رمضان فرصة للتقرب إلى الله تعالى وتحقيق التقوى، والفوز بالمغانم الكثيرة من الأجور العظيمة والفوائد الروحية والصحّية والاجتماعية المتعدّدة، كما أنّه دورة تدريبية فريدة على الصبر وتطوير الذات وتحقيق التغيير الإيجابي في النفس والمجتمع، وليس فيه شيء من المغارم المتوهّمة، وهذا المقال يشير إلى الكثير من هذه المعاني الرائعة لهذا الشهر الكريم.
مقدمة:
لو تُرك الإنسان وشأنه في الحياة يعبّ من ملذاتها وينال من أطايبها لكلّت جوارحه وتبلّد عقله وصار إلى الحيوان أقرب منه للإنسان؛ ومن ثَمّ كانت التربية القرآنية للمسلم تقضي بالحرمان لجزء من الوقت يترك فيه طعامه وشرابه وشهوته استعلاءً منه على رغبة النفس وجموحها، وترفّعًا عن الأهواء وتدريبًا على قوة الإرادة، ولولا ذلك لصرعه الشيطان عند أول التقاء، فأراحتنا الشريعة من هذا العنت بالصيام شهرًا من الزمان يقترب فيه المسلم بجمعية قلبه إلى ربه فيحيا من جديد؛ فتردّ إليه عافيته لعلّه يحصل من ربه على عناية ترفع البناية، أو كما قال الشاعر:
إنّ المقادير إذا ساعدت *** ألحقت النائم بالقائم
وإنّها لفرصة الفرص للمسلم أن يفترصها فيعضّ عليها بالنواجذ والأضراس؛ لأنّها غنيمة ثمينة وكنز مدّخر وعطيّة ناجزة، يقول ابن رجب الحنبلي: “السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات؛ فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات”[1).
والمؤمنون في كلّ أرجاء الأرض يترقّبون قدوم رمضان بوافر من الشوق، لعلمهم أنّهم ببلوغهم إياه يدركون حظّهم من الظفر والكسب ووفرة الحسنات فضلاً عن المنح والهبات. قال مُعلى بن الفضل: “كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ويدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلّمه مني متقبلاً”[2].
إنّ القيام بالشعائر الدينية بغاياتها الموضوعة من أجلها يصوغ الشخصية المسلمة صياغة مرضية فيتحقق على يديها النصر والفتح، قال هرقل لأبي سفيان بن حرب رضي الله عنه قبل أن يسلم: “وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنّه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدميّ هاتين”[3].
ومن المعروف سلفًا أنّ الإنسان خلق من عنصرين أساسين (مادة وروح)، أي قبضة قبضها الله تعالى من طين الأرض ثم نفخ فيها من روحه، فإذا غلّب الإنسان جانب المادة على جانب الروح وتثاقل إلى الأرض بهتت معاني الفضيلة لديه وخفت صوت الضمير عنده، وأمّا إذا غلّب جانب الروح على حياة المادة أصيب بالرهق والتعب فأتعب جسمه وقوض بنيانه، فما هكذا تورد الإبل.
بيد أنّ التوسط والاعتدال يضبط المسار ويسير بالنفس سيرها الطبيعي في أحسن كمالات الفطرة الإنسانية {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
إنّ القيام بالشعائر الدينية بغاياتها الموضوعة من أجلها يصوغ الشخصية المسلمة صياغة مرضية فيتحقق على يديها النصر والفتح
لا غُرم في رمضان:
كلّما أقبل رمضان يثير البعض مغارم يرون أنّها ناتجة عن صيام هذا الشهر، من ذلك:
ضعف إنتاجية العامل عن سائر الشهور:
والحقّ أنّها شبهة مردود عليهم، لأنّهم ربما نظروا إلى البعض ممن يصومون شكلاً بغير مضمون وعادة لا عبادة، فمثل هؤلاء لا يصومون الصوم الحقيقي الذي يدفع للإنتاج والعمل والمراقبة.
فالصوم الحقيقي فيه مراقبة ذاتية تختلف عن أي عبادة أخرى؛ فهم يضعون نصب أعينهم حديث: (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[4]، والصوم بهذا المعنى يزيد في الإنتاج بسبب الرقابة الذاتية المتمثّلة في يقظة الضمير الإنساني الذي يكون في رمضان في أكمل حالاته، ومن ناحية أخرى فإنّ الصوم يقلّل من سمنة الجسد التي تؤدّي إلى الكسل عن الحركة فهي مدعاة للفراش والدعة، بمعنى أنّ جسد الصائم يكون أكثر رشاقة وحيوية مما يساعده على الإنتاج والعطاء.
والصيام كما هو مشاهد ومعلوم يربّي في الصائم الصبر والمصابرة وقوة الاحتمال والدافعية إلى الجهاد والعمل لا إلى الركون والدعة؛ ففيه ترويض للنفس على التحمّل لساعات طويلة من الجوع والظمأ مما يعطيه القوة والمدد لأنْ ينتصر في كل مناحي الحياة المختلفة.
فهو محطة انطلاق لقوى الجسد مجتمعة لمواجهة كلّ ضغوطات الحياة، لهذا فرض الصوم في ذات العام الذي فرض فيه القتال، فكانت كل انتصارات المسلمين في رمضان (بدر الكبرى، وفتح مكة، والقادسية، والأندلس، والزلاقة، وبلاط الشهداء، وعين جالوت، وحطّين، والعاشر من رمضان).
الصيام -كما هو مشاهد ومعلوم- يربّي في الصائم الصبر والمصابرة، وقوة الاحتمال، والدافعية للجهاد والعمل لا إلى الركون والدعة؛ ففيه ترويض للنفس على التحمّل لساعات طويلة من الجوع والظمأ مما يعطيه القوّة والمدد لأن ينتصر في كلّ مناحي الحياة المختلفة.
والواقع يقول: إنّ الصائم يستغني في عمله عن وجبة الغداء وهذا يوفر وقتًا إضافيًا للعمل وزيادة الإنتاج، ثم إنّه يمتنع عن التدخين وفي هذا ترشيد للبيئة وعدم ضياع الوقت والمال، فإذا أضفنا إلى ذلك حسن المراقبة الذاتية بتجويد العمل وتحسينه وإتقانه كان ذلك حسنًا، وحبذا لو استعان على ذلك بقيلولة النهار تعينه على طاعة ربه بالليل مع تخطيط يومي منظّم وتحديد الأوليات وإنجاز المهام العاجلة في ذروة النشاط العالي.
وقد يقول البعض: إنّ الصيام يؤدّي إلى تغيير لمسار الروتين اليومي الذي اعتدنا عليه وهذا بدوره ربّما يربك حساباتنا بتغيير مواعيد النوم والاستيقاظ والطعام والسهر:
ونقول: إنّ الروتين الذي نكون عليه قبل رمضان ربّما يفقدنا شهيتنا في بعض الأحيان؛ لأنّه بمثابة القوالب الجامدة، فما الضير لأن نتخفف من ذلك بعض الوقت يتغير فيها ذلك النمط من خلال تغيير ما بواقع النفس؟ كأنّ الإنسان يحتاج إلى صدمة قوية تغيّر هذا التحكم والثبات المكرور والمعتاد في أيّامه.
وعندما يتحرّر الصائم من أسر عاداته اليومية والتي كانت تتحكم فيه قبل الصيام؛ سوف يتحول خلال أيام معدودات إلى شخص آخر يملك إرادة صلبة قادرة على ضبط كلّ نوازع النفس ورغباتها، فلا تستقر إلا حيث يريد، فنكون -وبحق- قد ارتقينا إلى معالي الأمور بعد أن تعلّمنا قيمة الوقت وضبط بوصلة الحياة على ما ينفعنا، وهذا سيعود علينا بتغذية راجعة مستقبلاً. والصيام يربّي ملكة الاستعلاء على كلّ ضرورات الجسد الإنساني واحتمال مشاكل الحياة وآلامها رغبة فيما عند الله (إنك لَن تدَع شيئًا للهِ إلا بدَّلك اللهُ به ما هو خيرٌ لكَ منه)[5]، قال ابن القيم رحمه الله: “وقولهم: مَن ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه: حقّ، والعوض أنواع مختلفة؛ وأجلّ ما يعوّض به: الأنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته ونشاطه وفرحه ورضاه عن ربه تعالى”[6].
في رمضان نخرج من مألوف العادات والطباع، فنغير عادة الجسد في الطعام والشراب والنوم وهو تغيير إيجابي؛ ففيه إراحة للجسد، وإحلال طاقات روحية ممتدة فيه، فضلاً عن تغيير إيجابي من نوع آخر؛ مثل ترك التدخين والإقلاع عن المعصية. والصوم كما يقول ابن رجب الحنبلي: “هو مجرّد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام”[7].
عندما يتحرر الصائم من أسر عاداته اليومية والتي كانت تتحكم فيه قبل الصيام سوف يتحوّل خلال أيام معدودات إلى شخص آخر يملك إرادة صلبة قادرة على ضبط كلّ نوازع النفس ورغباتها، فلا تستقر إلا حيث يريد، فنكون -وبحقّ- قد ارتقينا إلى معالي الأمور بعد أن تعلّمنا قيمة الوقت وضبط بوصلة الحياة على ما ينفعنا
ثمرات الصيام:
إنّ الثمرات والمعارف والقناعات والمهارات والنفحات التي ينالها المسلمون من صيام رمضان كثيرة لا تحصى، وينبغي التأكيد عليها والتذكرة بها كلّما جاء أوانها؛ لأنّ الإنسان ينسى ويتقلّب قلبه ما بين مدّ وجزر وقوة وضعف ونشاط وفتور، ومن ثمّ ينبغي التأكيد على جملة من الفوائد والمكاسب يضعها المسلم نصب عينيه كلّما أقبل عليه شهر الصوم، ونجملها في ثلاث ركائز أساسية على النحو التالي:
أولاً- زيادة الرصيد الأخروي ويتمثّل ذلك فيما يلي:
1. شفاعة الصيام لصاحبه في القبر:
كما ورد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قِبَل رأسه فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخلٌ، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قِبَلي مدخلٌ، ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة: ما قِبَلي مدخلٌ، ثم يؤتى من قبل رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبَلي مدخلٌ)[8].
2. شفاعة الصيام لصاحبه يوم القيامة:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ إِنَّي منعْتُهُ الطعام والشهواتِ بالنهار فشفِّعْنِي فيه، ويقول القرآن: منعتُهُ النوم بالليل فشفعني فيه، فيَشْفَعانِ)[9]، والصيام هنا يشمل صيام الفرض والتطوّع، الصيام والقرآن يطلبان من الله تعالى قبول وساطتهم وشفاعتهم للصائم القائم، ثم إنّك لتجد ارتباطًا واضحًا بين الصيام والقرآن؛ لأنّ نزول القرآن كان في رمضان في ليلة القدر ليكون الصائم القائم الذي يتلو القرآن له من القدر والمنزلة بحسب جهده ونشاطه، وذلك ميدان سباق شمّر فيه المشمّرون وتنافس المتنافسون.
3. خصوصية الجزاء:
بمعنى أن يعامل الصائم معاملة مميّزة في الأجر والإكرام؛ فالصائم قد ظمأ في النهار وأصابه العطش الشديد في اليوم الحار فكان جزاؤه من جنس عمله، وقد روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن َّفي الجنَّة بابًا يُقال له الرَّيان، يدخلُ منه الصَّائمون يومَ القيامة، لا يدخلُ منه أحدٌ غيرُهم، يُقال: أين الصائمون، فيقومون، لا يدخلُ منه أحد غيرُهم، فإذا دخلوا أُغلق، فَلم يدخل منه أحد)[10]، والرَّيان مأخوذ من الريّ والذي هو نقيض العطش الذي لحق بالصائم في رمضان، قال ابن حجر رحمه الله: “وهو مناسب لحال الصائمين، وسيأتي أنّ مَن دخله لم يظمأ، قال القرطبي: وقد اكتفي بذكر الريّ عن الشبع لأنّه يدل عليه من حيث إنّه يستلزمه. قلت: أو لكونه أشقّ على الصائم من الجوع”[11]، وهذا إكرام شديد لهم بهذه الخصوصية حتى لا يتزاحم على الباب إلا من توفّرت فيه الشروط المستحقّة لدخوله وهم يسمعون النداء (أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد)، وتميّزهم عن غيرهم فيه دلالة على علو مقامهم وارتفاع درجاتهم حيث ينادى عليهم من بين هذه الجموع الغفيرة في أرض المحشر، كما لو كنت قادمًا من سفر وتزاحم الناس لأخذ حقائبهم وإنهاء إجراءات عودتهم وإذا بهم ينادون على اسمك من مكبرات الصوت ويصحبونك للدخول من ممر خاص يمر منه الملوك والأمراء وكبار الزوار ثم ينهون إجراءات سفرك بسهولة ويسر.
ثانيًا- علاج لأمراض النفس الجسدية والروحية:
ويتمثل ذلك فيما يلي:
1. منافع صحية وجسدية:
بالصوم تتحسن الصحة العامة للصائم؛ حيث الوقاية من كثير من الأمراض التي تسببها كثرة الطعام والشراب، يقول الطبيب العالمي الحائز على جائزة نوبل في الطب والجراحة (ألكسيس كاريل): “لقد فرضت جميع الأديان الصوم لما له من فوائد جمة؛ لأنّ الحرمان من الطعام يثير أولاً الشعور بالجوع، كما أنّه يثير أحيانًا بعض التنبيه العصبي، وأخيرًا يحسّ الإنسان بالضعف، ولكنّه أيضًا يجدد ظواهر معينة مخفية أهم من ذلك بكثير، فإنّ سُكر الكبد والدهن المخزون أسفل الجلد يتحركان، وكذلك بروتينات العضلات والغدد، وتضحي جميع الأعضاء بموادها لكي يظل الدم والقلب في حالة طبيعية؛ إذ إنّ الصيام ينقي أنسجتنا ويعدّلها كثيرًا”[12].
وقد ثبت أنّ أكثر أمراضنا بسبب تخمر الأمعاء؛ لذا فالصوم يغسل هذه الأحشاء ويطهّرها ويعقّمها ومن ثَمّ يستفيد الصائم بالحصول على صحة جيدة خالية من أمراض الكوليسترول والضغط والسكري، فضلاً عن تقوية جهاز المناعة لديه، وهذا كله يحدث له استقرارًا نفسيًا واطمئنانًا روحيًا يؤدي إلى سلامة بدنه، والسلامة لا يعدلها شيء على الإطلاق.
2. منافع نفسية وروحية:
وهي حالة التألّق الروحي الذي يشعر به الصائم حال إتمام صومه وانتصاره على كلّ مغريات الطين والأرض، تراه فتلمس الفرحة وهي تطل من عينيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للصائمِ فرحتان: فرحةٌ حين يُفطر، وفرحةٌ حين يلقى ربَّه)[13]، لقد استمد قوة نفسية بقهره للشهوات والغرائز الجامحة، فلم تستذلّه شهوة ولم يسفل لنزوة، ثمّ إنّ تدريبه على الفضائل اليومية المتكرّرة في رمضان يجعلها خلقًا راسخًا تصدر عنه جميع الأعمال -بعدما ضبط بوصلة يومه على حبّ الفضيلة والتمسك بها- في عملية دؤوبة من المراقبة والمحاسبة والمشارطة بأن لا يسخط ولا يسبّ أو يشتم أو يغتاب أحدًا؛ ليحافظ على مكتسبات يومه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[14]، وفي هذا نهي واضح وصريح عن ترك الفحش في الأقوال والأفعال وعن الصخب والصياح والخصام واللجاج.
3. منافع اجتماعية:
وتتمثل في تقوية العلاقات بين الناس -لا سيما الأقارب- وصلة الرحم والتزاور، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى رعاية الضعفاء والفقراء من أهل الضر والمسكنة وتفقدهم وتقديم الطعام والمال والكسوة لهم وسد حاجتهم، وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان (أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان … كان أجود بالخير من الريح المرسلة)[15]، ولك أن تتأمّل هذا المعنى الدقيق جدًا، إذ الريح المرسلة ريح فيها خير ونفع لبني الإنسان حيث نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها، وكذلك الصدقة على هؤلاء المساكين وذوي الحاجة، إذ يكفيهم حاجتهم وينفعهم كما تنتفع الأرض الموات بماء المطر الذي يحييها.
والعقلاء يدركون معنى البذل والجود في رمضان؛ فيحرصون على مضاعفة الأجر بتفطير الصائمين؛ وذلك بأن يُفَطّر صائمًا عملاً بالحديث الذي رواه زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فطّر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنّه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا)[16]، وهكذا يعرف رمضان بالتعاطف والتراحم والإحسان؛ فتصبح الأمّة في مجموعها كالجسد الواحد، وبغير الإحسان لن يُزار مريض أو يشيّع ميت، ولن يغاث ملهوف ولا يتم صلح ولا يصدر العفو عن الجاني، بدون الإحسان تتجمد الحياة على كوكب الأرض وتصبح كئيبة مليلة يتقوقع المرء فيها على نفسه فيأكل نفسه بنفسه، وتضيع فكرة الجسد الواحد ويتوه الإنسان بين الزحام والركام، وفي الحديث الصحيح: (ترى المؤمنينَ في تراحُمِهم وتوادّهم وتعاطُفهم كمَثَل الجسد، إذا اشتكى عضوًا تداعى له سائرُ جسده بالسَّهر والحمى)[17]، وقال القزويني: “الصدقة برهان على جزم المتصدق بوجود الآخرة وما تتضمنه من المُجازاة؛ لأنّ المال محبوب للنفوس المتصفة بالخواص الطبيعية، فلا يقدر على بذل المال ما لم يصدق بانتفاعها فيما بعد بثمرات ما يبذله وفوزها بالعوض وحصول السلامة من ضرر متوقع بسبب فعل قرنت به عقوبة”[18].
“الصدقة برهان على جزم المتصدّق بوجود الآخرة وما تتضمنه من المُجازاة؛ لأنّ المال محبوب للنفوس المتصفة بالخواص الطبيعية، فلا يقدر على بذل المال ما لم يصدّق بانتفاعها فيما بعدُ بثمرات ما يبذله، وفوزها بالعوض، وحصول السلامة من ضرر متوقّع بسبب فعل قرنت به عقوبة”
القزويني
ثالثًا- رمضان وتطوير الذات:
1. بداية لتصحيح المسار:
رمضان استئناف لحياة جديدة قد تكون هي الفرصة الأخيرة والشوط النهائي من عمر الزمان، وإنّها لفرصة لأن تكون واحدًا ممن أدركته عاصيًا كنت أم صالحًا، هو بداية عهد جديد من بناء الثقة في النفس بتحقيق توبة جديدة وقاطعة لا نكوص فيها، فمن لا يصلي قبل رمضان تراه يعزم على الصلاة، ومن لا يقرأ القرآن طول العام تراه يحرص على التلاوة ولو بالنزر اليسير، فإن لم يقرأ يستمع؛ ليشبع روحه التائهة وقلبه المضطرب، ومن كان بخيلاً قبل رمضان ربما يبسط يده في رمضان مواساة وشفقة، ومن يتعامل بالربا أو الميسر أو شرب الخمر يكفّ عن ذلك في رمضان، إذن رمضان هو ميلاد جديد لكثير من الناس الذين يدخلون في هذا النسك ليغيروا أنفسهم فيندمون على أيام الغفلة والضياع، رمضان يمثّل بداية قوية لينقذك من الضياع والشتات؛ لأنّ فيه محوًا للسيئات وزيادة في الحسنات ورفعًا في الدرجات.
2. تهذيب النفس المسلمة وضبطها والوصول بها إلى مرتبة التقوى:
وهي الغاية الحقيقية من وراء الصوم لتكون هذه التقوى هي الميزان لجميع الأعمال، وتصبح سجية لأهل الإيمان بما تعنيه من المراقبة الدائمة والإحسان المتجدّد في العبادة والمعاملة والأخلاق {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وتعليق الصيام على التقوى تعليق الشرط بمشروطه فإذا لم يكن صيام حقيقي فلن يكتمل مفهوم التقوى ولن تنتج آثارها، وهل التقوى في مفهومها الخاص إلا مراقبة الملك سبحانه والإحسان في العبادة والمعاملة؟ فيتحرّك القلب وتنتشي الجوارح فرحة جزلة وهي تقوم على الخدمة والسعي والمثابرة؛ لأنّ العبادة في رمضان تختلف كلّية عن بقية العبادات في طريقة الأداء وفي المدة الزمنية؛ فجميع العبادات يراك الناس حال أدائك لها: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271]، و(الحجُّ عرفةُ)[19]، و{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، أمّا شعيرة الصوم فلا يراك أحد حال امتناعك عن الطعام والشراب ولا يقف الآخرون على حقيقة صومك، إضافة إلى أنّ الأداء السلبي في العبادة غالبًا لا يخالطه الرياء.
ومن الطبيعي جدًا أن يكون الصائم القائم الذي حمل نفسه على طاعة الله فأحياها بالعبادة وهذّبها بالطاعة ونوّرها بالقرآن في غاية القرب؛ ينعم بلطف الله به وتأييده له {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186].
ولما كان الصفاء النفسي والرقي الروحي من غايات الصيام النبيلة؛ كان الاعتكاف في نهاية الشوط في العشر الأواخر مؤكدًا لهذا المعنى من حضور القلب وصفائه ورقته متبتلاً منقطعًا إلى الله صارفًا نفسه عن كلّ ما يتعلّق بجواذب الأرض، فيكون أقرب إلى الملائكية.
3. اكتشاف الذات:
ويكون ذلك عن طريق استحضار معاني القوة النفسية ومفرداتها من الصبر والإرادة والتحدّي ومعرفة قدراتك الحقيقية، وكيدك للشيطان بعدما تأكدت بطريقة عملية أنّك قويّ وأنّ شيطانك ضعيف، وأنّك انتصرت عليه وغلبته في معركة متواصلة استمرت ثلاثين ليلة أبدعت فيها في مواطن الخير وقدّمت فيها نفسك للعالم لأن تكون بحقّ خليفة في الأرض، وقد استقر في خلدك أنّ كيد الشيطان ضعيف، ولطالما دخل عليك بالتحزين والتخويف والتزيين والإغواء والوسوسة، لكنّك عرفتَ فلزمتَ فصرختَ في وجهه قائلاً:
فدع هواها وصغ للمجد قافية *** فالمجد يصنعه الضرغامة البطل
فلا ريب ولا شكّ في كون رمضان معسكرًا منضبطًا تتهذب فيه أخلاقنا وينصلح حالنا، وإنّ ضبط البوصلة بالاعتياد على أمور غير عادية من الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح كي نتحمل ما يقع بنا بعد رمضان في الظروف العادية، فهو تغذية راجعة نحصل عليها بالتقسيط المريح، فيتغير حالنا يومًا بعد يوم، فإذا انتهينا من صيام رمضان أتبعناه بست من شوال لتصير التقوى واقعًا معاشًا كجزء لا يتجزّأ من حياتنا اليومية في عبادة أو معاملة، لقد تحررتْ أنفسنا من الرقّ والأسر لشهواتنا وقويتْ إرادتنا بتحمّل ساعات الجوع والعطش، وليكون لنا كلّ يوم دعوات مستجابة (ثلاثة لا تردُّ دعوتُهم… والصائمُ حتى يفطر)[20].
العبادة في رمضان تختلف كلّية عن بقية العبادات في طريقة الأداء وفي المدة الزمنية؛ فجميع العبادات يراك الناس حال أدائك لها، أمّا شعيرة الصوم فلا يراك أحد حال امتناعك عن الطعام والشراب، ولا يقف الآخرون على حقيقة صومك، إضافة إلى أنّ الأداء السلبي في العبادة غالبًا لا يخالطه الرياء.
رابعًا- الفوز بالغنيمة الكبرى بإدراك فضل ليلة القدر:
هذه الليلة المباركة يتحدّد فيها مصيرك ومستقبلك لعام قادم؛ ففيها نسخ الآجال والأعمار، فيها السعادة أو الشقاء، يقول ابن كثير: “في ليلة القدر يفصَّل من اللوح المحفوظ إلى الكتَبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها”[21]، وهذه الليلة هي ثمرة من ثمرات هذا الشهر الفضيل حيث البركة والمنزلة وعلو الشأن والسلامة والخير والظفر والتوفيق والعطاء والمدد والفيض والجود والإعانة والإثابة والهداية والستر والتقدير والنور والسداد والرشاد والعفو والعافية، وليس ذلك فقط، بل الحصول على المنزلة والمكانة والقدر بالعلم والعبادة الصحيحة؛ فهما طريق الريادة والسعادة وبهما يرفع القدر وتعلو المنزلة وترتفع المكانة، وسورة القدر هي الثمرة والجائزة، وهي تقع بين سورتي العلق والبيّنة، ففي سورة العلق يكون العلم والتعلم والبحث والنظر، وفي البيّنة الاتباع والاقتداء والأسوة، كأن القدر والمنزلة لا تنال إلا برصيد من العلم والربانية وفق منظومة قيمية صحيحة، وهذا واضح بيّن وضوح الشمس في رابعة النهار {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} [البينة: 2]، وأهل الفضل يتلمسون مواطن الخير من مظانها لرغبتهم وحرصهم على نوال الزيادة من كل خير قسمه الله تعالى على عباده، وهم يعتقدون جزمًا أنّ فوات الخير عنهم في هذا الشهر الكريم غبن وتعثّر وضياع وشتات وألم وانحسار، فلا يستقيم لهم عيش ولا يصفو لهم زمان إلا أن تتنزل عليهم غمرات من رحمة الله تحوطهم وتحويهم، فيتدفق الخير الإلهي عليهم.
العمل والطاعة في هذه الليلة خير من ألف عمل ومن ألف طاعة ومن ألف عبادة في غيرها، حدّث ولا حرج مما يعني زيادة الخير وفرصة لإطالة العمر الإنتاجي؛ فلو أنّ رجلاً أو امرأة أدرك ليلة القدر فأحياها بالطاعة مدة عشرين سنة فكأنّه عاش ألفًا وستمائة وثمانين عامًا، إذن هي لحظة فارقة في حياة المسلم ونقطة بداية لخير قادم، وهي ليلة النصيب كما جاء عن جويبر قوله: “قلت للضحاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟ فقال: كلّ من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر”[22].
والسؤال: ماذا ينبغي لنا فعله في ليلة القدر؟
أولاً- تحري الليلة والتماسها والحرص على إدراكها في العشر الأواخر من رمضان: وقد بوّب البخاري بابًا بعنوان: تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. قال ابن حجر: “في هذه الترجمة إشارة الى رجحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في أوتاره لا في ليلة منه بعينها”[23]، ومن هنا نقول: ينبغي لمن أراد أن ينال الحظوة من هذه الليلة أن يجتهد بجد ومثابرة في العشر كلّها، وهذا الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره)[24].
ثانيًا- القيام والدعاء:
“(من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[25]، وقيامها إنّما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة، وقد أمرَ عائشةَ بالدعاء فيها أيضًا، قال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبّ إلي من الصلاة، قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعلّه يوافق، ومراده: أنّ كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنًا”[26].
وأفضل الدعاء ما كان جامعًا لخيري الدنيا والآخرة كما في حديث عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)[27]، قال النووي: “ويُستحب أن يُكثر فيها من الدعوات بمهمّات المسلمين، فهذا شعار الصالحين وعباد الله العارفين”[28].
د. علي مدني رضوان الخطيب
دكتوراه في الشريعة، جامعة طنطا
[1] لطائف المعارف، لابن رجب، ص (40).
[2] المرجع السابق، ص (148).
[3] أخرجه البخاري (7).
[4] أخرجه أبو يعلى (4386).
[5] أخرجه أحمد (23074).
[6] الفوائد، لابن القيم، ص (107).
[7] لطائف المعارف، ص (272).
[8] أخرجه ابن حبان (3113).
[9] أخرجه أحمد (6626).
[10] أخرجه البخاري (1896).
[11] فتح الباري (4/111).
[12] الإنسان ذلك المجهول، ص (178).
[13] أخرجه البخاري (7492).
[14] أخرجه البخاري (1904).
[15] أخرجه البخاري (1902).
[16] أخرجه الترمذي (807).
[17] أخرجه البخاري (6011).
[18] فيض القدير، للمناوي (4/291).
[19] أخرجه الترمذي (889) والنسائي (3016).
[20] أخرجه الترمذي (3915) وابن ماجه (1752).
[21] تفسير ابن كثير (7/246).
[22] لطائف المعارف، ص (341).
[23] فتح الباري (4/260).
[24] أخرجه مسلم (1175).
[25] أخرجه البخاري (1901) ومسلم (760).
[26] لطائف المعارف، ص (359).
[27] أخرجه الترمذي (3513) وابن ماجه (3850).
[28] الأذكار، للنووي، ص (191).