوا الجرائم بحق الآمنين والمدنيين حتى من جنود النظام، ولم يسجل أي اعتداء ممنهج ضد الكنائس أو أهل الكتاب أو الطوائف والقوميات، ولم يُعتدَ على أموالهم ولا أعراضهم ولا كنائسهم ولا نسائهم ولا أطفالهم باعتراف المنظمات الأممية لحقوق الإنسان، في مشهد جميل يعبر عن التزام صارم بوصية أبي بكر رضي الله عنه عندما وقف يوصي الجيش فقال:
“يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:
لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا أو شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلةٍ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئًا فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا، اندفعوا باسم الله”[5].
في المراحل الانتقالية التي تتلو مراحل الصراع العسكري لا بد للمنتصر من تحقيق السلم الأهلي وإغماد آلة الحرب، وهنا لا أفضل من إصدار العفو العام لتحقيق المصالحة الأهلية، من أجل استتباب الأمن والاستقرار والسلم الأهلي في الدولة ليعبر المجتمع من حالة الاحتراب إلى حالة الاستقرار، طبعًا هذا الأمر لا يشمل المتورطين بالجرائم ضد المدنيين العزل وضد الأسرى والمعتقلين والمعتدين على الأعراض.
ولما فتح الله مكة لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن)[6]، إنه إعلان الأمن والسلام، فلم يعد هناك ثأر ولا دماء، كل الدماء في مكة معصومة إلا من كان في رقبته حق خاص.
إن تحقيق الفارق الأخلاقي بين الفاتحين وأعدائهم هو ما يجعل النصر مستدامًا وهو ما يجذر أفكار الفاتحين ورسالتهم في الأرض التي يدخلونها وحتى لو خرجوا منها ستبقى آثارهم وقيمهم راسخة فيها إلى الأبد، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
في المراحل الانتقالية التي تتلو مراحل الصراع العسكري لا بد للمنتصر من تحقيق السلم الأهلي وإغماد آلة الحرب، وهنا لا أفضل من إصدار العفو العام لتحقيق المصالحة الأهلية، من أجل استتباب الأمن والاستقرار والسلم الأهلي في الدولة ليعبر المجتمع من حالة الاحتراب إلى حالة الاستقرار، وهذا لا يشمل المتورطين بالجرائم ضد المدنيين العزل وضد الأسرى والمعتقلين والمعتدين على الأعراض.
الخاتمة:
لقد كانت معركة التحرير نموذجًا راقيًا في الحروب الأخلاقية ضد نظام طاغية متجبر أفسد البلاد وأهلك العباد وصادر المستقبل وأعدم الحاضر وزور الماضي وأحال البلاد إلى تباب وخراب، لقد جاءت معركة تحرير سوريا كإجراء جراحي لا بد منه لاستئصال مادة الفساد والكتلة الخبيثة التي أتعبت الجسد السوري لقرابة ستة عقود من الزمن وافتتاح عصر جديد لبناء سورية بوجهها الحضاري المشرق.
لقد كانت عملية التحرير تعبيرًا حضاريًا وأخلاقيًا يعطي نموذجًا مختلفًا عن النظام الهارب الذي رسخ ثقافة استباحة الإنسان، واستبدالها بنموذج أخلاقي يمهد للتواضع على عقد اجتماعي وبناء سلم أهلي يحفظ مقاصد الشريعة ويرسي أسس المواطنة الصالحة على أساس الحرية والعدالة والمساواة مستلهمة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدروس والعبر، ليس في الحرب والسلم فقط وإنما في البناء والعمران والقيام بأعباء الاستخلاف.
عباس شريفة
باحث في الصراعات والفكر الإسلامي
[1] يراجع بحث: الهجرة حدثٌ غيّر مجرى التاريخ، للدكتور شوقي أبو خليل.
[2] يراجع كتاب: قواعد العمل السياسي، للدكتور جاسم سلطان، مشروع النهضة، الكتاب رقم (6).
[3] المغازي، للواقدي (2/477).
[4] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1052).
[5] تاريخ الطبري (2/246).
[6] أخرجه مسلم (1780).
باحث في الصراعات والفكر الإسلامي.