تأصيل

التوبة من ممالأة الظالمين: سوريا بعد التحرير نموذجًا

يقول الله تعالى في قومٍ: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137] وأنهم {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، وقد عهدنا ربَّنا رحيمًا حكيمًا حليمًا لا يرد التائبين، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فلماذا جاء هذا الحكم الذي تظهر فيه صفات الجلال والقهر والجبروت؟ إن هذه الآية تحكم بوضوح أنه ثَمّة توبة مقبولة وتوبة غير مقبولة.

القابلية للخطيئة:

الظلم والخطيئة واردان من البشر؛ فالأصل في الإنسان القابلية للوقوع في الخطأ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ‌بني ‌آدم ‌خطاء، ‌وخير ‌الخطائين ‌التوابون)[1]، فهذه الكليّة تحتّم الخطأ على الآدمي.

ذهبت بعض النصوص إلى أبعد من ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، ‌لو ‌لم ‌تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم)[2]، وهذا الحديث ليس تحضيضًا على مقارفة الذنوب، لكنه بيان لجبلّة الإنسان وطبعه من جهة، وبيان لكرم الله ومغفرة ذنوب العباد من جهة أخرى، فكما أن مقارفة الظلم من لوازم بشريتنا فإن العفو والمغفرة والرحمة والكرم والحلم من صفات الله تعالى.

من حِكَم تشريع التوبة:

من سبل تربية الرب لعباده أنْ فتح لهم باب التوبة؛ ليرتدعوا عن سالف ذنوبهم ويقلعوا عنها، إذ لو أغلق هذا الباب لنتج عنه فساد عظيم في أخلاق الناس، فالمرء سيذنب لا محالة، وإذا كان كل مذنب هالكًا، ولا سبيل له أن يرجع ويصحح، فستسول له نفسه أنك صائر لا محالة إلى العذاب، فلا تصيرن إليه بذنب قليل، بل اجترح ما شئت وأكثِر، وعُبَّ من كأس الحرام حتى الثمالة.

إن وضوح هذا المعنى يساعدنا في تربية أبنائنا، وفي صوغ القوانين التي تهدف إلى تأديب العصاة في المجتمع، فنفتح لهم باب التراجع عن الخطأ، ولا نجعل الخطأ الأول نهاية الطريق، بل نطمّعهم دائمًا بعفوٍ محتمل؛ فإنْ هم أقلعوا عما هم فيه من ضلال وعادوا إلى سبيل الرشد قبلنا منهم وعفونا عنهم، ما دام أن غرضنا من العقاب هو التأديب والتعليم والصلاح، لكن ماذا لو كان هناك غرض آخر؟

حق الله وحق العبد:

فتح الله باب التوبة لعباده لكن لم يجعل التوبة ماحية لحقوق العباد، فللتوبة أركان ثلاثة: الإقلاع عن الذنب؛ فلا تتصور توبةٌ عن ذنب ممن أقام عليه، والندم على اقترافه، والعزم على عدم العَود إلى المعصية.

أما إذا انتهك الذنب شيئًا من حقوق العباد فلا بد من أمر رابع وهو: إعادة الحق لأصحابه، فلا يصح أن يعمد سارق إلى أموال الناس فينتهبها، حتى إذا حازها وتمتع بها ختم عمره بالتوبة إلى الله فحج ولهج بالتوبة بين الركن والمقام، وتصدق وأنفق! لذا لا يقبل القاضي من القاتل أن يطلب منه رفع القصاص أو الدية لأنه تاب وأناب وعزم على عدم العودة إلى القتل!

فالعقوبة لها غرضان: غرض تأديبي كي يرتدع الجاني وغيره عن الإتيان بهذه الجناية مرة أخرى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وغرض آخر؛ وهو صيانة حقوق العباد أن تذهب هدرًا، فحق الله مبني على المسامحة، بخلاف حقوق العباد التي بُنيت على المشاحة.

عدم مطالبة البغاة بما أتلفوه:

قد يستشكل بعض الناس ذهاب شيء من الحقوق في العفو المتوقع بعد تحرير سوريا من حكم الأسد، لكن الشريعة احتملت شيئًا شبيهًا بهذا الحكم عند النظر في المصالح والمفاسد، فقد ذهب فريق من أهل العلم إلى عدم مطالبة البغاة بما أتلفوه لأهل العدل حال بغيهم، وهذا لا يعني تكييف القتال مع النظام البائد على أنه قتال بغاة[3]، بل فيه بيان أن الشريعة اعتبرت المصلحة العامة في ظرفٍ مثل ظرفنا، فلم تطالب أهل البغي بدم سفكوه أو مال استحلوه.

قال ابن قدامة: “‌وليس ‌على ‌أهل ‌البغي ‌أيضًا ‌ضمان ‌ما ‌أتلفوه ‌حال ‌الحرب، من نفس ولا مال… ولأن تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع، كتضمين أهل الحرب”[4].

وفي كلام ابن قدامة -رحمه الله- بيان لإحدى الحِكَم التي لأجلها شُرعت التوبة وقد سبقت الإشارة إليها، فالشريعة متشوِّفة إلى عودة العاصي إلى الطاعة لذا تفتح له الأبواب وتخفف عنه.

التوبة المقبولة:

باب التوبة مفتوح، لكن هل هو مفتوح دون قيد؟ ألن يأتي وقت يتوب فيه العاصي فلا تقبل توبته لأنها خارجة عن زمان القبول؟ فعل ذلك فرعون فماذا قيل له؟ {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91]، لذا لا بد للتوبة حتى تكون مقبولة أن تقع قبل الغرغرة.

وفي الحديث: (‌من ‌تاب ‌قبل ‌أن ‌تطلع ‌الشمس ‌من ‌مغربها تاب الله عليه)[5].

وقد قيد القرآن توبة المحاربين بأن تكون قبل القدرة عليهم، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33-34].

هذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء، نزلت في قطّاع الطريق في قصة العرنيين، وكانوا ارتدُّوا عن الإسلام، وقتلوا الرعاة، فاستاقوا إبل الصدقة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم مَن جاء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة حتى ماتوا. قال أنس: فأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ} [المائدة: 33] الآية[6]، ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين، ولنا قول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة، كما تقبل قبلها[7].

ويذكر ابن قدامة -رحمه الله- تعليلاً لهذا الحكم يصلح أن نهتدي به في حالتنا التي مررنا بها بعد التحرير، يقول: “لأنه إذا تاب قبل القدرة، فالظاهر أنها توبة إخلاص، وبعدها: الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه، ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبًا في توبته والرجوع عن محاربته وإفساده؛ فناسب ذلك الإسقاط عنه، وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه؛ لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة”[8].

لكن توبتهم مقبولة في حق الله دون حقوق الآدميين، قال ابن قدامة: “فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى، وأخذوا بحقوق الآدميين؛ من الأنفس، والجراح، والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها، لا نعلم في هذا خلافًا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور”[9].

العقوبة لها غرضان: غرضٌ تأديبي كي يرتدع الجاني وغيره عن الإتيان بهذه الجناية مرة أخرى، وغرض آخر؛ وهو صيانة حقوق العباد أن تذهب هدرًا، فحق الله مبني على المسامحة، بخلاف حقوق العباد التي بُنيت على المشاحة

العفو في سوريا بعد التحرير:

ما إن نزلت خيل الثورة في ساحة الأمويين حتى برزت في الشبيحة وأعوان النظام ظاهرة “التكويع”[10]، يتخذون من خلالها مواقف مساندة للثورة بعد أن أعزها الله وأغناها عن مناصرتهم، وتباينت مواقف الثوار من هذه الظاهرة: فمرحبٌ بمن عاد وتاب، وآخر ينادي بإنزال العقوبة في كل شبيح، مستدلاً بآيات قبول التوبة قبل القدرة، وظل هذا الأمر مثار جدل بين النخب والعامة، كما رصد الثوار تعيينات في مناصب مهمة من رجال كانوا مع النظام البائد فثارت ثائرتهم، وضغطوا في وسائل التواصل على صناع القرار فاستجيب لبعض ما اعترضوا، وتبين أن بعض التعيينات كانت محض شائعات يجدر التحقق منها قبل نشر خبرها.

ولم يقتصر توجه الحكم الحالي على التسامح مع من انعطف فغير طريقه عن تأييد الظالم إلى تأييد الثورة، بل تعداه إلى التسامح مع من حمل السلاح سابقًا إذا ألقاه قبيل دخول دمشق، وكان الشعار الأبرز “اللهم نصرًا لا ثأر فيه”، واستحضر الناس يومها المقولة الشهيرة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وبيّن الحكام بعد ذلك أن السماح لا يطال كبار المجرمين ورؤوسهم، بل يشمل عامتهم ممن كان في التجنيد الإلزامي، ويستدلون على صوابية هذا التسامح بأن معظم البلاد فُتح دون حرب، إذ أتاح للمقاتل من العدو أن يتراجع عن خطئه في نصرة الظالمين، وقد سبق أن هذه حكمة من الحِكم التي لأجلها شرعت التوبة.

إن توسيع باب العفو وتضييقه يرجع إلى نظر الحاكم، فيتخير تحقق مصلحة حقيقية للمسلمين لا تخير تشهّي، فإن وجد المصلحة في التوسعة وسع وحقن الدماء خصوصًا إن لمس ضعفًا وعجزًا عن ملاحقة من مالأ الظالم، وإن وجد قدرة وظرفًا مؤاتيًا داخليًا وخارجيًا فله أن يضيق فيشرّد ويؤدب {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57].

لكن العفو عمن مالأ الظالم لا يستلزم منه أن يوليه الحاكم ولاية أو مسؤولية عامة، وللناس أن تنصح وتستفسر عن وجه العفو، فإن لم يظهر له وجه جاز الإنكار بالطرق الشرعية، وعليهم أن يخشوا على ثورتهم من عودة الفلول حتى يقوم الحاكم ببيان وجه توليته أولئك الناس، فمن واجب الثوار اليوم المحافظة على ثورة انتصرت بدماء الشهداء، فما أغلاه من ثمن دفعناه للنصر.

ومن جانب آخر: أجرت الحكومة تسوية لضباط النظام البائد، لكن منهم من يخرق هذا الأمان بين الفينة والأخرى، بل كان الضباط الذين أجروا التسويات شرارة لمحاولة انقلابية قاموا بها في الساحل في الأسبوع الأول من رمضان كادوا ينفصلون به عن البلاد، ما جعل الناس يشككون في جدوى هذه التسويات، وعدُّوها استراحة مجانية مُنحت لهؤلاء الظلمة استفادوا منها في تسوية صفوفهم وإعادة ترتيب أوراقهم، ومهما يكن من أمر فقد تمت التسويات، وتم التمرد اللاحق وتمت السيطرة عليه من خلال هبّة جماهيرية عارمة أظهرتها قوات الثورة، إذ دفعت بالأرتال الشعبية المسلحة تجاه الساحل، فاستعادت السيطرة، وأدبت الجناة، لكن هل بعد هذا النقض عفو وتسوية جديدة؟

قال الشافعي رحمه الله: “‌وكان من ‌الممنون ‌عليهم ‌بلا ‌فدية ‌أبا ‌عزة ‌الجمحي، تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبناته، وأخذ عليه عهدًا أن لا يقاتله، فأخفره وقاتله يوم أحد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفلت، فما أسر من المشركين رجل غيره، فقال: يا محمد امنن علي ودعني لبناتي وأعطيك عهدًا أن لا أعود لقتالك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمسحُ على عارضيك بمكة تقول: قد خدعت محمدًا مرتين) فأمر به فضرب عنقه[11].

وفي المقابل عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن قاتل حمزة لكنه طلب منه أن يغيّب عنه وجهه، قال -أي وحشي- رضي الله عنه: فلما رآني قال: (آنت وحشي؟) قلت: نعم، قال: (‌أنت ‌قتلت ‌حمزة؟) قلت: قد كان من الأمر ما بلغك، قال: (فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني)[12].

كان شعار التحرير الأبرز: “اللهم نصرًا لا ثأر فيه”، واستحضر الناس يومها المقولة الشهيرة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وبيّنت القيادة بعد ذلك أنّ السماح لا يطال كبار المجرمين ورؤوسهم، بل يشمل عامتهم ممن كان في التجنيد الإلزامي، ولهذا ثمرة عظيمة؛ فقد فُتحت معظم البلاد دون حرب حين ألقى المقاتلون السلاح وتركوا مواقعهم وتراجعوا عن خطئهم في نصرة الظالمين.

ممالأة الظالم ومراتبها:

قبَّحت الشريعة الظلم بجميع أشكاله، وفي هذا نصوص مشهورة تغني شهرتها عن استعراضها، ونهت عن الركون إلى الظالمين {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113].

وبما أنَّ الظلم مراتب ودركات، وكذلك الركون إلى الظلمة، فالعدل في حقهم يقتضي الجمع بين المتشابهات والتفريق بين المختلفات، فمَن كان من رؤوس الإجرام فالفداء رأسه، أما إن اقتصر على الحد الأدنى من مناصرة الظالم ليحفظ بها حياته وليدفع عنه ظلمه فهذا شأنه أهون، وقد يكون لقبول عودته وجه؛ إذ قد تكون حالة الاضطرار ألجأته ولم يستطع الفرار أو النأي بنفسه.

وبين هاتين الرتبتين تتدرج حالات مناصرة الظالم، ويتدرَّج الحكم على من تاب منها:

» فمقبول منه مسكوت عنه، مهمل لا يُصدَّر، ولا يُعطى الحق في الكلام على الشاشات؛ إذ استحقاق الكلام والتصدُّر لا يكون لكل أحد، ومن العجب أن بعض رجالات النظام البائد تصدّروا الساعات الطويلة على شاشات نحسبها ثورية، ليبرِّروا وقوفهم مع النظام وليقولوا إنهم كانوا مع الوطن لا مع الظالم، فلا ينقضي العجب من ذلك.

» ومقبول منه مشهّر به فلا يُنتفع منه بعدُ ولا يولى، وهذا يجدر أن ينطبق على من كان بوقًا للنظام يدافع عنه ويبرر أفعاله، كمفتن وإعلامي مشهور.

» ومقبول منه معفو عن دمه دون ماله، فيدرك العفو دمه فيحقنه، لكنه يقصر عن ماله فلا يعصمه، كصغار الضباط ومن كان منهم في خدمة إلزامية.

» أما كبار المجرمين فلا عصمة ولا كرامة، وهذا كله من نظر المصلحة، وتقدير المصالح منوطٌ بالحكام والقضاة، فينبغي عليهم بعد أن يتدبَّروا الأمر أن يبيِّنوا وجه قراراتهم للناس، حتى لا يبقى في النفوس شيء، ولا يشعر الثوار بالخوف على ثورتهم فيظلون في حالة شكٍّ وتوجُّس من قرارات الحكم الحالي.

وقد ظهر عقيب الثورات إجراء يجدر أن يتَّبع بعد نجاح ثورتنا وهو العزل السياسي؛ حماية للثورة من أعدائها السابقين، ويلحق بالعزلِ السياسي: العدالةُ الانتقالية.

بما أنَّ الظلم مراتب ودركات، وكذلك الركون إلى الظلمة، فالعدل في حقهم يقتضي الجمع بين المتشابهات والتفريق بين المختلفات، فمن كان من رؤوس الإجرام فالفداء رأسه، أما إن اقتصر على الحد الأدنى من مناصرة الظالم ليحفظ بها حياته وليدفع عنه ظلمه فهذا شأنه أهون، وقد يكون لقبول عودته وجه؛ إذ قد تكون حالة الاضطرار ألجأته ولم يستطع الفرار أو النأي بنفسه.

توبة مشروطة:

وإذا كنا في حالةٍ شبيهةٍ بحالة فتح مكة فلنرجع إلى السورة التي فَتَحت باب التوبة للمشركين بعد الفتح؛ فلم ترضَ السورة من المشركين توبةً غير مشروطة، بل أضافت لها ما كانوا يمتنعون عنه قبل، وهو أداء الصلاة وإيتاء الزكاة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].

وفي ثورتنا عندما نقبل توبة من تاب، نشترط عليه نصرة الثورة في مواقفها القادمة وتبنِّيها، فهل انتصر أولئك التائبون للثورة في وقعتها مع فلول النظام في الأسبوع الأول من رمضان؟ هل حث الشيخ الذي كان في مناطق النظام طلابه وأتباعه على الالتحاق بقوات الأمن ليستعيدوا سيطرتهم على مناطق سيطر عليها الفلول وأوصاهم ألا يقتلوا وليدًا ولا امرأةً، أم عاد إلى مقالاته الأولى أنها فتنة وقتال بيني، وعضوا على جذع شجرة؟

كثيرًا ما طلبت الآيات التوبة مقرونة بما يعززها، ومن ذلك:

* {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160].

* {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89].

* {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا 145 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145-146].

* {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 153].

* {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119].

* {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ 4 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4-5].

* {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7].

وفي سورة التوبة ما يمكن اعتباره حديثًا عن توبة مانعي الزكاة قبل أن يمنعوا الزكاة، وكأنه نبوءة بها، فالآية الأولى تأمر بجباية الزكاة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، وتمسَّك المانعون بحرفيَّتها فقالوا: “ندفع ما دام الآخذ النبي، لأن صلاته سكن، فندفع ويصلي، فما بال صلاة ابن أبي قحافة”[13]، وإذا أكملنا الآية التي تليها نجد الكلام عن التوبة وعن الآخذ الحقيقي للزكاة {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، وكأن الآية تقول لمانعي الزكاة: أخطأتم إذ ظننتم أن الذي يأخذ الصدقات هو النبي صلى الله عليه وسلم، بل الآخذ الله، فتوبوا فهو الذي يقبل التوبة.

فهذه توبة مانعي الزكاة لم تقبل منهم إلا أن يؤدوا ما نكلوا عنه، فليؤد التائبون اليوم ما نكلوا عنه البارحة.

وفي سورة التوبة حديث عن توبة الله على المجاهدين {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، وتوبته على أناس مسلمين تخلفوا عن الجهاد {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].

فمن تخلف عن الجهاد الواجب من المؤمنين حُقَّ له أن يُعاقَب بعد أن يعرف الخطأ الذي ارتكب؛ حتى يلتحق بصفوف الجماعة المسلمة في جهادها القادم.

في ثورتنا عندما نقبل توبة من تاب: نشترط عليه نصرة الثورة في مواقفها القادمة وتبنِّيها. ومن ظهر منه خلاف ذلك وتكرّر منه العداء والإجرام فتوبته مردودة

التوبة المردودة:

في عَودٍ على بدء ردَّ الله توبة بعض التائبين، وهم الذين تكرَّرت منهم الردة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [النساء: 137]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا 167 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا 168 إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 167-169]، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90].

وإذا أردنا تطبيق هذا المعنى على ثورتنا فلنحمله على أولئك الذين مُنِحوا التسويات فلم تتسع صدورهم أن يركنوا إلى الأمان الذي مُنحوه، فجرَّدوا السيف فلنجعلهم له جزرًا.

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها … إن كنت شهمًا فأتبع رأسها الذنبا

هم جردوا السيف فاجعلهم له جزرًا … وأوقدوا النار فاجعلهم لها حطبًا

أيحلبون دمًا منا ونحلبهم … رسلاً لقد شرفونا في الورى حلبًا

خلاصة القول:

إن الخطيئة ملازمة لبشريتنا، وقد زيَّن الشرع لنا التوبة وفتح بابها. وعدَّ علماء السلوك المعصية التي تجلب انكسار العبد وذله خيرًا من الطاعة التي تورثه العجب والاستكبار؛ إذ الذلُّ والانكسار يوافق صفة العبودية فينا.

وربنا شرع التوبة ليعود المخطئ عن خطئه فلا يستمر فيه، لكنه لم يجعلها مسقطة لحقوق العباد إلا في استثناءاتٍ نص عليها الفقهاء تتم فيها مراعاة المصلحة العامة كعودة البغاة عن بغيهم وتركهم لمحاربة أهل العدل.

وإذا تاب من مالأ النظام المجرم البائد عن قبيح فعلته فيُنظر في ممالأته، فكلٌّ له حُكمه، وما ينبغي أن يكون لكبار مجرميهم نجاةٌ ولو تعلقوا بأستار الكعبة، أما صغارهم فليُغيبوا عنا وجوههم فلا يملؤوا علينا الشاشات، وليُثبت الصادقون في توبتهم صدقها بأن يتوبوا ويصلحوا ويبينوا ويعتذروا عن خطئهم ويناصروا الثورة في وقعاتها القادمة، أما من نال الأمان المؤقت فنقضه فله السيف، لا يخرج على وسائل التواصل يمسح عارضيه يقول: خدعت الثورة مرتين، أولئك {لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}.


عبد المجيد بدوي

طالب دكتوراه في الفقه الإسلامي وأصوله


[1] أخرجه ابن ماجه (4251).

[2] أخرجه مسلم (2749).

[3] https://islamicsham.org/fatawa/389 فتوى لهيئة الشام الإسلامية عن استهداف العاملين في الأجهزة الأمنية.

[4] المغني، لابن قدامة (8/532).

[5] أخرجه مسلم (2703).

[6] ينظر: أبو داود (4370) والنسائي (4025).

[7] ينظر: المغني، لابن قدامة (9/144).

[8] المرجع السابق (9/151).

[9] المرجع السابق نفسه.

[10] في اللغة: الكوع طرف الزَّنْدِ الذي يَلِي أَصلَ الإِبهام، وفي هذا الجذر معنى الاعوجاج: فالكَوَعُ في الناس: أن تَعْوَجَّ الكفُّ من قِبَلِ الكُوعِ، وفيه معنى الجبن: قال الكِسَائِيُّ: كِعْتُ عن الشيء… إِذا هِبْتَه وجَبُنْتَ عنه. ينظر: لسان العرب (8/ 316، 317)، ويسمي العامة منعطف الطريق الكوع.

وهو في اصطلاحنا: اعوجاج الشبّيح عن طريق نصرة الطاغية الزائل إلى الترحيب بالثورة جبنًا وهيبة. ومن أراد أن يزيّن التكويع ألحقه بالحنف، فالحنيف المائل عن الشرك إلى التوحيد.

[11] السنن الكبرى، للبيهقي (18028).

[12] أخرجه البخاري (4072).

[13] قالوا: أطعنا رسول الله ما كان وسطنا … فيا عجبًا ما بال ملك أبي بكر. الأم، للشافعي (4/228).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *