يظنُّ كثير من الناس أن التاريخ سِجلٌّ لأحداث الماضي فحسب، وأن الفائدة في قراءته تنحصر في معرفة ما جرى في أزمنة مضت، وأنه على أحسن تقدير يفسّر الواقع الذي نعيشه، بينما يدلُّ النظر السليم أن ثمرة دراسة التاريخ لا تقف عند هذا القدر، وأن فيها من العبر والدروس ما قد يضيء لنا المستقبل، ويدلنا على مفاتيح النهوض والانبعاث من جديد.
تمهيد:
لا شك أن استخلاص الدروس من تاريخ المسلمين لاسيما الصدر الأول أمر جلل؛ لحيويته وبليغ دلالته ومناراته للسائرين. إلا أنه يقف أمام تحدي التوثيق ومحدودية التاريخ المُسند المنقود، إذ كثيرًا ما تتباين الروايات في النص أو ترتيب الأحداث وتفاصيلها، وكذلك متانة رواية التاريخ ما بين واهٍ ومشهور أو شبه متفق عليه وغير ذلك.
هذه المقالة سوف تعتمد أحد أجمع المراجع المتخصصة والمتميزة في فتوحات الشام من ناحية جمع الروايات المعتبرة واتباع منهج نقدي واضح في تبنِّيها وترجيحها، فكان المصدر الرئيس الذي خدم استقاء تسلسل الأحداث من أجل الغرض الذي نحن بصدده في هذه الدراسة المختصرة[1].
يقول المؤلف في مقدمته: «هذه الفتوح تستحق الدراسة باعتبارها من الحروب ذات المستوى الرائد الذي ينظر إليه كقمة جديرة أن يسعى القادة لأن يحذوا حذوها وينسجوا على منوالها، فإن الدراسة النظرية للحروب من خلال التاريخ لها أعظم الأهمية»[2].
وكتب مونتجمري: «كان أعظم القادة دائمًا من الدارسين للتاريخ»[3].
وكما يقول الأستاذ عادل: «إن استراتيجية الفتح ظلت مجهولة حتى عُنينا ببحثها…»[4].
المنهج الذي اتَّبعه المصدر في روايات فتوح الشام:
عقد صاحب كتاب «الطريق إلى دمشق» بابًا كاملاً استغرق زهاء ٨٠ صفحة يوضح فيها منهجه في تبني الروايات ونقدها وترجيحها[5]، ولفت النظر إلى مشقة هذا الجهد وندرته قائلاً: «يشكو الكتّاب المحدثون من كثرة الاختلافات والتناقضات في روايات فتوحات الشام، ويتخذونها ذريعة يبررون بها قصور البحث في استراتيجيات الفتح… غير أنه كان لزامًا أن نقتحمه، فوجدنا أن فتوحات الشام كانت حربًا في مستويين: تكتيكي واستراتيجي، فعلى المستوى التكتيكي لم نكد نجد في فتوح الشام خلافًا في المرويات يتعذر علاجه، بل العكس هو الغالب، فالروايات يكمل بعضها البعض أكثر مما يناقضه»[6].
ثم يقول: «أما على المستوى الاستراتيجي فلو نظرنا في الأحداث الرئيسية ومساراتها فسنجد أن اختلافات الروايات لم يعد له ذلك الأثر الاستراتيجي»[7].
ثم شرع في تفصيل منهجه في نقد الروايات والترجيح بينها بتفصيل وافٍ وذكر مصادره كابن إسحق وسيف بن عمر والوليد بن مسلم والواقدي والمدائني والأزدي والبلاذري والإصطخري وياقوت الحموي وابن بطوطة، ثم عرض لكل واحد منهم شجرته من الرواة الذين نقل عنهم، ونقد كل مصدر وما يُؤخذ منه ويُرد[8]. ثم عَدّدَ قرابة (٣١٠) من الرواة وفرز سلاسلهم وذكر حالهم جرحًا أو تعديلاً[9].
كما نجد أنّه قد أثرى كتابه بكمٍّ واضح من خرائط سير الجيوش من المدينة إلى مدن الشام، وكذلك بين مواقع معارك الفتوحات خلال سنوات عديدة، دعمها بجداول تبرز تسلسل الأحداث المهمة وترتيبها وتاريخها معتمدًا على منهجه في الجمع بين الروايات ونقدها.
ومن هذا الجهد الكبير في تتبع الروايات ونقدها والترجيح بينها انطلقت المقالة دون الحاجة للخوض فيها، ومن أراد الاستزادة فيمكنه الرجوع للكتاب المذكور[10].
بالرغم من نصر جيوش المسلمين الكاسح على قوات ضخمة من الروم في أجنادين وفحل، ورغم وجود جميع الجيوش بشكلٍ كامل وجاهز، إلا أنهم كانوا ينثنون عن القدس دومًا ويقطعون نهر الأردن شرقًا مِرارًا، ثم يتجهون شمالاً عبر الأردن للتمركُز والتزوُّد ثانية، ومتابعة المسير بإصرار نحو حوران
محطات ذات دلالة في مسير جيوش الصحابة المظفرة:
يجدر بنا بدايةً التذكير بأن الصحابة الذين توفوا في بيت المقدس يربون على تسعة y، علاوة على من توفي منهم في فلسطين كلها. أما من أقاموا فيها فكثرٌ ذكرهم العسلي في كتابه «أجدادنا في ثرى بيت المقدس»[11].
1. يسجل بعض المؤرخين أن أبا بكر فاتَحَ مستشاريه برغبته في فتح الشام في شهر ربيع الأول في سنة ١٢ من الهجرة، حيث تتابعت التحرُّكات بعدئذ وصولاً لعقد ألوية الجيوش الأربعة ثم خروجها إلى الشام تباعًا:
- عمرو بن العاص: ويتحرك على طريق إيلات إلى وادي عربة والنقب جنوب فلسطين.
- يزيد بن أبي سفيان: طريق تبوك وشرق الأردن إلى البلقاء والهدف دمشق.
- شُرحبيل ابن حسنة: طريق تبوك خلف يزيد ويبقى في الأردن.
- أبو عبيدة: ذات الطريق والهدف حمص بعد دمشق.
2. معركة أجنادين العظيمة وقعت قرب «القدس». أما أجنادين فلا يُعرف لها أثر اليوم، لكن يُقدَّر أنها بين الرملة وبيت جبرين وهذا يجعلها على بعد حوالي (٢٠) كلم من «القدس»[12]
كانت أجنادين أول نصر مفصلي على الروم مهَّد لما بعده. شهد معركة «أجنادين» كل جيوش الشام -حوالي ٣٣ ألفًا- على رأسهم أبو عبيدة وشرحبيل وابن العاص وسادات الصحابة y، كمعاذ وابن عوف وابن الصامت، مقابل جيش الروم في حوالي ٩٠ ألفًا، دكدكهم خيالة خالد ومن معه كضرار ومسروق العبسي وقيس بن هبيرة المرادي، فكانوا أول من حمل على بطارقة الروم فحمل الناس وراءهم[13].
ثم سار الجيش المظفر متفاديًا فتح القدس التي انفسح الطريق إليها مباشرة، وبدلاً من ذلك قَطَعَ نهر الأردن شرقًا، والتف الجيش جنوب القدس ليعيد تمركزه في جبال البلقاء الحصينة في الأردن حيث الغلال، وحيث تَعَرَّفَ الصحابة سابقًا على منطقة البلقاء حاضرة الأردن خلال بعث جيش أسامة بن زيد إليها.
يقول المؤرخ الجنرال الباكستاني أ. أكرم[14]: «بعد معركة أجنادين سار خالد بالجيش نحو دمشق، وسلك الطريق الواقع إلى الجنوب من القدس لتحاشي المرور في القدس»[15].
أما د.محسن فيذهب إلى ما سجلته: «ويظهر أن المسلمين لم يستكملوا فتوحاتهم داخل فلسطين بعد أجنادين، وإنما توجهوا إلى دمشق ملتفين من جنوب البحر الميت، مارّين بشرق الأردن»[16].
3. ثم وقعت معركة فَحْل الكبيرة ناحية بيسان، وقد عسكر أبو عبيدة والجيوش الشامية الأربعة في ٢٦ وقيل ٣٠ ألفًا شمال السَّلَط «حاضرة البلقاء»، ولم تقطع الجيوش النهر، وعرض معاذ بن جبل على الروم إحدى ثلاث، فعرض الروم -يزيدون على ٦٠ ألفًا- التنازل عن البلقاء سِلمًا إذا لم يجوزوا النهر، وكانت معظم قبائل الأردن قد دخلت الإسلام سلمًا… فقطع المسلمون النهر غربًا إلى بيسان شمال القدس وانتصروا نصرًا عظيمًا في معركة فحل -بيسان- وعادوا أدراجهم إلى الأردن ولم يتوجهوا إلى القدس التي انفسح الطريق إليها مرة أخرى![17].
4. وقفتُ مندهشًا من خطِّ سير جيش المسلمين وإصرارهم على هذا النهج… إذ في معركتي أجنادين وفحل الكبيرتين رغم النصر الكاسح على قوات ضخمة من الروم في تخوم القدس، ورغم وجود جميع الجيوش الشامية بشكلٍ كامل وجاهز، إلا أنهم كانوا ينثنون عن القدس دومًا ويقطعون نهر الأردن شرقًا مِرارًا، ثم يتجهون شمالاً عبر الأردن للتمركز والتزود ثانية، ومتابعة المسير بإصرار نحو حوران.
5. وأعجب مما سبق، أنهم أكملوا توجههم شمالاً إلى دمشق بدلاً من القدس القريبة فحاصروا دمشق ٤ شهور بعد معركة مرج الصُّفَّر قربها، ففُتحت دمشق ثم فتحوا حمص وبعلبك ومناطق كثيرة، ثم وصل إليهم شرق حمص خالد بن الوليد بمدد من العراق، فلاقتهم جيوش هرقل من عموم أوروبا -فيهم الأرمن والصَّقالبة والكاثوليك- في المعركة الحاسمة في اليرموك حيث انتصر المسلمون النصر الحاسم.
لقد أغرق خالدٌ بخطته خيالتَهم وخلقًا عظيمًا منهم في النهر بعدما قطع ضِرار الجسر على الروم وصدم أبو عبيدة قلب جيشهم وأطبقت أرباع خيل خالد وضرار ومسروق وابن هبيرة عليهم في مشهد صَدَمَ المستشرقين، واعتبروه إجهازًا قطع شأفة هرقل الذي قرر ألا يحاول مجددا معلنًا اعتزاله في القسطنطينية، وتوبته من ذنبٍ أدى لهذه المصيبة.
بهذا النهج للجيش المسلم تم طرد الروم حوالي ٤ قرون من قلب الشام، ولم يعد ثمة حاجز يمنع تقدم المسلمين إلى بيت المقدس[18].
بعد ذلك توجه ابن العاص جنوبًا لا يرده شيء، فطَهّر مدن فلسطين ونابلس والساحل، وبقي بيت المقدس «المحطة الاخيرة» بعد فتح سائر بلاد الشام، فوافاه أبو عبيدة بنفسه على مشارف القدس[19].
وبهذا في نهاية عام ١٤ هجري كانت فلسطين والأردن وجنوب ووسط سوريا باستثناء القدس وقيسارية بيد المسلمين[20].
6. كانت «التعليمات العليا» من المدينة تقضي بالتوقف، ولم يبق سوى فتح القدس بعد وصول عمر رضي الله عنه لغرض تسلم مفاتيح القدس وزيارة باقي الشام…
فوافى عُمَرُ القادة في منطقة الجَابِية قرب نَوى، وكان الخليفة عمر قد دفع بعمرو بن العاص إلى بيت المقدس ليكيد أَرطَبون فهرب، ليقول عمر: «رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب ابن العاص».
ثم دخلها أمير المؤمنين ودفع بالعهدة العمرية وأشهد عليها خالدًا وابن عوف ومعاوية وابن العاص[21].
كيف نعقل تجنب قادة جيوش الفتح في بلاد الشام التوجه لبيت المقدس، وتفضيل فتح وتطهير سائر مدن بلاد الشام وفلسطين إن لم يكن هناك «توصيات» صدرت من الخليفتين أبي بكر وعمر بصدد هذا النهج والاتجاه في السير؟!
سؤال للباحثين وذوي الشأن:
بعد تقصي خط سير جيوش الصحابة بين القدس ودمشق وكل المناطق، كيف نعقل هذا الخط إن لم يكن هناك «توصيات» صدرت من الخليفتين أبي بكر وعمر بصدد هذا النهج والاتجاه في السير، أو على الأقل كان هناك إصرارٌ من القادة والصحابة على ذلك؟
ولننظر في تبادل أبي بكر وخالد الرسائل بعد معركة أجنادين فيما نقله الجنرال والمؤرخ الباكستاني أكرم عن الواقدي: «بعد معركة أجنادين بثلاثة أيام كتب خالد لأبي بكر عن المعركة ونتائجها… ورد أبو بكر على رسالة خالد، وطلب منه أن يحاصر دمشق وأن يهاجم بعدها حمص وأنطاكية ثم يتوقف، ثم يكمل الجنرال أكرم –صاحب المصنف الشهير خالد بن الوليد– قائلاً: «بعد معركة أجنادين سار خالد بالجيش نحو دمشق، وسلك الطريق الواقع إلى الجنوب من القدس لتحاشي المرور في القدس»[22].
نجد أن ذات النهج لم يتغير عند القادة الثلاثة: أبي عبيدة وخالد وابن العاص في قيادة الجيوش التي جالت حول القدس في معارك أجنادين وفحل -بيسان- واليرموك وصولاً لتحرك عمرو بن العاص الأخير عائدًا إلى فتح كل فلسطين نهايةً ببيت المقدس بعد فتح دمشق.
وهكذا فإن خط سير الجيش بصورة متكررة يتفادى محاولة فتح القدس، رغم أنها لا تمتلك قلاعًا حصينة، وكانت على بعد حوالي ٣٠ كلم من أجنادين وبَيسان، بل بدلاً من ذلك كان الإصرار على الاتجاه شمالاً إلى دمشق قبل العودة لبيت المقدس رغم سهولة مهاجمتها!
الذي يترجح بدلائل وقرائن أن التعليمات بخصوص أولويات المسير كانت حازمةً وذات منهج واستراتيجية محددة:
1. بدليل ما سبق من وضوح نهج المسير الثابت، رغم الفرص المفتوحة لفتح بيت المقدس بعد الوصول لمشارفها بنصرين مؤزرين وهروب الروم وتشتتهم ورعبهم.
2. رغم تناوب ثلاثة قادة على القيادة في عمليات فلسطين، استمر ثبات نهج خط السير والالتفاف شرق نهر الأردن مع إكمال المسير شمالاً باتجاه دمشق.
3. من الواضح أن جيش الفتح كان ينظف طريقه أثناء مسيره لهدفه الاستراتيجي الأول في دمشق، ويحاول حماية نفسه عبر الحركة بمحاذاة جبال السراة والبلقاء شمالاً مُؤَمِنًا ظهره من خلال مناطق الأردن الشرقية التي لا يوجد فيها قوات رومية مهمة يمكن أن تطبق على المسلمين مع القوات الكبيرة للروم غرب النهر في فلسطين، فكل المعارك دارت في السهول حتى حطين وعين جالوت لاحقًا.
لم يحتفظ المسلمون بأراضٍ مهمة داخل فلسطين أثناء حركتهم نحو الشمال رغم النصرين في أجنادين وبيسان، فلم تكن أراضي فلسطين ومعاركها هدفًا في هذه المرحلة إلا اضطرارًا لتشتيت جموع الروم، بل كان السعي نحو فتح دمشق أولاً مستمرًا بثبات
من الطبيعي أن يعتمد الجيش المسلم الكبير -حوالي ٣٥ ألفًا– في مسيره ومؤونته على قبائل لَخم وجُذام في شرق نهر الأردن وجنوب فلسطين جهة أجنادين.
ومن الطبيعي أيضًا ألا يترك المسلمون قوات كبيرة للروم كما حصل في أجنادين وبيسان دون كسرها، حتى يستمر مسير المسلمين إلى دمشق دون كشف ظهورهم لكماشة أو قطع خط الإمداد من المدينة.
وهكذا نزل الجيش المسلم سريعًا من الأردن إلى السهول في فلسطين ليضرب جموع الروم المتحشدة في أجنادين ثم بيسان، وليعود فورًا ليواصل المسير من شرق الأردن إلى دمشق شمالاً.
4. لم يحتفظ المسلمون بأراضٍ مهمة داخل فلسطين أثناء حركتهم نحو الشمال رغم النصرين في أجنادين وبيسان، فلم تكن أراضي فلسطين ومعاركها هدفًا في هذه المرحلة إلا اضطرارًا لتشتيت جموع الروم كما أسلفت، بل كان السعي نحو فتح دمشق أولاً مستمرًا بثبات.
5. تأخير فتح بيت المقدس مرات أخرى، حتى بعد اليرموك وبعدما فُتحت مناطق غير حساسة في فلسطين مثل رفح.
6. وصول أمير المؤمنين بنفسه وتسلمه مفاتيح المسرى النبوي، فالزعماء يصلون بهذا الترتيب بعد السيطرة على كل القطاعات وبلوغ الهدف الأكبر.
واقعيًا، يكاد المرء أن يجزم أنّ أبا بكر وعمر وقادة الجيوش، توافقوا على أنه لا معنى استراتيجي لفتح بيت المقدس دون فتح دمشق أولاً، وعين الأمر يتأكد مرارًا من خلال ذات النهج الذي سلكه آل زنكي وصلاح الدين والمماليك كقلاوون في الحروب الصليبية
الخلاصة والنتيجة:
- واقعيًا، يكاد المرء أن يجزم أنّ أبا بكر وعمر وقادة الجيوش، توافقوا على أنه لا معنى استراتيجي لفتح بيت المقدس دون فتح دمشق أولاً.
- عين الأمر يتأكد مرارًا من خلال ذات النهج الذي سلكه آل زنكي وصلاح الدين والمماليك كقلاوون في الحروب الصليبية على رقعة واسعة شملت العراق ومصر والشام.
- إن التاريخ هو العقل الباطن لحركة الجغرافيا والإنسان والأمم، يكرر ذاته بنظائر لأنه خاضع للسنن الربانية الثابتة والمطّردة، والقصص القرآني يلح علينا أن نتعظ بالمَثُلات.
إن أكثر بقعة تجلى فيها هذا الدوران النموذجي هي بلاد الشام مهد النبوات وتنافس الحضارات.
نحن اليوم أمام مفترقٍ شرقًا وغربًا، يطرقنا الحدث وصراع الأمم سائلاً:
من أين وكيف الطرق إلى القدس؟!
على أي بعد جغرافي وعقدي وزمني نعتمد؟!
ملحوظة: الجيوش الأربعة كانت تسير بتتابع وأحيًانا بممرات متوازية، وتحافظ على مسافات تتيح لها عدم المباغتة، لكنها تتجمع فورًا كما حصل في أجنادين وبيسان واليرموك.
إن الجواب على هذ السؤال المُلِح، يذكرنا به ابن خلدون من خلال دلالات التاريخ، إذ يقول: «الماضي أشبه بالآتيَ من الماء بالماء»[23].
إنّ جريان التاريخ بِعِبَره ودلالته وفوائده في فتوحات بيت المقدس، قد أشارت السنة المطهرة إلى بقاء جريانه على هذا النَّسَق في أحاديث نزول المسيح عليه السلام وقبله المهدي في (دمشق) ثم نزوعهم إلى فلسطين وصولاً إلى (بيت المقدس)، ليُتوِّج ظهور الحقِّ هناك بعد تحرير حَوزة المسلمين من رجس الدجال وأتباعه من الملل والنحل.
وهكذا يتماثل جوهريًا جريان التاريخ في قلب العالم الإسلامي جريانا سُننيًا لا عبث ولا تعسف فيه أو شذوذًا عنه، وإن اختلفت بعض التفاصيل وبقي تواتر النهج بداية بفتوحات الصحابة، مرورًا بنهوض عماد ونور الدين زنكي ثم صلاح الدين!
وها هو «ابن خلدون» يؤكد على فن الاستقاء من التاريخ والاعتبار به، قائلاً:
«إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات (الحوادث) ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق..»[24].
كذلك نجد ذات الجوهر النمطي يتكرر في عملية تحرير آل زنكي وصلاح الدين لبيت المقدس بعد تحرير وتوحيد الإمارات في العراق والشام ومصر في جهد طويل متواصل توازى مع حركة علمية تربوية أطلقها آل زنكي أحيت الدين وروح الأمة، كما بددوا قوى الطوائف الباطنية التي فتت في عضد الأمة ودينها وكانت عونًا للغزاة، ثم تكرس ذلك بتطهير صلاح الدين البلاد من تسلط الفاطميين[25].
[1] المرجع المقصود والمعتمد هنا في مدخلات مقالي -إلا إذا نصصت على غيره- هو كتاب «الطريق إلى دمشق: فتح بلاد الشام» للأستاذ أحمد عادل كمال، الصادر عن دار النفائس في طبعتها الأولى، ويقع في ٥٦٣ صفحة غنية بالخرائط والجداول وسلاسل الرواة التي استقاها من الروايات بحسب منهجه التثبتي الرصين.
[2] الطريق إلى دمشق، لأحمد كمال، ص (٨).
[3] الحرب عبر التاريخ، لمونتغمري، ص (٢٧).
[4] الطريق إلى دمشق، ص (٩).
[5] ينظر في الصفحات (٤٧) إلى (١٢٣).
[6] المرجع السابق، ص (٤٧).
[7] المرجع السابق، ص (٤٨).
[8] المرجع السابق، ص (٦٢) إلى (٩٦).
[9] المرجع السابق، ص (٩٦) إلى (١٢٣).
[10] المرجع السابق، ص (٦٤) و (٥٠).
[11] ينظر: الطريق إلى القدس، لمحسن صالح، ص (٧٧-٧٨).
[12] الطريق إلى القدس، ص (٦١).
[13] الطريق إلى القدس، ص (٦١)، وينظر: فتوح البلدان، للبلاذري، ص (١٢٠)، وفتوح الشام، للأزدي، ص (٩٠).
[14] الجنرال أ. أكرم مؤرخ درس ميدانيًا جميع معارك ومسير خالد بن الوليد ومكث يزور المواقع ويطابق التاريخ ويدرس استراتيجية المعارك في الأردن والعراق وسوريا والسعودية لسنوات، وكان يجيد العربية.
[15] سيف الله خالد بن الوليد، للجنرال أ. أكرم، ص (٣٧٩).
[16] الطريق إلى القدس، ص (٦٢).
[17] الطريق إلى دمشق، ص (٣٣٤، ٣٤٦) عن الأزدي وغيره.
[18] الطريق إلى القدس، ص (٧١-٧٢)، ومثله أحمد عادل والواقدي وكثير من الرواة.
[19] الطريق إلى القدس، ص (٧٣).
[20] الطريق إلى دمشق، ص (٤٣٣).
[21] تاريخ الطبري (٣/٦٠٩)، والطريق إلى بيت المقدس، ص (٧٤).
[22] سيف الله خالد بن الوليد، ص (٣٧٩)، وفتوح الشام، للواقدي، ص (٤٢).
[23] مقدمة ابن خلدون، (١/٢٩٢).
[24] المرجع السابق، (١/٢٨٢).
[25] دراسة لأحوال العالم الإسلامي قبل صلاح الدين ومقارنة مع واقعنا: محمد العبدة، وينظر: كتاب «هكذا ظهر جيل صلاح الدين»: ماجد عرسان الكيلاني، وينظر: كتاب “أيعيد التاريخ نفسه؟”.
م. طاهر صيام
باحث في الحضارات والفكر، عمل في جامعة ولاية واشنطن