أوّل طريق الفوز وتحقيق النجاة في الدنيا والآخرة هو وضوح الغاية وتحديد الأهداف بناءً عليها. وبما أن غاية المسلم هي السعي لإرضاء الله تعالى والفوز بالجنة، فإنه يفعل الطاعات ويترك المعاصي ويسعى في حاجات الناس ويجبر خاطرهم؛ ابتغاء رضوان الله والفوز بالجنّة. لكن نجد أن هذا الأمر تضاءل، بل اختفى في بعض من الأحيان، وأصبح بعض المسلمين بلا غاية أو هدف؛ الأمر الذي أدّى إلى وقوع الخلل على مستوى الفرد والمجتمع على حدّ سواء.
مدخل:
موضوع التربية وبناء الشخصية من الموضوعات التي شغلت حيّزًا كبيرًا في كتابات كثير من المفكّرين والمنظّرين المسلمين المعاصرين، وستبقى الكتابة مستمرةً حتى تتحوّل هذه الأفكار إلى واقع ملموس في حياة الناس؛ وذلك لأنّ التربية من أهمّ القضايا التى يحتاجها المسلمون في كلّ العصور.
ومن ناحية أخرى فإنّ ساحتنا الإسلامية تفتقد إلى مناهج تربوية شاملة وواقعية قابلة للتطبيق تنتج لنا “الفرد الأمّة”، الذي أخرجته الدعوة النبوية الراشدة أوّل أمرها، والذي يحتاجه المسلمون بإلحاح هذه الأيام بعد أن وصلنا إلى مرحلة “القصعة المستباحة” التي تداعت عليها الأمم، مصداقًا لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
والأكثر أهمّية أنَّ البناء التربوي هو السبيل الوحيد لتحقيق الهدف الذي من أجله خلقنا الله تعالى، وهو تحقيق العبودية {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فهي التي ترتقي بنا في مدارج العبودية لنصل إلى دار السعادة الأخروية.
لقد كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة على التربية والتزكية وإخراج النماذج القرآنية الفذّة، والتي حوّلت الإسلام إلى واقع ملموس في حياتهم وسلوكياتهم ومعاملاتهم.
والبناء التربوي الذي مارسه النبي صلى الله عليه وسلم مع صحابته رضوان الله عليهم أجمعين كان بناءً شاملاً لم يقتصر على جانب دون آخر، فربّاهم صلى الله عليه وسلم على أن يكونوا فقهاءَ وعُبّادًا وفي الوقت نفسه فرسانًا وقادة وقضاة ودعاة للإسلام، وحثّهم على تطوير وترقية أنفسهم وإمكاناتهم، فكانت تربية راشدة جامعة.
ثم فهم صحابتُه وأتباعُهم هذا الدرس فلم يحصروا أنفسهم في إطار معين، فخرج منهم الفقيه العابد المجاهد وهو نفسه القاضي الداعي للإسلام، وهكذا.
لذا ينبغي علينا بيان أهمّ معالم المنهج النبوي في التربية والبناء، الذي أخرج خير أمة أخرجت للناس، وهو: توضيح الغاية التي على سالك الطريق أن يقصدها.
فأول طريق النجاة في الدنيا والآخرة هو توضيح الغاية وتحديد أهدافنا بناءً عليها.
التربية بالغاية:
الغاية هي منتهى أهداف الإنسان في الحياة، أو الهدف الأسمى الذي يجدُّ الإنسان لتحقيقه.
والغاية تختلف عن الهدف في كونها غير محدّدة بزمن، وليس لها نهاية، وبعيدة المنال، فيكدُّ الإنسان ويجهد نفسه ليصل إليها فلا ينتهي، لذا يطلق عليها أحيانًا: الأهداف بعيدة المدى.
وغاية المسلم: “السعي لإرضاء الله تعالى، والفوز بالجنّة” أي العمل للآخرة والسعي في طلبها، لتحقيق الفوز والنجاة في هذه الحياة الدنيا بنيل رضى الله تعالى.
هكذا ربّى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، وهذا واضح جلي في سيرته مع صحابته، وهذا ديدن المربّين والمصلحين في كلّ زمان، حيث يربّون أتباعهم على إرادة الآخرة والسعي لها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إنَّ سلعة الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة)[1].
وعن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة)[2].
الغاية تختلف عن الهدف في كونها غير محدّدة بزمن، وليس لها نهاية، وبعيدة المنال، فيكدُّ الإنسان ويجهد نفسه ليصل إليها فلا ينتهي، لذا يُطلق عليها أحيانًا: الأهداف بعيدة المدى
وربّى القرآن أتباعه على ذلك بعدة أساليب:
أ. الدعوة لطلب الآخرة والسعي لها:
قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]، وقال أيضًا: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
ب. ربط جميع العبادات بالآخرة:
قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ 45 الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45-46]. وقال جل في علاه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].
ج. بيان مآل مريدي الآخرة ومخالفيهم:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ 6 فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6-8].
أثر الغاية في حياة المسلم:
ويظهر أثر وضوح الغاية في حياة المسلمين في حرص المسلم على إرضاء الله تعالى، وفي تقواه وخشيته وورعه وإخلاصه، واستقامته على طاعة الله وتوحيده، والتوجّه إلى الله تعالى بكلّ كيانه وأعماله وتصوّراته وأفكاره.
أي: يتحوّل المسلم إلى رجل الآخرة، يسعى إليها ويعمل لها، ويترك كلّ العلائق التي تشغله عنها.
فإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم نلحظ عدم وضوح هذه الغاية في حياتنا، وفي سلوكياتنا، وفي أخلاقنا، وفي برامجنا العلمية والعملية والتربوية.
لقد تحولت الآخرة في أحسن أحوالها إلى مادة علمية نظرية تدرّس مثلها مثل أيّ علم، تحوّلت إلى علم مجرّد عن الواقع وعن السلوك والأخلاق، وتحوّلت إلى مواعظ جافّة يتشدّق بها الخطباء على منابرهم، لا تغيّر من واقعنا شيئًا.
يحفظ المسلم كلّ الآيات والأحاديث التي تتكلّم عن موضوع الآخرة، ويردّدها ليل نهار، ومع ذلك تفشت أخلاق الجاهلية في صفوف أشدّ الناس محاربة للجاهلية، فضلاً عن غيرهم.
والسبب في ذلك الخطأ المنهجي يكمن حيث لا يتمّ الربط في حسّ المسلم بين عمله وإرادة الآخرة؛ فالتربية الصحيحة هي تربيته على غاية واضحة محدّدة، فحياة الإنسان كلّها لله، يبتغي بها رضوان الله والفوز بجنّته، لذا هو يصلي ويصوم ويغضّ بصره ويحفظ فرجه، ويسعى في حاجة الناس، ويجبر خاطرهم؛ يبتغي بذلك رضوان الله والفوز بالجنّة.
هذا الأمر تضاءل، بل اختفى في كثير من الأحيان، وأصبح كثير من المسلمين بلا غاية أو هدف، وإذا سلك طريق التديّن فقد يسلكه لأنّه أحبَّ الشباب المتديّن، أو أصابه الملل من حياته السابقة، أو من أصدقائه، أو ظنًا منه أنّ التديّن يجلب له السعة في المال أو الراحة النفسية، أو غيرها من الأسباب، وهذه النماذج المشوهّة تربويًا إمّا أن تترك التمسّك بدين الله مع أول ابتلاء، أو أنّها تبقى محتفظة بأخلاقها وسلوكياتها ومعاملاتها الجاهلية، فتسيء للإسلام والمسلمين.
ومن آثار عدم وضوح الغاية والهدف: التخبّط الذي نعاني منه في العمل الإسلامي، والصراعات المريرة بين فصائله وتياراته المختلفة، وبين أتباع الجماعة الواحدة.
ومثله التخبّط في المناهج والأفكار، فالمسلم الذي يسعى للآخرة يتحلّى دائمًا بالإخلاص والتجرّد والربّانية ونبذ التعصّب والحبّ لكلّ مَن يعمل لله، ويسير في هذا الطريق؛ لأنّ الغاية واحدة والهدف واحد، فإذا غاب أو انعدم وضوح الغاية والهدف؛ انعدم الأثر المترتّب عليهما، وهذا هو سبب التخبّط.
من آثار عدم وضوح الغاية والهدف: التخبّط الذي نعاني منه في العمل الإسلامي، والصراعات المريرة بين فصائله وتيّاراته المختلفة، وبين أتباع الجماعة الواحدة
التربية بالهدف:
وهو ما يقصد إليه الإنسان، ويجعله غرضًا يسعى للوصول إليه؛ لتحقيق غايته في الحياة من إرضاء الله تعالى والفوز بالجنّة.
ويمكن تحديد أهم أهداف المسلم في الحياة في ما يأتي:
أ. تعبيد النفس لله تعالى:
أي تحقيق الهدف الذي من أجله خلقنا الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. ومقتضاه أن يتحوّل الإنسان إلى عبدٍ مستسلمٍ لله تعالى يسمع ويطيع فيما أحب أو كره، ولا يكون ذلك إلا بفعل ما أمر به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وتحقيق العبودية هو الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو الهدف من أيّ منهج سماوي: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
وفي الحديث عن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: كنت رِدْفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عُفَير، فقال: (يا معاذ، تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)، فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيَتَّكِلوا)[3].
ب. تعبيد الناس لله تعالى:
فلا يصلح أن يكون الإنسان عابدًا في نفسه، بل لا بد من تعبيد الناس لله تعالى حتى يستقيم أمر هذا الكون، ووسائل تعبيد الناس لله تعالى حدَّدها الله في قرآنه، وبيّنها النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته، وهي: الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لإزالة العوائق التي تحول بين الناس وبين الإسلام.
والآيات والأحاديث التي تدعو إلى تعبيد الناس لربّهم من الكثرة بمكان، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
وفي الحديث عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا)[4].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (نضَّر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فرب مبلَّغ أوعى من سامع)[5].
ج. العمل على إقامة شرع الله في الأرض والالتزام بأحكامه:
الخطوة التالية بعد تعبيد النفس لله تعالى وتعبيد الناس له: أن يكون هناك مجتمع يطبَّق فيه شرع الله تعالى، ويتمّ فيه تعليم الناس دين الإسلام وأحكامه وشرائعه.
قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
وفي الحديث عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)[6].
فالآيات والأحاديث واضحة في ضرورة الالتزام بشرع الله وأحكامه، وإقامة المجتمع المسلم وفق ذلك؛ حتى نعبد الله تعالى حقّ عبادته، وبذلك نحقّق أهداف المنهج النبوي في التربية، وهكذا ينبغي أن تكون قضيتنا وهدفنا.
تحقيق العبودية هو الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو الهدف من أيّ منهج سماوي
أثر التربية بالأهداف:
يمكن رؤية أثر التربية بالأهداف من خلال المنهج النبوي متجسّدة في قصّة ربعيّ بن عامر، فخلال فتح المسلمين لفارس أرسل “رستم فرخزاد” قائد الفرس يطلب من المسلمين وفدًا للتفاوض معه؛ وذلك لرغبته في الصلح، فذهب ربعيّ بن عامر ليقابل رستم، مع أنّه لم يكن من قادة الجيش الإسلامي.
“دخل ربعيّ رضي الله عنه على رستم في خيمته وقد زينوها بالذهب والحرير.
دخل بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة.
فقالوا له: ما جاء بكم؟
فقال: الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسَلَنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قَبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَن أبى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله.
قالوا: وما موعود الله؟
قال: الجنّة لمن مات على قتال مَن أَبَى، والظَفَر لمن بقي.
فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
قال: نعم، كم أحبَّ إليكم؟ يومًا أو يومين؟
قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا.
فقال: ما سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأَجَل.
فقال: أسيدهم أنت؟
قال: لا، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم.
فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قطّ أعزّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟
فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه؟
فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إنّ العرب يستخفّون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلاً، فبعث إليهم حذيفة بن محصن فتكلّم نحو ما قال ربعيّ”[7].
انظر أثر تربية النبي صلى الله عليه وسلم في شخصيّة الصحابي الجليل، وهو ليس من قادة الصحابة ولا السابقين ولا المقدّمين فيهم، لاحظ معي الجُمَل التي تُبرهن على وضوح الغاية وبروز الهدف عنده وعند بقيّة الصحابة رضوان الله عليهم:
1. ثقته وقوّته وعدم تأثّره بالزينة ومتاع الدنيا التي يرفل فيها هؤلاء الكفار، بل تعمّد أن يدوس عليها بحصانه، وأن يمزّقها بسيفه.
2. قوله: “الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمَن قَبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومَن أَبَى قاتلناه أبدًا حتى نُفضي إلى موعود الله” يدلّ على وضوح الرؤية عند الجميع قائدًا كان أو جنديًا.
3. قوله عندما سأله عن وعد الله لكم: “الجنّة لمن مات على قتال مَن أَبَى، والظَفَر لمن بقي” يدل على وضوح الغاية.
4. تأثّر رستم بشخصيّة ربعيّ وكلامه، حتى إنّه صرّح بذلك أمام مستشاريه، دليل على أنّ استحضار الهدف الواضح والكلمات المختصرة تؤثّر في إيصال الرسالة أيّما تأثير.
كذلك تجسّدت هذه التربية ووضوح الأهداف التربوية فيها واقعًا عمليًا في قصة المغيرة بن شعبة مع رستم:
فقد ذكر ابن كثير: أنّه لما تواجه الجيشان (يقصد جيش الفرس مع جيش المسلمين في معركة القادسية) بعث رستم إلى سعد بن أبي وقاص (قائد جيش المسلمين) أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فلما قدم عليه جعل رستم يقول له: إنّكم جيراننا، وكنّا نحسن إليكم ونكفّ الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا.
فقال له المغيرة: إنّا ليس طلبنا الدنيا، وإنّما همّنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً قال له: إنّي قد سلّطت هذه الطائفة على مَن لم يدِن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعلُ لهم الغلبة ما داموا مقرّين به، وهو دين الحقّ، لا يرغب عنه أحد إلا ذلَّ، ولا يعتصم به إلا عزَّ.
فقال له رستم: فما هو؟
فقال: أمّا عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله.
فقال: ما أحسنَ هذا! وأيّ شيء أيضًا؟
قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: وحسنٌ أيضًا، وأيّ شيء أيضًا؟
قال: والناس بنو آدم وحواء فهم إخوة لأب وأم.
وقال: وحسنٌ أيضًا[8].
انظر قول المغيرة: إنّا ليس طلبنا الدنيا، وإنّما همّنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولاً قال له: إنّي قد سلطت هذه الطائفة على مَن لم يدِن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعَلُ لهم الغلبة ما داموا مقرّين به، وهو دين الحقّ، لا يرغب عنه أحد إلا ذلّ، ولا يعتصم به إلا عزّ.
وقول المغيرة أيضًا: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، انظر معي هل رأيتم وضوحًا أكثر من ذلك؟
ختامًا:
بالمقارنة مع مجتمع النبوّة والقرون المفضّلة يتضح أثر تربيتهم على هذه الغاية وتلك الأهداف في حياتهم وسلوكياتهم وواقعهم، وما حصّله المسلمون من الراحة النفسية والطمأنينة، وكذلك خضوع الأرض لهم وتغلّبهم على أعدائهم رغم فارق القوة عدّةً وعتادًا.
كذلك يبرز أثر وضوح الغاية والهدف في حياة المسلم من وجود النموذج المسلم الملتزم بدين الله، والذي يسعى والآخرة نصب عينيه، ويسعى لتعبيد نفسه لله ثم تعبيد الناس لله، ثم يكون له دور في إقامة شرع الله في الأرض.
لذا ما أحوجنا لتحرّي منهجهم واتّباع طريقتهم واقتفاء أثرهم، وذلك بالعمل على إقامة المجتمع المسلم الذي تتضح في حياة أفراده غايتهم وأهدافهم.
بالمقارنة مع مجتمع النبوة والقرون المفضلة يتضح أثر تربيتهم على هذه الغاية وتلك الأهداف في حياتهم وسلوكياتهم وواقعهم، وما حصله المسلمون من الراحة النفسية والطمأنينة، وكذلك خضوع الأرض لهم وتغلبهم على أعدائهم رغم فارق القوة عدة وعتادًا
أ. رأفت صلاح الدين
صحفي وباحث مصري، مدير تحرير مجلة قراءات إفريقية سابقًا
[1] أخرجه الترمذي (2450)، أدلج: من الدُّلجة، وهي سير الليل.
[2] أخرجه البخاري (3796) ومسلم (1804)، وكان ذلك أثناء حفر الخندق في غزوة الأحزاب.
[3] أخرجه البخاري (2856) ومسلم (30).
[4] أخرجه مسلم (2674).
[5] أخرجه الترمذي (2657).
[6] أخرجه أبو داود (4607).
[7] البداية والنهاية، لابن كثير (9/622-623) بتصرف يسير.
[8] البداية والنهاية (9/621).