وحدة صف المسلمين واجتماعهم مطلب شرعي، وهدف سامٍ، ينبغي أن يعمل الجميع للوصول إليه، والحفاظ عليه.. قد يشوش على هذه الوحدة بعض العقبات، التي بنبغي التعرف عليها؛ لتوقيها ابتداء، والعمل على علاجها حين وقوعها.
العدد الثاني
شعبان 1441 هـ – نيسان/أبريل 2020 م
أ. عاصم الحايك[1]
تمثّل وحدة الصف الإسلامي في ممارساتها الواقعية وتطبيقاتها العملية تحديًّا جليَّ الملامح في مسيرة العمل الإسلامي، ليمثّل ذلك الامتحان الفعلي، والمحك الحقيقي لتطبيق فقه الائتلاف وممارساته في الواقع الدعوي.
وإن خوض هذا التحدي في الميدان العملي مُيَسرٌ لمن أراد أن يتخذ من شريعة الله تعالى منهاجًا لحياته العملية، ونبراسًا يستضيء به في مسيرته الدعوية، جاعلاً من قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون: 52] شعارًا له.
وأما من أراد أن يتخذ من إرث التنازع الثقيل ومقولات الرجال طريقةً لمسلكه، فسيخرج من معترك هذا التحدي بهزيمة جماعية تضاف لذلكم الموروث في مراحله الماضية.
وسنعرج في هذا المقال على بعض العقبات التي تقف عائقًا أمام مسيرة وحدة الصّفِّ ضمن إطار أهل السنة والجماعة، وهذا ذكرٌ لبعضها:
أولاً: ادعاء اختزال الحقّ وحصره ضمن كيانٍ معين:
إن منشأ ادعاء اختزال الحق يعود في واقع الأمر إلى عوامل التنشئة التربوية الخاطئة، وطرائق التفكير في التعايش مع الآخرين، وهذه العوامل تتمثل في صورٍ متعددة كالتعصب للمذاهب والمدارس، والتشبث بآراء الرجال، والتربية على المفاهيم الحزبية، وضيق الأفق العلمي في فهم الأُطر الصحيحة لمبدأ الولاء للإسلام وأهله، وذلك مِن خلال رفع الولاءات الضيقة، والتي تُرسخ في النفوس التبعيّة العمياء، دون اعتبار للأسس الشرعية.
وإنّ التربية على ثقافة اختزال صحة المنهج سواءً في الإطار العلمي أو التوجه الفكري، مما يعمّق ثقافة التعصب لدى الجيل المسلم، والذي من جناياته التجاهل التام للتنوع المحمود والمشروع للجهود العلمية والدعوية للتيارات الأخرى العاملة في الساحة الإسلامية، وعدم الالتفات إلى دوائر الخلاف المعتبر فيما بينها.
إنّ التربية على اختزال صحة المنهج سواءً في الإطار العلمي أو التوجه الفكري، يعمّق ثقافة التعصب لدى الجيل المسلم، والذي من جناياته التجاهل التام للتنوع المحمود لجهود التيارات الأخرى العاملة في الساحة
إنّ التصور المستقبلي لوحدة الصف المسلم والتي تتطلب استكمال الصورة الذهنية الإيجابية لدى المهتمين بالشأن الدعوي؛ يقتضي تكامل الرؤى، واستنهاض هِمم شباب السّنة، وتحفيزهم للعمل الجماعي المتكامل، وتوسيع دائرة المنظومات الضيقة، والتي أسهمت في تفريق الكيان المسلم وتشتيت شمله؛ مِن خلال حصر الناس في الإطار الحزبي، ورفع شعار اختزال الحق.
وإنّ مِن المعوّقات التي تخرج على الساحة عند المبادرة والتنادي إلى وحدة الصف وجمع الكلمة؛ بروز المحددات الضيقة، والتي يدّعي كلُّ تيار أنها مِن مميزاته، كمحدد الأقدمية في الميدان الدعوي، أو المناداة بصحة المنهج، دون مراعاةٍ لأولويات المرحلة وخطورتها، مما يجعل تلكم المبادرات تدخل غرفة الإنعاش، وكلما حلّت بالأمة الإسلامية أزمة تنادى المخلِصون لإنعاش ما تبقى مِن هذه المبادرات!
فبين تلك المحددات تفرقت الأمة وتحزبت، وصدق الله، ومَن أصدقُ مِن الله قيلاً: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 53].
ثانيًا: مفهوم المثالية المفرطة في وحدة الصف:
إنّ المناداة بوحدة الصف، واجتماع الكلمة، ضمن إطاره الشرعي العام، قد يتم تقويضه في مهده بسبب رفع سقف التوقعات، والركون إلى المثالية الزائدة، والقاتلة للإبداع في أي بيئة عملية، وإنّ مثل هذه الحيثيات تتطلب وجود بيئة تتسم بالمرونة وليس المثالية، دون القفز والتجاوز لثوابت المنهج الإسلامي، ولعل البعض لا يقبل بتوحيد الصفوف، ولا يقتنع باتحاد الكلمة، دون الاتفاق على جميع الجزئيات والفرعيات، ولا يكتفي بالأصول والكليات العامة، والثوابت الشرعية.
وفي هذا السياق يوضح ابن القيم المنهجية الشرعية في التعامل مع هذا الجانب حيث يقول رحمه الله: «عادتنا في مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثنى من ذلك طائفة ولا مقالة»[2].
وإنه لجدير بالعاملين للإسلام توحيد الصفوف والقلوب، ولو لم تجتمع العقول والآراء، وذلك من خلال توسيع دائرة المتفق عليه، وجعلها القاعدة التي يتم الانطلاق منها في العمل المشترك، ضمن خطوط متوازية لتحقيق الأهداف المشتركة والمصالح الشرعية، مع العمل الدؤوب على دفن هوة الخلاف، وبناء جسور الثقة، ولعلهم يدركون أنّ (كَدر الجماعة خيرٌ مِن صفو الفُرقة)[3]، فالاجتماعُ ولو مع وجود النقص وبعض السلبيات، خير مِن التفرق ولو مع وجود الإيجابيات.
ثالثًا: الفجوة بين التنظير والتطبيق في ممارسات وحدة الصف:
يدرك المتابع للساحة الإسلامية وجود فجوة عميقة بين التنظير والواقع المأمول لمفهوم وحدة الصف، وهذه الفجوة تبدو جليّة وواضحة للعيان من خلال الممارسات السلوكية والثقافية، فالتنظير وتقعيد القواعد وتأطير معالم الخلاف أمرٌ يسير، لكن الإشكاليات تظهر عند التطبيق العملي لفقه الائتلاف وجمع الكلمة، حيث تحذو كثير مِن النفوس إلى ممارساتٍ تتسم بالبغي في قضايا لا تعدو أن تكون ذات منحى اجتهادي، وسيقتصر المقال على رسم الخطوط العريضة لهذه الظاهرة الثقافية.
إن سورة الصف والتي أسست لمنهجية واضحة لوحدة الصف المسلم ومرتكزاته، نجدها وكأنها تخاطب أولئك القوم الذين ما فتئوا أن يضعوا الآخرين في قفص الاتهام لزعزعة الصفوف، متناسين دورهم الرئيس والمحوري في مفارقة جبل الرماة، لجمع المغانم الحزبية والشخصية والمشيخية!
لنتأمل في مطلع السورة كيف أن الوحي خاطب الفئة المؤمنة المقاتلة بخطاب قوي اللهجة، صريح البيان، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3]، وكأن السياق القرآني يخاطب أولئك القوم الذين نصّبوا أنفسهم دعاةً لجمع الكلمة، ووحدة الصف، ثم انتهجوا نهجاً مغايراً لما كانوا يتفوهون به، ويدعون الناس إليه، أو أنهم بدّلوا وحرّفوا الكلم عن مواضعه، فاختزلوا الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية من خلال توظيفها ضمن الأطر الحزبية والمشيخية، وهذ واقعٌ مرير لا تكاد العين تخطئه، وكأننا بهم تمثلوا في واقعهم بقول الشاعر:
بَحَثْتُ عَن الأَدْيَانِ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا
وَجُبْتُ بِلادَ اللهِ غَرْبًا وَمَشْرِقَا
فَلَمْ أَرَ كَالإِسْلامِ أَدْعَى لأُلْفَة
ولا مِثْلَ أَهْـــلِيهِ أَشَدَّ تَفَرُّقَا
كثير من العقبات في طريق وحدة الصف سنتجاوزها إذا اعتبرنا أن معقد الولاء إنما هو للأمة المسلمة فقط
إننا سنتجاوز هذه العقبة الكبرى في حياتنا العملية إذا اعتبرنا أن معقد الولاء إنما هو للأمة المسلمة فقط، وامتثلنا ما ذكره الله تعالى في ختام سورة الصف بخطاب قرآني للفئة المؤمنة، حيث يقول تبارك وتعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾ [الصف: 14].
إنَّ من يجعل من نفسه نصيرًا لله تبارك وتعالى، فإن جميع الحُجب والحواجز بينه وبين إخوانه تتساقط تباعًا، ليقف معهم كالبنيان المرصوص، يجاهد بسنانه ولسانه، نصرة ً لدين الله تعالى، راجيًا من الله تعالى أن يحقق له ما تحبه نفسه وتصبو إليه، كما في قوله تعالى:﴿وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف: 13].
وأما من أبى أن يستظل في ظلال الوحي، فسيبقى متخندقًا خلف الأُطر الحزبية، والتجمعات المشيخية، جاعلاً من قناع العمل الجماعي أو المؤسسي ستارًا يخادع به نفسه، ليمرِّر من خلاله ما يمليه عليه هواه، ليحافظ على المكانة المشيخية أو التموضع المؤسسي.
وفي ذات السياق يجدر بنا أن نعرج على خللٍ آخر؛ أحدث جفوةً بين القلوب، ونفرةً بين النفوس، وهذا الخلل يتمثل في الفجوة السلوكية بين الجانب النظري؛ والواقع العملي؛ للآداب الشرعية بين المؤمنين وممارساتها الفعلية، وقد نتج عنها بُنية مؤسسية واجتماعية هشة، أضعفت الأواصر، وشتت الشمل.
وهذا الجفاء السلوكي يمكن تأطيره ضمن إطارين اثنين حتى تكتمل الصورة، وتتضح الرؤية:
الإطار الأول: اختلال موازين شعيرة الولاء للمؤمنين:
إن مَرد اختلال ميزان هذه الشعيرة العظيمة يعود في واقع الأمر إلى تغليب فئامٍ من الناس جانبَ البراء من المخالفين، على حساب شعيرة الولاء للمؤمنين، فرجحت لديهم الكفة، واختلّ بهم الميزان، لما استفردت عقولهم بأحاديث البراء دون الالتفات العملي إلى النصوص الشرعية الدالة على موالاة المؤمنين كما في قوله تعالى:﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71]، وقوله تعالى:﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المائدة: 55 ]، وكما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:» (المسلمُ أخو المسلم، لا يَظلِمهُ، ولا يَخذلُه، ولا يَكذِبُه، ولا يَحقِرُه)[4]، فموالاة المؤمنين ومحبتهم يسهم إيجابيًّا في تعميق أواصر المودة فيما بينهم؛ لأن «التَّحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف»[5].
الإطار الثاني: عدم خفض الجناح ولين الجانب بين المؤمنين:
إن جفاء التعامل وجفاف المعاملة بين أخوة المنهج والدين، وعدم لين الجانب فيما بينهم، وخفض الجناح لهم، من المسببات لفرقة الصف المسلم، وهنا ندرك أهمية الوصية النبوية عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال لهما: (تَطَاوعَا ولا تختلفا)[6].
إن قاعدة (التطاوع وعدم الاختلاف) درس نبوي، ومنهجٌ إسلامي متكامل في مسيرة الدعاة إلى الله تعالى، لأن (غالِب المصالح لا يتمّ إلا بالاتفاق، ومتى حصل الاختلاف فات) كما قرر ذلك النووي[7].
قاعدة (التطاوع وعدم الاختلاف) وصية نبوية، ومنهجٌ إسلامي متكامل في مسيرة الدعاة إلى الله تعالى
وقد نبَّه الحافظ في الفتح عند شرحه لهذا الحديث إلى أهمية قاعدة التطاوع فقال: «أي توافقا في الحكم ولا تختلفا؛ لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيفضي إلى العداوة ثم المحاربة»[8].
وفي نظرة سريعة لتقييم نجاح العلاقات الاجتماعية ومتانتها في أي كيان، نجد أن ثمّة علاقة طردية واضحة المعالم بين تماسك العاملين في الكيانات ذات النمط المؤسسي، وبين تطبيق هذه القاعدة.
ولنتذكر أمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215]، ولو أدركنا المغزى الحقيقي لهذه الآية الكريمة؛ لوجدنا جمال هذا الخطاب الرباني للنفس البشرية المؤمنة ينعكس في حياتنا العملية، من تآلف للقلوب وصفاء للنفوس.
ثمة علاقة طردية واضحة المعالم بين تماسك العاملين في الكيانات ذات النمط المؤسسي، وبين تطبيق قاعدة التطاوع
إننا في حاجة ماسّة إلى أن نتجاوز هذه العقبات، ونتخطى تلكم الحواجز، من خلال تفعيل المشتركات بين أطياف العمل الإسلامي، والتكامل التام بين الجانب النظري والعملي للآداب والسلوكيات؛ وذلك بالقيام بحقوق الأخوة الإيمانية وواجباتها؛ وحفظ عرى المودة والمحبة والألفة، من خفض الجناح، ولين الجانب، والتطاوع، وممارسة ذلك في الحياة الاجتماعية كالإصلاح والصلح، أما الإصلاح فحتى تتآلف القلوب، وتسكن النفوس، وأما الصلح فقد تقرر في نصوص الوحيين أن «الخلاف شر»[9] ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ [النساء: 128].
[1] باحث شرعي.
[2] طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم ص (516).
[3] البيان والتبيين، للجاحظ (1/218).
[4] أخرجه مسلم (2564).
[5] قاعدة في المحبة، لابن تيمية ص (198).
[6] أخرجه البخاري (3038)، ومسلم (1733).
[7] شرح صحيح مسلم (12/41).
[8] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني ( 13 / 173 ) .
[9] أخرجه أبوداود (1960)، وهو من كلام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عندما صلى في منى خلف عثمان أربعًا، فقيل له: عتبت على عثمان ثم صليت أربعًا؟ فقال: الخلاف شر.