دعوة

الخوف من الإسلام بين الواقع والادعاء

يواجه الإسلام تحدّيات كبيرة تستهدف النيل من ثوابته، ومحاولة الحدّ من انتشاره، من خلال طرق كثيرة قديمة قِدَم الإسلام ومتجدّدة بتجدّد العصور، يأتي في مقدّمتها محاولة ثني الناس عن مجرّد السماع لأفكاره ومبادئه بوعي وإنصاف، من خلال التشويه المتعمّد لعقائده، وبثّ الشبهات والأكاذيب حوله، واتهامه وأتباعه بتهم باطلة، فإلى أي حدّ وصلت هذه المواجهة؟ وما هي آثارها على أرض الواقع؟ وما طرق مقاومتها؟ هذا ما سيجيب عنه هذا المقال.

في عالم متسارع الخطى، متشابك الأفكار والمعتقدات، تغيب كثير من الحقائق خلف الغمام، ويبقى لزامًا علينا أن نزيل عنها الغبار لتظهر الحقيقة واضحة جلية للعيان، ومن تلك الأفكار المختلطة ما يواجهه الإسلام من تحديات كبيرة تستلزم التفكير النقدي والردود القاطعة، خاصة وأنّه في السنوات الأخيرة علت أصوات المستشرقين التي تنال من ثوابت الإسلام وتصفه بما ليس فيه.

ومن الأمور التي يكثر المستشرقون من طرحها للنيل من الإسلام وثوابته: قضايا الجهاد وشبهة انتشار الإسلام بقوّة السيف، وقضايا المرأة، وحرية التعبير والمعتقد، والتعايش بين المسلمين وغيرهم، واتهام الإسلام والمسلمين بالوحشية، وغير ذلك من الأمور التي أدّت في بعض المجتمعات إلى ظهور الخوف المبالغ فيه من الإسلام، ومعاداته بطريقة غير عقلانية، وهو ما بات يعرف بـ (الإسلاموفوبيا).

في هذا المقال نستعرض هذه الظاهرة وأسبابها مع بيان المآلات التي تنتهي إليها هذه الدعاوى والادعاءات.

يواجه الإسلام حملات للنَيل منه وتشويه صورته من قِبل أعدائه، وهذه الحملات لم تتوقف على مرّ العصور، لكن زادت حدّتها في هذا العصر بطريقة غير مسبوقة، لا سيما في بلاد الغرب التي تتشدّق بدعاوى الحرية والمساواة وحقوق الإنسان ونبذ العنصرية

تشويه الدين الصحيح وأتباعه دأب الكافرين على مرّ التاريخ:

لطالما واجه أنبياء الله -عليهم السلام- حملات النيل منهم والتشكيك في دينهم، من لدن نوح -عليه السلام- إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما ردّده فرعون من ادعاءات وأكاذيب بحقّ نبي الله موسى عليه السلام، يقول تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]، فهذا فرعون الذي يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، يطلب من حاشيته الإذن بقتل موسى، ويبرّر طلبه هذا بالخوف على دينهم -الذي يجعل منه ربهم الأعلى- من التبديل، أو خوفه من أن ينشر الفساد في أرض مصر!

وحصل مثل ذلك مع نوح عليه السلام: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]، وهُدد لوط بالطرد والإبعاد: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167]. بل إنّ العديد من أنبياء الله تعرضوا للقتل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].

وقد تعرّض نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لكلّ ذلك؛ فقد اتهمه قومه بالكذب والجنون والكهانة والسحر، وآذوه وسخروا منه، ولما عجزوا عن صد الناس عنه حاولوا قتله، ثمّ أخرجوه من مكّة فهاجر إلى المدينة، ثمّ دارت رحى الحرب بينه وبينهم حتى أذن الله للحق أن ينتصر وللنور أن ينتشر.

وسأذكر هنا مثالين من التشويه الذي تعرضت له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مهدها:

المثال الأول: قصّة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي:

كان الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- يحدّث: أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفًا شاعرًا لبيبًا، فقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئًا.

قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ أن لا أسمع منه شيئًا ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني -حين غدوت إلى المسجد- كرسفًا؛ فرَقًا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلي عند الكعبة. قال: فقمت منه قريبًا فأبى الله إلا أن يُسمعني بعضَ قوله. قال: فسمعت كلامًا حسنًا، قال: فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؛ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحا تركته؟ … إلى أن قال: وتلا علي القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه. قال: فأسلمتُ وشهدت شهادة الحق[1].

ومن الواضح في هذه القصّة تأثير الكلام الذي نشره زعماء قريش عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى خاف الطفيل -رضي الله عنه- من أن يتسرب إلى أذنه شيء من كلامه صلى الله عليه وسلم.

المثال الثاني: قصّة إسلام ضماد الأزدي:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضمادًا -رضي الله عنه- قدم مكة -وكان من أزْد شَنوءة- وكان يرقي من هذه ‌الريح [يعني من الجنون]، فسمع سفهاءَ من أهل مكة يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه، فقال: يا محمد! إنّي أرقي من هذه ‌الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ [يعني: هل أرقيك]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ‌الحمد ‌لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد)، فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: “لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر [أي وسطه]”، فقال: “هات يدك أبايعك على الإسلام”، فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعلى قومك؟) قال: “وعلى قومي[2].

وهنا كما نرى كذب الفرية التي نشرها سفهاء قريش بأن النبي صلى الله عليه وسلم مجنون! حاشاه.

وهذه الأساليب يتبعونها بعد عجزهم عن مقارعة حجج الأنبياء وبراهينهم بالحجة والبيان؛ فيلجؤون إلى أساليب أخرى ليمنعوا أقوامهم من الاستماع إلى صوت الحق وداعي الحكمة والبصيرة، وإذا كان هذا حال الأنبياء مع أعدائهم وهم صفوة الله من خلقه، فلن يكون أتباعهم في منأى عن مثل ذلك، وعليهم أن يقتدوا بهم في التصدّي لهذه الحرب، والصبر عليها، والانتصار فيها.

(الإسلاموفوبيا) وتأصيل الخوف من الإسلام:

“الإسلاموفوبيا” كلمة مستحدثة تتكون من شقين: (الإسلام، فوبيا)، و”فوبيا” هي لاحقة يُقصد بها الخوف والرهاب غير العقلاني من شيء يتجاوز خطره الفعلي المفترض.

وقد عرّف الباحث في مقارنة الأديان السويدي ماتياس غارديل المصطلح على أنّه: “الإنتاج الاجتماعي للخوف والتحامل على الإسلام والمسلمين، بما في ذلك الأفعال الرامية إلى مهاجمة أشخاص أو التمييز ضدهم أو عزلهم بناء على افتراضات ارتباطهم بالإسلام والمسلمين”[3].

ورغم أنّ هذا المصطلح قد ظهر مع بداية الثورة الإيرانية عام 1979م، إلا أنّه ازدهر وظهر جليًا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م والتي وقعت في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان المصطلح يعني “رُهاب الإسلام” والذي كشف عن تأزم العلاقة بين الغرب والإسلام، وزيادة الاعتداءات الموجهة ضد المسلمين في الغرب.

وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية من أكثر البلدان التي تشهد جرائم كراهية ضد المسلمين، وقد ذكر مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي (FBI) في مايو/ أيار 2017م أنّ نسبة تلك الجرائم شهدت ارتفاعًا بنسبة 67% عام 2015م، مشيرًا إلى أنّ عدد المجموعات المعادية للمسلمين في تزايد خاصة بعد الحملات الإعلامية الموجهة من الغرب ضد المسلمين.

وخلصت دراسة أجراها مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير) إلى أنّ عدد الاعتداءات على المسلمين في 2016م تجاوز ألفي اعتداء مقابل 1400 اعتداء سنة 2015م.

وذكر بيان لجمعية مكافحة الإسلاموفوبيا في فرنسا أنّ البلاد شهدت عام 2016م حدوث 419 جريمة تمييز، و39 جريمة مضايقة وتحرش، و25 هجومًا، و98 حادثة خطاب يحض على الكراهية والاعتداء على المباني الدينية، إضافة إلى بعض الجرائم التي وصلت إلى حدّ القتل بوحشية. كما شهدت العاصمة البريطانية لندن عام 2017م اعتداءات متنوّعة على مسلمين شملت الاعتداء بالضرب في الشارع ونزع الحجاب بالقوة.

“الإسلاموفوبيا” يعني: الخوف الجماعي من الإسلام، والتحامل على المسلمين والقيام بجرائم الكراهية أو التمييز ضدهم؛ لمجرّد كونهم مسلمين

ولعل أقسى ما مر على المسلمين عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول هو حرب العراق وأفغانستان التي سببت دمارًا كبيرًا لهاتين الدولتين، وخلّفت مئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وأوقعتهما تحت الاحتلال الأمريكي لسنوات طويلة.

إنّ حملات التشويه التي يتعرّض لها الإسلام كان لها أثرها المدمر على الأمّة الإسلامية؛ لذا كان لزامًا أن نبرئ الإسلام من تلك الشبهات التي نالت من سماحته ورحمته بالبشر أجمعين.

النيل من الإسلام من خلال الادعاءات الزائفة:

لم يختلف سلوك أعداء الإسلام في زماننا هذا عن سلوك أمثالهم في العصور السابقة، فما تزال حملات التشويه والتزييف تحاك ضده، وذلك عن طريق إثارة الكثير من الادعاءات الكاذبة التي تهدف إلى التخويف من الإسلام وتشويه صورته أمام الناس وترهيبهم من الاقتراب منه والاستماع إليه.

وتعدّ قضايا حقوق المرأة من أهم القضايا التي استغلها المستشرقون للنيل من الإسلام، متهمين إياه أنه يمارس التمييز ضد المرأة، ويمنعها من الكثير من حقوقها، ويستشهدون على ذلك بإطلاقات ذات تحيزات مسبقة لا تخلو من مغالطات واضحة؛ مثل مسألة الميراث وتعدد الزوجات وغيرها، بل شنُّوا حربًا شعواء على الإسلام عنوانها (ظلم الإسلام للمرأة)، متجاهلين أنّ الإسلام كرّم المرأة، ومنع ظلمها، وأعطاها حقوقها كاملة في التعليم والعمل والميراث وغيره، يقول الله تعالى في سورة النساء: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وذلك قبل 14 قرنًا، عندما كانت بقية الشعوب تناقش بشرية المرأة، فضلاً عن منحها حقوقها.

قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “أيّ مطالع للقرآن الكريم والسنن الصحاح يرى المرأة جزءًا حيًا من مجتمع حي؛ فهي تتعلم، وتتعبد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتجاهد -إذا شاءت- في البر والبحر، وتؤخذ منها البيعة على معاقد الإيمان والأخلاق، وتعارض الحكم أو تؤيد”[4].

ومن التهم المعلبة: اتهام الإسلام أنّه دين العنف والإرهاب، مستندين في ذلك إلى بعض الأحداث التاريخية المجتزأة عن سياقها، وإلى سلوك بعض الجماعات المتطرفة التي تدعي أنّها تمثّل الإسلام ظاهرًا لا باطنًا، ولكن مثل ذلك الادعاء يتغافل عن حقيقة إنسانية مهمّة ألا وهي أنّ العنف لا يقتصر على دين معين، لكنّه سلوك إنساني يمكن أن يظهر في أي ثقافة أو دين، كما أن هذه الجماعات لا تخلو من اختراق وتوظيف مدفوع لنشر هذه الصورة المشوهة عن الإسلام.

ومن المزاعم الباطلة: تشكيك المستشرقين في أنّ الإسلام لا يتعايش مع الأديان الأخرى، مستندين إلى الفتوحات الإسلامية، وكذا الصراعات التاريخية بين المسلمين وغيرهم من الشعوب الأخرى التي طالتها تلك الفتوحات. وهذه النظرة تتجاهل الحروب الصليبية وحروب المغول على العالم الإسلامي، كما تتجاهل الفترات التي عاش فيها المسلمون مع غيرهم من أهل الأديان الأخرى في سلام وأمن، كما تُغفل حقيقة أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي تعامل مع أصحاب الديانات الأخرى بعدل تام، تاركًا لهم حرية الاعتقاد والتعايش في المجتمع المسلم دون إبادة أو إكراه أو أذى، يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

والدارس للتاريخ يدرك أنّ العنف الذي يُنسب للإسلام هو محض ادعاء، ولو قورن بالعنف الذي مارسته الثقافات والديانات الأخرى فسيتبين زيفه وكذبه.

ويروج بعض المستشرقين لاتهامات باطلة للإسلام بالعنف؛ حيث يعتبرون الجهاد تشريعًا متعطشًا للقتل وسفك الدم، متجاهلين الأبعاد الاجتماعية والروحية والأخلاقية للجهاد في الإسلام، والحقُ أن الإسلام وضع من الأطر التشريعية والأخلاقية للقتال بما لم يُعهد في أي أمة من الأمم.

كما تلعب وسائل الإعلام الغربية دورًا كبيرًا في تشكيل الصورة النمطية عن المسلمين، وغالبًا ما يتم تصويرهم بطريقة سلبية وأحيانًا بطريقة مسيئة، مما يساهم في تعزيز الفهم الخاطئ للإسلام، وهدف ذلك كله هو الصد عن الإسلام وتنفير غير المسلمين من الاقتراب من الإسلام وتعلمه ومخالطة أتباعه.

لم يختلف سلوك أعداء الإسلام في زماننا هذا عن سلوك أمثالهم في العصور السابقة، فما تزال حملات التشويه والتزييف تحاك ضده، وذلك عن طريق إثارة الكثير من الادعاءات الكاذبة التي تهدف إلى التخويف من الإسلام وتشويه صورته أمام الناس وترهيبهم من الاقتراب منه والاستماع إليه

أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م تفتح النار على الإسلام:

كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001م نقطة تحول في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي؛ فقد كان من نتائجها أن أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق “بوش” الابن الحرب على “الإرهاب” دون تحديد لماهية هذا الإرهاب! ووصف هذه الحرب بأنّها “حملة صليبية مقدسة”، واتّضح لاحقًا أنّ المراد بالإرهاب هو الإسلام الرافض للحداثة الغربية والعلمانية الغربية والقيم الغربية على وجه الخصوص.

ومما يؤكّد ذلك ما كتبه المفكر الاستراتيجي الأمريكي “فوكوياما” في العدد السنوي “للنيوزويك” (ديسمبر 2001م – فبراير 2002م)، حيث يقول: “إنّ الصراع الحالي ليس ببساطة ضد الإرهاب، ولكنّه ضد العقيدة الإسلامية الأصولية، التي تقف ضد الحداثة الغربية وضد الدولة العلمانية، وهذه الأيديولوجية الأصولية تمثّل خطرًا أكثر أساسية من الخطر الشيوعي، والمطلوب هو حرب داخل الإسلام، حتى يقبل الحداثة الغربية والعلمانية الغربية والمبدأ المسيحي: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.

وكتب المستشرق الصهيوني “برنارد لويس” في “النيوزويك” (عدد 14 يناير 2004م) يقول: “إنّ إرهاب اليوم هو جزء من كفاح طويل بين الإسلام والغرب، فالنظام الأخلاقي الذي يستند إليه الإسلام مختلف عما هو في المسيحية واليهودية الغربية، وهذه الحرب هي حرب بين الأديان”[5].

لقد اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية تلك الأحداث ذريعة لشن الحرب على أفغانستان وإزالة حركة طالبان من الحكم لرفضها الامتثال للمطالب الأمريكية، وقد تخطت تكلفة الحرب تريليوني دولار، وشاركت فيها القوات البريطانية، إلى جانب أكثر من 130 ألف جندي من حلف شمال الأطلسي، واستمرت الحرب عشرين عامًا، وقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية أبشع الجرائم في أفغانستان، حيث بلغ عدد القتلى نحو 141 ألف أفغاني، من بينهم 43 ألفًا من عناصر طالبان، وما يقرب من 60 ألفًا من عناصر الشرطة والجيش الأفغاني، إضافة إلى 38 ألف مدني أفغاني، ونجم عن الحرب إصابة مئات الآلاف من الأفغان[6].

وفي عام 2003م شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربًا على العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل تنتجها العراق وتخزنها في مخازن سرية، ولكن ثبت كذب تلك الادعاءات لاحقًا بعد تدمير العراق ونهب ثرواته.

ووفق جامعة براون: فإنّه في الفترة بين مارس/ آذار 2003 ومارس/ آذار 2023م بلغ عدد القتلى من المدنيين في العراق مئات الآلاف، إضافة إلى ملايين ما زالوا لاجئين.

ويُشير تقدير جامعة براون إلى تكلفة بيئية عالية يتحملها العراق ممثلة في انبعاث 98 إلى 122 مليون طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (MMTCO2e) من العمليات العسكرية الأميركية بين عامي 2003 و2021م[7].

وعندما ننظر لحجم الدمار والقتل والخراب الذي حل بأفغانستان والعراق بزعم الحرب على الإرهاب ندرك أنّ المسلمين هم ضحايا الإرهاب والعنصرية المقيتة، وأنّ كل تلك الجرائم التي تمارس بحق بلدان إسلامية لم تلق ذات التنديد الذي حصل عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا لشيء سوى أنّ الضحايا من المسلمين.

طوفان الأقصى.. الأسباب والنتائج:

انطلقت معركة (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023م بهدف تحريك القضية الفلسطينية من رفوف النسيان وعودتها لصدارة اهتمام المواطن العربي والمسلم، وفكّ الحصار البري والبحري والجوي عن غزة والمستمر منذ أكثر من عشرين عامًا، وحل قضية الأسرى الفلسطينيين، وهي حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني لا جدال فيها.

ولكن هذه المعركة أعقبتها ردّة فعل عنيفة جدًا تمثّلت في حرب إبادة على الشعب الفلسطيني في غزّة ترقى إلى أن تكون جرائم ضد الإنسانية، ومع ذلك فقد لاقت دعمًا دوليًا كبيرًا، حيث أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن دعم بلاده لإسرائيل “صلب كالصخر” و”راسخ”، وأضاف أنّ الولايات المتحدة تقف بجانب إسرائيل، ولن تخفق أبدًا في مساندتها.

كما حذت بقية الدول الغربية حذو الولايات المتحدة في موقفها من الطوفان وتوابعه!

وكان الدعم الغربي اللامحدود هو الدافع الأول لإسرائيل لارتكاب الجرائم المروعة بحق الفلسطينيين وأهل غزة حيث إنّ “هيومن رايتس ووتش” أكدت في تقرير لها أنّ السلطات الإسرائيلية تسببت في النزوح القسري الجماعي والمتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، حيث نزح حوالي 90٪ من سكان غزة، واضطر الكثير منهم إلى النزوح عدة مرات منذ بدء الحرب.

وقد قتلت إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023م حتى يناير 2025م ما يزيد عن 46 ألفًا، وأصابت أكثر من 110 آلاف آخرين، كما أن هنالك أكثر من 11 ألفًا ما يزالون في عداد المفقودين، كما تم تدمير ما لا يقل عن 60% من مباني قطاع غزة.

ويفيد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أنّ نصف مستشفيات غزة البالغ عددها 36 مستشفى باتت تعمل بشكل جزئي اعتبارًا من 14 يناير/ كانون الثاني، كما تعرّضت 88% من المدارس للضرر أو التدمير، وتعرضت 92% من المنازل للضرر أو التدمير، وتم تدمير 68% من الأراضي الزراعية، فضلاً عن 68% من جميع الطرق[8].

إنّ ذلك العالم المتقدم الذي أدان هجوم المقاومة على قوات الاحتلال رغم كل ما ارتكبه الاحتلال من جرائم بحق الشعب الفلسطيني على مدار تاريخ احتلاله لأرض فلسطين، هو ذاته الذي أصمّ أذنيه وأغلق عينيه عن الجرائم المروعة التي ارتكبها الكيان الصهيوني بحق أهل غزة لمدة تزيد عن 470 يومًا من الحرب المروعة على المسلمين بغزة.

ورغم كل ما حدث خلال تلك الحرب من فظائع إلا أن الغرب لم يمتعض، بينما ثار غاضبًا عندما ارتفعت أيادي المقاومين لصد العدوان عن شعبهم.

ولو استعرضنا المشهد بكل حيادية نستطيع أن نستنتج مَن هو الإرهابي القاتل المتعطش للدماء المتجرد من القيود الإنسانية والأخلاقية، ومَن هو صاحب القضية العادلة المكتسي بثوب الحق والأخلاق والقيم.

الإقبال على الإسلام يبدد زيف التشويه والادعاءات الباطلة:

من المؤكد أنّ الإسلام يواجه تحديات كبيرة في ظل الخطاب الاستشراقي الذي يتناول الدين من زوايا عدة، ويعمل على التخويف منه واضطهاد أتباعه واتهامهم بما ليس فيهم، ولكن العجيب أنّ كل تلك الاتهامات والحروب وآخرها حرب غزة كان لها دور كبير في إقبال الغرب على الإسلام، حيث كشفت صحيفة “غلوب آي نيوز” عن ارتفاع معدل اعتناق الإسلام في أوروبا بنسبة 400 بالمئة منذ بدء العدوان على قطاع غزة.

وتوقعت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث، أنّه بحلول عام 2050م ستصل نسبة المسلمين إلى 20% في ألمانيا، و18% في فرنسا، و17% في بريطانيا[9].

إنّ الحرب على الإسلام لا تزيد أتباعه إلا بأسًا وتمسّكًا بدينهم ليقينهم أنّه الدين الحق، وأنّ سنة الله في خلقه هي الابتلاء والتمحيص، ولعل ذلك هو ما يجعل العالم يقف مشدوهًا بتلك الحالة الفريدة وهؤلاء البشر الذين كلما اشتدت المحن ازدادوا تمسكًا بدينهم ودفاعًا عنه مهما كانت التضحيات، وهكذا تحولت الحرب على المسلمين في غزة إلى دعاية متميزة للإسلام، حيث كشفت صلابة معدن المسلمين وصبرهم وثباتهم، وكذا رحمتهم وأخلاقهم الحسنة حتى في الحروب من خلال معاملتهم للأسرى وفق شريعة الإسلام، وكأن الله أراد عزًا للإسلام من خلال تلك الصورة المشرقة لأتباعه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

إن الإسلام جاء لهداية البشرية المتعبة التي ضجت من تجذر الظلم والطغيان على مدى العصور، جاء حاملاً مشاعل العدل والحرية جاعلاً من نبيه صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء، فكيف بأتباعه أن يرضوا الظلم أو يكونوا يدًا للفساد في الأرض؟!

ومهما نالت الأقلام المضللة من سماحة الإسلام وشريعته وشوهت من سمعته، فواجب الأقلام الواعية أن تعيد الصياغة وتحمل هدي الإسلام للبشر جميعًا عبر المنصات الصادقة والمنابر الإعلامية الهادفة.

والله تعالى رد على المفترين على نبيه صلى الله عليه وسلم بأقصر سورة في كتابه الكريم، ليؤكد لنا أن هذه الفرى والشبهات تكفيها أقصر السور وأوجز العبارات، وأن الزمن كفيل بإظهار بطلان زيفهم وكذبهم، فقال جل شأنه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]، قال صاحب الظلال: “إنَّ الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر؛ وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد؟ إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور”[10].


أ. هند معوض

كاتبة وأديبة مهتمة بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية – مصر


 [1] سيرة ابن هشام (1/382). الكُرسُف: القن.

[2] أخرجه مسلم (868).

[3] مقال: “من أين يبدأ الكفاح ضد الإسلاموفوبيا؟“، للدكتور ياسين أقطاي، على موقع الجزيرة نت.

[4] مقال: المرأة في فكر وحياة الشيخ محمد الغزالي، على موقع: إسلام أون لاين، عماد الدين عشماوي.

[5] مقال: الحرب الأمريكية على الإرهاب، على موقع إسلام ويب، للدكتور محمد عمارة.

[6] مقال: تريليونا دولار وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى.. هذه حصيلة 20 عامًا من الفشل الأميركي في أفغانستان، على موقع الجزيرة نت، محمد المنشاوي.

[7] مقال: 20 عامًا على غزو العراق.. أحدث تقديرات تكلفة الحرب منذ 2003م. على موقع الجزيرة نت، محمد المنشاوي.

[8] بالأرقام.. خسائر غزة في أطول حروبها. على موقع الجزيرة نت.

[9] مقال: ارتفاع معدل اعتناق الإسلام في أوروبا إلى 400% منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة بالأرقام، على موقع جريدة الشرق.

[10] في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/3989).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *