في ظل التراجع الحضاري للأمة الإسلامية وتقدم أمم الشرق والغرب في المدنية والعلوم والقيادة؛ يصيب الشباب المسلم شيء من الانبهار ببهرج المدنية المعاصرة ومخترعاتها، وقد يرافقه شعور بالانهزام الداخلي، مع أنَّ المنصف سيجد الإسلامَ قد أعلا من شأن العقل، ودعا لإعمال الفكر بما لم يحصل في أي دينٍ آخر، وعلى ذلك كان المسلمون.
مدخل:
التفكير عملية ذهنية نشطة تميّز الإنسان عن باقي المخلوقات. وحاجةُ الإنسان إلى التفكير مستمرة تلازمه في جميع مراحل الحياة، ومن خلاله يستطيع اتخاذ القرارات، والاختيارات، والقيام بما عليه من مسؤوليات.
وعلى الرغم من أنّ الإنسان ليس المخلوق الوحيد الذي يفكِّر إلا أنه أكثر المفكرين مهارة وحنكة[1]. فتفكير الحيوان يغلب عليه الطابع العملي البسيط المتعلّق بإشباع الحاجات الأساسية، أما الإنسان فلا يكتفي بمتطلَّبات البقاء بل يتعدّى ذلك إلى التفكير فيما يحيط به من أشياء وظواهر ويحاول تفسيرها وفهمها طلبًا للمزيد من التكيّف مع الظروف التي يعيش فيها، ويستغلها لصالحه[2]، ويبدو هذا جليًّا فيما حقّقه الإنسان من تقدّم في جميع مجالات الحياة.
وقد فطر الله الإنسان على التعلّم الذي يقوم على التفكير، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٣١].
يتجلَّى تكريم الإنسان في تحميله الأمانة، وهي التكاليف الشرعية التي مناطها العقل، وعند غياب العقل يُفقَد التفكير وبالتالي تُسلَب الإرادة فلا تكليف
أنواع التفكير[3]:
تتعدّد أنواع التفكير، فمنها الإبداعي، والبصري، والناقد، والإيجابي، والشمولي وغيرها، وجميعها تصبّ في قسمين هما:
- التفكير غير الموجّه أو غير المقيّد: والذي يجري في الأحلام والرؤى، ويكون دون هدف معين، ويحدث من امتزاج الأفكار مع الذكريات، والصور العقلية والتخيّلات والمدركات الحسّية، والتداعيات، ويسمّى هذا النوع من التفكير بتيّار الشعور أو النشاط العقلي الهائم.
- التفكير الموجّه لهدف: والذي يجري في تعقّل أو تفهّم مشكلة، وهو ذو درجة عالية من الضبط، ويكون مرتبطًا بموقف أو مشكلة بعينها، كما يمكن تقويم هذا التفكير بمعايير خارجية، فالاستدلال وحلّ المشكلات من أمثلة التفكير الموجّه، وينتج عنه في المستوى البنائي تكوين تمثيلات عقلية جديدة.
ويمكن إضافة قسم ثالث وهو التفكير شبه الموجّه، والذي يبرق فيه جزء من المشكلة والفكرة حول موضوع ما، سواء كان هذا البريق في الرؤى أو أحلام اليقظة عند وجود مشكلة ملحّة ويقود إلى التفكير الموجّه، وذلك كما في قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام في حثّ قومه على التفكير طلبًا لهدايتهم عندما عدَّد لهم أنواع المعبودات من الكواكب مُبينًا عدم استحقاقها للعبادة، وصولاً إلى انفراد الله تعالى بالعبودية.
تكريم الإنسان بالعقل والدعوة إلى التفكير:
يحرص الإسلام على إصلاح البشرية وإسعاد الإنسان، فيرقى بالإنسان ليحقق العبودية لله تعالى، ويعمر الأرض، فيفتح له الآفاق ليعرف مكانته في الوجود وقيمته بين الأحياء، ومن ذلك تكريمه بنعمة التفكير، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: ٧٠]، ويظهر هذا التكريم في تحميل الإنسان الأمانة، والأمانة هي التكاليف الشرعية، ومناطها العقل، وعند غياب العقل يُفقَد التفكير وبالتالي تُسلَب الإرادة فلا تكليف، فإن أَخَذَ ما وَهَب أَسقَطَ ما أَوجَب.
وقد دعا الإسلام للتفكير فيما يتسع له العقل البشري، فوردت كلمة التفكير في القرآن الكريم في مادة (فكر) ووردت بنظائر مختلفة منها: (التعقُّل، والتبصُّر، والتدبُّر، والتذكُّر، والنظر). وإنَّ الدارس المتبصِّر للقرآن الكريم يجد فيه آياتٍ حافزةً على ممارسة عددٍ من مهارات التفكير كمهارة الإصغاء، والانتباه، والتفكُّر، والربط بين المتشابهات، والتفريق بين المختلفات، والاستنتاج، والتتبُّع وغيرها[4]، كقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ١٧ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ١٨ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ١٩ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ [الغاشية: ١٧-٢٠]، وقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سبأ: ٤٦].
جاء الإسلام ليضع البشرية في مسار الانطلاق لصياغة حضارةٍ من أكثر الحضارات فاعليةً وتأثيرًا على مدى الزمان، وفي سبيل ذلك أجرى ثلاثة تحولات أساسية شكّلت المناخ الملائم للحضارة وهي النقلة التصورية الاعتقادية، والنقلة المعرفية، والنقلة المنهجية
مميزات الفكر الإسلامي عن الأفكار الوثنية:
جاء الإسلام ليضع البشرية في مسار الانطلاق لصياغة حضارةٍ متميزةٍ من أكثر الحضارات فاعليةً وتأثيرًا على مدى الزمان، وفي سبيل ذلك فقد أجرى ثلاثة تحولات أساسية شكّلت المناخ الملائم للحضارة وهي[5]:
- النقلة التصورية الاعتقادية: وهي أكثر النقلات أهمية لأنها بمثابة القاعدة التي بُنيت عليها سائر التحوُّلات، حرَّرت عقل الإنسان وكرامته ووضعته في موقعه الصحيح. ووجهته إلى عبادة الله وحده، وحدّدت له طريقة تعامله مع العالم.
- النقلة المعرفية: فمنذ جاء الإسلام كانت الكلمة الأولى: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: ١] واستمرت آيات القرآن على تأكيد التفكير والتفكُّر والتعقُّل والتدبُّر، وقد ألزم العقل البشري بذلك بمنطق الإيمان وسعى إلى تكوين بيئة عملٍ وإنجازٍ تتضمّن شروط تمكُّنها من العطاء، وها هنا في حقل التوجّه المعرفي تمكّن الإسلام من إيجاد هذه البيئة فبعث أمّة من الناس لا يزال عقلُها يعمل ويتوهّج حتى أضاء الطريق للبشرية.
- النقلة المنهجية: وهي ترتبط بالنقلتين السابقتين وتنبثق عنهما في الوقت نفسه، فالمنهج يؤدِّي دورًا مهمًا في حركة الإنسان الفكرية والحضارية. وقد امتدّت النقلة المنهجية للعقل المسلم بثلاثة اتجاهات: (السببية، والقانون التاريخي، والبحث الحسي التجريبي).
أمّا الاتجاه السببي: فقد منحت النصوص للمسلم رؤية تركيبية للكون والحياة والإنسان والوجود وهي تتأمَّل وتبحث وتُعاين وتربط بين الأسباب والمسبّبات. ونقلت العقل من النظرة السطحية إلى التفكّر والتمعّن، فأُعيد تشكيل العقل ليملك القدرة على الرؤية الاستشرافية الباحثة عن العلاقات للوصول إلى الحقائق. وإنَّ الكشفَ عن السببية والأخذ بشروطها مكسبٌ كبيرٌ للعقل البشري وإضافةٌ قيّمة مكّنته من إعادة التشكُّل في صيغ أكثر قدرة على العطاء والإبداع.
أمّا الاتجاه القانوني التاريخي: فقد كشف الغطاء أمام العقل البشري ليدرك أنّ التاريخ البشري يتحرّك وفق سننٍ ونواميس، وأنّ الوقائع التاريخية لا تحدُث بمحض المصادفة.
فالتاريخ لا يكتسب أهمّيته الإيجابية إلا بأن يُتّخذ ميدانًا للدراسة والاختبار تُستخلص منه القيم والقوانين. قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ١٣٧ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٧-١٣٨].
وعن منهج البحث الحسي التجريبي: فقد دعا القرآنُ الإنسانَ للتبصّر بحقيقة وجوده في الكون عن طريق النظر الحسيّ، وأعطى الحواسَّ مسؤوليتها الكبيرة عن كلّ خطوة يخطوها الإنسان في مجال البحث والنظر والتأمل، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [العنكبوت: ٢٠] وبالتالي: دفعه إلى بذل الجهد من أجل البحث والتجريب.
والحضارة الإسلامية ذات طابع مميّز يجمع بين الدين والدنيا وبذلك حقَّقت التوازن بين الروح والمادة، وقد استطاع المسلمون المزاوجة بين تعاليم الدين والبحث العلمي التجريبي. وهو عكس ما كانت تعانيه أوروبا؛ فقد كانت تعيش في ظلامٍ دامسٍ لعدة قرون نتيجة التفكير الكنسي الارستقراطي؛ حيث كان اعتمادهم على نظرياتٍ وشروحٍ للنصوص الدينية المستمدّة من الفكر اليوناني الوثني البعيد عن الواقع والمصادم للفطرة والميول الإنسانية والسنن الكونية، ولم تتقدّم أوروبا ولم تعتمد البحث العلمي التجريبي إلا بعد الاحتكاك بالمسلمين[6].
الحضارة الإسلامية ذات طابعٍ مميّز يجمع بين الدين والدنيا ويوازن بين الروح والمادة، فاستطاع المسلمون المزاوجة بين تعاليم الدين والبحث العلمي التجريبي. عكس ما كانت تعانيه أوروبا؛ التي لم تعتمد البحث العلمي التجريبي إلا بعد الاحتكاك بالمسلمين
أساليب الإسلام في الدعوة إلى التفكير:
تتعدد الأساليب التي جاء بها الإسلام في الدعوة إلى التفكّر من خلال ما يلي[7]:
- الإخبار والتذكير بنعم الله، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١]، وقد سميت سورة النحل «سورة النِّعَم»، روى حماد عن علي بن زيد قال: «كان يقال لسورة النحل: سورة النِّعَم، يريد لكثرة تعداد النعم فيها»[8].
- الدعوة للتفكير، بالاستنكار والوعيد للقاسية قلوبهم وليقود للأحكام الصائبة والاستدلال السليم. كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٤]، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: ٨].
- أسلوب القصص، بالنظر في قصص الغابرين والاتِّعاظ منها، قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٦]، وقال: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: ٣]. وقد ورد في القرآن والسنة العديد من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وقصص الصالحين والفجار ومآلاتهم.
- أسلوب الوصف، ومنها وصف النبي ﷺ لرحلة الإسراء والمعراج، ووصف نعيم الجنة وعذاب النار، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥]، ووصف أحوال أهل القبور، وأهوال القيامة ومنازل المؤمنين والعصاة في ذلك اليوم العصيب، وما يحدث بينهم من مواقف.
- الجدل والحوار: فالحوار يعمل على تغيير طريقة التفكير عند الإنسان ويوجهه إلى وجهة أخرى، ومن أجلى أمثلته: حوار إبراهيم عليه السلام مع قومه حول عبادتهم للكواكب والنجوم، وحواره مع النمرود حول ادعائه للربوبية، وكذلك حوارات موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه بني إسرائيل، وحوارات أنبياء الله نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم مع أقوامهم، وفي الحديث: إنَّ فتى شابًا أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه! فقال: (ادْنُه)، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)، قال: (أفتحبُّه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم)، قال: (أفتحبُّه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم)، قال: (أفتحبُّه لعمتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبُّونه لعمَّاتهم)، قال: (أفتحبُّه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: (ولا الناس يحبُّونه لخالاتهم)، قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه)، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[9].
- إثارة الدافعية: فإن طريقة عرض المشكلة قد تثير دافعية الإنسان للتفكير وهو ما ظهر في قوله ﷺ: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟) فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي؟ يا رسول الله، قال: فقال: (هي النخلة). قال: فذكرت ذلك لعمر، قال: لأن تكون قلت: هي النخلة، أحب إليَّ من كذا وكذا[10].
- توجيه التفكير نحو الهدف: فالهدف الأسمى للمسلم عبادة الله والفوز في الجنة بصحبة الأنبياء والصديقين والشهداء، والبعد عن الدنيا لذا كان الرسول ﷺ يوجه التفكير نحو هذا الهدف، فقال ﷺ: (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين! فليقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت)[11]. وفي حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ مر بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كَنَفَتَه، فمرَّ بجديٍ أسكّ ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟) فقالوا: ما نُحِبُّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: (أتحبون أنه لكم؟) قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: (فوالله لَلدنيا أهون على الله من هذا عليكم)[12].
- تنمية القدرة على التخيل: يستعين التفكير بالتخيل، فالتخيل خطوة سابقة للتفكير، ومن خلاله يحدث تصور الموقف، كما أن التفكير يدعم التخيل، ومن ذلك أحاديث وصف الجنة. فعن سهل بن سعد قال: شهدت من رسول الله ﷺ مجلسًا وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال ﷺ في آخر حديثه: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ثم اقترأ هذه الآية: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ١٦ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: ١٦-١٧][13].
- التحدي: وفي التحدي فرصة كبيرة للتفكير، فهو يعطي الإنسان خيار السلوك والتصرف السليم من خلال التفكير، فعن سهل بن سعد عن رسول الله ﷺ قال: (مَن يَضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رجليه، أضمن له الجنة)[14]. ومن أمثلته العظيمة التحدي الذي وقع بين موسى وسحرة فرعون، إذ دعوه للتحدي صراحةً فقبل التحدي وحدَّد لهم موعدًا يشهده كل الناس، قال تعالى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ٥٨ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٨-٥٩]، وعموم معجزات الأنبياء تحمل معنى التحدي، وعلى رأسها القرآن الكريم الذي تحدى اللهُ بُلغاء العرب وفُصَحاءهم أن يأتوا بمثله أو بعشر سورٍ من مثله، ولما عجزوا تحدَّاهم بما هو أقلّ من ذلك، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: ٢٣]، فعجزوا وخابوا وعلم العقلاء صدق محمدٍ ﷺ.
- ضرب الأمثال: فعملية ضرب الأمثال تسهم في تنمية التفكير من خلال ربط المتشابهات معًا وتحديد قوة العلاقة بينها وهي كثيرة ومتنوعة في القرآن والسنة، ففي عدد من المواضع في القرآن نجد الأمثال صريحة بذكر لفظة «مثل» أو بكاف التشبيه، أو مضمنة تفهم من السياق، وغايتها التفكُّر ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١]، ومن أمثلتها في السنة قوله ﷺ: (مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة)[15]. ويقول: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[16].
- أسلوب التساؤل: كان الرسول ﷺ يستخدم أسلوب التساؤل كثيرًا، وهو ما يثير التفكير عند السامع ومن ذلك عن عبدالله بن مسعود أن الرسول ﷺ سأل أصحابه: (ما تعدون الصُّرَعَةَ فيكم؟) قال قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: (ليس بذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)[17]. وعندما سأل ﷺ أصحابه: (أتدرون ما المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: (إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)[18].
تغيير طرق التفكير هي البداية الحقيقية لأي عصر من العصور، وهو ما يدعو إليه القرآن والسنة. وإن نجاح المشاريع الإصلاحية بأي مجال لا ينجح إلا بإحداث نقلة نوعية في أساليب التفكير وطرائقه
من نماذج المفكرين في عصر النبوة:
أظهر عصر النبوة البراعة في التفكير عند الصحابةوالصحابيات رضوان الله عليهم وفي كيفية التصدي للمشكلات ومن هذه النماذج:
الحباب بن منذر رضي الله عنه :
فقد فكر تفكيرًا عسكريًا في غزوة بدر الكبرى لما رأى أن المكان الذي نزل به رسول الله ﷺ غير مناسب عسكريًا، فقال: أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال رسول الله ﷺ: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). قال: فإن هذا ليس بمنزل، انطلق بنا إلى أدنى ماء القوم ثم نُغَوِّرُ ما وراءه من القُلُب، ثم نبني عليه حوضًا فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ﷺ: (لقد أشرت بالرأي)[19].
أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها:
ظهرت حكمتها في وقت عصيب، وقت توقيع وثيقة صلح الحديبية، والصحابة وجدوا في أنفسهم من بنود الصلح ما وجدوا، فقد روت أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه بالحديبية: (قوموا فانحروا ثم احلقوا)، قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة، حتى تنحر بُدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم منهم أحدًا، حتى فعل ذلك، نحر بُدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا[20].
خلاصة القول:
لقد كرَّم الله الإنسان بالعقل، وقد ظهرت براعة المسلمين وسبقهم الحضاري بسبب تفوقهم الفكري وحسن تصرفهم فحكموا العالم. فتغيير طرق التفكير هي البداية الحقيقية لأي عصر من العصور، وهو ما يدعو إليه القرآن والسنة. وإن نجاح المشاريع الإصلاحية بأي مجال لا ينجح إلا بإحداث نقلة نوعية في أساليب التفكير وطرائقه.
أ. فداء محمود الشوبكي
ماجستير مناهج وطرق تدريس العلوم، معلمة في وزارة التربية والتعليم بغزة، لها عدة مشاركات بحثية.
[1] التعلم وعملياته الأساسية «التفكير- اللغة- التوافق»، لندا دافيدوف، ص (٨٥).
[2] موسوعة التدريس، لمجدي عزيز إبراهيم، ص (٦٩١).
[3] موسوعة علم النفس والتربية الشاملة، المركز الثقافي اللبناني ص (٩٨).
[4] فن التفكير رؤية إسلامية، لأحمد البراء الأميري، ص (١٠).
[5] ينظر: مدخل إلى الحضارة الإسلامية، لعماد الدين خليل، ص (١٤-٢٩).
[6] دراسات في التصوف والفلسفة الإسلامية، لصالح الرقب ومحمود الشوبكي، ص (١٧٥).
[7] التفكير وتنميته في ضوء القرآن الكريم، لعبد الوهاب محمود حنايشة، ص (١٤).
[8] زاد المسير (٤/٤٢٥-٤٢٦).
[9] أخرجه أحمد (٢٢٢١١).
[10] أخرجه البخاري (١٣١) ومسلم (٢٨١١).
[11] أخرجه الترمذي (٣٣٣٣).
[12] أخرجه مسلم (٢٩٥٧)، وقوله: (كَنَفَتَه) أي يَمشُون بِجانبِه وحوْلَه. وقوله: (أَسَكّ) أي مقطوع الأذنين.
[13] أخرجه مسلم (٢٨٢٥).
[14] أخرجه البخاري (٦٤٧٤).
[15] أخرجه البخاري (٥٥٣٤).
[16] أخرجه مسلم (٢٥٨٦).
[17] أخرجه مسلم (٢٦٠٨).
[18] أخرجه مسلم (٢٥٨١).
[19] سيرة ابن هشام (٢/١٩٢)، القُلُب: الآبار.
[20] أخرجه البخاري (٢٧٣١).