القرار السياسي عملية معقدة ترتبط بتشابك العوامل الداخلية والخارجية، ويمثل أداةً حاسمةً في تحقيق الأمن والتنمية والاستقرار، ويختلف عن القرار الإداري بكونه أشمل وأعمق تأثيرًا، وتتحكم فيه أبعاد شخصية ونفسية لصانع القرار بجانب المعطيات الموضوعية، كما تحكمه قيم أخلاقية ودينية أكدها الإسلام؛ ما يجعله صيرورةً أخلاقيةً قبل أن يكون إجراءً سياسيًا مجرّدًا، والحاجة ماسةٌ لتطوير نظريات معاصرة تعزز فعاليته وتضمن خدمة مصالح الشعوب والدول.
مقدمة:
يرى الكثيرون أن مِن أعقد الظواهر الإنسانية والمجتمعية: الظاهرة السياسية؛ لذا يصعب تحليلها وفهمها ودراستها وبحثها، ويعتبر اتخاذ القرار في أي مجال من مجالاتها هو أكثر أنواع اتخاذ القرار دقة وتأثيرًا.
وفي عالم أصبحت فيه الأحداث شديدة التسارع شديدة التداخل والتعقيد؛ أصبح فهم وتحليل عملية اتخاذ القرار شديد الأهمية والإلحاح بالنسبة للبحث العلمي والممارسة السياسية والتطلعات الشعبية؛ لذلك اتجه العديد من صانعي القرار السياسي وقادة الدول إلى إنشاء وحداتِ مساندةِ صناعةِ القرار مرتبطة بهم مباشرة، لتساعدهم في الوصول إلى المعلومات الدقيقة وتحليلها.
بالمقابل فإن تطور وسائل الإعلام من الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي أفرزت جيشًا من المحللين السياسيين، يحاولون تقديم التحليل السياسي لكلّ من المتلقي ليفهم آلية وأسباب اتخاذ القرار، ولصاحب القرار لتساعده على اتخاذ قرار سليم.
ونحن في هذه المقالة نحاول أن نذكر الجميع أن هذا الموضوع يحتاج إلى التداعي للتبصر فيه وزيادة الوعي والرشد، خاصة وأن المنطقة العربية والإسلامية مقبلة على متغيرات هائلة.
الإطار المفاهيمي لمعنى القرار السياسي:
تحمل كلمة “قرار” في طياتها عمقًا لغويًا وفكريًا يعكس أهمية هذه المفردة في الدلالة على مضمونها، فهي لفظ يعبر عن الاستقرار والثبات؛ فكلمة القرار في اللغة العربية مصدرها اللغوي قَرّ، بمعنى المستَقِرّ، أو ما قرّ عليه الرأي من الحكم في مسألةٍ ما، ومنه قرار الحكومة أو قرار المحكمة.
كما تعني قَرّ في الشيء؛ أي حصل فيه السكن والسُّكون، وصار إلى قراره وانتهى وثبُت، ومن ذلك يمكن تعريف القرار لغويًا بأنه: “ما ينتهي إليه الشيء ويستقرُّ عليه”، أي القرار هو النهاية المستقر عليها[1].
وقد ورد لفظ القرار في العديد من الآيات في القرآن كقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 21]، وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 29]، وغيرها.
أما بالنسبة للقرار اصطلاحًا فلا يوجد اتفاق على تعريفه، لكن هناك شبه إجماع على أن عملية اتخاذ القرار هي عملية عقلية معرفية يتم من خلالها الموازنة بين المصالح والمفاسد، بمعنى تحصيل أكبر قدر من المصالح، ودرء أكبر قدر من المفاسد.
ويصبح القرار سياسيًا، إذا كان من يتخذ القرار شخصًا ذا صفة سياسية أو أن القرار قد اتخذ من قبل أحد أجهزة السلطة السياسية، أو أنه مُنصبٌّ على موضوع يتعلق بالسياسة العامة للدولة، بمعنى صدوره عن سلطة قانونية[2].
عملية اتخاذ القرار –كما ورد في التعريف اللغوي- هي استقرار للرأي، فهذا يدل على أنها صيرورة ومسار، والقرار السياسي بالتالي لا يأتي إلا بعد عملية بحثٍ تفصيلية دقيقة ودراسةٍ معمقة، تُدرس فيها المشكلة بشكل وافٍ من جميع جوانبها، وتطرحُ البدائل المختلفة، وتُحدد الأولويات والمصالح على المستويين الداخلي والخارجي؛ إضافة إلى الاهتمام بردود الفعل والآثار المترتبة عليه، سواءٌ على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي[3].
عملية صنع القرار هي مجموعة من العمليات العقلية وأحيانًا الممارسات السلوكية التي تنتهي باتخاذ القرار، وبهذا فإن عملية صنع القرار هي أكثر اتساعًا من القرار نفسه؛ لأن القرار تعبير عن المخرجات التي ترتبط بالموقف، أما عملية صنع القرار فهي كل ما يرتبط بالموقف من مدخلات ومخرجات، فضلاً عن التفاعل بينها[4].
وأي قرار تقوم السلطة السياسية الحاكمة بإصداره يوصف بأنه سياسي -كما أشرنا سابقًا- سواء كان داخليًا أو خارجيًا، وغالبًا ما يكون له تأثير شامل على مختلف المجالات في الدولة، كالمجال الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العسكري، أو غير ذلك.
العلاقة بين القرار الإداري والقرار السياسي:
القرار الإداري هو أحد أشكال القرار السياسي الأساسية، ولكن القرار السياسي يكون أكثر شمولاً من القرار الإداري، والقرار الإداري هو الشكل التنفيذي للقرار السياسي، وهذا تمييز مهم؛ لأن غالبية الناس يعتبرون القرار الإداري الصادر عن جهة سياسية هو القرار السياسي.
والمقصود بالقرار الإداري هنا: هو القرار الذي يصدر عن الدولة ويوضع في حيز التنفيذ، وعادة ما يرى الناس القرار الإداري أكثر من رؤيتهم لعملية صناعة واتخاذ القرار السياسي، فمثلاً: إصدار قرار حول منع استخدام السلاح دون ترخيص هو قرار إداري، يكمن خلفه قرار سياسي، ويكمن خلف هذا القرار عملية صناعة واتخاذ القرار. كذلك فإن السماح بتأسيس وترخيص الأحزاب هو قرار إداري، يكمن خلفه قرار سياسي وخطوات في عملية اتخاذ القرار.
لكن كثيرًا من القرارات السياسية ليست ذات طابع إداري، بمعنى أن مسائلها وأدواتها لا تمر عبر إصدار قرار إداري مباشر، وإن كان اتخاذ القرارات الإدارية هي الوسيلة الأكثر وضوحًا لشكل القرار السياسي.
هذا التمييز مهم لمن يريدون أن يؤثروا على قرارات الدول والحكومات من خلال أدوات التأثير المعروفة، وهذا التمييز له خصوصية في أدبيات القرار السياسي وتأثيراته على شعبية الأحزاب في الدول الديمقراطية، وأيها يكون أكثر تأثيرًا على قرارات وتوجهات الحكومة.
ولا بد من الإشارة إلى أن للقرار السياسي مستويات عدة، لكن غالبًا ما يتم اتخاذه من قبل القيادة العليا في البلاد، وهو بالتالي يحدد مصير ومسار قضايا سياسية واستراتيجية للدولة، كأن تتخذ القيادة قرارًا بإجراء مؤتمر وطني عام للدولة لمناقشة قضايا جوهرية، خاصة في الدول التي تمر في المراحل الانتقالية بعد الحرب، أو قرار سياسي على مستوى رفيع بتعديل الدستور أو تغييره أو إعادة كتابته.
وتتميز القرارات الاستراتيجية بأنها تخضع لمشاورات وخطوات أكثر، وتعتمد عادة على دراسات وأبحاث، وتؤخذ فيها آراء الخبراء بشكل أوسع من مثيلاتها غير الاستراتيجية؛ نظرًا لأهميتها وتناولها لنطاقات مستقبلية بعيدة، ولعدم وضوح كثير من المعطيات فيها، بخلاف غيرها من القرارات فهي في الغالب واضحة المعطيات والنتائج.
تتميز القرارات الاستراتيجية بأنها تخضع لمشاورات وخطوات أكثر، وتعتمد عادة على دراسات وأبحاث، وتؤخذ فيها آراء الخبراء بشكل أوسع من مثيلاتها غير الاستراتيجية؛ نظرًا لأهميتها وتناولها لنطاقات مستقبلية بعيدة، ولعدم وضوح كثير من المعطيات فيها، بخلاف غيرها من القرارات فهي في الغالب واضحة المعطيات والنتائج
أهداف القرار السياسي:
باعتبار أن القرار السياسي في الدولة يمكن أن يؤثر في مصيرها في قضايا سياسية واستراتيجية، فإن دراسة وتحليل وظائف القرار السياسي العامة وأهدافه تعتبر نقطة انطلاق لفهم كيفية صناعة القرار السياسي، وكيفية استثماره في الصراعات السياسية، أو تحقيق أهداف تيار سياسي ما، أو تعزيز شعبية قائد دولة ما.
وهناك العديد من الوظائف العامة والأهداف التي يصبح معها القرار السياسي ضرورة لا مفر منها، كما في الأهداف الأساسية الآتية:
• تحقيق المصلحة الوطنية والحفاظ على أمن الدولة واستقرارها وتعزيز الوحدة الداخلية.
• حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية، عبر تقوية الأجهزة الأمنية وتحالفات الردع والدفاع، وجميع القرارات التي تحقق هذا الهدف المركزي.
• تحقيق التنمية الشاملة ورفع مستويات المعيشة وتنويع إيرادات الدولة.
• العناية بالتعليم بجميع مراحله، ورفع مستواه وتطويره ورفع كفاياته والمنافسة الدولية فيه.
• ضمان العدالة الاجتماعية، والتوازن بين السلطات.
• إدارة العلاقات الدولية من خلال التحالفات، ومواجهة الضغوط الدولية.
• تعزيز ثقة المواطنين في النظام السياسي واحترام القانون وحقوق الإنسان.
• الاستجابة السريعة للأزمات والتحديات في حالات الكوارث الطبيعية، أو الأزمات الاقتصادية أو أي أزمة تهدد الدولة.
• بناء وتعزيز الأمن الصحي ورفع قدرة الدولة على الرعاية الصحية للمواطنين، خصوصًا في الأوبئة والكوارث.
• دعم الهوية الوطنية وقيم وأخلاق المجتمع.
• الحفاظ على التواصل المستمر بين الدولة والمواطن وتعزيز الولاء الوطني والالتزام بالنظام العام، وحفظ الحقوق الوطنية والمدنية.
وبلا شك لا تتوقف أهداف ووظائف القرار السياسي عند هذه الحدود، فقد تطورت بسرعة تطور أدوار ووظائف الحكم السياسي للدول، فأصبح القرار السياسي متأثرًا بسرعة التطور التقني في القرن الواحد والعشرين، وما أفرزه من مشكلات سياسية معقدة، حيث أصبح من وظائف القرار السياسي: حماية الدولة من أخطار أدوات الصراع السياسي التي تستخدم آخر ما وصلت إليه تقنيات الصناعة العسكرية والتجسس بشتى صورها، وليس آخرها: ضرورة اتخاذ قرارات لمواجهة الجرائم الإلكترونية، التي تشنها عصابات دولية منظمة.
عملية صنع القرار السياسي واتخاذه:
مع تطور أهداف ووظائف القرار السياسي وأدواره أصبح ملحوظًا تعقّد عملية صنع القرار السياسي، نظرًا لظهور الحاجة إلى تعدد وتطور الجهات التي تتخذ القرار وتعده، وقد أصبح اتخاذ القرار مرتبطًا بأجهزة عديدة في الدولة، تقوم بالإعداد والتجهيز لصنع القرار واتخاذه، ومتابعة تنفيذه، وتقييم مدى نجاحه في تحقيق الأهداف المرجوة.
وعملية صنع القرار السياسي -كما أشرنا- بطبيعتها عملية معقدة وتحتاج إلى الكثير من الدقة والتوازن، حيث تتأثر بالعديد من العوامل التي يغلب عليها التداخل والتشعب، منها الواقع الجيوسياسي للدولة، وعناصر القوة للدولة وما يتوفر لها من هذه العناصر، إن كان في الجوانب الاقتصادية أو الشعبية؛ إذ تمثّل الخصائص النفسية والاجتماعية للشعب عاملاً متصاعد الأهمية والتأثير في السنوات الأخيرة، على قوة الدولة وطبيعة القرار السياسي فيها.
أما العوامل الشخصية والنفسية والثقافية لصانعي القرار، فهي قضية تمثل مركز الثقل في علم النفس السياسي المعاصر لفهم تأثيرهم على مصير الدول، وتحليل البيئة الاجتماعية التي عاشوا فيها، وتكوينهم السياسي، وانتمائهم الحزبي، وتجاربهم وخبراتهم السابقة، وقدراتهم الشخصية، ومدى قبولهم جماهيريًا.
ولا بد من الإشارة إلى أن معظم الدراسات تؤكد على أهمية العوامل النفسية والشخصية؛ حيث إن لها الأثر الأكبر في صناعة القرار وجودته ومدى القوة التي يتميز بها، وهي من العوامل التي قد لا تظهر مع بدايات الأحداث والأزمات السياسية، ولكنها تكشف عن نفسها عند تعرض صانع القرار لمواقف تتسم بضغط نفسي شديد.
وتكون مأساة الشعب كبيرة حينما تغلب على صانع القرار نفسُهُ ونزواتُهُ، وحينما يعكس إصداره لقراراته عُقَده الشخصية وأمراضه النفسية، أو حينما يتسلم زمام الأمر مَن هو غير جدير بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
وعملية اتخاذ القرار تكاد تكون أكثر خطورة وحساسية في المنطقة العربية؛ لما عليها من الضغوط والتحديات، ويمكن القول إن عملية اتخاذ القرار في هذه المنطقة هي عملية حياة أو موت لدول المنطقة وبناها المجتمعية، لكن بالمقابل يبدو أن صانع القرار العربي هو الأقل اهتمامًا بتطوير وتفعيل مؤسسات اتخاذ القرار، فهو ما يزال ينظر إلى أنه وحده يمتلك كل مهارات اتخاذ القرار، وأنه لا يحتاج إلى خبراء أو شركاء في أثناء اتخاذه لقرار، وبالتالي لا داعي لتطوير هذه العملية أو تحسينها أو تغيير طرق اتخاذها.
معظم الدراسات تؤكد على أهمية العوامل النفسية والشخصية؛ حيث لها الأثر الأكبر في صناعة القرار وجودته، ومدى القوة التي يتميز بها، وهي من العوامل التي قد لا تظهر مع بدايات الأحداث والأزمات السياسية، ولكنها تكشف عن نفسها عند تعرض صانع القرار لمواقف تتسم بضغط نفسي شديد.
مسار صناعة القرار السياسي:
أما ما يتعلق بصيرورة ومسار صناعة القرار السياسي، فإن عملية صنع القرار السياسي تبدأ بإدراك صانع القرار لمشكلة أو حدث أو أزمة يتطلب ضرورة مواجهتها بما يكفل تحقيق الأمن أو حماية مصالح الدولة، ومن هنا تبدأ القصة، قصة شخصية صانع القرار وتأثيره على مصير شعبه، فمن خلال خبرته، ووعيه السياسي، وموقفه الأخلاقي، يستطيع أن يدرك وجود المشكلة ونوعها ودرجة خطورتها[5].
ويصبح السؤال الكبير: كيف يمكن اتخاذ قرار يحفظ سيادة الدولة وكيانها في سياق مليء بالقيود والضغوط؟ وهنا يكون القرار -قبل مناقشة مساراته وطريقة اتخاذه– مرة أخرى أمام تحدي قيم صانع القرار وخبرته، فالشجاعة والالتزام الأخلاقي هي التي تحدد جدّية تعامله مع هذا السؤال؛ إذ عملية اتخاذ القرار السياسي -في جوهرها- صيرورة أخلاقية، لأنه يتعلق بها مصير المواطن الكريم، والدولة العتيدة، حين يقرر القائد قراره فهو بلا شك يغيّر مصائر الناس، الأفراد والأسر، فهو لا يقرر مواقف متعلقة بخبر إعلامي هنا، أو بروتوكول سياسي هناك.
حساسية القرار السياسي وعظيم أثره تحتم العناية بالبيئة التي تتم فيها صناعته، فلا بد من سلامة البيئة القانونية التي تعطي الشرعية القانونية للقرار؛ فليس كل قرار له شرعية، وهنا تبرز الحاجة للمستشارين والخبراء القانونيين الذين يصححون الأرضية التي يستند إليها القرار.
ولا بد للقرار من القبول؛ فالقرار المرفوض من الجماهير سيكون وبالاً عليهم أو على صاحبه، ولذلك لا بد من تهيئة الرأي العام لتقبل القرار، من خلال أدوات التأثير المعروفة.
ومراعاة البيئة الخارجية ضروري أيضًا، ويعني رصد رأي الحلفاء الدوليين والإقليمين في القرار ودراسة مدى تأثر علاقات الدولة بمحيطها الإقليمي بعد هذا القرار، خصوصًا فيما يتعلق بالسياسات الخارجية.
لذا نجد أن القرار السياسي في الإسلام له قيمه الدينية، وأخلاقه السياسية، وأحكامه الشرعية، التي جعلها الإسلام على رأس مقاصده.
القرار السياسي ليس مجرد قرار، بل هو محصلة أخلاق وقيم وفهم شرعي وإنساني عميق، وليس مجرد فكرة في كتاب للفلسفة السياسية، أو كتب الممارسات السياسية، التي تعتقد أن صناعة القرار منظومة خطوات يتم الاستعانة بدليل لتنفيذها، وأنها مراحل يتم التدريب عليها.
وإذا قارنا بين الآيات التي تمدح المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وعلى لسان بلقيس ملكة سبأ: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32]، وبين موقف فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، اتضح لنا شيء من التوجيه القرآني لصاحب القرار وصانعه.
من زاوية أخرى، من المهم لصانع القرار أن يكون قد تدرب على اتخاذ القرار، وفق قواعد وأسس وعمليات متقنة، وبأعلى جودة وكفاءة، وفقًا لأحداث أسس اتخاذ القرار في العالم، وإلا فالقرار السياسي سوف يكون محصلة تخبط جهل متخذه، ووفقًا لرغباته وأفكاره الذاتية، ودون شك فإن لهذا نتائجه الوخيمة.
أي إن عملية اتخاذ القرار هي تكامل الأخلاق والعلم، بعد أن يتم ضبط القيم الأخلاقية، ويتم التشدد في التزام صاحب القرار بها، بل التشدد في ضرورة مراقبة المواطن لصانع القرار أثناء عملية صنع واتخاذ القرار.
حساسية القرار السياسي وعظيم أثره تحتم العناية بالبيئة التي تتم فيها صناعته، فلا بد من سلامة البيئة القانونية التي تعطي الشرعية القانونية للقرار؛ فليس كل قرار له شرعية، وهنا تبرز الحاجة للمستشارين والخبراء القانونيين الذين يصححون الأرضية التي يستند إليها القرار.
مراحل صناعة واتخاذ القرار السياسي:
من المهم في الجانب العملي على صاحب القرار أن يطلع على أفضل النظريات حول مسارات وتقنيات عملية اتخاذ القرار، التي تمر بتحديد المشكلة وجمع المعلومات البسيطة والعميقة، عبر أجهزة جمع المعلومات والبيانات والأرقام والإحصاءات التي توفرها أجهزة الدولة الثقة، أو عبر المعلومات الاستخباراتية شديدة الدقة وشديدة الخصوصية.
ثم ينتقل ليحدد البدائل والخيارات المتاحة، ودون شك فإن تحديد البدائل يضع صاحب القرار أمام التحدي الأول في عملية اتخاذ القرار، الذي يستوجب استدعاء خبرته السابقة، وتجربته السياسية العميقة، ورؤيته نحو الوطن أخلاقيًا وفكريًا، كل ذلك من أجل تقييم البدائل، وغربلة ما لا يمكن اعتماده، بل ما يجب رفضه بروح القائد الذي يحمي وطنه، وشعبه ودولته، وإبقاء ما يمكن أن يكون خيارًا مناسبًا أخلاقيًا ودينيًا ووطنيًا.
من ثم يقوم باختيار الأكثر دقة والأكثر ديمومة والأكثر قبولاً شعبيًا ووطنيًا، وبهذا يكون على القائد في هذه المرحلة أن يستنفر كل قدراته النفسية والعاطفية من أجل اتخاذ القرار الأكثر شجاعة والأكثر صلابة في إطار من العلم والحكمة، ضمن أعظم قاعدة في اتخاذ القرار: القوة، {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12][6].
هنا تبدأ مرحلة تنفيذ القرار عبر جميع الوسائل التي يحتاجها هذا القرار، إن كانت وسائل دبلوماسية، أو عسكرية، أو اقتصادية، بالقوة الناعمة، أو القوة الخشنة، وإن كان يحتاج إلى تجييش قدرات الدولة كلها ووضعها على أهبة الاستعداد، أو أن هذا القرار يمكن تنفيذه من خلال بعض مؤسسات الدولة دون مبالغة أو إثارة التحفز والتشنج في المجتمع، وهذا بحد ذاته خبرة ودقة وتجربة في اتخاذ القرار ودقة التنفيذ، فكل مبالغة تنعكس تأثيراتها سلبًا، كما أن كل تقاعس تنعكس تأثيراته سلبًا.
من الأخطاء الفادحة في بعض الدول أنه في الوقت الذي تحتاج بعض القرارات لتنفيذها إلى تهدئة تقوم بعض مؤسسات الدول العربية بالتصعيد، ورفع الخطاب الإعلامي، ظنًا منها أن هذه هي الشجاعة المطلوبة، والعكس بالعكس، ظنًا منها أن هذه هي الحكمة المطلوبة.
ثم تأتي مرحلة تقييم القرار، حيث يتم في هذه المرحلة تقييم ردود الفعل الداخلية والخارجية ومقارنة النتائج الفعلية مع النتائج المتوقعة[7]، ولعل هذه المرحلة المفقودة من أغلب القرارات لدى السياسيين في العالم؛ لأنها غالبًا ما تكون مؤلمة ومكلفة لهم، لذا يتغاضون عنها.
من الأخطاء الفادحة في بعض الدول أنه في الوقت الذي تحتاج بعض القرارات لتنفيذها إلى تهدئة، تقوم بعض مؤسسات الدول العربية بالتصعيد، ورفع الخطاب الإعلامي، ظنًا منها أن هذه هي الشجاعة المطلوبة، والعكس بالعكس، ظنًا منها أن هذه هي الحكمة المطلوبة.
الخاتمة:
وفي خلاصة ما سبق لا بد من الـتأكيد على أن قيم اتخاذ القرار وأخلاقه لم يحتفِ بها أحد كما احتفى بها الإسلام، وإذا ما تابعت القرآن الكريم بدقة وتدبر تجد أن هذا الكتاب العظيم يرسم لك الأسس الأهم والأعمق لاتخاذ القرار في حياتك كمسلم، إن كان حياتك اليومية، أو الاجتماعية، أو السياسية. والقرآن الكريم يذكر آيات صريحة، ومخصصة لضوابط ومعايير اتخاذ القرار، كما أن القرآن الكريم يزخر بالآيات التي يمكن أن يتم الاستدلال عبرها لاستكمال صورة وصيرورة منهج متكامل لعملية صنع القرار السياسي.
وكم نحن بحاجة إلى أبحاث معمقة تكون جزءًا لا يتجزأ من السياسة الشرعية، هذا العلم الذي فتح بابه فقهاء أجلاء[8]، وضعوا فيه محددات ومعايير وأحكام اتخاذ القرار السياسي، المنسجمة مع الدول في ذلك الزمان، ولكن الواقع الحالي أصبح بحاجة إلى مواصلة الدرب لبناء نظريات ومنهجيات اتخاذ القرار السياسي وفق احتياجات الواقع، وشكل الدولة المعاصرة، وتطور أشكال الصراع السياسي، وأنماط قوة الدول، وتقنيات حماية مؤسساتها.
وهذا سوف يكون له الأثر في إنقاذ الأرواح وحفظ مصالح الأمة والأفراد، ولذلك لا بد من العمل البحثي العلمي المنظم والخبير، بهدف إنتاج نظرية أكثر تكاملاً في العلوم السياسية والنفسية، تمثل النظرية الإسلامية في اتخاذ القرار السياسي، وشروطه، ومعاييره وأدواته، وتحدد رؤيتها تجاه مواصفات صانع القرار السياسي المعاصر، وعلاقة صناعة القرار بالاستراتيجية والذكاء الاستراتيجي، وبالتالي سد الثغرة الاستراتيجية في الدول العربية والإسلامية، من أجل ألا تكون مقولات “عالمية الإسلام وقدرته على حل المشكلات في كل مكان وزمان” مجرد رؤى وأفكار نظرية، قصر أهلها في تحويلها إلى واقع معاش.
د. مكارم بديع الفتحي
باحث في علم النفس السياسي، دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة كارابوك – تركيا
[1] صناعة القرار السياسي في الدولة الإسلامية الأولى، رسالة ماجستير، لفواز السعيد، جامعة الشرق الأوسط، الأردن، 2014م، ص (22).
[2] القرار السياسي ماهيته – صناعته – اتخاذه – تحدياته، لبهاء الدين مكاوي، سلسلة كتيبات برلمانية، لمعهد البحرين للتنمية السياسية، البحرين، 2017م، ص (10).
[3] صناعة القرار السياسي، لزهرة صالح، سلسلة كتيبات برلمانية، لمعهد البحرين للتنمية السياسية، البحرين، 2016م، ص (9).
[4] صنع القرار السياسي الأمريكي، ياسين محمد حمد العيثاوي وأنس كرم محمد صبحي، مجلة مداد الآداب، العدد السابع، ص (293).
[5] قد يكون صانع القرار هو صاحب القرار نفسه أو تحت إشرافه المباشر، وقد يكون هيئة خبراء أو لجنة أو مركز دراسات أو وزارة من الوزارات، والجانب الشخصي المذكور يغلب في حال كان صاحب القرار هو صانع القرار، أما في حالة صناعة القرار في إطار مؤسسي، فالجوانب الشخصية تتراجع كثيرًا ويتقدم الجانب الموضوعي، ويبقى الجانب الشخصي في اللمسات النهائية للقرار وحيثياته.
[6] وقد فسر المفسرون القوة بالجد والحرص والاجتهاد.
[7] دور المعلومات في عملية صنع القرار السياسي، مريم بن زادي والعربي بن داوود، المجلة الجزائرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد3، العدد 2، ديسمبر 2019م، ص (74).
[8] مثل الجويني والماوردي وأبي يعلى وابن تيمية وابن القيم وابن فرحون وابن جماعة وغيرهم.



