من القواعد المقرَّرة عند أهل العلم «أنَّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوّره»؛ لذا فقد اشترطوا في الفقيه معرفة الواقع والفقه فيه: واقع الناس، وأعرافهم، وعلومهم؛ ليكون تصوره للمسألة محل الفتوى صحيحًا سليمًا، فيكون بناء الحكم الشرعي عليها صحيحًا، وإن من أهم ما يؤثِّر في تصوّر الواقعِ الوقوفَ على الحقائق العلمية المكتشفة حديثًا، وفي هذا المقال بسط وافٍ للمقصود بالحقيقة العلمية، وكيفية تأثيرها في الحكم الفقهي.
المقدمة:
يمثل تعدُّد الأقوال الفقهية في المسائل الاجتهادية في التشريع الإسلامي ثروةً فقهية عظيمة لا مثيل لها، سواء في المذهب الفقهي الواحد أو في المذاهب الفقهية الأخرى، والتي لقيت العناية والاهتمام من الفقهاء على مرِّ العصور والأزمنة، بحثًا ومقارنةً وترجيحًا.
وترجيح أو قبول بعض الأقوال الاجتهادية دون غيرها ليس أمرًا سهلاً ويسيًرا كما قد يظنُّ الظانّ، فمرده أساسًا إلى البحث والاجتهاد في الأدلة ومعرفتها والكشف عنها، وليس إلى التشهِّي والهوى والرغبة في التنقُّل بين الأقوال بغير دليل أو برهان، بل هو أمرٌ مقيَّد وخاضعٌ لضوابطَ وقواعدَ صارمةٍ تعارف عليها الأصوليون والفقهاء، وناقشوها في مباحث أصوليةٍ عديدة منها مبحث التعارض والترجيح[1].
ومن المرجِّحات التي قد يُستعان بها في الترجيح عند التعارض بين أقوال الفقهاء في المسائل الاجتهادية: النظر في «الحقائق العلمية الصادرة عن أهل الخبرة والاختصاص»، والتي أصبحت تُوظَّف في بناء تصوُّر المسألة وخاصة في النوازل والمستجدات، إلى جانب الترجيح بين الأقوال الفقهية.
فما المراد بالحقيقة العلمية؟ وما ضوابط العمل بها؟ وما مكانتُها ومنزلتُها في الترجيح بين الأقوال الفقهية؟ في هذه المقالة محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة من خلال النقاط التالية.
تعريف الحقيقة العلمية:
فأما الحقيقة: فهي في اللغة: على وزن فعيلة من: حقَّ الشيء، إذا ثبت[2]، وحقَّقتُ الأمر وأحققته إذا تيقنته أو جعلته ثابتًا لازمًا، وحقيقة الشيء: منتهاه وأصله المشتمل عليه[3].
وعرَّفها الإمام الجرجاني بقوله: «الشيء الثابت قطعًا ويقينًا، يقال: حقَّ الشيء، إذا ثبت، وهو اسم للشيء المستقر في محله…»[4].
فهي تستعمل في مقابلة الفَرَضِ والوهم، ويراد بها حينئذٍ نفس الأمر[5].
وأما العلمية: فهي مأخوذة من العلم، وهو نقيض الجهل[6]، ومعرفة الشيء بمعنى عرفته وخبرته[7].
وقال الجرجاني: «هو إدراك الشيء على ما هو به، وقيل: زوال الخفاء من المعلوم، والجهل نقيضه»[8].
وقال ابن عبد البر: «إنَّ العلم هو ما استيقنته وتبيَّنته، وكلُّ من استيقن شيئًا وتبينه فقد علمه»[9].
الحقيقة العلمية:
تُطلق الحقيقة العلمية على كلِّ أمرٍ لا يمكن إنكاره، ويُقبل من قِبل المجتمع العلمي كُلِّه بلا استثناء، ويمكن إثباتُ صحته بالملاحظة أو التجربة والاختبار[10].
ويعرِّفها بعضهم بأنها: ما صار حقيقةً قاطعة، مما يتعلَّق بالكون والحياة والإنسان، والتي لا يمكن أن تبطل أو تنقض، مهما تقدمت علوم الإنسان ومكتشفاته ومعارفه[11].
ويفرِّق العلماء أثناء تعريفهم للحقيقة العلمية بينها وبين النظرية العلمية التي عُرفت بأنها: «افتراض» أو «تخمين» أو «ظن» يرِد على فكر وذهن عالِم من العلماء في الفلك أو الجيولوجيا أو البيولوجيا وغيرها من العلوم الأخرى، نتيجة ظاهرةٍ رآها، أو تجربةٍ قام بها، أو ملاحظةٍ وقف عليها، أو حدثٍ أراد تفسيره… ويبقى في دائرة الظن والافتراض، فيسمّى ما يقدمه «نظرية» أو «فرضية علمية»[12].
ويمكن أن تصبح وتتحوَّل هذه النظرية إلى حقيقةٍ علمية إذا وجد العلماء لها شواهد وأدلة وبراهين تؤيِّدها وتقرِّرها.
الحقائق العلمية من المرجِّحات التي يُستعان بها في الترجيح عند التعارض بين أقوال الفقهاء في المسائل الاجتهادية، وتُوظَّف في بناء تصوُّر المسألة وخاصة في النوازل والمستجدات
حكم الأخذ بالحقيقة العلمية في الاجتهاد الفقهي:
وضع الأصوليون شروطًا للناظر في الفتاوى بين مُكثرٍ ومُقلٍّ[13]، وقد اختصرها الإمام ابن القيم رحمه الله في شرطين، هما:
- أولاً: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علمًا.
- ثانيًا: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر[14].
والإحاطةُ بما يستجد ويظهر من الحقائق والدراسات العلمية التي لها ارتباط وصلة بالنوازل والمسائل الفقهية تندرجُ ضمن الشرط الأول المتعلق بفهم الواقع والإلمام به ومعرفته حق المعرفة.
ومن هنا أكَّد العديد من العلماء على أهمية الاستناد إلى ما قرره العلم في الحوادث المستجدة والاستعانة بها في إصدار الأحكام الشرعية، وهذا ما سلَكَته المجامع الفقهية المعاصرة، حيث اعتمدت في قراراتها وفتاواها على تقارير وأبحاث ودراسات علمية في قضايا شتى ونوازل عديدة، فما على الباحث إلا أن يلج إلى مواقع هذه المجامع الإلكترونية أو إصدارتها العلمية ليلحظ كثرة هذه الاستنادات العلمية في إصدار الأحكام والفتاوى، فهذا دليل واضح وجلي على أهمية الحقائق العلمية في فهم النازلة الفقهية وتصورها والحكم عليها، وقد قرر الأصوليون والمناطقة قاعدةً تطبَّق في هذا المجال، وهي: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وهذا لا يعني أن من شروط الاجتهاد في الأحكام الشرعية الإحاطة بالعلوم البحتة كالطب والفلك والفيزياء والكيمياء والطبيعة وغيرها، لكن القصد أن يستعان بالعلماء الذين أتقنوا هذه العلوم وبرعوا فيها، وعُرفت عنهم الثقة والعدالة عند بناء الحكم الشرعي وتصوره.
وفي هذا يقول الدكتور الزحيلي في معرض حديثه عن شروط المفتي وصفاته: «كما يجب على المفتي في الأمور الجديدة أن يستعين بأهل الخبرة والاختصاص في ذات القضية ليكشفوا له حقيقتها، ويعرف جوهر المسألة ليقول الحكم الشرعي المناسب لها»[15].
والأخذ بالحقائق العلمية في الاجتهاد والافتاء يأخذ شكلين، نجملهما في الآتي:
- اختيار رأي من آراء الفقهاء في مسألة ناقشها أهل العلم وقرروا أقوالهم واجتهاداتهم فيها، لكن ظهرت حقائق علمية تكشف حقيقة المسألة الفقهية أكثر، فلترجيح قول من هذه الأقوال يُرجع إلى الحقائق العلمية في ذلك، والاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص.
ليس من شروط الاجتهاد في الأحكام الشرعية الإحاطة بالعلوم البحتة كالطب والفلك والفيزياء والكيمياء والطبيعة وغيرها، لكن على المفتي أن يستعين بالعلماء الذين أتقنوا هذه العلوم وبرعوا فيها، وعُرفت عنهم الثقة والعدالة عند بناء الحكم الشرعي وتصوره
- في الحوادث التي تستجدُّ وتظهر ولا يوجد لها مثيلٌ أو شبيهٌ في التراث الفقهي، فيمكن للمجتهد قبل أن يصدر الحكم المناسب أن يستعين بما قرَّره أهل الخبرة والاختصاص العلمي في المسألة التي تحتاج إلى ذلك.
ومن الأمثلة التي اعتمد فيها الاجتهاد الفقهي على الحقائق العلمية في إصدار الأحكام الشرعية على سبيل المثال لا الحصر: مسألة علامات الوفاة، وأثر الكشف الطبي عن حالات موت الدماغ، والذي بموته يمكن الحكم بنهاية الحياة الإنسانية[16]، وما استجدَّ من وسائل علمية وحسابات دقيقة في مسائل رؤية الهلال[17]، والكشوف الطبية في آثار تعاطي التدخين وغيرها من المسائل التي كان للحقيقة العلمية أثر بالغ في تصوُّر أحكامها.
ومن هنا نستنتج أنَّ الحقائق العلمية لها أثر في الحكم الشرعي تصورًا وبنًاء وترجيحًا، وهو الأمر الذي لا يتنافى مع منطق الشريعة الإسلامية؛ لأنها لا تتعارض مع ما ثبت من العلم أو تنافيه، فيبقى فقط معرفة الحقيقة العلمية والتأكُّد منها، وألا تكون مجرَّد افتراضات واحتمالات علمية.
ومما يمكن الاستئناس به هنا أنَّ الحقيقة العلمية عُدَّت عند بعض الباحثين المعاصرين قاعدةً من قواعد الترجيح في التفسير؛ يقول الدكتور فهد الرومي في هذا السياق: «إنَّ العلم الحديث قد يكون ضروريًا لفهم بعض المعاني القرآنية، وليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهمًا دقيقًا متوقفًا على تقدُّم بعض العلوم، فتكون الحقيقة العلمية من قواعد الترجيح في التفسير، إذا كان للآية أكثر من معنى فيتعيَّن أن يؤخذ بالمعنى الذي تؤيده الحقائق العلمية»[18].
وهي مسألة مختلفة عن مسألة التفسير العلمي للقرآن الكريم، والتي عارضها عددٌ من أهل العلم وفصّل فيها آخرون[19].
«ليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهمًا دقيقًا متوقفًا على تقدُّم بعض العلوم، فتكون الحقيقة العلمية من قواعد الترجيح في التفسير، إذا كان للآية أكثر من معنى فيتعيَّ أن يؤخذ بالمعنى الذي تؤيده الحقائق العلمية»
د. فهد بن عبد الرحمن الرومي
أمثلة على أثر معرفة الحقيقة العلمية في الترجيح بين أقوال الفقهاء:
١. مسألة أقصى مدة الحمل:
اختلف الفقهاء في قضية أكثر مدة الحمل عند المرأة، على قولين[20]:
القول الأول: إنَّ الحمل قد يمتدُّ أكثر من تسعة أشهر، وقد رُويت أقوال توصل هذه المدَّة إلى عدّة سنين، وقد نقل هذه الأقوال الإمام القرافي بقوله: «الفرق الخامس والسبعون والمائة، بين قاعدة الدائر بين النادر والغالب، يلحق بالغالب من جنسه، وبين قاعدة إلحاق الأولاد بالأزواج إلى خمس سنين، وقيل: إلى أربع، وهو قول الشافعي رحمه الله، وقيل: إلى سبع سنين، وكلها روايات عن مالك. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إلى سنتين…»[21].
ولعل المسوِّغ الذي جعل الفقهاء يتوجهون إلى القول بطول مدّة الحمل استنادهم إلى الوجود في الواقع الذي عاشوه، من خلال وجود نساءٍ يحسَبن أنَّهن حوامل، ثم يستمرُّ الحمل هذه المدة، مع ما علموه من قصد الشريعة إلى الستر على الأعراض، والتضييق ما أمكن على احتمال التهمة بالزنى[22].
القول الثاني: إن أقصى مدة الحمل هي المدة المعهودة تسعة أشهر، فقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أنه لا يجوز أن يكون الحمل أكثر من تسعة أشهر[23].
وفي العصر الحالي تقدمَّت الأبحاث والدراسات في هذا المجال، كما أنَّ وسائل الفحص والكشف والمراقبة أصبحت أكثر فاعلية ودقة نتيجة للتقنيات الحديثة المستخدمة، فأصبح إعادة النظر في تصور المسألة ضروريًا ومن ثم بناء الأحكام عليها.
ومن الأبحاث التي أُجريت في هذا الموضوع: أطروحة الدكتورة عائشة فضلي التي درست فيها مائة حالة ولادة، فوجدت أنَّ مُدد الحمل، اعتبارًا من بداية آخر حيضة قبل الحمل، تتراوح بين أمدٍ أدنى هو مائتان وخمسون يومًا (أي ثمانية أشهر وعشر أيام). وأمد أقصى هو ثلاثمائة وعشرة أيام (أي عشرة أشهر وعشرة أيام)، ومتوسط المدد هو: (٢٨١.٤٣ يوم) أي تسعة أشهر وأحد عشر يومًا ونصف يوم.
وهذه الدراسة بدَورها اعتمدت على دراساتٍ أخرى أكثرَ دقةً وشمولية ومن أهمها دراسةٌ كان فيها متوسط الحمل مائتان وستة وستون يومًا (تسعة أشهر إلا أربعة أيام)، وكانت أقصى مدة حمل فيها عشرة أشهر[24].
وفي هذا السياق يرى الطبيب أحمد ترعاني -أخصائي الأمراض النسائية والتوليد- أنَّ الحمل قد يصل إلى عشرة شهور، ولا يزيد على ذلك؛ لأن المشيمة التي تُغذِّي الجنين تصاب بالشيخوخة بعد الشهر التاسع، وتقل كمية الأكسجين والغذاء المارَّين من المشيمة إلى الجنين فيموت الجنين[25].
وقال الدكتور أحمد محمد كنعان في ختام نقاشه لهذا المسألة من وجهة الفقه والقانون والطب: «ومع تطور علوم الطب ومتابعة الحوامل بصورةٍ دورية، فقد صار بإمكاننا التأكُّد من عمر الحمل بدقة، وقد رصد الأطباء المتخصصون بأمراض النساء والولادة في العصر الحديث ملايين الحالات، ولم تسجل لديهم حالات حمل مديد طبيعية يدوم لسنة واحدة، ناهيك عن عدَّة سنين.
ومن هنا فإنَّ أحكام الحمل يجب أن تُبنى على الحقائق، وليس على الظن أو الروايات التي لا أساس لها من الصحة»[26].
ومن خلال ما توصَّلت إليه الأبحاث والدراسات الحديثة وما قرَّره أهل الخبرة والاختصاص في المسألة رأى فريق من أهل العلم ترجيح القول الثاني في مسألة أقصى مدة الحمل[27].
ويلحظ أنه مع وجود بعض الاختلافات في أقوال المتخصصين والقوانين الطبية والأسرية في تحديد أقصى مدة الحمل إلا أنها اختلافات في جزئية معينة لا تؤثر على أصل المسألة، وهي راجعة لضبط بداية حصول الحمل.
الحقيقة العلمية التي يُعتد بها في الاجتهاد الفقهي هي التي خرجت من مجال الفروض والاحتمالات إلى مجال اليقين، لذلك لا يؤخذ بالنظرية العلمية؛ لأنَّها تفسيرية للظواهر، ولم تصل بعد إلى مكانة ومنزلة الحقيقة العلمية الثابتة
٢. حكم استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام:
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ علّة التفطير بالأكل والشرب هي وصول شيءٍ إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ، سواء أكان مما يتغذَّى به البدن أم لا يتغذى به، وسواء أكان هذا الشيء دخل من منفذ معتاد للطعام والشراب أو من منفذ غير معتاد، إلا أن أقوالهم تباينت في بعض الأمور الأخرى كالاكتحال والاحتقان والسعوط[28] والتقطير في الأذن وغير ذلك هل تفطِّر أم لا؟ على قولين:
القول الأول: فساد صوم من تعاطى هذه الأشياء ودخلت إلى جوفه، وهو قول الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة[29].
القول الثاني: ذهب أصحاب هذا القول إلى أنَّ أدلة الكتاب والسنة الواردة في هذا الشأن تدلُّ على أنَّ فساد الصوم يكون بالأكل والشرب، ويُلحق بهما ما في معناهما مما يتغذى به بَدَنُ الإنسان ويتقوّى به، وما عدا ذلك لا يمكننا أن نُطلق عليه مسمّى الأكل والشرب، نقل هذا الإمام ابن حزم الظاهري[30]، وقد حُكي عن أبي طلحة الأنصاري t، وعن الحسن بن صالح[31].
وهذه المسألة التي ناقشها الفقهاء قديمًا طُرحت في عصرنا الحاضر، وكثر السؤال والاستفتاء عنها، وظهرت فيها مستجدات من قبيل استخدام الحقن العلاجية أثناء الصيام مثل: الحُقن الجلدية، والحُقن العضلية، والحُقن الوريدية وغيرها.
وقد استندت العديد من هذه الفتاوى على دراسات علمية طبية، ومن ذلك قرار «مجلس مجمع الفقه الإسلامي» التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ونصه: «إنَّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية… بعد اطلاعه على البحوث المقدَّمة في موضوع المفطِّرات في مجال التداوي، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالتعاون مع المجمع وجِهاتٍ أخرى، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من ٩ – ١٢ صفر ١٤١٨هـ الموافق ١٤ – ١٧ حزيران (يونيو) ١٩٩٧م، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، والنظر في الأدلة من الكتاب والسنة، وفي كلام الفقهاء، قرر ما يلي:
أولاً: الأمور الآتية لا تعتبر من المفطِّرات، وذكر ضمنها: «الحُقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية».
وهذا قريب مما قرَّره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «وأما الكُحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يُفَطِّر بشيءٍ من ذلك، ومنهم من فَطَّر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فَطَّر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يُفَطِّر بالكحل ولا بالتقطير، ويُفَطِّر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يفطر بشيءٍ من ذلك…»[32].
ولا ريب أنَّ الرجوع المباشر إلى الأطباء في توصيف الحقن العلاجية، وبيان وظائفها، ومناقشة الفقهاء لهم في ذلك، من أهم طرق تصوير المسألة، ومعرفة حقيقتها، ومايترتب عليها.
الأخذ بالحقيقة العلمية هو أخذٌ بما أذن الله به ويسّه من علومٍ ومعارف، وما أرشد إليه العقل البشري وهداه، وهو نتاجُ أمرِهِ بالتدبُّر والنظر في الكون
٣. حكم القيافة في إثبات النسب عند التنازع[33]:
ذكر الفقهاء الأدلة التي تُستخدم في إثبات النسب عند التنازع بين الزوجين، من قبيل الفراش (أي وجود عقد الزوجية) والإقرار، والبينة، وحكم القاضي، والقيافة[34]، وقد اختلف العلماء في الدليل الأخير المتعلق بالقيافة: هل تصلح دليلاً لإثبات النسب أم لا؟ على قولين:
القول الأول: جواز اعتماد القيافة في إثبات النسب عند الاشتباه والتنازع وعدم وجود دليل أقوى منها، وقد ذهب إلى هذا القول جمهور المالكية والشافعية والحنابلة[35].
القول الثاني: أن النسب لا يثبت بالقيافة، وهو قول ينسب إلى الأحناف، وقالوا: العمل بها تعويل على مجرد الشبه، وقد يقع بين الأجانب، وينتفي بين الأقارب[36].
وقد قوى العلم الحديث القول الذي يأخذ بالقيافة في إثبات النسب، وذلك من خلال إقرار أهل العلم الأخذ بالوسائل الحديثة في إثبات النسب وفي طليعتها البصمة الوراثية والحمض النووي (DNA)[37] التي لا تتناقض مع أحكام الفقه الإسلامي.
وفي هذا السياق اعتبر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته السادسة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة خلال سنة ٢٠٠٢م أنَّ نتائج البصمة الوراثية تكاد تكون قطعيةً في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين، ونفيهم عنهما، وهي أقوى بكثير من القيافة؛ لأنَّ الخطأ في البصمة الوراثية ليس واردًا من حيث هي، وإنما الخطأ في الجهد البشري، وتم وضع ضوابط لإجراء هذه البصمة[38].
وبذلك فاعتماد البصمة الوراثية وغيرها من الوسائل العلمية المتاحة لمعرفة النسب المتنازع فيه يقرُّ ضمنًا بجواز ومشروعية القيافة عند القائلين بها؛ لأن هذه الوسيلة هي التي كانت متاحة قديمًا، كما أن إقرارها من طرف الفقهاء في الفقه الإسلامي دليل على مشروعية الوسائل العلمية الحديثة.
الخاتمة:
الحقيقة العلمية التي يُعتد بها في الاجتهاد الفقهي هي التي خرجت من مجال الفروض والاحتمالات إلى مجال اليقين، لذلك لا يؤخذ بالنظرية العلمية؛ لأنَّها تفسيرية للظواهر، ولم تصل بعد إلى مكانة ومنزلة الحقيقة العلمية الثابتة.
والأخذ بالحقيقة العلمية هو أخذٌ بما أذن الله به ويسّره من علومٍ ومعارف، وما أرشد إليه العقل البشري وهداه، وهو نتاجُ أمرِهِ بالتدبُّر والنظر في الكون، والأخذ به في مجال الفقه الإسلامي يكون بأحد طريقين: المسائل الفقهية التي تكلَّم فيها الفقهاء واختلفوا فيها، أو بما له ارتباط بالنوازل المعاصرة التي يستعان فيها بالحقائق العلمية إن وجدت الحاجة إليها.
وقد أسهمت الدراسات العلمية الحديثة وما نتج عنها من حقائق علمية في العديد من الأبحاث الفقهية من حيث التصور أو بناء المسألة، فهي مجال بحث واجتهاد واسع في مختلف المسائل الفقهية والقضائية.
[1] الترجيح في الاصطلاح هو: «تقوية أحد الطريقين على الآخر؛ ليُعلم الأقوى فيعمل به، ويطرح الآخر». المحصول في علم الأصول؛ للرازي (٥/٣٨٧).
[2] التعريفات، للجرجاني، ص (٨٩).
[3] مقاييس اللغة، لابن فارس (٢/١٥). وينظر: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، لأبي البقاء الكفوي، ص (٣٦١)، و: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانوي (١/٦٨٤).
[4] التعريفات، للجرجاني، ص (٨٩)، و: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ص (٣٦١).
[5] جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، لعبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري (٢/٢٨).
[6] المرجع السابق، ص (١٥٥).
[7] لسان العرب (١٢/٤١٧-٤١٨).
[8] التعريفات، للجرجاني، ص (١٥٥). وينظر أيضًا: تاج العروس من جواهر القاموس، لمرتضى الزَّبيدي (٣٣/١٢٧).
[9] جامع بيان العلم وفضله، لابن عبدالبر، ص (٤٥).
[10] الموقع التعليمي (متى وأين وكيف نتعلم؟) www.expii.com
[11] البيان في إعجاز القرآن، لصلاح عبد الفتاح الخالدي، ص (٢٦٦).
[12] البيان في إعجاز القرآن، ص (٢٦٤-٢٦٥).
[13] ينظر في شروط المفتي: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، ص (٨٥)، والورقات، لإمام الحرمين، ص (٢٩)، والوجيز في أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي (٢/٣٨٠).
[14] إعلام الموقعين، لابن القيم (١/٦٩).
[15] الوجيز في أصول الفقه الإسلامي، للزحيلي (٢/٣٨٠).
[16] تنظر تفاصيل هذه النازلة وما قرره الفقهاء والأطباء في ذلك: فقه النوازل، لبكر أبو زيد (١/٢١٣).
[17] ينظر: فتوى رقم (٢٣٤٥) ، دار الإفتاء المصرية، الصادرة بتاريخ: ١٠/١٢/٢٠١١. https://www.dar-alifta.org.
[18] دراسات في علوم القرآن الكريم، لفهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي، ص (٢٩٣). ينظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، لفهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي (٢/٦٠٤).
[19] ينظر: المرجع السابق، ص (٢٩٣)، و: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، لفهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي (٢/٥٧٨)، و: مباحث في إعجاز القرآن، لمصطفى مسلم، ص (١٦١). ومن الأبحاث المتخصصة: «التفسير العلمي للقرآن الكريم بين النظريات والتطبيق» للدكتورة هند شلبي، والتفسير العلمي للقرآن في الميزان، للدكتور أحمد عمر أبو حجر. والإعجاز العلمي إلى أين؟ مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار، والتفسير والإعجاز العلمي في القرآن الكريم: ضوابط وتطبيقات، للدكتور مرهف عبدالجبار سقا.
[20] ينظر تفصيل هذه المسألة والأقوال فيها في: أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية، ليحيى عبدالرحمن الخطيب، ص (١٠٢)، و: الموسوعة الطبية الفقهية، لأحمد محمد كنعان، ص (٣٧٥).
[21] الفروق، للقرافي (٣/٢٠٣).
[22] نظرية التقريب والتغليب، لأحمد الريسوني، ص (٢٨٩).
[23] المحلى، لابن حزم الظاهري (١٠/١٣٢).
[24] ينظر: أطروحة الدكتورة فضلي بكلية الطب بالرباط برقم ٤٧٨-سنة ١٩٨٥، بعنوان: معدل الحمل العادي، ص (٥٦-٦٨).
[25] أحكام المرأة الحامل في الشريعة الإسلامية، ليحيى عبد الرحمن الخطيب، ص (١٠٦).
[26] الموسوعة الطبية الفقهية، للدكتور أحمد محمد كنعان، ص (٣٧٧).
[27] ينظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته:٢١ المنعقدة في مكة في موضوع: مدّة الحمل، وقد قرر المجمع بعد الاستعانة بالأبحاث الطبيه والعلمية أن مدة الحمل لا تتجاوز تسعة أشهر؛ لأن الطب الحديث المتعلق بالحمل عبر التحاليل المخبرية، والتصوير بالموجات فوق صوتية وغيرهما، أنه لم يثبت أن واصل الحياة حمل داخل الرحم لأكثر من تسعة أشهر إلا أسابيع قليلة، لكن نظرًا لاحتمال الخطأ في حساب الحمل قرر المجمع جعل مدة الحمل سنة واحدة. https://www.iifa-aifi.org
[28] هو أن يُصَبَّ الدواءُ في الأنف، ينظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، لمحمد الدسوقي (٢/٥٠٣)، و: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر الجوهري (٣/١١٣١).
[29] ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم المصري (٢/٤٨١)، و: الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (١/٥٢٣-٥٢٤)، و:المجموع شرح المهذب، للنووي (٦/٣٤٠)، و: المغني، لابن قدامة (٣/١٢١).
[30] ينظر: المحلى، لابن حزم (٤/٣٤٨).
[31] المغني، لابن قدامة (٤/٣٥٠).
[32] مجموع الفتاوى، لابن تيمية (٢٥/٢٣٣-٢٣٤).
[33] التنازع هنا بمعنى الاختلاف، فالفقهاء يستعملون مصطلح «التنازع» أحيانًا بمعنى: الاختلاف. ينظر: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، لمحمود عبدالرحمن عبدالمنعم (٢/٤٥).
[34] القيافة لغةً: من قاف الأثر قيافة، واقتافه اقتيافًا، وقافه يقوفه قوفًا وتقوفه: تتبعه. لسان العرب، لابن منظور (٩/٢٩٣)، واصطلاحًا: هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود. التعريفات، للجرجاني، ص (١٤٣)، باب القاف مع الألف.
[35] ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد الحفيد (٤/١٤٢)، المنتقى، للباجي (٦/١٤)، ومنح الجليل، لعليش (٦/٤٩١)، والأم، للشافعي (٦/٢٦٥)، ومغني المحتاج، للشربيني (٦/٤٣٩)، والمغني، لابن قدامة (٨/٣٧٥)، وشرح منتهى الإرادات (٢/٣٩٤).
[36] ينظر: المبسوط، للسرخسي (١٧/٧٠)، وبدائع الصنائع، لعلاء الدين الكاساني (٦/٢٤٢).
[37] وقد عرفها الدكتور وهبة الزحيلي: «المادة المورِثة الحاملة لصفات وخصائص معينة، الموجودة في خلايا جميع الكائنات الحية»، البصمة الوراثية ومجالات الاستفادة منها، للدكتور وهبة الزحيلي، بحث مقدم للدورة السادسة عشرة للمجمع الفقهي الإسلامي، ص (٥).
[38] إثبات النسب ونفيه بالتحاليل الطبية، مقارنة تشريعية وفقهية وقضائية، ليوسف فلالي محسن، نائب رئيس المحكمة الابتدائية –مكناس، ص (٦).
د. عبد الفتاح محفوظ
متخصص في الفقه وأصوله بالمملكة المغربية.
دكتوراه في الفقه وأصوله بالمملكة المغربية.