مع إشراقة عام دراسي جديد لا تُفتح أبواب المدارس فحسب، بل تُفتح معها أبواب المسؤولية المشتركة: مسؤولية الآباء في الرعاية والتوجيه، والمعلمين في التربية والتعليم، والطلاب في الجد والاجتهاد، والمجتمع في دعم النهضة وصناعة المستقبل. وهذا المقال يوجه رسائل مهمة لجميع هؤلاء، ليكون عامنا الدراسي خطوةً حقيقية في بناء الإنسان وصناعة المستقبل.
أقبل عامٌ دراسي جديدٌ، وفُتحت أبواب العلم والخير على مصراعيها لأبنائنا وبناتنا، فصاروا أهلاً لنيل بشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم)[1]، فهيئنًا لمن شملته تلك المعيّة والميزة، وهنيئًا لمن ساعد أولاده بأن ينالوا ذاك الفضل العظيم، ولنا في هذا المقام رسائل وهمسات نبثّها بين يدي عام دراسي جديد مبارك.
أمّا الرسالة الأولى، فهي للآباء:
إنّ تأمين الطعام والشراب وإعداد المسكن وتأمين اللباس، وتأمين الحقائب والدفاتر والقرطاسية، ليست هذه معالم التربية والعناية فحسب، بل حبيبكم المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسؤولة عن رعيتها)[2].
فالرعاية بناءٌ عقديٌّ متينٌ، وتأسيسٌ فكريٌّ متوازنٌ، وتشكيلٌ لشخصيةٍ فاعلةٍ، وتحصينٌ نفسيٌّ ثابتٌ.
ابنتك وابنك جوهرةٌ بين يديك، فاحرص على تقديم كلِّ الدعم والرعاية حتى ينشؤوا نشأةً سليمةً متعافيةً، ناضجةً بالعلم والفهم والفكر والإدراك والمعرفة.
ما أشبه حال طفلٍ مدللٍ اليوم بحال المعتصم بالله ابن هارون الرشيد، فقد رُوي أنّ الخليفة العباسي -المعتصم بالله- لم يَدرس في الكُتّاب كأخويه الأمين والمأمون، وفي كِبره كان يلْحن في الكلام، وله لحن في الحديث، وهذا ما يُعاب على العرب عمومًا، وذوي الهيئات على وجه الخصوص، وكان يرد اللوم على أبيه هارون الرشيد؛ فيقول: “أضرّ بنا حبُّ هارون!”. ففي أحد الأيام سأله هارون الرشيد عن صاحبٍ له يُرافقه إلى الكُتّاب، فقال المعتصم: مات واستراح مِن الكُتّاب! فقال هارون: وبلغ بك بُغض الكُتّاب هذا المبلغ؟! اجلس، والله يا بنيّ لا تذهب بعد اليوم إلى الكُتّاب، وأشفق عليه، ووافقه في مراده، وتركه يلعب ويلهو؛ فكانت النتيجة ضَعفًا في النطق ولحنًا في القول.
أيها الآباء، كثيرٌ مِن المنع عطاءٌ، لكنكم تستعجلون الرحمة بدافع المحبة والإشفاق، فتهدمون بُنيان أطفالكم، وتنقضون غزلكم، وتُميتون زرعكم.
مِن زاويةٍ أخرى: لا تظننّ أن الرزق بيدك، فتقول لا أملك ثمن تعليم أولادي، بل نحن أسبابٌ لإيصال رزقهم لا أكثر، وتعليمُهم ورفعُ الجهل عنهم واجبٌ علينا، وهو خير سلاحٍ يعينهم على وعثاء الطريق ومشقة الحياة وتحدياتها، فإذا أردت أن يكون لأولادك شأنٌ؛ فلا يضرك أن تشدّ عليهم في الصِغر، أو أن تُلزمهم بما ينفعهم في الكِبر، وإن هاجت عواصف المشاعر في قلبك.
وفي هذا المقام يحسن أن نتوقف عند تحدّ آخر يتعلق بالقرآن وحلقاته وأثرها على تحصيل الطالب الدراسي، فمَن أقنعكم أيها الآباء أنّ انقطاع الطلاب عن حلقات القرآن الكريم وتعلم ما لا يسعهم جهله مِن علوم الشريعة والدين لمجرد بدء الدراسة أمرٌ سليمٌ؟! إنّ هذا الوهم لا يزيد إلا في ترسيخِ الخرافة القائلة أنّ حلقات القرآن عائق عن التفوق الدراسي، مع أنّ الله تعالى يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، والواقع يشهد أنّ كثيرًا من أوائل المتفوقين في الدراسة هم من طلاب الحِلَق، بل إنّ بعض الدراسات التربوية الحديثة تشير إلى أنّ حفظ القرآن يرفع من مستوى التركيز والذاكرة؛ مما ينعكس إيجابًا على الأداء الأكاديمي. فليكن أبناؤكم على يقين أن التفوق والنجاح والتيسير والشرف إنّما هو ببركة القرآن وتعظيمه.
أيها الأب/الأم: ابنتك وابنك جوهرةٌ بين يديك، فاحرص على تقديم كلِّ الدعم والرعاية حتى ينشؤوا نشأةً سليمةً متعافيةً، ناضجةً بالعلم والفهم والفكر والإدراك والمعرفة
والرسالة الثانية لك أيها الفاضل القدير (المربّي):
يا مَن تركتَ بصمتك التربوية على ذاكرة الجيل وشخصيته، أنت اليوم أمام فرصةٍ عظيمةٍ لتكون ركيزة نهضة الأمة وأساس رقيها، فماذا أنت فاعلٌ في عامك الدراسي هذا؟ اغرس في نفوس طلابك القَناعات الحميدة، والفكر المنهجي السليم، ومكارم الأخلاق، والعلوم المؤصّلة، والقيم النبيلة؛ لتذكرَ بالخير في كل حين، ويقال: هذا مَن شكل بوصلة أولادنا وكان سببًا في تفوقهم. أنت يا مَن حملت ميراث الأنبياء؛ هنيئًا لك وصف نبيك صلى الله عليه وسلم: (فضلُ العالم على العابد كفضلي على أدناكم) وقوله: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)[3].
كن أوّل مَن يبني جيل التمكين، الجيل الذي يُحدث الفرق في مجتمعه، ويكون أساس الإصلاح والعمران والنهضة في بلده، والدواء الشافي لجراح أمته، استعن بالله ولا تعجز، واحمل همّ رسالتك، واسعَ في إصلاح الأوضاع بما تستطيع، فأنت في مقام تكليف، ولن تذوق شرفه إلا إذا أديت حقه.
لسان حالك يقول: تعبتُ مِن شدة التضييق مِن مجتمعي وضيق الحال، ولا أقول لك: اصبر على هذا الواقع فقط، بل أقول: كن شريكًا في التغيير، كن أول مَن يؤسس لجيلٍ ومجتمعٍ يُعطى فيه المعلم حقّه ومكانته بشكل صحيح: حقه في الاحترام والتقدير، وحقّه في البيئة التعليمية التي تمكنه من أداء رسالته، وحقه في التقدم والرقي الوظيفي، وحقه في المكانة اللائقة التي تُعيده إلى مقامه الطبيعي: مقام المعلم الذي هو وارث الأنبياء.
أيها المربي: كن أول مَن يبني جيل التمكين، الجيل الذي يُحدث الفرق في مجتمعه، ويكون أساس الإصلاح والعمران والنهضة في بلده، والدواء الشافي لجراح أمته
والرسالة الثالثة لكم أبنائي وبناتي:
زهرة الفؤاد وريحانة قلوب آبائكم وأمهاتكم، أقول لكم ما قاله لنا سلفنا الصالح: إذا أردتم الدنيا فعليكم بالعلم، وإذا أردتم الآخرة فعليكم بالعلم، وإذا أردتموهما معًا فعليكم بالعلم، فالله تعالى أخبركم في محكم تنزيله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فهنيئًا لمن ارتقى في رضا الرحمن وثابر وحصّل مِن العلوم أشرفها، وعلِم أنّ الدنيا لا تعمّر إلا بالعمل؛ فصابَر وصبر، وعلِم أنّ الأجر على قدر العناء والمشقّة.
العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك، فإن أعطيته بعضك لم يعطك شيئًا.
لقد قدّم الله ذكر تعليم القرآن على خلق الإنسان، ثم أتبع الخلق بتعليم البيان في قوله: {الرَّحْمَنُ 1 عَلَّمَ الْقُرْآنَ 2 خَلَقَ الْإِنْسَانَ 3 عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]؛ ليبيّن لنا أنّ وجود الإنسان مرتبط بالعلم من أوله إلى آخره، ومَن لم يتعلم لم يعرف معنى خلقه وسبب وجوده في هذه الدنيا.
أيها الطلاب: إذا أردتم الدنيا فعليكم بالعلم، وإذا أردتم الآخرة فعليكم بالعلم، وإذا أردتموهما معًا فعليكم بالعلم
وختام هذه الرسائل رسالةٌ إلى المجتمع:
إنّ ثقافة الاكتفاء بإشباع البطون وتأمين المواد الاستهلاكية، مع تكريس حالة الاتكالية لدى أفراد المجتمع؛ لا تزيد المشكلة إلا تعقيدًا، انطلقوا بالمشاريع المستدامة وتمكين الجيل بالأدوات والمهارات التي تمكّنهم من الإنتاج والعطاء.
اعتنوا بالمدارس والمحاضن التربوية، أعطوا المعلم حقه مِن التقدير والاحترام والكفاية؛ فهو مَن يحمل عنكم عبء التأهيل وهمّ التربية والبناء.
ووالله لن تُبنى الأوطان إلا ببناء الإنسان، ولن تُعالج أمراض المجتمع إلا برفع الجهل وتحصين العقول، لا معدل الجريمة وتعاطي المخدرات سينخفض، ولا بطالة الشباب ستزول، ولا الانحرافات الفكرية والغلو العقدي سيموت؛ إلا بالعلم.
ولن يحصل التراحم ويُعاد التناغم بين النسيج المجتمعي ويحقق التكافل الاجتماعي إلا باستشعار أهمية المحاضن التربوية، فهي خير معينٍ لإحداث حالة وعيٍ يقلل مِن الأحقاد، ويحدث حالة تناغمٍ بين الأفراد، ويستثمر التنوع في الطاقات؛ فتزدهر به جنبات المجتمع، وتنتقل مِن حالة العوز وطلب العون إلى طور التعافي الذاتي، فهي البركة بأهلها وأرضها.
استعينوا بطاقات بعضكم لنُرجع كل أولادنا إلى المدارس، ونؤهلهم تأهيلاً أكاديميًا؛ يستشعرون مِن خلاله مسؤوليتهم تجاه مجتمعهم ودينهم، هذا جهدنا -يا ربّ- في جيلٍ نسعى لبنائه، صالحًا في ذاته، مصلحًا لمجتمعه، خادمًا لدينه.
استعملنا يا ربّ في خدمة دِينك على الوجه الذي يرضيك عنا، وارزقنا البركة والحكمة، وألهمنا رشدنا، واربط على قلوبنا في هذه الأيام الصعاب لنتجاوزها وقد حققنا مفهوم الاستخلاف الذي أوجدتنا في هذه الدنيا لتحقيقه.
لن تُبنى الأوطان إلا ببناء الإنسان، ولن تُعالج أمراض المجتمع إلا برفع الجهل وتحصين العقول
أنس جمعة حشيشو
المدير العلمي لشركة مشكاة، مستشار تربوي في منصة ملاذ الأسرية
[1] أخرجه أبو داوود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) واللفظ له.
[2] متفق عليه: أخرجه البخاري (2409) ومسلم (1829).
[3] أخرجه الترمذي (2685).



