تزكية

جوهر الصلاة وثمراتها

الصلاة نور يهدي إلى الحق ويضيء دروب الحياة فتعمّ فيها السكينة والطمأنينة، وهي رحلة روحية ترتقي بالعبد إلى مقام القرب من الله ودوام اتصال القلب به سبحانه، ولا يتحقق ذلك إلا بكمال الاستعداد لها والخشوع فيها. وهذا المقال يلقي الضوء على جوانب من مقاصد الصلاة وغاياتها وجوهرها، ويستعرض شيئًا من أبعادها الروحية وثمراتها العظيمة.

الصلاة قرة عيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمة الله المهداة إلى عبيده، هداهم إليها وعرفهم بها رحمة بهم وإكرامًا لهم؛ لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه، لا حاجةً منه إليهم، بل منةً وفضلاً منه عليهم[1]؛ لذا أفاض أهل العلم في الحديث عنها؛ إذ هي عماد الدين وثاني أركانه، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وهي خير الأعمال كما في الحديث: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أنَّ خير أعمالكم الصلاة، ولن يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن)[2].

وهذه المقالة ستتناول الصلاة من زاوية أخرى بالتأمل في مقاصدها وغاياتها وجوهرها، واستعراض شيءٍ من أبعاد الصلاة الروحية وثمراتها العظيمة متلمسين غاياتها وما تدل عليه أفعالها وأحوالها وما يرتبط بها من رسائل وإشارات روحية[3].

جوهر الصلاة:

إنَّ جوهر الصلاة ولبَّها هو إدامة اتصال القلب بالله تعالى وذكره وتعظيمه كما قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: “أقم الصلاة لي، فإنك إذا أقمتها ذكرتني”[4]. وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، فالصلاة “قرب ودعاء وصلة” تصل القلب بخالقه، وتربط العبد بربه، وتقربه منه، وهي لقاء روحي مع الله وطريق متين لتحقيق القرب منه سبحانه، بهذه الصلةِ وهذا القربِ يأنسُ العبد بربه ويضيء القلب بنور الإيمان فيشرق ويسمو.

قال ابن القيم في معرض حديثه عن الصلاة: “وتعبد بها القلب والجوارح جميعًا، وجعل حظ القلب منها أكمل الحظين وأعظمهما، وهو إقباله على ربه سبحانه وفرحه وتلذذه بقربه وتنعّمه بحبه وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميل حقوق عبوديته حتى تقع على الوجه الذي يرضاه”[5].

والصلاة نور: فقد وصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الصلاة بأنها نور (الصلاةُ نور)[6]، وهو وصف دقيق جليل يوحي بمعنى أصيل لجوهر الصلاة وحقيقتها، حري أن يتأمله المصلي في واقع نفسه وحياته ويقيس مدى انطباقه على واقعه ويسأل نفسه: كم هي شحنة النور التي يخرج بها حين ينفتل من صلاته؟

هذا النور هو الإشراق الروحي الذي ينبعث في قلب المصلي ويمتد إلى حياته كلها، فالصلاة نور يهدي إلى الحق ويبعد عن الظلمات، نور يتجلى أثره في السكينة والإيمان والطاعة، نور يضيء للمصلي ظلمة قلبه ويزيل الغشاوة عن عينه وسمعه وعقله، فيبصر الحق حين يضل عنه آخرون، وينطق به حين يصاب بالعِيّ غافلون.

إنه النور الذي يضيء دروب الحياة، فتعم فيها السكينة والطمأنينة، من هذا النور تنبع الفضائل والثمرات والبركات، وبانعدامه تدوم الظلمات وتتكاثر الخطيئات {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

والصلاة في جوهرها كذلك: رحلة روحية ترتقي بالعبد إلى مقام القرب من الله، وتعرج به في ملكوت الله، ودلالة هذه الرحلة الروحية مستوحاة من قصة فرضيتها في السماء السابعة في رحلة الإسراء والمعراج[7]، وكأنّ المصلي يعرج بروحه مع كل صلاة يصليها ويرتقي عن كل متاع الدنيا وشهواتها وظلماتها ليصعد إلى حيث النور ليبصر من علوّ، ويتعالى عن متاع الدنيا بكل سموّ، وهكذا كان هديه عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر واشتد عليه شي فزع إلى الصلاة[8] وعرج بروحه إلى مولاه واتصل بخالقه طالبًا منه العون والتسديد.

جوهر الصلاة ولبُّها: إدامةُ اتصال القلب بالله تعالى وذكره وتعظيمه، وتحقيقُ الإشراق الروحي الذي ينبعث في قلب المصلي ويمتد إلى حياته كلها، والارتقاءُ بروح العبد إلى مقام القرب من الله والعروج به في ملكوت الله

مقاصد الصلاة:

من مقاصد الصلاة: “انشراح الصدر وطمأنة القلب وإراحة البال، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لبلال: (أرِحنا بها يا بلال)، كما شُرعت الطهارة والصلاة للغضبان والمصاب والمكروب وغيرهم.”[9].

ومن مقاصد الصلاة: تطهير القلب، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، فإقامة الصلاة تحرق ما في قلب العبد من ران وفحشاء ومنكر فيتطهر، وكما أن إقامة الصلاة حياة وتطهير للروح، وتحفظ العبد من الوقوع في الشهوات والضلال، فتارك الصلاة بجوهرها وإقامتها كما ينبغي تتخطفه الشهوات ويتلاعب به الشيطان، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

من مقاصد الصلاة: انشراحُ الصدر وطمأنته، وإراحةُ البال، وتطهيرُ القلب، وإصلاحُ النفس وتهذيبُها وتخليصُها من الفواحش والمنكرات والهواجس والأوهام

وتأمل أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهله بالصلاة والاصطبار عليها: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] والتي تلت قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131]، وكأنها إشارة لطيفة لعظيم أثر الصلاة والمصابرة عليها في الاستغناء والترفع عن متع الدنيا وزهرتها والتعلق بها، فانظر إلى أثر ذلك في نفسك وأهلك.

قال ابن القيم: “ولما امتحن سبحانه عبده بالشهوات وأسبابها من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيَّأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخِلَع والعطايا، ودعاه إليه كل يوم خمس مرات، وجعل كل لون من ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة ومصلحة لهذا العبد الذي قد دعاه إلى المأدبة ليست في اللون الآخر؛ لتكمل لذة عبده في كل لون من ألوان العبودية، ويكرمه بكل صنف من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مكفرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ليُثيبه عليه نورًا خاصًا وقوة في قلبه وجوارحه وثوابًا خاصًا يوم لقائه”[10].

ومن مقاصد الصلاة: “إصلاح النفس وتهذيبها، وتخليصها من الفواحش والمنكرات والهواجس والأوهام، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}”[11].

في قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} بعد قوله: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} إشارة لطيفة لعظيم أثر الصلاة والمصابرة عليها في الاستغناء والترفع عن متع الدنيا وزهرتها والتعلق بها

المفتاح لتحقيق مقاصد الصلاة:

لن يتم للمصلي تحقيق مقاصد الصلاة إلا بالخشوع والقنوت فيها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2]، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، بل يُحرم المصلي ثمراتها بانعدام الخشوع فيها؛ لذا ورد النهي النبوي عن الاستعجال في الإتيان إلى الصلاة، وجاء الأمر بالسكينة حتى يتوجه اهتمام العبد إلى ما هو أولى من إدراك الجماعة؛ ألا وهو تحقيق الخشوع والسكينة فيها، كما ثبت عن أبي قتادة قال: (بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ ‌سمعَ ‌جَلَبَةَ رجال، فلما صلّى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتمُ الصلاةَ فعليكم بالسَّكينة، فما أدركتم فَصلّوا، وما فاتكم فأتمّوا)[12].

إن الصلاة ليست مجرد عبادة ظاهرة تؤدى حركاتها -مع عدم إغفال الاهتمام بصورة الصلاة الظاهرة- إذ لها عظيم الأثر في تحقيق مقاصد الصلاة والوصول إلى جوهرها ولبها، فالظاهر ينعكس على الباطن ويدل عليه، كما أن خشوع القلب ينعكس على خشوع الجوارح. وهنا يستوقف المصلي نفسه على الحقيقة عند كل صلاة، ويتأمل: كم هو حظ نفسه من صلاته وكم كسب منها؟ وكم سرق منها الشيطان وفاته منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الرجل لينصرفُ وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلثها، نِصفها)[13].

لفتات روحية في الصلاة:

1. تكرار الصلاة خمس مرات:

شرعت صلاة الجماعة على هيئة محددة في أوقات مخصصة في المساجد، يخرج إليها المؤمن خمس مرات في اليوم متجردًا من كل مشاغل الدنيا وتاركًا وراء ظهره كل ما في يده مما يشغله عنها، ومفارقًا بيته وسوقه وعمله ليشهد الصلاة في تلك المساجد، ثم ما يلبث أن يغيب إلا ليرجع مرة أخرى، وكأن في تكرار الخروج إلى صلاة الجماعة في المساجد تأكيدًا من المصلي على تجديد البيعة لمولاه وخالقه، وأخذ العهود على نفسه بين يدي ربه، ليوثق الصلة بخالقه وهو يستشعر ضعفه وجهله وأنه لا غنى له طرفة عين عن خالقه؛ فيكرر ذلك خمس مرات ويشهد على هذا جماعة المسلمين، وكأنه يرجو أن يشهدوا له بالإيمان كما بشّر النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتمُ الرجل ‌يعتادُ ‌المساجد، فاشهدوا له بالإيمان)[14].

قال ابن القيم: “ولما كانت الجدوب متتابعة، وقحط النفوس متواليًا، جدّد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مستسقيًا مَنْ بيده غيث القلوب وسقيها، مستمطرًا سحائب رحمته؛ لئلا ييبس ما أنبتته له تلك من كلأ الإيمان وعشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات. والقلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا؛ يشكو إلى ربه جدبه وقحطه وضرورته إلى سقيا رحمته وغيث بِرِّه، فهذا دأب العبد أيام حياته”[15].

2. الأذان (صوت الحق يعمر الكون):

الأذان دعوة إلى الصلاة يعمر الكون بكلمات الحق؛ فصوت المؤذن يمتد ليبشر الخلق، وكلما امتد صوته زاد نوال الله له بالمغفرة والفضل كما جاء في الحديث: (المؤذِّنُ يُغفر له مَدَّ صوته، ويصدِّقه من سمعه من رَطب ويابس)[16] كما (ويشهدُ له كل ما سمعه)[17]، وعلى النقيض من ذلك، يفرّ الشيطان من هذا الصدع الصادق بالحق والتوحيد، كما في الحديث: (إذا نُودي بِالصلاةِ أدبرَ الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين)[18].

تأمل في شعيرة الأذان وفي معانيه وكيف أن الشريعة جاءت بالحث على رفع الصوت به والإنصات له والترديد معه وكأنه ينادي في البشر والحيوانات والجمادات أن هلمّوا إلى ما فيه سعادتكم وهناؤكم، وهو يمهد الطريق لأهل الإيمان ويطرد عنهم الشياطين ويهيئ النفوس لمأدبة إيمانية يلقون ثوابها عند الله.

الأذان دعوة إلى الصلاة يعمر الكون بكلمات الحق؛ فصوت المؤذن يمتد ليبشر الخلق، ويدعوهم إلى ما فيه سعادتهم وهناؤهم، وهو يمهد الطريق لأهل الإيمان ويطرد عنهم الشياطين ويهيئ النفوس لمأدبة إيمانية يلقون ثوابها عند الله

3. الوضوء (تطهير الجسد والروح):

الوضوء شطر الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الطُّهور شطرُ الإيمان)[19]، والمراد أن “الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان”[20]، فهو ليس مجرد نظافة بدنية، بل هو شطر الإيمان، وفيه تطهير روحي يمحو الذنوب، كما في الحديث: (إذا توضَّأ العبد المسلم -أو المؤمن- ‌فغسلَ ‌وجهه ‌خرج ‌من ‌وجهه ‌كلُّ ‌خطيئة ‌نظر ‌إليها ‌بعينيه ‌مع ‌الماء -أو مع آخرِ قطرِ الماء-، فإذا غسلَ يديه خرج من يديه كلُّ خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخرِ قطرِ الماء-، فإذا غسلَ رجليه خرجت كلُّ خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -أو مع آخرِ قطرِ الماء- حتى يخرج نقيًا من الذنوب)[21]، بل إن الوضوء يترك أثرًا نورانيًا يميز المؤمنين يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أمتي يُدعَون يوم القيامة غُرًا مُحجَّلين من آثارِ الوضوء)[22].

تأمل هذه الفضائل للوضوء وما يحصل معها من تهيئة للمصلي ليشهد تلك العبادة الجليلة طاهر القلب كما تطهرت جوارحه، ويزول كل ران على قلبه وجوارحه مما يحول بينه وبين ما يحقق مقصود الصلاة؛ فيهتدي بما يسمع ويتأمل كل ما يقول في صلاته من ذكر وورد، فيزداد من النور وتشرق روحه ويشع هدى.

قال ابن القيم: “بالوضوء يتطهر من الأوساخ ويقدم على ربه متطهرًا. والوضوء له ظاهر وباطن؛ فظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة؛ ولهذا يقرن سبحانه بين التوبة والطهارة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وشرع النبي صلى الله عليه وسلم للمتطهر بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد ثم يقول: (اللهمَّ اجعلني من التّوابين واجعلني من المتطهرين)[23]، فكمل له مراتب الطهارة باطنًا وظاهرًا.

فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الأوساخ الظاهرة، فشرع أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه، فخلص من الإباق بمجيئه إلى داره ومحل عبوديته”[24].

“بالوضوء يتطهر من الأوساخ ويقدم على ربه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن؛ فظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة، وباطنه وسره طهارة القلب من أوساخه وأدرانه بالتوبة”

ابن القيم

4. المشي إلى الصلاة والرباط في المساجد:

قال صلى الله عليه وسلم: (بَشِّر ‌المشَّائين في ‌الظُّلم إلى المساجدِ بالنُّور التامّ يوم القيامة)[25]، وقال: (من غَدا إلى المسجدِ وراحَ، أعدَّ الله له نُزُلَه من الجنة كلّما غدا أو راح)[26]، وجاء الحث بالدعاء بفتح أبواب الرحمة عند دخول المسجد: (اللهمَّ افتح لي أبواب رحمتك)[27]، مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

تأمل هذه الفضائل التي تتحصل للمصلي من نورٍ في المشي إلى المساجد، خاصة في ظلمة الفجر والعشاء، وأجرٍ ومغفرة ورفعة درجات مع كل خطوة، ثم فتحِ أبواب الرحمة عند دخوله المسجد، ثم وعدٍ بالجزاء في الآخرة بضيافة خاصة على كل غدو ورواح، وما فيها من إشارات روحية تعكس طبيعة ذلك الخروج وأنه ليس مجرّد مشي وخطوات كغيرها، وما فيها من مزيد تهيئة للمصلي ليحقق مقصود الصلاة وقد اكتمل نوره وطهر قلبه وأشرقت روحه.

5. استقبال القبلة والتراصّ (وحدة القلوب):

إن في استقبال أهل الإسلام جميعًا للكعبة رابطة تجمع المصلين كلهم على قلب واحد ينبض بتوحيد الله، وينبعث من مكة نور يضيء العالم، كما أن تراص الصفوف في الصلاة كتراص الملائكة عند ربهم يعكس الوحدة والانسجام، والمصلي إذ يستشعر أن الرب جل جلاله قِبل وجهه إذا صلى كما في الحديث: (إنَّ أحدَكم إذا كان في الصلاة فإن الله قِبل وجهه)[28]، فهو يستشعر عظمة هذا اللقاء، بل جاء النهي عن أمر حسي لمزيد استشعار عظمة اللقاء والقرب، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أحدكم إذا كان في الصّلاة ‌فإنَّ ‌الله ‌حِيالَ ‌وجهه، فلا يتنخّمنّ حيالَ وجهه في الصلاة)[29].

6. اللقاء الرباني والفاتحة:

تأمل في كل ما سبق من تهيئة وإعداد للمصلي من لحظة الهمّ بالخروج إلى الصلاة، ثم إلى سماع الأذان وفضله، ثم إلى الوضوء وتطهيره للروح قبل الجسد، ثم المشي إلى الصلاة بسكينة، ثم استقبال الكعبة والتراص في الصفوف، حتى يصل العبد إلى اللحظة التي كان ما كان لأجلها؛ إذ يفتتح المصلي صلاته بالتكبير، ثم يضع يديه على صدره ويستفتح صلاته!

فتكبيرة الإحرام (الله أكبر) تعلن بداية هذا اللقاء الرباني الجليل، والاستعلاء عن كل مشاغل الدنيا وطرحها جانبًا، قال ابن القيم: “ثم كَبَّرَه بالتعظيم والإجلال وواطأ قلبه في التكبير لسانه، فكان الله أكبر في قلبه من كل شيء، وصدق هذا التكبير بأنه لم يكن في قلبه شيء أكبر من الله يشغله عنه، فإذا اشتغل عن الله بغيره وكان ما اشتغل به أهم عنده من الله، كان تكبيره بلسانه دون قلبه”[30].

ثم في وضع المصلي يديه على صدره دلالة جلية على التأدب والتذلل التام بين يدي الله؛ ليؤذن له بعد ذلك بالثناء على الله في دعاء الاستفتاح وما فيه من تسبيح وتنزيه لله تعالى، ثم يشرع في طلبه مباشرة بتلاوة الفاتحة التي (لم ينزل في التوراةِ ولا في الإنجيلِ ولا في الزبورِ ولا في الفرقانِ مثلُها)[31]، وما فيها من حمد وثناء ودعاء وما فيها من حوار جليل بين العبد وربه، كما في الحديث: (قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفين)[32]، ثم يأتي التأمين بعد الفاتحة متوجًا لهذا الاستهلال الجليل المهيب، وهمّ المصلي وشغله في أن يوافق تأمينه تأمين الملائكة، ليغفر له ما تقدم من ذنبه[33].

قال ابن القيم : “وكان سِرُّ الصلاة ولبُّها إقبال القلب فيها على الله وحضوره بكليته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره وَلَهَا بحديث النفس؛ كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطئه وزَلَلـه، مستمطرًا لسحائب جوده ورحمته، مستطعمًا له ما يقوت قلبه؛ ليقوى على القيام في خدمته، فلما وصل إلى الباب ولم يبق إلا مناجاة الملك التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا أو ولّاه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك وأقله عنده قدرًا، فآثره عليه وصيره قبلة قلبه، ومحلّ توجهه، وموضع سره، وبعث غلمانه وخدمه ليقفوا في طاعة الملك، ويعتذروا عنه وينوبوا عنه في الخدمة، والملك يشاهد ذلك ويرى حاله”[34].

تكبيرة الإحرام (الله أكبر) تعلن بداية هذا اللقاء الرباني الجليل، والاستعلاء عن كل مشاغل الدنيا وطرحها جانبًا

7. في الذكر والقراءة:

قال العز بن عبد السلام: “ولما كان مقصود الصلاة الذكر، وجب أن يتعرّف قدرَ المذكور وملاحظته ليُلزم مع الأدب، فافتتح بالتكبير الدال على الكبرياء لمن هو قائم وقاعد وراكع وساجد؛ ليخضع له خضوعًا يجب مثله لكبريائه، فإذا لاحظ كبرياءه لزم آداب الصلاة والطهارة والنظافة الظاهرة والباطنة واشتغل بالله وحده، وأتت هذه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام (وفرّغ قلبه لله)[35]، وقوله عليه السلام لما سُئل عن الإحسان فقال: (أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراه)[36] ومَن عَبَدَ الله كذلك فرّغ قلبه، وخرج عن الأكوان”[37].

وقال: “وأما تفضيل ملاحظة الأذكار والأدعية فينبغي أن يلاحظ في كل ذكر معناه الخاص به، ويستحضره بقلبه ولسانه، ويثني على الله بلسانه مع حضور معناه في قلبه فيكون مثنيًا عليه بقلبه ولسانه، ولا يشغله عن ملاحظة الذكر معنى آخر وإن كان أفضل منه؛ فإن لكل مقام مقالاً، وهكذا أدب القراءة؛ فينبغي أن يقدر نفسه سامعًا للقرآن من الله عز وجل، فيصغي إليه إصغاء العبد الذليل إلى الرب الجليل، ويلاحظ معاني الكلم، ولا يشتغل عن معنى كلمة بمعنى كلمة أخرى وإن كانت أفضل منها؛ فإنه لو اشتغل بغيرها ما هو بصدده لكان معرضًا عن استماع كلام ربه، وذلك سوء أدب، ويدخل به الشيطان على أهل العرفان… قال يحيى بن معاذ الرازي: إن الشيطان ليشغلني عن صلاتي بذكر الجنة والنار”[38].

8. أفعال الصلاة الظاهرة:

‏ قال العز بن عبد السلام: “وأما أفعالها -أي الصلاة- فالقيام فيها أحد ضروب التعظيم، والركوع والسجود كذلك، ولهذا اختص الركوع بقوله (سبحان ربي العظيم)؛ لأن العظمة تقتضي الذلة والخضوع، فلما صار إلى مجال التذلل اعترف للمعبود بالعظمة الموجبة لذلك الخضوع، فلما صار إلى السجود وهو أشد تذللاً من الركوع اختص بقوله (سبحان ربي الأعلى)، فإنه لما صار إلى غاية الخضوع اعترف للمعبود باستحقاقه العلو المقتضي لغاية الخضوع”[39].

الخاتمة:

الصلاة نور وطهور، اتصال وتزكية، تجمع القلوب وترفع الدرجات، هي خير الأعمال وسبيل القرب من الله، فكم نحرص على إقامتها كما يريدها الله منا، وكم نسعى لأن نرتقي في أدائها مع مرور الأيام وتصرم الأعمار! ففي ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ 1 الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].

قال العز بن عبد السلام: “فانظر إلى ما جمعته الصلوات من الخيرات، واشتملت عليه من البركات، وكيف بدئ أولها بالله عز وجل، ثم بطلب أفضل المهمات وهو هداية الصراط المستقيم إلى الله، وختم آخرها بالثناء على الله عز وجل بالتحيات، ثم بالأهم بعده وهو نفس المصلي إذ يقول: (السلام علينا وعلى عبادِ الله الصالحين)”[40]، جعلنا الله من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون، والحمد لله رب العالمين.

الصلاة نور وطهور، اتصال وتزكية، تجمع القلوب وترفع الدرجات، وهي خير الأعمال وسبيل القرب من الله


د. عمر النشيواتي

طبيب وكاتب مهتم بالقرآن وعلومه


[1] الكلام على مسألة السماع، لابن القيم، ص (109).

[2] أخرجه أحمد (22378) وابن ماجه (277).

[3] أفدت كثيرًا من كتاب قناديل الصلاة لفريد الأنصاري، يرجع إليه لمزيد إفادة.

[4] تفسير الطبري (18/283).

[5] مسألة الكلام على السماع، ص (109).

[6] أخرجه مسلم (223).

[7] ثبتت قصة فرض الصلاة في السماء السابعة في حديث المعراج المشهور الذي رواه مالك بن صعصعة الأنصاري في صحيح البخاري (3207).

[8] أخرج أبو داوود (1319) عن حذيفة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ‌حزَبَه ‌أمر ‌صلى).

[9] علم المقاصد الشرعية، لنور الدين الخادمي، ص (171)، والحديث أخرجه أبو داوود (4985).

[10] الكلام على مسألة السماع، ص (109-110).

[11] علم المقاصد الشرعية، ص (171).

[12] متفق عليه: أخرجه البخاري (635) ومسلم (603).

[13] أخرجه أبو داوود (796).

[14] أخرجه الترمذي (2617) وابن ماجه (802) واللفظ له، وتشهد لمعناه آية: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18].

[15] الكلام على مسألة السماع، ص (111).

[16] أخرجه أحمد (9328) وابن ماجه (724).

[17] أخرجه أبو داوود (515).

[18] أخرجه البخاري (1231) ومسلم (389).

[19] أخرجه مسلم (223).

[20] شرح صحيح مسلم، للنووي (3/100).

[21] أخرجه مسلم (244).

[22] متفق عليه: أخرجه البخاري (136) ومسلم (246).

[23] أخرجه الترمذي (55).

[24] الكلام على مسألة السماع، ص (117-119).

[25] أخرجه أبو داوود (561).

[26] أخرجه البخاري (662) ومسلم (669).

[27] أخرجه مسلم (713).

[28] أخرجه البخاري (753).

[29] أخرجه البخاري (6111).

[30] الكلام على مسألة السماع، ص (119-120).

[31] أخرجه الترمذي (2875).

[32] أخرجه مسلم (395).

[33] أخرج البخاري (780) ومسلم (410): (إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من ‌وافق ‌تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه).

[34] الكلام على مسألة السماع، ص (115-116).

[35] أخرجه مسلم (832).

[36] متفق عليه: أخرجه البخاري (50) ومسلم (8).

[37] مقاصد العبادات، للعز بن عبد السلام، ص (19).

[38] المرجع السابق، ص (٢٣).

[39] المرجع السابق، ص (17).

[40] مقاصد العبادات، ص (16).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *